إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. عبد الرحيم الطحان
  5. سلسلة مباحث النبوة
  6. مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً

مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاًللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خَلْقاً وأكرمهم خُلُقاً، فقد حاز من الفضائل والمحاسن أعلاها وأجلها وأرفعها، اختاره الله تعالى ووهبه ذلك قبل بعثته وبعدها، فقد كان في مكة أحسن الناس خَلْقاً وخُلُقاً كما شهد له بذلك أهلها، وقد عرف له هذه المكانة العالية والمنزلة الرفيعة أصحابه الكرام، فكانوا يجلونه غاية الإجلال، ويعطونه من التبجيل والاحترام والتقدير ما لا يعطى لغيره، وكانوا يحبونه حباً صادقاً لم يعطه أحد سواهم لأحد سواه صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    هيبة النبي صلى الله عليه وسلم عند أصحابه وتعظيمهم له

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    إخوتي الكرام! كنا نتدارس في المبحث الثالث من مباحث النبوة الذي يدور حول الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت: هذه الأمور والعلامات والدلالات كثيرةٌ غزيرة، يمكن أن نجمعها في أربع علامات:

    العلامة الأولى: النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خلقاً وخلقاً.

    والعلامة الثانية: النظر إلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام.

    والعلامة الثالثة: النظر إلى المعجزات التي أيد الله بها أنبياءه ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    والعلامة الرابعة وهي آخر العلامات: النظر إلى أصحابه الكرام، فالتلاميذ هم صورة شيوخهم، ونبينا عليه الصلاة والسلام إذا أردت أن تعرف حاله فانظر إلى أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

    هذه العلامات الأربع من تأملها وبحث فيها يتبين له صدق النبي عليه الصلاة والسلام، كما يتبين أيضاً كذب المتنبئ الدعي الذي يدعي أنه رسول الله، وهذه العلامات تفضحه وتظهر حقيقة أمره، وأنه ليس كما يقول.

    إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمر الأول من هذه الأمور، والعلامة الأولى من هذه العلامات: وهي النظر إلى نفس الرسول على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت: النظر إلى نفس الرسول عليه الصلاة والسلام يدور حول أمرين: النظر إلى نفسه خلْقاً، والنظر إلى نفسه خلُقاً، فقد أعطى الله أنبياءه ورسله الكمال في الأمرين: في الخلق وفي الخلق، كنا نتدارس خَلق النبي عليه الصلاة والسلام، وما فيه من علاماتٍ ودلالات تدل على أنه رسول رب الأرض والسموات على نبينا صلوات الله وسلامه.

    إخوتي الكرام! لقد حبا الله نبينا عليه الصلاة والسلام الكمال في خلقه، فأعطاه البهاء والجمال عليه صلوات الله وسلامه، فكان جميلاً عليه صلوات الله وسلامه بهياً، وكان جليلاً مهيباً عليه صلوات الله وسلامه كما تقدم معنا هذا، وآخر شيءٍ تدارسناه في الموعظة السابقة: أن البهاء الذي في نبينا عليه الصلاة والسلام والجلال كان يمنع الصحابة الكرام من إدامة النظر إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وإذا رآه الإنسان في أول وهلةٍ يهابه، ثم إذا عاشره أحبه عليه صلوات الله وسلامه.

    وختمت الموعظة السابقة بحديثين اثنين: الحديث الأول في مستدرك الحاكم وسنن ابن ماجه من رواية أبي مسعود ، والرواية الثانية للحديث هذا في المستدرك أيضاً ومعجم الطبراني الأوسط عن جرير ، لما جيء برجلٍ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فارتعدت فرائصه عندما وقع نظره على النبي عليه صلوات الله وسلامه، فقال له نبينا عليه الصلاة والسلام: (هون عليك، إني لست بملك، إنما أنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد)، وقلت: ليست هذه الحالة حالة فردية في هذا الصحابي الذي ما كان يعرف النبي عليه الصلاة والسلام، ولا اجتمع به، بل هذه حالة سائر الصحابة الكرام معه، وختمت الموعظة السابقة بالحديث الذي في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقلت: إنه كان أدهى الخلق في ذلك الوقت، وعنده من الشجاعة والجرأة والهيبة ما عنده، ومع ذلك يخبر عن نفسه أنه ما استطاع أن يملأ عينيه من نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

    وهذا الوصف الذي كان في نبينا عليه الصلاة والسلام وهذه الهيبة كانت من دون خدمٍ ولا حشم ولا حرسٍ ولا شرطةٍ تحيط به عليه صلوات الله وسلامه، إنما فيه هذه الهيبة العظيمة مع جمال عظيم بحيث يهابه الإنسان ويوقره، لكن هذا التوقير مشوبٌ -كما تقدم معنا- بحبٍ كثيرٍ، لا يعدله حب أحدٍ من الخلق، فقد كان محبوباً، وهو مع ذلك مرهوب عليه صلوات الله وسلامه، وهبه الله الكمال، فهو موهوب، وهو محبوب، وهو مرهوب عليه صلوات الله وسلامه. ‏

    عروة بن مسعود الثقفي يحكي تعظيم الصحابة الكرام للنبي صلى الله عليه وسلم

    هذا الوصف في نبينا عليه الصلاة والسلام تواترت به الأحاديث، فليست هي قصة فردية، ولا ثنائية، هذا هو وصف الصحابة قاطبةً، فاسمعوا لهذا الحديث الذي هو في المسند وصحيح البخاري ، وهو في أعلى درجات الصحة، والحديث طويل أخذ قرابة ثلاث صفحات من صحيح البخاري ، وشرحه الحافظ ابن حجر في الفتح في ثلاثٍ وعشرين صفحة في الجزء الخامس من صفحة ثلاثمائة وتسعٍ وعشرين إلى ثلاثمائة واثنتين وخمسين، والحديث في باب الشروط ومصالحة الكفار وكتابة الشروط معهم في صلح الحديبية، وسأذكر محل الشاهد منه: عندما جاء نبينا عليه الصلاة والسلام في العام السادس مع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وكانوا ألفاً وخمسمائة رضي الله عنهم وأرضاهم، من أجل أن يعتمروا في العام السادس، يريدون العمرة مع نبينا عليه الصلاة والسلام، فلما وصلوا إلى الحديبية، ووقفت ناقة النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك المكان، فقال بعض الصحابة: خلأت القصواء، يعني: ضعفت وفترت واعتراها تعبٌ وإعياء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما خلأت، وليس ذلك لها بخلق، إنما حبسها حابس الفيل)، أي: الله الجليل هو الذي أوقفها عند هذا المكان خشية أن يحصل بيننا وبين المشركين خصامٌ واصطدام وقتال، والله جل وعلا جعل لمكة حرمةً عظيمة، فيريد أن يتم الأمر عن طريق المفاوضة والمصالحة لا عن طريق المشاجرة والمقاتلة.

    ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يسألوني خطةً فيها رشدٌ إلا أجبتهم إليها)، فوقف مكانه، وبدأت الوفود تأتي إليه من مكة من أجل مفاوضته، وهل يدخل هذا العام أو يعود؟ وما هي الشروط بينهم وبين المشركين؟ جاء عروة بن مسعود الثقفي وكان مشركاً ثم أسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه، فلما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان قد جاء قبله أناسٌ، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: أنت بين أمرين اثنين، يعني إذا كنت تصر على الدخول إلى مكة من أجل العمرة، أنت بين أمرين: إما أن تستأصل أمر قومك، أي: أن تبيدهم، وأن تفنيهم، وهل سمعت أحداً اجتاح أهله قبلك؟ يعني هذه منقصة عليك ومذمة إذا استأصلت أمر قومك، وقتلت أهلك في مكة، فهم عشيرتك وأصحابك وأسرتك، وهل سمعت أحداً قبلك اجتاح أهله وقتلهم؟ هذا الأمر الأول، والم

    أمر الثاني: إن كانت الأخرى، وما انتصرت على أهل مكة، إنما انتصروا عليك وغلبت، إن كانت الأخرى فلا أرى معك وجوهاً، أي: سادةً من الأشراف الذين يدافعون عنك أهل النخوة والمروءة، لا أرى معك وجوهاً، لا أرى معك إلا أشواباً من الناس، أي: أخلاطاً من الناس، خليقاً أن يفروا، أي: يجدر بهم إذا انتصر المشركون أهل مكة عشيرتك عليك أن يفر أصحابك، وأن يسلموك إلى قومك.

    رد أبي بكر على عروة بن مسعود بقوله: امصص بضر اللات

    فلما قال ذلك كان صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه بجوار النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: يا عروة ! امصص بضر اللات، أنحن نفر عنه؟ والبضر: هي الجلدة التي تكون في فرج المرأة بعد ختانها، ما يبقى منها يقال له: بضر، وهذه الكلمة من أشنع الكلمات في السب عند العرب، ولكن بدلاً من أن تضاف إلى اللات تقال للأم: امصص بضر أمك، لكن بما أنه يعبد اللات ويعظمها أكثر من أمه حقره أبو بكر رضي الله عنه، فقال له: امصص بضر اللات، أنحن نفر عنه؟ أنحن ننكشف عنه؟! بل نفديه بآبائنا وأمهاتنا وأولادنا وأنفسنا عليه صلوات الله وسلامه.

    وهذه الكلمة التي تفوه بها صديق هذه الأمة ونطق بها رضي الله عنه وأرضاه هي كلمة حقٍ وصدق، قيلت في المكان الذي ينبغي أن تقال فيه، وحذار أن يقول واحدٌ: إن هذا من الفحش، فالصحابة أعف خلق الله ألسنةً وأطهرهم قلوباً، لكن الذي يتهجم عليهم بهذه العبارات ويقول: إن حول النبي عليه الصلاة والسلام أشواباً من الناس، أي: أخلاطاً ليس لهم أصلٌ -كما يقال- ولا فصل، ولا مروءة ولا شهامة، إذا كانت الدائرة على المسلمين فروا وتركوا نبيهم الأمين عليه الصلاة والسلام، فهذا ينبغي أن يردع بكلمةٍ توقفه عند حده، وهي: امصص بضر اللات، أنحن ننكشف عنه؟ أنحن نفر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! هذه كلمة حق، فإذا تطاول الإنسان ينبغي أن توقفه عند حده بعبارةٍ خشنة.

    وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا، ففي مسند الإمام أحمد والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه البغوي في شرح السنة، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، وهو حديثٌ صحيحٌ، عن أبي المنذر أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان في مجلسٍ، فتكلم بعض الحاضرين بنعرة الجاهلية، وبدأ يباهي بنسبه وعشيرته وقبيلته، وأبي جالس، فلما سمعه أبي يتكلم بهذا الكلام قال له: أعضض أير أبيك، فقال له الحاضرون: يا أبا المنذر ! ما كنت فحاشاً. أنت صحابي سيد القراء تقول هذه الكلمة في المجلس! فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، والهن: هو العورة، هو العضو الذكر، (فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، لا داعي للكناية، لا تقل له: أعضض كذا وكذا، بل صرح كما فعل سيد القراء أبي بن كعب .

    والذي يدعو إلى حمية الجاهلية ينبغي أن يردع عن هذه الخصلة الردية بهذا اللفظ الذي يستأصل هذا الداء من قلبه لئلا يعود إليه مرةً أخرى، لقد أكرمنا الله بالإسلام، وبنبينا عليه الصلاة والسلام، وأفضلنا عند الله أتقانا، وهذا غيبٌ لا يعلمه إلا الله، فعلام يفخر بعضنا على بعض؟ إذاً الذي يثير هذه الحمية الجاهلية ينبغي أن يردع بهذه اللفظة الخشنة القاسية، وآخر الدواء الكي، كما أن الإنسان يكتوي أحياناً من باب علاج نفسه، والكي شديدٌ أليم، لكن ليداوي نفسه بذلك، وهنا كذلك: (فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا).

    والأثر رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه وأمصوه)، قل له: أعضض وامصص، عندما يتكلم بنعرة الجاهلية ويثير الحمية الجاهلية، وهنا أبو بكر صديق هذه الأمة وأفضل خلق الله بعد الأنبياء والرسل عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه عندما قال عروة بن مسعود الثقفي : يا محمد عليه الصلاة والسلام! لا أرى حولك وجوهاً، إنما أرى أشواباً من الناس خليقين أن يفروا، قال أبو بكر : امصص بضر اللات، أنحن نفر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! أنحن ننكشف عنه؟!

    منع المغيرة بن شعبة عروة بن مسعود من يمد يه إلى لحية النبي

    وكان عروة يمد يده إلى لحية النبي عليه الصلاة والسلام وهو يخاطبه، وليس من باب الغلظة على النبي عليه الصلاة والسلام أو إهانته، إنما عادة العرب جرت إذا كانوا يلاطفون الإنسان في الكلام يتناولون بعض أعضائه لا سيما لحيته، كأنه يقول: أنت رجلٌ فاضل وقور صاحب لحية، صاحب مروءة، فأنا أباسطك في الكلام، فمد عروة يده إلى لحية النبي عليه الصلاة والسلام، فضربه المغيرة بن شعبة بنعل السيف، وقال: ارفع يدك، والله إن مددتها مرةً أخرى لا تعود إليك، أنت تمد يدك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال عروة : من هذا يا محمد عليه الصلاة والسلام؟ وكان قال عندما رد عليه أبو بكر : من هذا؟ قال: هذا أبو بكر ، قال: لولا أن له عندي يداً ما كافأته عليها لرددتها له، وكان عروة تحمل ديةً في الجاهلية فساعده أبو بكر ، فقال: هذه بتلك، يعني هو له معروف عندي وما كافأته عليه، فكيف سأرد عليه هذه الكلمة عندما يقول لي: امصص بضر اللات؟ وقال: ومن هذا؟ قال: هذا المغيرة بن شعبة ، وكان قائماً على رأس رسول الله عليه الصلاة والسلام والسيف بيده، فقال: أي غدر! يرد على المغيرة ، أي: يا صاحب الغدر، لا زلت أعاني من غدرتك حتى الآن، وكان المغيرة قد قتل أناساً في الجاهلية، فتحمل عروة بن مسعود الثقفي ديتهم، يعني أنا أتحمل ديتك، وأسعى في دفع الغرامة التي عليك، وأنت تقول لي: ارفع يدك وتضرب يدي بنعل السيف، وتقول: إذا مددتها مرة ثانية لا تعود إليّ إلا مقطوعة؟! أهكذا تكافئ إحساني إليك؟ ثم رمق عروة بن مسعود الثقفي النبي عليه الصلاة والسلام لينظر إلى صحبه الكرام، فذكر خمس صفات لحال نبينا عليه الصلاة والسلام والصحابة معه، زاد ابن إسحاق في السير صفةً سادسةً فاسمعوها:

    تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم كما جاء على لسان عروة بن مسعود الثقفي

    فعندما رمق ولاحظ وراقب عروة النبي عليه الصلاة والسلام، كيف حاله مع أصحابه، وقد افترى على أصحابه بأنهم أشوابٌ من الناس سيفرون إذا دارت الدائرة وحصلت المعركة، يقول: فرأيت النبي عليه الصلاة والسلام إذا تنخم، أي: بصق مع إخراج بلغم، إذا تنخم لا تقع نخامته إلا في كف أحدهم، فإذا وقعت في كفه دلك بها وجهه وجسده، أهؤلاء يفرون عنه؟ أهؤلاء ينكشفون عنه؟ هذه الصفة الأولى، يقول: وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، كل واحدٍ يسارع لتنفيذه، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه من الزحام، وهو الماء الذي يتوضأ به وينزل من أعضائه عندما يتوضأ عليه الصلاة والسلام، يقتتلون عليه، كل واحدٍ يريد قطرةً من هذا الماء ليدلك بها جسده وجسمه ووجهه وأعضاءه.

    والصفة الرابعة: وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم، وهم عرب كانوا في الجاهلية في منتهى البذاءة والغلظة والجفاف، لكن إذا تكلموا بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام أصوات خافتة لا تسمع إلا بانتباه وهدوء.

    والصفة الخامسة وهي محل الشاهد: وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، ما رأيت صحابياً ينظر إليه ويديم ويتابع النظر، هذا لا يوجد، هذا هو صاحب الهيبة، رسول الله عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! هذا هو العام السادس للهجرة وسبقه ثلاث عشرة سنة في مكة، تسع عشرة سنة يصاحبونه فيها أبو بكر وغيره من الصحابة، ومع ذلك لا يستطيع أحدٌ أن يحد النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وصف عروة لنبينا عليه الصلاة والسلام مع صحابته.

    زاد ابن إسحاق في السيرة: قال: ولا تسقط شعرة من شعر النبي عليه الصلاة والسلام، عندما يتوضأ، عندما يسرح لحيته وشعره عليه صلوات الله وسلامه، إلا تسابقوا إليها أيهم يأخذها، هذه هي حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد عروة إلى قومه في مكة، وعروة بن مسعود الثقفي هذا هو أحد الرجلين اللذين كان المشركون يريدون أن تنزل الرسالة عليهما، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، فهو من الوجهاء الكبار، ورئيس أهل الطائف وزعيمهم، عروة بن مسعود الثقفي .

    عاد وقال لهم: لقد أتيت النجاشي في ملكه، وكسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، فما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! كسرى وقيصر والنجاشي هؤلاء أعظم ملوك الأرض في زمنه، وكل واحدٍ عنده من السطوة والرهبة ما عنده، ويعظم من أجل دنيا، ومع ذلك تعظيم الجنود لهؤلاء القادة ليس كتعظيم الصحابة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، لا من أجل عرضٍ دنيوي، إنما من أجل التقرب إلى الله القوي سبحانه وتعالى، ثم قال: وقد دعاكم إلى أمر رشد، فأرى أن تطيعوه، فلما أبوا قال: إني أفارقكم خشية أن ينزل الله علينا عقوبةً، فترك مكة وخرج إلى الطائف.

    عروة بن مسعود الثقفي لما شرح الله صدره وآمن في العام الثامن للهجرة في آخره، أراد أن يعود إلى قومه ليكون سبب هدايتهم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إني أخاف عليك من قومك أن يقتلوك)، فقال: أهم يقتلونني؟ أنا عندهم أغلى من سمعهم وبصرهم، أنا المحبب عندهم، فلما ذهب ودعاهم إلى الإسلام رشقوه بالنبال فقتلوه، رضي الله عنه وأرضاه، ثم أسلم قومه بعد ذلك في العام التاسع للهجرة.

    إذاً: ما كان أحدٌ يستطيع أن يحد النظر إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا حال الصحابة الكرام، جمال وجلال في نبينا عليه الصلاة والسلام، فجمع الله له الملاحة والبهاء، الجمال والجلال، فصار كاملاً في خلقه وخلقه عليه صلوات الله وسلامه، وهذا الجمال والجلال الذي في خلقه صاحبه جمالٌ وجلالٌ وكمالٌ في الخلق أيضاً كما سيأتينا تفصيل هذا في الأمر الثاني.

    1.   

    صيانة الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن أخلاق الجاهلية ودنسها قبل النبوة

    هذا الخلق العالي النبيل كان عليه صلى الله عليه وسلم قبل بعثته وبعد بعثته، هذا الجمال الخلقي صاحبه جمالٌ خلقي حتى قبل بعثته عليه صلوات الله وسلامه، فما فعل نقيصةً عليه صلوات الله وسلامه قبل أن ينبئه الله وقبل أن يكرمه بالرسالة، وحفظه من جهل الجاهلية ودنس المشركين.

    ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: لما بنيت الكعبة. وكان هذا قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام بخمس سنين في العام الخامس والثلاثين من عمر نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، كان عمره خمساً وثلاثين سنة، عندما جاءت سيولٌ وهدمت الكعبة، ثم بعد ذلك أرادوا أن يعمروها ويبنوها في هذه السنة التي بلغ فيها نبينا عليه الصلاة والسلام من العمر خمساً وثلاثين سنة، قال: لما بنيت الكعبة ذهب العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام ورسول الله عليه الصلاة والسلام يحملان الحجارة، فقال العباس إشفاقاً على ابن أخيه محمدٍ عليه صلوات الله وسلامه: يا محمد! ارفع إزارك فضعه على عاتقك، أي: من أجل ألا تؤثر الحجارة عليك عندما تحملها، ومن أجل أن يكون أخف عليك، فلما فك النبي عليه الصلاة والسلام إزاره ليضعه على عاتقه خرّ على الأرض عليه الصلاة والسلام، وطمحت عيناه إلى السماء، أي: شخصت ونظرت إلى السماء وسقط على الأرض عليه صلوات الله وسلامه، فما كشف عن عورته ولا رئيت عورته بعد ذلك عليه صلوات الله وسلامه، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك، ورواه الطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في دلائل النبوة، وأبو نعيم في دلائل النبوة من حديث أبي الطفيل رضي الله عنه: أنه لما سقط النبي عليه الصلاة والسلام وطمح بصره إلى السماء سمع منادياً يناديه: (يا محمد! عليه الصلاة والسلام خمر عورتك، يا محمد! استر عورتك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذلك أول ما نوديت)، أول ما سمعت هذا النداء، وهذا كله إرهاص بنبوته عليه صلوات الله وسلامه، وسيأتينا إن شاء الله عند بيان المعجزات أنواع خوارق العادات والفارق بينها، فمنها إرهاص، ومنها معجزة وكرامةٌ ومعونةٌ، فالإرهاص: أمر خارقٌ للعادة يجريه الله على يد النبي ليكون بمثابة تأسيسٍ لنبوته، ولفت الأنظار إلى عظيم شأنه، مأخوذ من الرهص وهو أساس الجدار. والحديث إسناده صحيح، أعني: حديث أبي الطفيل ، وحديث جابر في الصحيحين.

    إذاً: هذا الخلق الكريم صاحبه حفظٌ من رب العالمين، فصانه الله من رجس الجاهلية، وما تلبس بشيءٍ من آفاتها ومنكراتها، وقد سئل نبينا عليه الصلاة والسلام بعد أن أكرمه الله بالرسالة: هل رتعت فيما كان يرتع فيه قومك، ووقعت في شيءٍ من خصال الجاهلية ومنكراتها؟ والحديث رواه البزار في مسنده، وأبو نعيم في دلائل النبوة، والبيهقي في دلائل النبوة، ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده، وإسناد الأثر الصحيح من رواية علي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما هممت بشيءٍ مما كان عليه أهل الجاهلية غير مرتين، كل ذلك يحول الله جل وعلا بيني وبين ما أريد، حتى أكرمني الله بالرسالة)، والذي هم به هو أنه هم أن يحضر عرساً من أعراس الجاهلية، وكان يرعى الغنم، فقال لمن معه لرفيقه: انتبه للغنم أريد أن أذهب من أجل أن أحضر العرس، فلما وصل إلى حدود مكة وأراد أن يدخلها ألقى الله عليه النوم، فما أيقظه إلا حر الشمس من اليوم التالي، وانتهت الليلة بكاملها على نبينا صلوات الله وسلامه، وهذا العرس فيه ما فيه من خصال الجاهلية ودنسها، فصان الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن مشاركة المشركين في أفراحهم وأتراحهم وعباداتهم عليه صلوات الله وسلامه، هم بذلك مرتين، فحال الله بينه وبين ما يريد، ليصنع على عيني الله المجيد سبحانه وتعالى.

    1.   

    مكانة النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند المشركين قبل البعثة

    إخوتي الكرام! ولهذه الصفات التي كانت في نبينا عليه الصلاة والسلام بهاءٌ وجلالٌ وجمالٌ في الخلق مما صانه الله جل وعلا عن كل دنس في خلقه عليه صلوات الله وسلامه، كان مقدراً من قبل الخليقة في الجاهلية وفي الإسلام، مقدراً معتبراً محترماً عليه صلوات الله وسلامه، أما في الجاهلية فيدل على ذلك القصة الشهيرة في بناء الكعبة كيف رضي المشركون به، وعندما دخل نبينا عليه الصلاة والسلام عليهم بعد نزاعهم واختلافهم طاروا فرحاً، وقالوا: هذا الأمين رضينا به.

    والحديث ثابتٌ في المسند بسندٍ رجاله ثقات من رواية السائب بن عبد الله ، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث علي رضي الله عنه بسندٍ رجاله ثقات، ولفظ الحديث من رواية علي رضي الله عنه والسائب بن عبد الله : أن المشركين عندما أرادوا بناء الكعبة -وقد ذكرت أن عمر نبينا عليه الصلاة والسلام كان خمساً وثلاثين سنة- فلما رفعوا الكعبة ووصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفت قبائل العرب: أيهم يأخذ الحجر ليضعه مكانه؟ اشتركوا في البناء، وكل واحدٍ يضع حجراً، ولهم شرف البناء جميعاً جميع القبائل، لكن أي قبيلة سترفع الحجر وزعيمها تكون له هذه المفخرة وهذه المكانة، هذه مفخرة لا بد من التنازع عليها، فكل قبيلةٍ تقول: نحن أحق برفع الحجر الأسود منكم، واختصموا وأحضروا السيوف وكادت أن تقع مقتلةٌ عظيمةٌ بسبب ذلك، ثم قام بعض عقلائهم وقال: نحن نريد من بناء بيت الله تعظيم الله، فكيف يقتل بعضنا بعضاً؟ حكموا أول داخلٍ عليكم، من سيأتي الآن إلى هذا الحرم حكموه ليحكم في هذه القضية، ففاجأهم نبينا عليه الصلاة والسلام بدخوله، وهو شاب، ويوجد شيوخ قريش أبو جهل وغيره الذين لهم المشورة، ويوجد أبو طالب وغيره من الذين لهم شأن، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام، فصاحوا صيحة رجلٍ واحد: هذا الأمين رضينا به، ما يحكم به هذا الأمين لا يرد، وهذا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام بخمس سنين.

    انظر لهذه الحكمة التي ألهم الله بها هذا الأمين عليه صلوات الله وسلامه قبل بعثته وقبل إكرام الله له بالرسالة، فعرضوا عليه مشكلتهم فقال: الأمر يسير، هاتوا رداءً، فأتوه برداء، فحمل الحجر بيديه الشريفتين عليه الصلاة والسلام ووضعه في وسط الرداء، وقال: لتأت قبائل العرب ولتمسك كل قبيلة بطرف الرداء ولترفع الحجر، فكل قبيلةٍ نالت شرف رفع الحجر، أما وضعه مكانه فيكون بيد النبي عليه الصلاة والسلام، فأخذه ووضعه فكلهم قبلوا، وما استأثرت قبيلةٌ من القبائل بوضع الحجر على القبائل الأخرى، كلها شاركت في رفعه، لكن حمله النبي عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين ووضعه مكانه، وقد رضي الجميع بحكمه وفض النزاع عليه الصلاة والسلام.

    وفي روايةٍ: قالوا: أتاكم الأمين، جاءكم الأمين رضينا به.

    إذاً: هذا الخلق الكريم صانه الله جل وعلا عن كل خلقٍ ذميم، فصنعه الله جل وعلا على عينه، وكمله في خلقه وخلقه عليه صلوات الله وسلامه.

    وهذه الصفات إخوتي الكرام التي في خير البريات عليه الصلاة والسلام في خلقه وخلقه سيأتينا الإشارة إلى شيءٍ منها عند بيان خلقه عليه صلوات الله وسلامه، وأوضح هذا بما لا يدع مجالاً للريب أن هذا الخلق هو خلق نبي، ولا يمكن أن يصدر من إنسانٍ عادي، بدأً من أبي بكر ومن دونه رضي الله عنهم وأرضاهم، هذا الخلق خلق نبي عليه صلوات الله وسلامه، ولا يمكن أن يصل إليه صديقٌ مهما علا شأنه، نعم، اقتدى به الصديقون والصالحون عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    1.   

    استدلال خديجة على نبوة محمد بأخلاقه العظيمة

    ولذلك عندما كان نبينا عليه الصلاة والسلام أحياناً يعتريه شيءٌ من القلق البشري، كان يثبت من قبل من يعرفه بأنه لا يمكن أن يحل بك ما تخشاه وما تتوقعه، وحديث الصحيحين إخوتي الكرام دليلٌ على هذا، فعن أمنا عائشة رضي الله عنها عندما قالت: (أول ما بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)، وهذا أول ما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من الوحي، واستمر به ذلك مدة ستة أشهر، كان لا يرى رؤيا في النوم إلا ويرى حصولها في اليقظة مثل فلق الصبح، كما يستبين ويظهر ويشع النور ويتضح، ( ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود عليه صلوات الله وسلامه، ثم يعود إلى أهله فيتزود، ثم يعود إلى غار حراء، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فضمه ثم قال: يا محمد! اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، يقول: فأخذني فضمني حتى بلغ مني الجهدَ أو الجهدُ ) بالنصب أو بالرفع والروايتان صحيحتان كما حقق ذلك الحافظ في الفتح (بلغ مني الجهدَ)، أي: بلغ مني هذا الضم المشقة الكبيرة، و(بلغ مني الجهدُ)، أي: المشقة والتعب بلغت مني مبلغها ونهايتها، بلغ الجهدُ مني مبلغه، ونهايته وشدته، قال: ( بلغ مني الجهدُ، ثم أرسلني فقال: يا محمد عليه الصلاة والسلام! اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، ثم ضمه الثالثة فأرسله قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5] )، وهي خمس آيات من صدر سورة العلق، وهي أول شيءٍ نزل من القرآن على الإطلاق، والحديث في الصحيحين، ولا يمكن أن يكون هناك قرآن نزل قبل هذا قطعاً وجزماً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أنا بقارئ)، فلو نزل عليه شيءٌ قبل هذا وقال: ما أنا بقارئ؛ لكان إخباراً بخلاف الحقيقة يتنزه نبينا عليه الصلاة والسلام عنه، وهذا نصٌ صريح بأن هذا هذه الآيات هي أول ما نزل.

    وهناك أقوالٌ قيلت لكنها أوليةٍ مقيدة، فقيل: سورة المدثر أول ما نزل، كما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، لكنها أولية مقيدة مشعرة بتبليغ الدعوة؛ لأن فيها: قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2]، وأما هناك فهي مجرد قراءة، ولأجل إعلام الله له بأنه مكلف، وعما قريب سينزل عليه ما يبلغ به قومه، فنزل عليه بعد العلق سورة المدثر، هذان القولان صحيحان ثابتان، وهناك أربعة أقوال في أول ما نزل وحولها ما حولها من الكلام. فقيل: الفاتحة، وقيل: البسملة، وقيل: ن والقلم، وقيل: المزمل، والآثار التي تدل عليها ليست قوية، ولها توجيهاتٌ تطلب في مظانها من كتب علوم القرآن، لكن القولان الأولان هما المعتبران: فالذي في الصحيحين أولية مطلقة، والذي في صحيح مسلم أولية مقيدة، ولا تعارض بينهما.

    تقول أمنا عائشة رضي الله عنها وهي تروي هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده، وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي ) أي: أن يكون هذا فيه فزعٌ لي، ويسبب لي الموت، أو يكون هذا شيء من مس الجن، لقد خشيت على نفسي من الموت، من هول الرعب، أن يكون ذلك بسبب طارئ طرأ علي، فقالت له وهي التي تعرفه أحواله وأعلم الناس به رضي الله عنها وأرضاها: ( كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

    ثم أخذته إلى ورقة بن نوفل رحمه الله ورضي عنه، فقالت: اسمع من ابن أخيك ما رأى، وكان امرأً تنصر، ويكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ورقة بما حصل له قال: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، ليتني أكون جذعاً، ليتني أكون حياً -أي: قوياً- عندما يخرجك قومك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أو مخرجي هم؟ )، يقولون عني: أمين، ويرضون بحكمي ثم يخرجونني من بلدهم، (أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحداً بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً)، ثم لم ينشب أن فتر الوحي، وتوفي ورقة في فترة الوحي، ثم بعد فتور الوحي ومجيئه نزل بسورة المدثر: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:1-5] ، فحمي الوحي بعد ذلك، أي: بدأ ينزل باستمرار على نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

    انتبه لكلام هذه المرأة العاقلة الحصيفة الرزينة الواعية: (والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل)، أي: تحمل الشدائد من أجل إعانة الناس، تتحمل الصعاب، تحمل الأثقال من أجل معونة الناس، فإذا علمت بيتيمٍ ساعدته، أو بمحتاجٍ أعنته، أو بأرملةٍ قضيت حاجتها، الثقل العظيم أنت تحمله من أجل مساعدة الناس ومعونتهم.

    و المراد بقولها: (وتكسب المعدوم)، يحتمل أمرين: إما أنك تكسب المال المعدوم، إشارة إلى جده وذكائه عليه صلوات الله وسلامه وتوفيق الله له، ولا تعني هذه الصفة فيه لأنه لا مدح فيها، إنما تعني ما يترتب عليها، أي: تكسب هذا المال المعدوم، ثم إذا كسبته لا تستأثر به إنما توزعه، والثانية: (تكسب المعدوم)، أي: تكسب المعدوم ماله، فإن الفعل كسب يتعدى بنفسه إلى مفعولين، ويتعدى بواسطة التضعيف أو الهمزة، فتقول: كسَّبت زيداً مالاً، أي: أكسبت زيداً مالاً، وعليه فتكسب المعدوم، أي: تكسب المعدوم مالاً، أي: المعدم الذي لا يملك شيئاً أنت تكسبه وتعطيه وتساعده، ففيك هذه الصفات الطيبة، قالت: (وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).

    ففيك هذه الصفات، فلن يتخلى الله عنك، الشياطين تتنزل على من فيه دنس ونجس، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222]، أما أنت فصادق القول، نقي القلب، تساعد عباد الله، تتحمل الشدائد من أجلهم، لا يوجد معروفٌ إلا وتسبق الخليقة إليه، فلن تكافأ بعد ذلك من قبل الله بأن يقترب منك جن أو أن تصاب بخبل في العقل، أو أن يسلط عليك مكر من قبل أهل الشر، هذا لا يمكن أن يحصل، فيحفظك الله جل وعلا فهو الذي لا يضيع أجر المحسنين سبحانه وتعالى.

    1.   

    منزلة النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته عند أصحابه رضي الله عنهم

    إخوتي الكرام! هذه الصفات الموجودة في خلق نبينا عليه الصلاة والسلام جمالاً كما تقدم معنا وبهاء، موهوب، محبوب، مرهوب عليه صلوات الله وسلامه، هذه الصفات التي فيه، وتدل على اعتناء الله به، وأن من كان في هذا الكمال الخلقي والخلقي لا يمكن أن يكذب على الله جل وعلا، هذه الصفات التي كانت فيه جعلت الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين يتعلقون به تعلقاً لا نظير له، وكما قال عروة بن مسعود كما تقدم معنا كلامه: ما رأيت مليكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً عليه صلوات الله وسلامه.

    تبرك الصحابة بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وشدة حرصهم على ذلك

    انظروا لبعض الصور لنعرف منزلة هذا النبي عليه الصلاة والسلام بين الصحابة الكرام، وإذا فاتنا شيءٌ من ذلك فلا أقل من كثرة الحب للنبي عليه الصلاة والسلام واللهج بالصلاة والسلام عليه على الدوام عليه صلوات الله وسلامه، إذا فاتتنا تلك الأمور فلا أقل من هذا، انظروا لهذه الحوادث، وكلها صحيحةٌ صحيحةٌ، حادثةٌ أولى ثبتت في المسند والصحيحين، وسنن الترمذي وابن ماجه والنسائي ، وهي في أعلى درجات الصحة، فهي في الصحيحين من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي ، وهو من الصحابة الكرام، وكان قائد الشرطة لـعلي رضي الله عنهم أجمعين أيام خلافته، قال أبو جحيفة : ( خرج النبي عليه الصلاة والسلام من قبة له -وكان هذا في منى على نبينا صلوات الله وسلامه- ليتوضأ ومعه بلال يحمل وضوءه -أي: الماء الذي سيتوضأ به النبي عليه الصلاة والسلام- قال أبو جحيفة : فابتدره الناس )، أي: أسرعوا إليه وتسابقوا ليأخذوا من أثر وضوء النبي عليه الصلاة والسلام، ( فمن أخذ شيئاً من أثر وضوء النبي عليه الصلاة والسلام تمسح به، ودلك به وجهه وجسده، ومن لم يأخذ شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه )، أي: أخذ شيئاً من البلل لأن هذه غنيمة يمسح بها الوجه والجسد، فإذا ما استطاع أن يأخذ بنفسه مباشرةً من قطرات وضوء النبي عليه الصلاة والسلام الوضوء الذي نزل منه، الماء الذي استعمله، لكثرتهم وازدحامهم، فإذا ما حصل شيئاً يمد يده إلى يد صاحبه ويأخذ البلل منها ثم يدلك وجهه وجسمه.

    والحديث في الصحيحين، فمن يثير حوله شبهةً نضرب رقبته، لا يأتي أحد ويقول: من أين تأتون بهذه الآثار؟ هذا في الصحيحين عن أبي جحيفة ، وهو في الكتب الستة إلا سنن أبي داود ، وهو في المسند أيضاً، فانظر لهذا التعلق بهذا النبي عليه الصلاة والسلام.

    الحادثة الثانية: رواها الإمام أحمد في المسند والإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، وانظر لهذا التقدير من الصحابة لنبينا عليه الصلاة والسلام، يقول أنس : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة -يعني الفجر- أتاه خدم أهل المدينة بآنيتهم ) أي: ليضع النبي عليه الصلاة والسلام أصابعه في هذه الآنية التي فيها الماء من أجل حصول البركة والاستشفاء بها، (أتاه خدم أهل المدينة بآنيتهم، فلا يدع النبي عليه الصلاة والسلام إناءً إلا وضع يده فيه)، يجبر خواطرهم عليه صلوات الله وسلامه، يقول أنس رضي الله عنه: ( وربما أتوه بآنيتهم في الغداة الباردة -وبرد المدينة شديدٌ- فلا يدع إناءً إلا غمس يده فيه )، عليه صلوات الله وسلامه، فلا يمتنع ويقول: في ذلك مشقة وعناء، ماء بارد وغداة باردة، أتوا ليتبركوا بآثار النبي عليه الصلاة والسلام، فيغمس أصابعه في الآنية، ثم تؤخذ إلى البيوت ليستشفى بها، وليتبرك بها، والحديث في صحيح مسلم .

    حديث آخر: ثبت في المسند أيضاً وصحيح مسلم ، والحديث رواه أهل السنن الأربعة إلا الترمذي ، فهو في النسائي وابن ماجه وسنن أبي داود ، عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، قال: أخرجت لنا أسماء بنت أبي بكر جبةً، فقالت: هذه جبةٌ كان يلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يكون عند عائشة ، فلما قبض بقيت هذه الجبة عند عائشة ، على نبينا وآل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامه، تقول أسماء وهي أخت عائشة رضي الله عنهم أجمعين: فلما قبضت عائشة أخذت الجبة إليّ، أخذتها من عائشة بعد موتها رضي الله عنها وأرضاها، قالت: فنحن نغسلها للمريض ليستشفي بها، إذا كان هناك مريض فتغسل هذه الجبة وتصب عليها ماءها، ليستشفي به المريض، وليبرأ بإذن الله المجيد.

    والحوادث في ذلك كثيرةٌ وفيرة، ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال: (أرسلني أهلي إلى أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين بقدحٍ فيه ماء)، ولماذا؟ انظروا لهذه الحادثة وما هو السبب، قال: (فأخرجت أم سلمة -وهي أمنا زوج نبينا على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه- فأخرجت أم سلمة جلجلاً)، والجلجل شيءٌ كالجرس، تنزع منه الحديدة التي يضرب بها في داخله، لصلابة معدنه، ويوضع فيه الشيء الثمين ليحفظه، فهو في الأصل شيء يضرب به، لكن ينتزع منه ثم يوضع فيه ما هو ثمينٌ ليحفظ، يقول عثمان بن عبد الله بن موهب : (فأخرجت أم سلمة رضي الله عنها جلجلاً فيه شعرٌ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عثمان بن عبد الله : وكان إذا أصاب أحدنا عينٌ أو شيءٌ أتينا إلى أم سلمة رضي الله عنها بقدحٍ فيه ماء فأخرجت هذه الشعرات من الجلجل ثم غمستها في هذا الماء ليشربها من أصيب بعينٍ أو بشيءٍ)، من مرضٍ مهما كان شأنه.

    الرد على من ينكرون التبرك بآثار النبي بعد موته أو بآثار الصالحين

    يذكر الإمام الذهبي في السير في الجزء الرابع صفحة اثنتين وأربعين، في ترجمة شيخ المسلمين عبيدة السلماني ، والقصة كنت ذكرتها في محاضرات الحديث عند فضل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام عند مبحث فوائد دراسة الحديث الشريف، وذكرت القصة وتعليق الإمام الذهبي عليها، لكن بعد قراءتها مباشرةً قدم اعتراضٌ عليها من قبل بعض الإخوة الكرام السامعين، فأردت أن أعيدها، وأن أذكر اعتراضه، وأبين حال هذا الاعتراض ومنزلته.

    يقول الإمام الذهبي في السير: قال محمد بن سيرين : قلت لـعبيدة : إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من قبل أنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام، وأنس حصل هذه الشعرات من قبل زوج أمه أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وأبو طلحة هو الذي أخذ شعر النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع عندما حلق النبي عليه الصلاة والسلام الجانب الأيمن من رأسه أعطى الشعر لـأبي طلحة ليوزعه على الصحابة، ثم حلق الجانب الأيسر فأعطى الشعر لـأبي طلحة ليعطيه لزوجه أم سليم التي تزوجته على الإسلام فقط، فـأبو طلحة عندما وزع شعر النبي عليه الصلاة والسلام على الصحابة الكرام في حجة الوداع احتفظ لنفسه بشعرات، فأخذ أنس بعضاً منها، وأنس رضي الله عنه عندما احتضر -كما أخرج ابن السكن - أوصى بأن توضع شعرة من شعرات النبي عليه الصلاة والسلام تحت لسانه، من أجل أن يسدده الله، وأن يقيه فتنة القبر، وأن يثبته عند السؤال.

    قال ثابت رضي الله عنه وهو تلميذ أنس وصاحبه: فدفن أنس وشعرة النبي عليه الصلاة والسلام تحت لسانه، كما في الإصابة في الجزء الأول صفحة إحدى وسبعين، وأما توزيع النبي عليه الصلاة والسلام شعره في حجة الوداع فانظروه في صحيح البخاري في كتاب الوضوء، في باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، وهذا تخريجٌ القصة التي سأذكرها عن محمد بن سيرين ، وفي الأثر الذي بعدها أن أبا طلحة رضي الله عنه كان عنده شعر النبي عليه الصلاة والسلام عندما حج النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، والحديث أيضاً ثابتٌ في صحيح مسلم عندما أعطى النبي شعره لـأبي طلحة ، والحافظ جمع بين روايتي صحيح مسلم ؛ لأنه في بعض الروايات أنه أعطاه لـأم سليم ، قال الحافظ في الفتح: أي: أعطاه لـأبي طلحة ليعطيه لـأم سليم -هذا الجانب الأيسر- لتوزعه على النساء، ولتجعله في سكها الذي كانت تضع فيه الطيب.

    قال محمد بن سيرين لـعبيدة : إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من قبل أنس بن مالك ، فقال عبيدة : لأن يكون عندي منه شعرةٌ أحب إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض. وهذا الأثر ثابتٌ في صحيح البخاري كما قلت، ولفظ البخاري : لأن يكون عندي منه شعرةٌ أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وهنا: من كل صفراء وبيضاء، أي: من كل ذهبٍ وفضة..

    مشروعية تقبيل آثار النبي أو ما مس شيئاً من آثار النبي صلى الله عليه وسلم

    يعلق عليه الإمام الذهبي بهذا الكلام المحكم الحق فيقول: قلت: هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرةً نبويةً على كل ذهبٍ وفضةٍ بأيدي الناس، ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة، فما الذي نقوله نحن في وقتنا لو وجدنا بعض شعره بإسنادٍ ثابت، أو شق نعلٍ كان له، أو قلامة ظفرٍ، أو شقفةً -أي: قطعةً وجزءاً- من إناءٍ شرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلو بذل الغني معظم أمواله في تحصيل شيءٍ من ذلك عنده أكنت تعده مبذراً أو سفيهاً؟ كلا، فابذل مالك في زورةٍ مسجده الذي بنى فيه بيده، والسلام عليه عند حجرته في بلده عليه الصلاة والسلام، والتذ بالنظر إلى أحده وأحبه، فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم يحبه، وتملا بالحلول في روضته ومقعده، فلن تكون مؤمناً حتى يكون هذا السيد أحب إليك من نفسك وولدك وأموالك والناس كلهم، وقبل حجراً مكرماً نزل من الجنة، وضع فمك لاثماً مكاناً قبله سيد البشر بيقين على نبينا صلوات الله وسلامه، فهنأك الله بما أعطاك، فما فوق ذلك مفخر، ولو ظفرنا بالمحجن الذي أشار به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحجر ثم قبل محجنه -وهي العصا المعكوفة- لحق لنا أن نزدحم على ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل، ونحن ندري بالضرورة أن تقبيل الحجر أرفع وأفضل من تقبيل محجنه ونعله عليه صلوات الله وسلامه، وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبلها -انتبهوا إخوتي الكرام هذا القصة التي يعترض عليها هذا الأخ- ويقول: يدٌ مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول صاحبنا: نتبرك بآثار النبي مباشرةً عليه الصلاة والسلام، يعني بيده، بلباسه، بمخاطه، ببصاقه عليه صلوات الله وسلامه، أما بواسطة أن نتبرك بيد الصحابي التي مست يد النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: هذا لا يجوز، قلت: لم؟ قال: ليس في ذلك دليل، قلت: وفعل ثابت مع أنس ، وأنس يقره، وكان أنس رضي الله عنه إذا خرج يطيب يده ويقول: ثابت يأبى إلا أن يقبل يدي إجلالاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول: هذه اليد مست يد النبي عليه الصلاة والسلام فأنا أقبلها، فقال: فعل الصحابة ليس بحجة، طيب ماذا تفعل بالحديث الذي تقدم معنا؟ وهو في الصحيحين، أنه كان من أخذ من بلل النبي عليه الصلاة والسلام تمسح به، ومن لم يأخذ دلك يده بيد صاحبه الذي أصاب من بلل النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يفعل أمام النبي عليه الصلاة والسلام وبحضرته، وهو حي فداه أبي وأمي عليه صلوات الله وسلامه، وما أنكر ولا اعترض على واحدٍ، ولا قال: هذا غلوٌ أو إطراء على نبينا صلوات الله وسلامه، وهنا الإمام الذهبي يورد هذا في معرض إجلال السلف للنبي عليه الصلاة والسلام وتقبيله، ويأتيك إنسانٌ في القرن الخامس عشر للهجرة ويقول: هذا تنطع وغلو مذموم، وليس في كلام الذهبي ولا في فعل ثابت ولا في إقرار أنس حجة!

    نكمل كلامه ثم أعلق بما تيسر، قال الذهبي : ويقول: يدٌ مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نقول إذ فاتنا ذلك: حجرٌ معظمٌ بمنزلة يمين الله في الأرض مسته شفتا نبينا صلى الله عليه وسلم لاثماً له، فإذا فاتك الحج وتلقيت الوفد فالتزم الحاج وقبل فمه، وقل: فمٌ مس بالتقبيل حجراً قبله خليلي صلى الله عليه وسلم. هذا المعترض قال: هذا لا يجوز أن يفعل، قلت: ما وجه الاعتراض فيه؟ حاجٌ جاء وقد قبل الحجر الأسود، هذا جاء من سفر، يشرع لنا أن نعانقه أم لا؟ ويشرع لنا أن نقبله أم لا؟ نعم يشرع، تقبيله جائز، ومعانقته جائزة كما سأذكر الدليل، فهنا التقبيل مشروع، فهو لو قدم من بلاد الشام لجاز لنا أن نعانقه وأن نلتزمه وأن نقبله، فكيف وقد جاء من بلد الله الحرام، وقبل بشفتيه الحجر الأسود الذي هو بمنزلة يمين الرحمن في الأرض، وهذا الحجر قبله نبينا عليه الصلاة والسلام بيقين، فمست شفتا المقبل مكاناً قبله النبي عليه الصلاة والسلام، وهنا إن انضاف إلى هذه المشروعية العامة خصوصياتٌ كثيرة، فأقبل المكان الذي قبل مكاناً قبله خليلي عليه صلوات الله وسلامه.

    إخوتي الكرام! ثبت في سنن الترمذي بإسنادٍ حسن عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( قدم زيد بن حارثة من سفر، فلما وصل إلى المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقرع عليه الباب، فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بـزيد وأن الطارق زيد خرج يجر ثوبه عليه الصلاة والسلام من فرحه بـزيد ، ثم اعتنقه وقبله )، قال الإمام النووي في الأذكار صفحة ستٌ وعشرين ومائتين: لا بأس بتقبيل الرجل وجه صاحبه إذا قدم من سفرٍ ونحوه، ثم ذكر هذا الدليل، فنحن عندما نقبل وجه المسافر هذا أمرٌ مشروع، مسافر جاء من بلد الله الحرام، وهنا عندنا اعتبار خاص نقول: أنت قبلت مكاناً قبله رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنحن إكراماً لك وإجلالاً للنبي عليه الصلاة والسلام وحباً له، نقبل هذا المكان الذي قبل ما قبله النبي عليه الصلاة والسلام، وفيما عدا السفر لا يشرع لنا التقبيل والمعانقة، وما يفعله الناس من معانقةٍ في كل وقتٍ وتقبيلٍ أحياناً تركه أولى، ولا يجرؤ الإنسان على القول بالتحريم، فالتحريم لا بد له من دليل، لكن يكره ذلك كما قال الإمام النووي كراهة تنزيه، وتركه أولى.

    وقد أرشدنا نبينا عليه الصلاة والسلام إلى المصافحة، ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: (قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا).

    وفي رواية في سنن ابن ماجه : (أينحني بعضنا لبعض؟ قال: لا، أفيعانق بعضنا بعضاً؟ قال: لا، ولكن تصافحوا).

    وفي معجم الطبراني الأوسط عن أنس رضي الله عنه وإسناد الحديث حسن، قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفرٍ تعانقوا)، فهذا الأخ يعتبر هذا من باب الغلو، وأن هذا لا يفعل إلا مع النبي عليه الصلاة والسلام مباشرةً بدون واسطة، لكن كما قلنا: أي حرجٍ في ذلك؟ وهذا الذي كان يفعله الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان، ويقره مشايخ الإسلام، ونحن بعد ذلك نتنطع نحوهم.

    جفاء كثير من المنحرفين وعدم تقديرهم للنبي صلى الله عليه وسلم

    ألقى مرةً بعض العتاة الضالين من المسئولين، وهو مسئول في دولةٍ من الدول العربية، وأسأل الله أن يأخذه وأمثاله أخذ عزيزٍ مقتدر، ألقى موعظةً ضالةً باطلةً في معهد المعلمين، وقال لهم: أنتم تغلون في النبي عليه الصلاة والسلام، فكلما تذكرونه تقولون: صلى الله عليه وسلم! فصفق له الحاضرون، ولما اعترض عليه شيوخ العالم الإسلامي، أجاب علماء السوء في ذلك المكان فقالوا: هذا ما قصد ترك الصلاة، إنما قصد التحذير من الغلو، إذا ذكرنا النبي عليه الصلاة والسلام وصلينا عليه هذا غلو؟ وإذا جئنا لإنسان وقلنا له: أنت تحفظ وتحدث بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، أخرج لسانك لنقبله، يقول: هذا غلو؟ أي غلوٍ في ذلك، وقد كان السلف الكرام يفعلون هذا، وهل وصلت التقوى فينا إلى أكثر من تقاهم؟!

    يذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الثالث عشر صفحة ثلاثمائة وثلاثين، في ترجمة شيخ العارفين سهل بن عبد الله التستري : أنه كان يأتي إلى أبي داود -والله إذا كان أبو داود مبتدعاً فلا خير بعد ذلك فينا ولا في أئمتنا- يقول له: أنت تحدث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فيقول: نعم، فيقول: أخرج لسانك التي تحدث به عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيقول: لماذا؟ فيقول: حتى أقبله، فيدلي أبو داود لسانه ويقبله سهل بن عبد الله التستري . هل هذا تنطع؟ هل هذا غلو؟ سبحان ربي العظيم، ما بقينا نميز بين الحب وبين التنطع والغلو والإطراء، الإطراء أن تنسب إليه ما يختص به الله جل وعلا، أما أن يقال: هذا نبي عليه صلوات الله وسلامه يحب ويحترم ويعظم هو وآثاره عليه صلوات الله وسلامه، فهذا النفس الذي يجري على لسان المحدث له أثرٌ وأنا أقبله، فتأتي بعد ذلك وتقول: هذا غلو وتنطع! والإمام الذهبي يورد هذا في السير ويقره ولا يعترض عليه.

    حضرت مرةً موعظةً لبعض من يدعون الالتزام، والله الذي لا إله إلا هو أسمعه بأذني يقول: المخرفون يقولون عن النبي عليه الصلاة والسلام: سيدنا، وأي تخريفٍ في ذلك؟! أي تخريف عندما نقول لخير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه: سيدنا؟! وهنا يقول الإمام الذهبي : حتى يكون هذا السيد أحب إليك من نفسك، وولدك، وأموالك، والناس كلهم، قال: هذا تخريف عندما تقول: سيدنا رسول الله تخريف! هذا حب النبي عليه الصلاة والسلام، هذا إكرام النبي عليه الصلاة والسلام، هذا تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام، القلب إذا ذكر ينبغي أن يخفق طرباً وشوقاً إليه، وهو سيدنا عليه صلوات الله وسلامه وأفضلنا وحبيبنا وقرة أعيينا عليه صلوات الله وسلامه، وأي غلوٍ في ذلك؟

    احتفاظ الإمام أحمد بشعرة للنبي وبيان قوله في التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم

    انظر لموقف السلف الكرام رضوان الله عليهم نحو آثار النبي عليه الصلاة والسلام، والقصة يوردها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الحادي عشر صفحة مائتين واثنتي عشرة في ترجمة شيخ إمام أهل السنة والجماعة الإمام المبجل أحمد بن حنبل عليه رحمة الله.

    ومن آدابه: قال عبد الله بن أحمد : رأيت أبي يأخذ شعرةً من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يقبلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينه، ويغمسها في الماء ويشربه ويستشفي به، ورأيته أخذ قصة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في حب الماء ثم شرب فيها، ورأيته يشرب من ماء زمزم يستشفي به ويمسح به يديه ووجهه، قلت -القائل الذهبي -: أين المتنطع المنكر على أحمد ؟ وقد ثبت أن عبد الله سأل أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الخشبة التي في أعلى المنبر والنبي عليه الصلاة والسلام كان يمسكها عندما يخطب، وقد ثبت أن عبد الله سأل أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويمس الحجرة النبوية؟ فقال: لا أرى بذلك بأساً، أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع.

    هذا كلام الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء ينقله عن شيخ أهل السنة في زمانه، أنه لا يرى بأساً بمس الرمانة، والحجرة النبوية تبركاً بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، أي غلوٍ في ذلك وأي إطراء؟ وهل هذا إلا من باب التعلق بخاتم الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، والله إنه بشر لا يملك نفعاً ولا ضراً، والعبادة لا تصرف إلا للخالق المعبود بحق وهو الله جل جلاله، لا إله غيره ولا رب سواه، لكن هذا هو حب النبي عليه الصلاة والسلام، لم ماتت القلوب؟ لماذا عندما يذكر النبي عليه الصلاة والسلام عند أحدنا لا تدمع عيناه، لا يشتاق قلبه، لا يتحرك؟ لم لا يقول: حبيبي قرة عيني، بهجة نفسي، سيدي رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ لم لا يقول هذا؟ إنما يذكر كلمة جافة كأنه إن أتبعها بالصلاة يمن على النبي عليه الصلاة والسلام بذلك! والله -يا إخوتي الكرام- لا يتحقق الإيمان في الإنسان حتى يحب النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من نفسه، وماله، وأولاده، ووالديه، والناس أجمعين، ولو خيرت بين الدنيا وما فيها من ذهب وبين رؤية النبي عليه الصلاة والسلام واخترت الدنيا فاعلم أنه لا إيمان في قلبك.

    حب النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه

    يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الجزء الأول صفحة تسعٍ وخمسين، في شرح الحديث الثالث وهو في المسند والصحيحين، وسنن النسائي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، يقول الحافظ : علامة الحب المذكور.. ليس الحب كما يفسره بعض الناس بالاتباع، ليس الحب هو الاتباع، وليس الحب هو الصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام، الحب تعلق القلب بالمحبوب، وخفقانه عند ذكره، والاشتياق إلى رؤيته، نعم، من لوازم الحب اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، من لوازم الحب اللهج بذكره وكثرة الصلاة والسلام عليه، أما الحب فهو ميل قلبي تتعلق به فتفكر فيه، وتستحضره في يقظتك، وعند نومك عليه صلوات الله وسلامه، هذا هو الحب، كما أن الإنسان يفكر في زوجته إذا غابت عنه طيلة الإجازة شهراً، تراه يراها في المنام مرات، وعندما ينام يفكر فيها، هذا هو الحب، أن يتعلق القلب بالمحبوب، ويميل إليه، والاتباع أثر الحب ولازم الحب، فلم التلاعب بالدلالات والألفاظ؟ حب النبي عليه الصلاة والسلام معناه اتباعه، من قال لك هذا؟ وفي أي قاموسٍ من قواميس اللغة أن معنى الحب الاتباع؟ الحب هو انصباب القلب نحو المحبوب، وتعلقه به، وخفقانه عند ذكره عليه صلوات الله وسلامه.

    يقول الإمام ابن حجر : علامة الحب المذكور أن يعرف المرء أن لو خير بين فقد غرضٍ من أغراض الدنيا، أو فقد رؤية النبي عليه الصلاة والسلام أن لو كانت ممكنة، فإذا اختار فوات عرض الدنيا، وآثر لقاء النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا هو المحب، يقول: فإذا آثر فقد الدنيا فقد اتصف بالأحبية المذكورة، (حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا، وليس ذلك محصوراً في الوجود والفقد -يعني بين رؤيته وعدم رؤيته- بل يأتي أيضاً مثله في نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو قيل لك: أيهما أولى عندك أن تنتصر سنة النبي عليه الصلاة والسلام وأن تظهر، أو أن تحصل الدنيا بما فيها؟ قل: فلتذهب الدنيا وأضعافها معها، وتظهر سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

    فالحب هو تعلق القلب بالمحبوب، ولا بد من أن يظهر هذا على الجوارح إذا كنت تحب النبي عليه الصلاة والسلام، أما أن تحبه كلمة جافة، وعندما يذكر النبي عليه الصلاة والسلام لا يظهر عليك آثار شوق ولا تطلع، ثم بعد ذلك إذا ذكرت قصة من مثل هذه القصص تراه يقشعر جلده، ويقول: كيف هذا؟! وهذا تنطع! يا عبد الله! لسنا بأتقى لله من سلفنا، أبو داود يخرج لسانه ليقبله ذاك العبد الصالح، وهو من أئمتنا من أصحاب الكتب الستة، فإذا كان هؤلاء فيهم بدعة فلنبحث بعد ذلك عن ديننا أين سيكون، وإذا كان الإمام الذهبي عليه رحمة الله يورد هذه القصص مورد التسليم ويعلق عليها ثم يقول: أين المنكر على من يفعل هذا؟ أعاذنا الله من رأي الخوارج وأهل البدع، ثم بعد ذلك أحدنا يقول: ليس في فعل ثابت حجة، ولا في فعل أنس حجة، ولا في فعل فلان حجة، إذاً من الحجة؟ أنس ليس بحجة، وثابت ليس بحجة، هل أنت الحجة؟ ما الذي ينهى عن هذا؟ ائتني بدليلٍ على النهي، فقط فكرك، أو ما تلقيته من فلانٍ أو فلان.

    إخوتي الكرام! ينبغي أن نقف عند حدنا، قصةٌ تذكر عن سلفنا في العصر الأول فعلها تابعي مع صحابي ثم يستنكرها الإنسان! والله الذي لا إله إلا هو! لأن يبتلى الإنسان بكبيرةٍ أقل جرماً من أن يعترض على مثل هذه القصص عندما تذكر، وأن يقشعر جلده منها، وأن يعقبها بعد ذلك بالتفوه بهذه الكلمات: لا ثابت حجة، ولا أنس حجة، ولا يستدل بفعل أحد، اتقوا الله في أنفسكم، وفي دينكم، وفي سلفكم.

    نسأل الله أن يرزقنا حبه وحب نبيه عليه الصلاة والسلام، وحب الصحابة الكرام، وحب أئمة الإسلام، وأن يرزقنا الأدب معه ومع خلقه، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755947990