إسلام ويب

مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [2]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد وعد الله تعالى في كتابه الكريم أن من تزوج وهو فقير فإن الله تعالى سيغنيه من فضله، وهذا وعد عظيم من رب كريم لا يخلف وعده، وإنما كان الزواج سبباً من أسباب الغنى، وباباً من أبواب الرزق لأسباب كثيرة متعلقة به، يحصل بسببها الغنى والفضل والرزق للمتزوجين بفضل الله ورحمته وكرمه، والله ذو فضل عظيم.

    1.   

    ذكر الأسباب التي بها يحصل الغنى للمتزوجين

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس مقاصد النكاح، ولعلها تكون هذه آخر موعظة في هذا الموضوع، وننتقل بعد ذلك إلى ما بعده إن شاء الله، وقد تقدم معنا أن مقاصده الأساسية وحكمه البارزة خمس:

    أولها: تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية، سواء كانت حسية أو معنوية.

    وثانيها: إنجاب الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية.

    وثالثها: تحصيل الأجر للزوجين عن طريق حسن عشرة كل منهما لصاحبه، ومساعدته أيضاً في نفقته.

    ورابع المقاصد: تذكر لذة الآخرة.

    وخامس المقاصد وهو ما كنا نتدارسه: ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل صاحبه وقرابته.

    إخوتي الكرام! الأمر الخامس قلت: سأقرره بخمس آيات، وقد تدارسنا أربع آيات، ونحن نتدارس الآية الخامسة الأخيرة في هذا الموضوع، ألا وهي قول الله عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، وقد تقدم معنا أن هذه الآية فيها عِدة كريمة من رب كريم بإغناء المتزوجين، وقلت: هذا المعنى هو الذي دلت عليه آيات القرآن العظيم، ووردت به أحاديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، وهو ما نقل عن سلفنا الطيبين، وهو المقرر في كتب أئمتنا المفسرين، هذا انتهينا منه، وقررت هذه الدلالات.

    ثم استعرضت قولين ضعيفين مرجوحين: الأول قاله ابن المنير وذهب إليه الإمام الرازي عليهم جميعاً رحمة الله: أنه ليس في هذه الآية عدة بإغناء المتزوجين، إنما لما ركز في الطباع بأن النكاح مانع من الغنى لكثرة ما يتحمله المتزوج من نفقات وتبعات، أراد الله أن ينفي هذا الوهم، فأراد أن يخبر بأن النكاح لا يمنع من الغنى، فعندما أراد أن ينفي هذا المعنى دل عليه بهذه الصورة، وهو وجود الغنى مع النكاح، والمقصود أصالة نفي الفقر بالنكاح، أي: أنه لا يمكن أن يفتقر الإنسان إذا تزوج، وإذا قدر له الغنى سيأتيه الغنى، سواء كان متزوجاً أو لا، وتقدم معنا أن هذا القول مردود لما تقدم معنا من الأدلة والآثار.

    والقول الثاني تقدم معنا أنه قال به الإمام الثعلبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وخلاصته: أن الله وعد المتزوج بالغنى كما وعد العزب بالغنى، يقول: فإن قيل: فما الفارق إذن؟ يعني لماذا ذكر وعد الله بإغناء المتزوجين وهذا حاصل لغيرهم؟ قال: من أجل أن الإنسان إذا لم يتيسر له الزواج وكان عزباً فليستعفف حتى يغنيه الله من فضله، وإذا طلب الزواج وهو فقير فما ينبغي للمرأة ولا لأهلها أن يمنعوه لفقره، فهو يستعفف ويصبر ويأمل الغنى من فضل الله، وإذا خطب يزوج ولا يمنعهم فقره من تزويجه، ويأملون الغنى من فضل الله، وقلت: هذا القول مع أنه أقل في البعد من القول الذي قبله، لكن ظواهر ما تقدم معنا يرده، ولذلك قال الإمام الألوسي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في روح المعاني في الجزء الثامن عشر صفحة تسع وأربعين ومائة عند تفسير هذه الآية الكريمة: ولا يخفي عليك أن الأخبار الدالة على وعد الناكح بالغنى كثيرة، ولم نجد في وعد العزب الذي ليس بصدد النكاح من حيث هو كذلك خبراً، ما ورد خبر بأنه إذا كان عزباً سيضمن له من المعونة والرعاية والعناية والتوفيق كما هو الحال في حق المتزوج الفقير والعلم عند الله الجليل.

    إخوتي الكرام! هذا كله تقدم معنا، وسأختم الكلام على هذه المسألة بأسباب حصول الغنى للمتزوج، هذه الأسباب متنوعة متعددة كلها تقرر هذا الأمر، أعني: أن كل واحد من الزوجين يرتفق بزوجه، وبما يترتب على مصاحبته لصاحبه من غنى في هذه الحياة.

    من أسباب غنى المتزوجين اهتمام الزوج بالكسب وجده في تحصيل الرزق بعد الزواج

    أول هذه الأسباب: سبب عادي، وهو معروف عند البشر أجمعين: أن الإنسان إذا تزوج يصبح عنده مزيد اهتمام بالكسب، ويقوم بالجد على وجه التمام في السعي لتحصيل الرزق، هذا سبب عادي؛ لأنه يشعر بالمسؤولية، كان هو بمفرده، ولربما كان أيضاً مع أسرته مع أبويه وإخوته لا يكلف بشيء، لكن عندما استقل وصار له بيت، وهو قيم ومسئول، وصار عنده رعية، حتماً سيهتم لمصلحته ولمصلحتهم، ولذلك سيبحث عن تحصيل الرزق، وإذا تعرض لنفحات الله فتح الله عليه الرزق من حيث لا يحتسب.

    ولذلك كان أئمتنا يقولون: الزواج قيد للرجال. والإنسان قبل زواجه يكثر التطواف والأسفار، ويذهب إلى هذه الديار وتلك، فإذا تزوج استقر في الدار التي تزوج فيها، ويبتعد عن الذهاب والإياب، الزواج قيد للرجال، ولا يقوى عليه البطال, البطال يحب دائماً أن يتجول هنا وهناك، إما لأنه لا يريد أن يتحمل مئونة الزواج، ولا يريد الفساد أيضاً، لكن يقول: أصبر على عناء العزوبة وضغطها ولا أريد الزواج، وإما أنه يريد الفساد ولا يريد أن يتحمل مسئولية فتح بيت وإنجاب ذرية، همه أن يعيث فساداً هنا وهناك نسأل الله العافية. وقد كان أئمتنا يدركون هذا المعنى، وهذا الأمر مما هو مركوز في فطر الخلق أجمعين.

    يذكر أئمتنا في ترجمة العبد الصالح معمر بن راشد ، وهو شيخ الإسلام أبو عروة معمر بن راشد البصري من بلاد البصرة من جهة العراق، ذهب إلى اليمن لأجل تحصيل العلم وطلبه فأعجب به أهل اليمن وأحبوه، وما أرادوا أن يفارقهم، فبدءوا يتشاورون فيما بينهم كيف يجعلونه يستقر عندهم؟ فقال بعض الشيوخ الكبار: قيدوه، قالوا: بأي شيء نقيده؟ قال: زوجوه، إذا تزوج سيستقر عندكم ولن يفارق دياركم، وكان كذلك، حتى توفي في بلاد اليمن سنة ثلاث وخمسين ومائة، وحديثه في الكتب الستة، وقد نعته الإمام الذهبي في السير في الجزء السابع صفحة خمس، وترجمته أول ترجمة في الجزء السابع، قال: إنه شيخ الإسلام أبو عروة البصري نزيل اليمن، وقد شهد جنازة الحسن البصري عليهم جميعاً رحمة الله، فهو من أتباع التابعين الكبار، وطلب العلم وهو حدث، وكان من أوعية العلم مع الصدق والتحري والورع والجلالة وحسن التصنيف، قال الإمام أحمد : لست تضم معمراً إلى أحد إلا وجدته فوقه، أي إذا قارنته بغيره من الرواة وجدته فوقه، وقال الإمام العجلي : ثقة رجل صالح بصري سكن صنعاء وتزوج بها، قال العجلي : ولما دخلها كرهوا أن يخرج من بين أظهرهم، فقال لهم شيخ: قيدوه، فقيدوه عن طريق تزويجه فاستقر عندهم، قال الحافظ في التقريب: هو فقيه ثبت فاضل، وكما قلت: توفي في سنة ثلاث وخمسين ومائة كما في سير أعلام النبلاء، والحافظ ابن حجر يقول: سنة أربع وخمسين ومائة، ولعل واحداً منهما جبر الكسر والآخر ألغاه والعلم عند الله جل وعلا.

    إذن: الزواج قيد، والإنسان إذا تزوج يشعر بالمسئولية، وبالتالي سيتحرك من أجل تحصيل الرزق، ويجد ويجتهد، وأئمتنا كانوا يشيرون إلى هذا فيقولون:

    إن ذئباً أمسكوه وتماروا في عقابه

    قال شيخ زوجوه ودعوه في عذابه

    اختلفوا بأي شيء يعاقبونه؟ فقال أكبر القوم: زوجوه، وإذا زوجتموه فهذه أكبر عقوبة له، ودعوه في عذابه، خلوه يعاني ما يعاني ويقاسي ما يقاسي من نفقة وإنجاب أولاد ورعاية لهم، ونحو ذلك، فهذه كلها تحتاج حقيقة إلى جهد، وأنا لما كنت أذكر هذين البيتين كنت أقول:

    إن ذئباً أمسكوه وتماروا في عقابه

    قال شيخ زوجوه وخلصوه من عذابه

    لأن الإنسان إذا تزوج يتحمل شيئاً من العناء والجهد والتعب الظاهري البدني، لكنه يجد ما قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] ، وقال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49]، وتقدم معنا أن الزوجين كل واحد منهما للآخر كاليدين للبدن، وكالعينين للإنسان، وكالأذنين له، وكالرجلين له، لو فقد إحدى الرجلين تعطل عن المشي، أو إحدى اليدين تعطل أيضاً عن مزاولة الحاجات على وجه التمام.. وهكذا.

    فهذا لا بد من مراعاته، أما أن يوجد في الدنيا لذة لا تنغيص فيها، فهذا لا يمكن أبداً، حتى الطعام فإننا نتعب في تحصيله ونتعب في هضمه وأكله ونتعب في إخراجه، هذا لا بد منه، لا يوجد في الدنيا لذة كاملة، إنما لذاتها مشوبة بالنقص والتنغيص والعكر والكدر، واللذات الكاملة إنما تكون في دار الكمال بجوار ذي العزة والجلال في الجنة، كما تقدم معنا ذكر نقص هذه اللذة في مدارسة هذا الأمر في أول المبحث، وذكرت الأمور العشرة في بيان امتهان هذه اللذة، ووجود النقص فيها، وأنها لا تكون على وجه الكمال إلا في الآخرة في دار كرامة الله جل وعلا.

    هذا هو الأمر الأول، وهو سبب عادي لتحصيل الرزق، فالإنسان إذا تزوج لا بد أن يقوم بالعمل، لأنه صار يشعر بالمسئولية.

    إخوتي الكرام! الإمام الذهبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في ترجمة معمر بن راشد في السير ذكر كلاماً ينبغي أن نذكر به أنفسنا جميعاً، يقول عليه رحمة الله في الجزء السابع صفحة سبع عشرة: قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، قال: كان يقال: إن الرجل يطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله. ونقل أيضاً عن معمر أنه قال: لقد طلبنا هذا الشأن وما لنا فيه نية، ثم رزقنا الله النية من بعد. وحقيقة الإنسان في أول أمره قد يكون عنده شيء من التخليط في نيته عند طلبه، قد يتطلع للدنيا للحظوة للمنزلة لحطام الدنيا، لهذه الرعونات والآفات، لكن إذا طلب العلم الشرعي سيكسره هذا العلم ويذكره بالله، فتراه بعد ذلك يصحح نيته ويقبل على الله عز وجل، مع أنه عندما دخل كان هناك شيء من الشوائب.

    يقول الذهبي : قلت: نعم يطلبه أولاً والحامل له حب العلم، وهذا كما يقول كثير من الناس: اطلب العلم للعلم! لا, بل نطلب العلم لله عز وجل، لا للعلم ولا للجهل، لا نطلبه إلا إرضاء لله عز وجل، فلا نطلب العلم من أجل أن نعلمه فقط، بل من أجل أن نتقرب إلى الله عز وجل، يقول: والحامل له حب العلم، وحب إزالة الجهل عنه، وحب الوظائف ونحو ذلك. هذا حال كثير من الناس، ونسأل الله أن يتوب علينا، ثم قال: ولم يكن علم وجوب الإخلاص فيه، ولا صدق النية، فإذا علم عندما يدرس هذه العلوم الشرعية، وتذكره بالله، حاسب نفسه، وخاف من وبال قصده، فتجيئه النية الصالحة كلها أو بعضها -هذا بعد أن سار في طلب العلم- وقد يتوب من نيته الفاسدة ويندم، وعلامة ذلك أنه يقصر من الدعاوى وحب المناظرة، ومن قصد التكثر بعلمه، ويزري على نفسه، فإن تكثر بعلمه أو قال: أنا أعلم من فلان فبعداً له، فإذا تعلم ليتشدق، وأنه لا يوجد أحد يساويه ولا يقرب منه فبعداً له. هذا حقيقة كلام ينبغي أن نذكر به أنفسنا جميعاً: أن النية قد لا تكون خالصة في البداية، لكن من طلب العلم الشرعي سيذكره بالله، فإذا تذكر تراه دائماً يوبخ نفسه، ويعترف بتقصيره، وأنه ما عنده من العلم إلا قليل، ولا يزري على فلان ولا على فلان، ونسأل الله أن يشغلنا بعيوبنا عن عيوب خلقه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، هذا السبب الأول.

    من أسباب غنى المتزوجين مساعدة المرأة لزوجها في تحصيل الرزق

    السبب الثاني: مساعدة المرأة له، هذا أيضاً من أسباب حصول الرزق، إذا تزوجت تأتي المرأة وتساعدك، قال الإمام الألوسي في روح المعاني في الجزء الثامن عشر صفحة تسع وأربعين ومائة: وهذا كثير في العرب وأهل القرى، فقد وجدنا فيهم من تكفيه امرأته أمر معاشه ومعاشها بشغلها. وحقيقة كما يقول الإمام الألوسي أنا أدركت هذا موجوداً في بلاد الشام في القرى بكثرة، إذا تزوج الإنسان فإن المزرعة من أولها لآخرها تقوم بها المرأة، والاحتطاب تقوم به المرأة، وإعداد الطعام تقوم به المرأة، فهي المسئولة عن كل شيء، وما عنده إلا أن أصل المال له، لكن التثمير هي التي تقوم به، وهي تقوم على الماشية وتحلبها وتنزلها إلى السوق وهي متحجبة لتبيعها.. وهكذا، يقول الإمام الألوسي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: هذا كثير في العرب وأهل القرى، وقد وجدنا فيهم من تكفيه امرأته أمر معاشه ومعاشها بشغلها، تشتغل فتكفي نفسها وتكفيه، وأنا أعرف بعض طلبة العلم من إخواننا ولا زال على قيد الحياة، كان طالباً، وكان بعد في مراحل الطلب، فتعرضت له بعض النساء عن طريق خطبة شرعية بواسطة محارمها من أجل أن يتزوجها، وهي كانت مدرسة، وهي أكبر منه، لكن هو طالب ما يملك شيئاً، فتزوجها، فبدأت تنفق عليه، وما كانت ادخرته جمعته من الرواتب أعطته أيضاً، فالرجل تحسنت حاله وظهرت عليه البهجة والنعيم والنضرة، ونحن بقينا على حالتنا عندما كنا في سن الطلب، وصار حاله -كما يقال- كذكر النحل، تنفق عليه هذه الزوجة، وتكرمه، وتحسن إليه، وليس في ذلك منقصة، إذا جاء الأمر عن طريق ما أحل الله فليس في ذلك منقصة، وهي تعمل في مهنة التدريس متحجبة تتقي الله وتصون عرضها وكرامتها، فلا حرج أيضاً، وهذا عندما تزوجها حقيقة ارتفق بها، وما كلفته من المهر درهما واحداً، بل قالت له: أنت إذا وافقت كل شيء يتم، وتم الأمر، نسأل الله أن يبارك لهما وللمسلمين أجمعين، فهذا يقع بكثرة.

    ويخبرني بعض إخواننا في بلاد الشام يقول: إنه تزوج امرأة قريبة له أيضاً مدرسة، يقول: إذا أخذت راتبها تأتي وتضعه في جيبه دون علمه، فإذا استيقظ وجد الفلوس في الجيب، فيقول: من أين هذا؟ فتقول: ما لي علاقة بهذا، أنا لا أستلم ريالاً واحداً، أنا الآن امرأة في بيت، لا يصلح أن يكون بين يدي فلوس، يقول: إن احتاجت بعد ذلك إلى ليرة واحدة إلى درهم فتطلب منه كأنه ليس لها مال، هذا موجود، وهو حقيقة ارتفاق، فالزوج قد ارتفق بها، وحصل خيراً بسببها: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، هذا سبب ثان يحصل الإنسان بسببه الغنى.

    من أسباب غنى الزوجين إرث الزوج من زوجته

    السبب الثالث: عن طريق إرثه منها، وقد ترثه هي فكل منهما يرتفق بصاحبه، وإذا كانت فقيرة وزوجها غني ترتفق به أيضاً، أحياناً يكون فيها ما يمنعها من العمل وتحصيل الرزق لنفسها، فجاء رجل ليسعى لها، فهذا يحصل، فكما أنه يرثها هي أيضاً ترثه، وكم من إنسان حصل الغنى الكثير بسبب زوجته، فهي من أسرة غنية ثرية ورثت بعد أبيها مئات الألوف، ثم جاءه منها ذرية، فقدر الله عليها الموت فمالها من أوله لآخره الذي هو في الأصل مال أهلها انتقل إليه وإلى ذريته، جاء الأولاد وأخذوا المال كله، وإذا قدر الله على ذريته الموت يكون أحرز المال من أوله لآخره، وهذا حصل بكثرة.

    1.   

    استطراد في بيان السند الذي يصح فيه تحمل الحديث والتحديث به

    يذكر أئمتنا في ترجمة شيخ الإسلام أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزاز الذي توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة للهجرة، وهو من كبار شيوخ شيخ الإسلام الإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقد ترجمه هو وغيره، وذكروا هذه القصة في ترجمته التي سأذكرها، انظروا المنتظم للإمام ابن الجوزي في الجزء العاشر صفحة ثلاث وتسعين، وانظروا سير أعلام النبلاء في الجزء العشرين صفحة ثلاث وعشرين، وانظروا الذيل على طبقات الحنابلة للحافظ ابن رجب في الجزء الأول صفحة سبع وتسعين ومائة، وانظروا المنهج الأحمد في طبقات أصحاب الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله في الجزء الثاني صفحة ثمان وأربعين ومائتين، في ترجمة هذا العبد الصالح، وسأحكي لكم قصته بعد أن أذكر لمحة عن حياته رضي الله عنه وأرضاه.

    فهو من أئمتنا الأبرار، وقد ظهرت عليه علامات النجابة والذكاء والألمعية من الصغر، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحضر سماع الحديث وهو ابن أربع سنين، وقيد هذا في مسموعاته وفي روايته، فكان يحفظ الحديث وهو ابن أربع سنين، ويحضر مجالس الشيوخ، ولذلك كان يقول بعد ذلك عندما تصدر: من خدم المحابر خدمته المنابر. ويقول: أنه عندما ولد جاء منجمان عليهما غضب الرحمن فاسقر رأيهما أن هذا الشيخ لا يعيش أكثر من اثنتين وخمسين سنة، يقول هو: فها أنا قد بلغت ثلاثاً وتسعين سنة.

    يقول الإمام ابن الجوزي : وكان يقرأ الخط الدقيق من بعد. وفي هذه السن، فمن حفظ أعضاءه في الصغر حفظها الله له في الكبر، وكما في الحديث: ( احفظ الله يحفظك)، حفظوها في الشبيبة فحفظها الله لهم في الشيب سبحانه وتعالى، طلب العلم -كما قلت- وعمره أربع سنين يدور على المحدثين ويحضر عندهم، ولذلك حصلت له هذه الكرامة، وكانوا أحق بها وأهلها، والله سبحانه وتعالى يكرم عباده الصالحين في كل حين.

    ذكر الأقوال في مسألة السند الذي يصح فيه التحمل والتحديث

    إخوتي الكرام! فيما يتعلق بموضوع تحمل شيخ الإسلام محمد بن عبد الباقي البزاز وعمره أربع سنين، هذا مقرر عند أئمتنا، ويصح للإنسان أن يحمل الحديث قبل البلوغ، لكن لا يقبل منه إلا بعد البلوغ، فيشترط لقبوله أن يكون بالغاً مسلماً، لكن لا يشترط لتحمله أن يكون بالغاً ولا مسلماً، فيصح أن يتحمل وهو كافر، لكن لا يروي إلا بعد الإسلام، ويصح أن يتحمل وهو صغير، ولا يروي إلا بعد البلوغ، يقول شيخ الإسلام الإمام العراقي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا:

    وقبلوا من مسلم تحملا في كفره كذا صبي حملا

    أي: وقبلوا من مسلم حمل شيئاً في كفره، ثم رواه بعد إسلامه، وكذا صبي حملا.

    ثم روى بعد البلوغ ومنع قوم هنا ورد كالسبطين مع

    إحضار أهل العلم للصبيان ثم قبولهم ما حدثوا بعد الحلم

    يقول: قوم منعوا تحمل الصغير وروايته إذا رواها بعد أن يكبر، يقول: هذا مردود كالسبطين الحسن والحسين يرويان عن جدهما خير خلق الله علي نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وهما صغيران، تحملا في حال الصغر، يعني رواية الحسن والحسين هي من باب أنهما تحملا في حال صغرهما، ورويا بعد البلوغ، والنبي عليه الصلاة والسلام عندما توفي ما بلغ لا الحسن ولا الحسين علي نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه؛ لأن سيدتنا البضعة الطاهرة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها تزوجت علياً رضي الله عنه في العالم الثاني للهجرة، فعلى أكثر تقدير سيكون سن الحسن والحسين ست سنين سبع سنين، فهذا دون البلوغ، لكن روايتهما بعد ذلك بعد البلوغ معتبرة ومقبولة باتفاق أئمتنا، ولا يعتبر كلام من رد:

    ثم قال الإمام العراقي :

    فكتبه بالضبط والسماع حيث يصح وبه نزاع

    متى يصح السماع؟ إذا كتب وضبط فيعتبر له السماع، لا يوجد سن يصح السماع عنده، قال:

    فالخمس للجمهور ثم الحجة قصة محمود وعقل المجة

    يقول: عند الجمهور ينبغي أن يتحمل وهو ابن خمس سنين، وذلك لقصة محمود ، ويقصد به محمود بن الربيع ، وهو من الصحابة الكرام رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه في الصحيحين وسنن ابن ماجه والنسائي وصحيح ابن حبان ، يقول: ( عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي من دلو وأنا ابن خمس سنين )، وفي رواية يقول: ( مجها من دلو في دارنا وأنا ابن خمس سنين )، والمج وقع من النبي عليه الصلاة والسلام على كيفيتين: أخذ شربة من الدلو ملأ فمه الشريف الطاهر على نبينا وعليه الصلاة والسلام فمج في وجه محمود بن الربيع مداعبة وتبركاً، ثم مج عليه الصلاة والسلام مجة أخرى في البئر التي في دار محمود بن الربيع من أجل أن يحصل فيها بركة يقول: أنا عقلت هذه المجة وأنا ابن خمس سنين، يقول:

    وهو ابن خمسة وقيل أربعة وليس فيه سنة متبعة

    وهو ابن خمسة، وقيل: أربعة، هذا الذي قاله ابن عبد البر ، لكن كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح: لا دليل على ذلك، والمعتمد خمسة، فالأربع ما وردت في الأثر.

    وليس هذا بحد فاصل لسماع الصغير، فقد سمع محمود بن الربيع وعقل وهو ابن خمس سنين، لكن لو عقل وهو ابن أربع سنين هل يقبل أم لا؟ يقبل، لأنه في الغالب أن الإنسان يعقل ويضبط وهو ابن خمس، لكن لو ضبط ابن أربع فإنه يعتبر، فالمقصود أن يضبط ما يسمعه في صغره، ولذلك قال:

    ...................... وليس فيه سنة متبعة

    بل الصواب فهمه الخطاب مميزاً ورده الجواب

    الصواب أن يكون واعياً بصيراً، إذا سمع شيئاً يجيب على مقتضاه ولا يهذي في الكلام ولا يدري ما يقول كحال الصبيان.

    وقيل لابن حنبل فرجل قال لخمس عشرة التحمل

    يعني: لا يتحمل إلا وهو ابن خمس عشرة سنة، يعني ينبغي أن يكون بالغاً.

    يجوز لا في دونها فغلطه قال إذا عقله وضبطه

    قال: أحمد : بئس ما قال، ما قال بهذا أحد، من قال إن التحمل لا يصح إلا إذا كان ابن خمس عشرة سنة؟ قال يعني الإمام أحمد : إذا عقله وضبطه، يعني يصح سماعه ويعتبر تحمله، فهذان قولان، وقلنا: الصواب أن يكون مميزاً واعياً عندما يتحمل، والقول الثالث يعود إلى هذين القولين:

    وقيل من بين الحمار والبقر فرق سامع ومن لا فحضر

    يعني يميز الحمار من البقر، ولا يشتبه عليه هذا بهذا، وبعض الأولاد قد لا يميز ولا يعرف ما هو الحمار وما هو البقر، ولا يميز الذكر من الأنثى، فإذا كان لا يميز فلا يعتبر تحمله، فينبغي أن يكون فطناً واعياً، فإذا فرق بينهما سامع صح سماعه، فإذا روى بعد بلوغه يقبل منه، ومن لا يميز فحضر، هذا له مجرد الحضور للبركة، ولا يعتبر سماعه ولا يصح، ولا يجوز أن يروي بعد ذلك إلا إذا اتصف بهذه الصفة، هذا القول الثالث، وهو قول الإمام الحمال عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

    ثم قال:

    قال به الحمال وابن المقرئ سمع لابن أربع ذي ذكر

    إذاً: القول الأول: أن يكون ابن خمس عشرة سنة، وهو الذي رده الإمام أحمد ، والثاني: أن يفرق بين الحمار والبقر، والقول الثالث وهو المعتمد أنه يتعلق الضبط بالتمييز والوعي، وقيل: ابن خمس سنين، هذه أربعة أقوال، ثم قال: وابن المقرئ ، وهو الإمام ابن المقرئ عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يقول: سمع لابن أربع ذي ذِكر، يعني لإنسان له ذِكر وقدر وفضل وهو الإمام ابن اللبان في قصة شهيرة جرت له عندما جاء ليستمع من الحافظ ابن المقرئ وغيره من أئمة الحديث فقال لهم: سمعوه والعهدة علي، بعد اختبار جرى له، وستسمعونه إن شاء الله، حصل هذا وهو ابن أربع سنين.

    هذه الأبيات -إخوتي الكرام- انظروا شرحها في كتاب التبصرة والتذكرة لشيخ الإسلام الحافظ العراقي ، وهو شرح ألفيته في الجزء الثاني صفحة أربع عشرة إلى ثلاث وعشرين في عشر صفحات، ومعها في الحاشية فتح الباقي للشيخ زكريا الأنصاري في شرح ألفية العراقي ، وانظروا فتح المغيث في الجزء الثاني أول الجزء الثاني تماماً من صفحة ثلاث إلى خمس عشرة.

    قصة ابن اللبان وسماعه من ابن المقرئ وعمره أربع سنين

    وأما القصة التي أشار إليها الإمام العراقي بقوله: اسمع لابن أربع (ذي ذكر) لصاحب الذكر والقدر والشأن، فانظروها في تاريخ بغداد في الجزء العاشر صفحة أربع وأربعين ومائة، وحقيقة هي قصة طريفة عجيبة يوردها الإمام الخطيب البغدادي في ترجمة ابن اللبان ؛ يقول عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد ، يقول: وهو أبو محمد الأصبهاني المعروف بـابن اللبان ، وكان من شيوخ الخطيب البغدادي ، فهو من شيوخه ويترجمه هنا، يقول: هو أحد أوعية العلم، ومن أهل الدين والفضل، والإمام الذهبي في السير في الجزء السابع عشر صفحة ثلاث وخمسين وستمائة يقول: عظمه الخطيب وقال: كان من أهل الدين والفضل ومن أوعية العلم. ثم يقول الخطيب البغدادي : وكان ثقة، صحب القاضي أبا بكر الأشعري ودرس عليه أصول الديانات وأصول الفقه، ودرس فقه الشافعي على أبي حامد الإسفراييني ، وقرأ القرآن بعدة روايات وولي القضاء، ثم قال: وله كتب كثيرة مصنفة، وكان من أحسن الناس تلاوة للقرآن، ومن أوجز الناس عبارة في المناظرة، مع تدين جميل وعبادة كثيرة وورع بين وتقشف ظاهر وخلق حسن، سمعته يقول: حفظت القرآن ولي خمس سنين -هذا ابن اللبان - وأحضرت عند أبي بكر بن المقرئ ولي أربع سنين، فأرادوا أن يسمعوا لي -يعني الأحاديث وليس القرآن- ليعتبروا سماعه ويضبطوه معهم سمع فلان وفلان عن هذا الشيخ فيما حضرت قراءته، فقال بعضهم: إنه يصغر عن السماع، عمره أربع سنين كيف تسمعون له؟ فقال لي ابن المقرئ : تعال! اقرأ سورة الكافرون، وهو قد حفظ القرآن وهو ابن خمس سنين، يقول: فقرأتها، فقال: اقرأ سورة التكوير، وهذه السور يخطئ أكثر الناس فيها إلا من كان حافظاً حاذقاً، قال: فقرأتها، فقال لي غيره: اقرأ سورة والمرسلات، وهذه أصعب الثلاث، يقول: فقرأتها ولم أغلط فيها، فقال ابن المقرئ : سمعوا له والعهدة علي اكتبوا سماعه، وهذا معتبر، يقول: ثم قال: سمعت أبا صالح صاحب أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود أحمد بن الفرات يقول: أتعجَّب من إنسان يقرأ سورة المرسلات عن ظهر قلب ولا يغلط فيها، يقول: وحكي أن أبا مسعود ورد أصبهان ولم تكن كتبه معه، فأملى كذا وكذا ألف حديث عن ظهر قلبه، فلما وصلت الكتب إليه قوبلت بما أملى فلم يختلف إلا في مواضع يسيرة.

    يقول: أدرك ابن اللبان شهر رمضان من سنة سبع وعشرين وأربعمائة وهو ببغداد، فكان يسكن درب الآجر من نهر طابق، يقول: فصلى بالناس صلاة التروايح في جميع الشهر، وكان إذا فرغ من صلاته بالناس في كل ليلة لا يزال قائماً في المسجد حتى يطلع الفجر وهو يصلي، فإذا صلى الفجر دارس أصحابه، وسمعته يقول: لم أضع جنبي للنوم في هذا الشهر ليلاً ولا نهاراً. وكان ورده كل ليلة فيما يصلي لنفسه سبعاً من القرآن، يقرؤه بترتيل وتمهل، ولم أر أجود ولا أحسن قراءة منه، مات أبو محمد بن اللبان في أصبهان في جمادى الآخرة من سنة ست وأربعين وأربعمائة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وهو شيخ الخطيب البغدادي .

    وهذه القصة يقول عنها الحافظ في الفتح في الجزء العاشر صفحة ثلاث وسبعين ومائة: قصة أبي بكر بن المقرئ الحافظ في تسميعه لابن أربع، لكنه ما سماه، والحقيقة ينبغي أن يسمى، فهذه منقبة كبيرة لـابن اللبان ، بعد أن امتحنه بحفظ سور من القرآن مشهورة، يقول: هذه القصة مشهورة بين العلماء الكرام.

    ثم قال الحافظ ابن حجر في الفتح: تحديد السن بخمس -كما ذهب إلى ذلك الجمهور- هذا مظنة الضبط، لا أن هذا على سبيل التحديد الجازم، يقول: وقريب منه ضبط الفقهاء سن التمييز بست أو سبع، والمرجح أنها مظنة للضبط والتمييز وليس هذا من باب التحديد، فقد يميز الإنسان وهو ابن أربع، وقد لا يميز إلا وهو ابن تسع، لكن في الغالب أن ابن ست أو سبع يميز، ثم يقول: ومن أقوى ما يتمسك به في أن المرد في ذلك إلى الفهم -أي أن المرد في قبول السماع إلى الفهم، فيختلف باختلاف الأشخاص- الذي يحقق هذا يقول: ما أورده الخطيب من طريق أبي عاصم ، قال: ذهبت بابني وهو ابن ثلاث إلى ابن جريج فحدثه، قال أبو عاصم : ولا بأس بتعليم الصبي الحدث -أي: الصغير- الحديث والقرآن وهو في هذا السن، يعني إذا كان فهماً، وهذه عناية ربانية بهم من صغرهم. أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزاز ، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحضر مجالس السماع وضبط سماعه وهو ابن أربع سنين، يقول عليه رحمة الله: عندما ذهبت إلى الحج اشتد بي الجوع فخرجت من بيتي أبحث عن طعام آكله، يقول: فرأيت كيساً في الطريق فأخذته فإذا به عقد من لؤلؤ، وأحجار كريمة، يقول: فأخذته ووضعته في البيت وخرجت لأبحث عن رزقي، يقول: وإذا بمنادٍ ينادي: من وجد كيساً فيه كذا وكذا فله خمسمائة دينار، وفي ذاك الوقت سيتزوج ويولم بدينار، فخمسمائة دينار مبلغ كبير، وسيأتينا أن هذا العقد بيع بمائة ألف دينار، فهذه جائزة قال: فقلت: ما وصف الكيس؟ وماذا فيه؟ يقول: فوصف لي الكيس، والرباط الذي عليه، وعدد ما فيه من أحجار، ووصف العقد الذي فيه، يقول: فدفعته إليه فأعطاني الدنانير، فأبيت أن آخذ ديناراً، وقلت: عمل عملته لله لا آخذ أجرة عليه، وهذا مالك ، يعني بأي حق آخذ هذا؟! فقال: نفسي طيبة بذلك، فقلت: لا أريد أن آخذ أجراً على طاعة عملتها، خذ مالك بارك الله لك فيه، يقول: ووالله إنني بحاجة إلى كسرة خبز! انظر لهذه العفة وهذه الشهامة وهذه المروءة وهذه الرجولة، بحاجة إلى كسرة خبز، وهذا يعرض عليه خمسمائة دينار طيبة بها نفسه، فيقول: لست بحاجة إليها.

    ثم حصل ما حصل من رزق، وأنهى حجته، ولما عاد وركب البحر انكسرت بهم السفينة، فتعلق بخشبة من خشباتها، فضربته الأمواج حتى استقر في جزيرة، يقول: فدخلت إلى غيضة، ومشيت فيها -شجر كثير ملتف- حتى بان لي علامة مسجد، فذهبت فدخلت إلى هذا المسجد، يقول: فالحمد لله وجدت أن أهل الجزيرة على الإسلام، وأنه ضربته الأمواج إلى جزيرة مسلمة في ذاك الوقت ليست من جزر الكفر، يقول: فدخلت إلى المسجد فبدأت أقرأ القرآن، فجاء أهل القرية وقالوا: تحسن قراءة القرآن؟ قلت: نعم، هذا شيخ الإسلام يحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، هذا محدث الدنيا الآن، قالوا: علمنا، فعلمتهم فأكرموني وأحسنوا ضيافتي وأحبوني، ثم رأوني بعد أيام أكتب، يخرج الأوراق ويكتب فيها، فقالوا: أنت تحسن الخط؟ قلت: نعم، قالوا: علمنا، يقول: فعلمتهم، فزادت الألفة والمودة بيني وبينهم، فلما عزمت على الرحيل عزموا على أن أبقى وقالوا: نزوجك عندنا، قلت: أنا أريد أن أذهب إلى بلادي، ولم يكن متزوجاً، قالوا: تتزوج عندنا، قال: فقلت: على بركة الله، وبعد أن أجريت مراسم الزواج، وتم الأمر، ودخل على زوجه، وجد العقد الذي وجده في مكة في صدر هذه الزوجة الطيبة الطاهرة، فبدأ ينظر إلى صدرها وإلى هذا العقد الذي في صدرها ويتعجب! هذا وجدته في مكة، ما الذي أحضره إلى هذا المكان إلى هذه الجزيرة النائية؟! وما رفع طرفه إلى وجه زوجته، بل كان مشدوهاً، ليس من أجل عرض الدنيا، بل من أين جاء العقد؟! فقال له أقارب الزوجة: يا شيخ! كسرت قلب هذه اليتيمة المسكينة تنظر إلى العقد ولا تنظر إليها! فقال: لهذا العقد قصة، فأخبرهم بالقصة وأنه وجده في مكة، وأن بعض أهل الخير أخبره أن هذا العقد له فدفعه إليه وأراد أن يعطيه جائزة فأبى، فقالوا: صاحب العقد هو والد هذه المرأة، والد زوجتك، وقد حج معك في السنة التي حججت فيها، ورجع قبلك، وكان يقول: ما رأيت على وجه الأرض أتقى من الذي وجد عقدي في مكة. وكان كلما صلى صلاة يقول: اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي. هذه الأمانة والديانة هذا أمر عجيب، اجمع بيني وبينه لأزوجه ابنتي، لكن الأجل فاجأه فذهب إلى لقاء ربه، وقد أجاب الله دعاءه، فكبر من في البيت وكبر معهم قال: حتى ارتجت الجزيرة بالتكبير من هذا الخبر العجيب.

    يقول: فجلست معها فترة ورزقني الله منها ولدين، ثم ماتت فورثتها أنا وولداي، ثم مات الولدان فآل المال كله إلي، فبعت العقد بمائة ألف دينار، بدل الخمسمائة، فكان من أغنى العلماء في زمنه، فإذا سألوه: من أين لك هذا المال؟ يقول: هذا بسبب ما حصل لي بمكة، ثم ترتب عليه هذا الزواج المبارك، حقيقة هذا ارتفاق لا يخطر بالبال، تزوج هذه المرأة وورثت من والدها ما ورثت فآل المال إليه، وهذا ارتفاق عظيم، وصدق الله: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32].

    إخوتي الكرام! ومثل هذه القصة جرت أيضاً لشيخ الإسلام أبي الوفاء علي بن عقيل الذي توفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وانظروا قصته في سير أعلام النبلاء في الجزء التاسع عشر صفحة خمسين وأربعمائة، وهي مثل هذه القصة تماماً، أنه وجد عقداً في مكة، لكن تبين بعد ذلك أن هذا الرجل من بلاد الشام من حلب، وجاء الإمام ابن عقيل إلى حلب واستوطن فيها فترة، ولما أحبه أهل حلب وزوجوه تلك البنت التي مات والدها وخلف لها العقد الذي وجده الإمام ابن عقيل . ولا غرو في ذلك ولا عجب، فكما جاء في الحديث: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)، (احفظ الله يحفظك).

    ذكر حديث: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء) وحديث: (احفظ الله يحفظك)

    إخوتي الكرام! وهاتان الجملتان: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)، (احفظ الله يحفظك)، قطعتان من حديثين صحيحين ثابتين عن نبينا علي نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، أما الجملة الأولى: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)، فهي مروية في حديث حسن رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، وقد نص على تحسينه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة ثلاثين، والإمام الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء الثالث صفحة خمس عشرة ومائة، ولفظ الحديث: من رواية سيدنا أبي إمامة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب جل وعلا، وصلة الرحم تزيد في العمر)، وانظروا في هذين الكتابين في الترغيب والترهيب ومجمع الزوائد وفي جمع الجوامع للإمام السيوطي في الجزء الأول صفحة ستين وخمسمائة أحاديث أخرى بمعنى ذلك.

    وأما الجملة الثانية فهي قطعة من حديث صحيح أيضاً رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، والحاكم في مستدركه والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، وابن السني في عمل اليوم والليلة رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا غلام أو يا غليم! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده إمامك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، والحديث مروي بغير هذه الرواية.

    وانظروا -إخوتي الكرام- هذا الحديث في جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقد شرحه في خمس عشرة صفحة من صفحة ثلاث وسبعين ومائة إلى صفحة ثمان وثمانين ومائة، وهو الحديث التاسع عشر في جامع العلوم والحكم، وقد أشار في جامع العلوم والحكم إلى أنه أفرد لهذا الحديث جزءاً كبيراً، والجزء مطبوع سماه الإمام ابن رجب : نور الاقتباس في مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهما، قال الإمام ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم: وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطير، فوا أسفاه من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه! وهذا العالم الذي قال هذا الكلام هو الإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كما ذكر ذلك الإمام ابن رجب الحنبلي في نور الاقتباس في صفحة ثلاث وعشرين، يقول: حتى قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطير، ثم قال: فوا أسفاه من الجهل بهذا الحديث، وقلة الفهم لمعناه. قال الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم: قلت: وقد أفردت لشرحه جزءاً كبيراً، ونحن نذكر هاهنا مقاصده على وجه الاختصار إن شاء الله تعالى، والجزء -كما قلت- مطبوع، وهو في حدود ستين صفحة شرح فيه هذا الحديث العظيم: (احفظ الله يحفظك).

    إخوتي الكرام! هذا سبب ثالث من أسباب غنى المتزوجين: أنه يرثها وهي ترثه، وكم من إنسان تزوج امرأة من أسرة يملك أهلها الملايين والمليارات، وإذا مات والدها ورثت ثروة طائلة ستئول بعد ذلك إلى الزوج وإلى أولاده، والعكس كذلك: كم من إنسان يملك ثروة فيموت فترثه زوجته، وهكذا الأولاد، ثم يموت الأولاد فتنتقل بعد ذلك التركة إلى الزوجة التي صارت أماً للأولاد، هذا يقع بكثرة، وهذا كله من أسباب ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه.

    1.   

    تابع ذكر الأسباب التي بها يحصل الغنى للمتزوجين

    من أسباب غنى المتزوجين مساعدة الأولاد لوالدهم في كسب الرزق

    السبب الرابع لحصول الغنى للمتزوجين: مساعدة الأولاد له، إذا تزوجت وجاءك أولاد، هؤلاء الأولاد سيساعدونك، ويشدون عضدك وأزرك، وأيضاً يعملون ويقدمون لك، وكم من إنسان اغتنى بسبب أولاده، كان فقيراً، لعله ما ملك درهماً ولا ريالاً في جيبه طول حياته فاضلاً عن حوائجه، ثم فتح الله على أولاده الخيرات من حيث لا يحتسب، وما يملكه الأولاد ملك للوالد، فحصل له الغنى بسبب الأولاد، وهذا واقع بكثرة، ولذلك قال الإمام الألوسي : قد ينضم إلى ذلك حصول أولاد له فيقوى أمر التساعد والتعاضد. وقد تقدم معنا -إخوتي الكرام- أن الله امتن علينا بذلك فقال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، (حفدة) من حفد يحفد حفداً وحفدان واحتفد إذا خف وأسرع في الخدمة على وجه النشاط، فيخدمونك ويساعدونك، ونفقة الأبوين واجبة على الأولاد باتفاق أئمتنا، إذا كان الوالدان فقيرين فنفقتهما واجبة على الأولاد رغم أنفهم.

    لكن هل للأبوين أن يأخذا ما زاد على حاجتهما؟ تقدم معنا أنه عند الحنابلة مال الولد مال الوالد يتصرف فيه كما يتصرف في ماله بشرطين اثنين: الأول: ألا يأخذ ما يحتاجه الولد لئلا يضره، فمصلحة المالك تقدم على مصلحة غيره، والثاني: ألا يأخذ منه ليعطي إخوته الآخرين؛ لأنه منهي عن المحاباة بين أولاده فيما هو من ماله فكيف يأخذ من مال هذا الولد ليعطي ولداً آخر؟ وما عدا هذا يأخذ ما شاء ويدع ما شاء، ولا يجوز للولد أن يقول: لم؟ ولا أن يتمعر وجهه، بل ولا أن يتكدر قلبه، ولو فعل هذا فهو عاق، وتقدم معنا تقرير هذا، وقلنا: لأن الله جعل الولد كسباً للوالد، كما قال تعالى: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2]، وكسبه هم أولاده، وذكرت أيضاً حديث النبي عليه الصلاة والسلام وخرجته ضمن المقصد الثاني من مقاصد النكاح ألا وهو: إنجاب الذرية، وما في إنجاب الذرية من فوائد في الدين والدنيا في العاجل والآجل، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه، فكلوا من كسب أولادكم)، وتقدم معنا أيضاً الحديث الثاني: (أنت ومالك لأبيك).

    إذن: الولد من كسبه، وهو أيضاً هبة لوالده، كما قال تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]، وتقدم معنا استدلال سفيان بن عيينة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا على هذا الأمر بأن الله عندما ذكر البيوت التي يرخص للإنسان أن يأكل منها لم يذكر بيوت الأبناء؛ وذلك لأن بيوتهم بيوت للأب، ولذلك لم يذكرها، قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا [النور:61]، فقوله: (من بيوتكم) يدخل في ذلك بيتك الذي تملكه وبيت ولدك، ولذلك ما قال الله: أو بيوت أولادكم، ولو قيل لكان فيه كسر لخاطر الوالد، سيقول: صار مال الولد يختلف عن مالي، ولا بد من تنصيص على ذلك، وهذا لا يليق، ولذلك فقوله: (من بيوتكم)، شامل لبيتين، لبيته الأصلي ولبيت ولده يأكل ويتصرف فيه كما يتصرف في بيته تماماً.

    إذن: إذا تزوج الرجل وجاءه أولاد فإنه يرتفق بهم، وكم من إنسان حصل الغنى بسبب أولاده، ولو لم يتزوج لبقي طول حياته لا يملك ريالاً، وما أكثر هذا في الحياة وهو واقع مشاهد! إذن هذا سبب رابع لتحصيل الغنى للأزواج، إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32].

    من أسباب غنى المتزوجين مساعدة أهل زوجته له إذا كان فقيراً

    السبب الخامس: مساعدة أهل زوجته له إذا كان فقيراً، وهذا يقع بكثرة، قال الإمام الألوسي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: وربما يكون للمرأة أقارب يحصل له منهم الإعانة بحسب مصاهرته إياهم، ولا يوجد ذلك في العزب، وهذا الأمر حقيقة ما أكثره! كم من إنسان يتزوج وهو في الأصل ما عنده شيء، فقالوا له: نحن نساعدك ونحن نجهز لك المرأة، ويشترون له بيتاً، وفرشوه له ودفعوا له المهر وأهدوا إليه الزوجة، ما شاء الله على هذا الزواج ما أحسنه! وهذا يقع بكثرة، إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، وأنا أعرف بعض الناس في بلاد الشام عنده عدد من البنات، ما زوج واحدة إلا واشترى لها بيتاً، يقول: أنا أشتري لها البيت، بيت ملك لها وأنت تسكن وأسأل الله أن يجمع بينكما على طاعته، هذا موجود بكثرة، وهذا ارتفاق وسعادة حصلت للإنسان بسبب هذا، (التمسوا الغنى بالنكاح)، وتقدم معنا أن النكاح مفتاح للرزق، وهذا من جملة الأسباب لتحصيل الغنى.

    من أسباب غنى الزوجين مساعدة أهل الزوج له من أموالهم

    السبب السادس: مساعدة أهله له لثقل حمله الذي يحمله، فهو عندما يتزوج والده يساعده، وأمه تساعده، وإخوته يساعدونه، أعمامه يساعدونه، كلهم يشتركون ويقولون: هذا تزوج مسكين في بداية حياته فكل واحد يحضر له ما تيسر من هدية ومعونة، ثم ترى ما بين الحين والحين تأتيه الخيرات والبركات، هذا أيضاً من أسباب تحصيل الرزق، والله هو الذي يلقي في قلوب هؤلاء هذا الشيء، فعمك يهدي لك، ووالدك يهدي لك.. وهكذا، فتحصل خيراً، كثيراً.

    من أسباب غنى المتزوجين مساعدة أهل الخير والغنى ومواساتهم للزوج

    السبب السابع: مساعدة أهل الخير له ومواساتهم له في تحصيل رزقه ومساعدتهم له، فأهل الخير إذا رأوا طالب علم فقير، إذا رأوا إنساناً فقيراً طيباً صالحاً تزوج ليس من شيمتهم أن ينظروا إليه ويهنئوه وانتهى الأمر، بل يعطونه من مال الله الذي أعطاهم، وهذا حقيقة موجود في جميع العصور، ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام ينبه إليه ويلفت الأنظار له، ووقع هذا في العصر الأول في ترجمة الصحابي الجليل خادم نبينا علي نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ربيعة بن كعب أبو فراس الأسلمي، الذي كان يبيت مع النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا قام نبينا عليه الصلاة والسلام لقضاء حاجته تبعه بوَضوئه، فقال له مرة كما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي : (سل حاجتك)، يريد أن يكافئه نبينا عليه الصلاة والسلام على خدمته إياه، انظر لهذا الطلب الذي هو أغلى الطلب، قال: ( أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذاك؟ ) اطلب شيئاً آخر من عرض الدنيا ماذا تريد؟ قال: ( هو ذاك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام )، ما أريد غيره، وفي بعض روايات المسند: قال له نبينا عليه الصلاة والسلام: (من علمك هذا؟) أنت علمته يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، علمته أن يتعلق بما عند الله وألا يفكر في الدنيا، أنت الذي علمته، قال: (من علمك هذا؟ فقال ربيعة : لا والله! يا رسول الله عليه الصلاة والسلام ما علمني أحد )، إنما نظرت في الدنيا فعلمت أنها منقطعة وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله عليه الصلاة والسلام لآخرتي، وعلمت أنك عند الله بالمنزل الذي أنت فيه، يعني لك شأن أنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقلت: أسأل رسول الله عليه الصلاة والسلام لآخرتي.

    وورد في رواية المسند: ( أن نبينا عليه الصلاة والسلام أطرق قليلاً -كأنه يوحى إليه- ثم قال: يا ربيعة ! إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود)، ولا يقولن قائل: هذه استغاثة بغير الله في طلب ما لا يقدر عليه إلا الله، فإن المراد: أسألك أن تشفع لي إلى ربك لأنال هذه الحظوة عنده لأكون معك في عليين، فأطرق النبي عليه الصلاة والسلام ينتظر الأمر من ربه، هل سيشفع في هذا بخصوصه لينال هذه المنزلة؟ فقال: إني فاعل، سأشفع لك لتنال هذه المنزلة في الآخرة، لكن ابذل ما في وسعك بكثرة التقرب إلى ربك بالسجود.

    مساعدة الصحابة الكرام لربيعة بن كعب الأسلمي لما تزوج

    هذا ربيعة انظروا لمعاونة الصحابة له بإرشاد نبينا عليه الصلاة والسلام، ثبت في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، والحديث في المجمع في الجزء الرابع صفحة خمس وخمسين ومائتين، وبوب عليه الإمام الهيثمي في كتاب النكاح باباً فقال: باب الأمر بالتزويج والإعانة عليه، قال: وفي إسناده مبارك بن فضالة ، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح، والحديث ذكره في فضائل الصحابة في ترجمة سيدنا أبي بكر صديق هذه الأمة رضي الله عنه وأرضاه في الجزء التاسع صفحة خمس وأربعين، وقال: في إسناده مبارك بن فضالة حديثه حسن وبقية رجاله ثقات، وإنما أورده في ترجمة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه لما يسمعون من منزلة لـأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه لا يصل إليها أحد من الصالحين والصديقين لا من المتقدمين ولا من المتأخرين، وما وصل إليها وجاوزها إلا أنبياء الله ورسله علي نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    إخوتي الكرام! والمبارك بن فضالة كما قال الإمام الهيثمي : حديثه حسن، وقد حكم عليه الحافظ في التقريب فقال: صدوق يدلس ويسوي، وقد توفي سنة ست وستين ومائة للهجرة، فهو يدلس ويسلك تدليس التسوية، وتقدم معنا أن تدليس التسوية: أن يحذف ضعيفاً بين ثقتين، وقد توفي سنة ست وستين، وخرج له البخاري في صحيحه تعليقاً، وهو أيضاً مخرج له في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، فهو في السنن الأربعة إلا سنن النسائي ، والحافظ الذهبي في السير في الجزء السابع صفحة أربع وثمانين ومائتين يقول: قلت: هو حسن الحديث. كما قال الإمام الهيثمي تماماً، وقال الهيثمي في المكان الثاني: حديثه حسن وبقية رجاله ثقات.

    إذن هو في المسند ومعجم الطبراني الكبير، ورواه الإمام الطيالسي في مسنده كما في منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود في الجزء الثاني صفحة ثلاث وأربعين ومائة، ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثاني أيضاً صفحة أربع وسبعين ومائة وقال: صحيح على شرط مسلم . ولا يسلم له أنه على شرط مسلم ؛ لأنه مبارك بن فضالة ليس من رجال مسلم ، وقد علق عليه الذهبي بقوله: قلت: لم يحتج مسلم بـمبارك ، فالحديث صحيح، لكن لم يحتج مسلم بـمبارك ، فهو صحيح، وليس على شرط مسلم ، وقال شيخ الإسلام الإمام أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الثاني صفحة أربع وعشرين: إسناد الحديث حسن، والحديث رواه الحافظ في الفتح في الجزء السابع صفحة ست وعشرين محتجاً به، فلا ينزل عن درجة الحسن على شرطه.

    وخلاصة الكلام: هو في المسند ومعجم الطبراني الكبير ومسند أبي داود الطيالسي ، ورواه الحاكم في المستدرك، والحديث صحيح، وفيه حصول الغنى له والخير والبركة بسبب زواجه: والحديث -إخوتي الكرام- طويل أخذ قرابة صفحتين، لكن فيه هذه الدلالة العجيبة.

    عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه قال: ( كنت أخدم النبي عليه الصلاة والسلام فقال لي: يا ربيعة ! ألا تتزوج؟ قلت: لا والله يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا أريد أن أتزوج، وما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، ثم قال الثانية: يا ربيعة ! ألا تتزوج؟ فقلت: ما أريد أن أتزوج وما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم مني بما يصلحني في الدنيا والآخرة، والله لئن قال لي: ألا تتزوج؟ لأقولن: نعم، مرني بما شئت، فقال لي: يا ربيعة ! ألا تتزوج؟ الثالثة، فقلت: بلى، مرني بما شئت، قال: انطلق إلى آل فلان)، إلى حي من الأنصار كان فيهم تراخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة -لامرأة منهم- قال: فذهبت إليهم فقلت لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني، فقالوا: مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يرجع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحاجته، قال: فزوجوني، وألطفوني، وما سألوني البينة، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً، فقلت: يا رسول الله عليه الصلاة والسلام! أتيت قوماًكراماً فزوجوني وألطفوني وما سألوني البينة، وليس عندي صداق، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: يا بريدة الأسلمي ! )، كأنه يقول: اربط قلبك بربك ولا داعي للحزن ولا للهم، ( يا بريدة ! ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: اجمعوا له وزن نواة من ذهب)، هذه مساعدة أهل الخير، قال: ( فجمعوا لي وزن نواة من ذهب، فأخذت ما جمعوه لي، فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: اذهب بهذا إليهم فقل لهم: هذا صداقها، فأتيتهم فقلت: هذا صداقها، فقبلوه ورضوه، وقالوا: كثير طيب، قال: ثم رجعت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام حزيناً مرة ثانية، فقال: يا ربيعة ! مالك حزين؟ فقلت: يا رسول الله عليه الصلاة والسلام! ما رأيت قوماً أكرم منهم رضوا بما آتيتهم وأحسنوا، وقالوا: كثير طيب، وليس عندي ما أولم، فقال: يا بريدة ! اجمعوا له شاة، قال: فجمعوا لي كبشاً عظيماً سميناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها فقل لها: فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام، قال: فأتيتها فقلت لها ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا المكتل فيه سبع آصع من شعير، ولا والله! إن أصبح لنا طعام غيره -ما عندنا إلا هذا الطعام- خذه، قال: فأخذته فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها، قال: اذهب بهذا إليهم فقل لهم: ليصبح هذا عندكم خبزاً وهذا طبيخاً، فقالوا: أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفونا أنتم، قال: فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمت ودعوت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني بعد ذلك أرضاً، وأعطى أبا بكر رضي الله عنهم أجمعين أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة، فقلت أنا: هي في حدي، وقال أبو بكر : هي في حدي، وكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين كلمة كرهتها وندم، فقال لي: يا ربيعة ! رد علي مثلها حتى يكون قصاصاً، قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما أنا بفاعل، قال: فرفض أبو بكر الأرض رضي الله عنه وأرضاه )، يعني ضربها برجله مغضبَاً لم َلم يرد عليه ربيعة كلمة كالتي صدرت من سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في حق ربيعة ! قال: ( وانطلق أبو بكر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من أسلم فقالوا: رحم الله أبا بكر ، في أي شيء يستعدي رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ ) أي: لماذا سيحرض الرسول عليه الصلاة والسلام عليك وهو الذي قال لك ما قال؟ قال: فقلت: ( أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق ، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما فتهلك ربيعة )، يعني ربيعة وأسرته وقبيلته كلهم يهلكون إذا غضب أبو بكر ، وترتب عليه غضب النبي عليه الصلاة والسلام، وغضب ذو الجلال والإكرام، قالوا: ( فما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، قال: فانطلق أبو بكر رحمة الله عليه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فتبعته وحدي، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه الحديث كما كان، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلي فقال: يا ربيعة ! ما لك وللصديق ؟ قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! كان كذا، كان كذا، فقال لي كلمة كرهتها، ثم قال لي: قل لي كما قلت، -يعني كما قلت لك- حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، لا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر ، قال الحسن : فولى أبو بكر رحمة الله عليه يبكي )، رواه أحمد والطبراني ، وفيه مبارك بن فضالة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح.

    إخوتي الكرام! كما ترون هنا حصلت معونة من الصحابة الكرام لهذا الصحابي الجليل والعبد الصالح ربيعة بن كعب رضي الله عنه وأرضاه.

    إخوتي الكرام! قبل أن ننتقل إلى السبب الثامن من أسباب حصول الرزق للمتزوج، عندي تعليق على هذه القصة التي جرت لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه مع هذا الصحابي الجليل ربيعة بن كعب رضي الله عنهم أجمعين، أترك الكلام عليها إلى الموعظة الآتية إن أحيانا الله، ونتدارس السبب الثامن والتاسع والعاشر وهو آخر ما يكون عندنا في هذا المبحث، وكان في نيتي أن أنتهي منه في هذه الموعظة ولكن قدر الله وما شاء فعل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اجعل هذا الشهر الكريم أوله لنا رحمة، وأوسطه لنا مغفرة، وآخره عتقاً لنا من النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756003599