إسلام ويب

مقدمة في الفقه - عذر المخلوقات في المخالفات [2]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قد يجهل الإنسان شرع الله تعالى وحكمه في مسألة من المسائل فيقع في المخالفة دون أن يشعر، فينبغي حينئذ أن يعذر، بشرط ألا يكون معرضاً عن شرع الله، أو مقصراً في طلب معرفة حكم الله تعالى، ومن الأمور التي يعذر فيها صاحبها إذا ارتكب المعصية والمخالفة: أن يكون مكرهاً على عملها غير مختار، فمن كان هذا حاله فذنبه مغفور، ولا لوم عليه عند العزيز الغفور.

    1.   

    تابع الأحوال التي يعذر صاحبها في خروجه عن حكم الله وشرعه

    الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

    فلا زلنا في ذكر الحالات التي يعذر فيها صاحبها لتركه شرع الله تعالى.

    أن يجهل العبد شرع الله دون إعراض منه أو تقصير

    الحالة الثانية: أن يجهل الإنسان شرع الله الجليل، وذلك الجهل دون إعراض منه أو تقصير، فما أعرض عن تعلم شرع الله، وما قصر في طلب شرع الله، لكنه جَهِل، وهذا الجهل ليس هو من ديدنه؛ فليس هو لإعراضه عن دين ربه، ولا لأنه لم يسأل ولم يتعلم, بل هو يسأل ويتعلم، لكن في بعض المسائل جَهِل، ففعل ما فعل بناء على جهل منه، فهو معذور، لكن قد يوجه إليه لوم وقد لا يوجه على حسب حاله، وعلى حسب الواقعة التي تجري منه.

    من أدلة العذر بالجهل: عذر بعض الصحابة في فهمهم لمعنى الخيط الأبيض والخيط الأسود

    مثال ذلك إخوتي الكرام: ما جرى من عدد من الصحابة الكرام في أول الأمر نحو فريضة الصيام، يقول ربنا الرحمن: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة:187]، إلى هنا نزلت الآية ولم ينزل بقيتها، وكلمة: (من الفجر): ورد أنه كان بين نزولها ونزول الآية سنة كاملة، كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، فكلمة: (من الفجر) لم تنزل في أول الأمر، بل الذي نزل أول الأمر وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] الآية بكاملها دون كلمة (من الفجر)، فإنها نزلت بعد ذلك، ولأجل ذلك استمع لما وقع من عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين:

    روى الإمام الواحدي في أسباب النزول، والبغوي في معالم التنزيل، والطحاوي في شرح معاني الآثار، والبيهقي في السنن الكبرى، والحديث في الصحيحين أيضاً، في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وهو في سنن النسائي، ورواه الطبري أيضاً في تفسيره، وهكذا الإمام ابن المنذر وابن أبي حاتم , وانظروا الحديث في جامع الأصول، في الجزء الثاني صفحة سبع وعشرين، وعليه فهو في أعلى درجات الصحة، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ( أنزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة:187] ولم ينزل: (من الفجر)، فكان رجال إذا أراد أحد منهم الصوم ربط أحدهم في رجليه خيطاً أبيض وخيطاً أسود -يربط في رجله خيطين أبيض وأسود- ولا يزال يأكل حتى يتبين له رِئيهما، فأنزل الله جل وعلا: مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، فعلموا أنه يراد بهما سواد الليل من بياض النهار ).

    إذاً: في أول الأمر كان أحدهم يربط خيطين برجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود، ثم لا يزال يأكل حتى يتبين له رِئيهما، بكسر الراء أي: منظرهما وشكلهما، كما قال الله جل وعلا: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [مريم:73-74]، (رئياً): أي: منظراً، فقوله: (حتى يتبين له رئيهما)، أي: منظرهما.

    قال الإمام النووي : وضُبط (حتى يتبين له زيهما)، بالزاي أي: شكلهما، وضُبط أيضاً بفتح الراء وبعدها همزة وياء مشددة: رِئيِّهما ورَئيِّهما.

    قال الخطابي : وهذا خطأ؛ لأن الرِئي هو التابع من الجن، قال: وإذا ثبتت الرواية فيراد: حتى يتبين رِئيهما. وهذا كما تقدم معنا (رئيهما) أي: منظرهما وشكلهما، فعلى جميع الروايات (رِئيهما زيهما رِئيِّهما رَئيِّهما) أي: شكلهما ومنظرهما، حتى يتميز أحد الخيطين عن الآخر، حتى يظهر سواد الخيط الأسود وبياض الخيط الأبيض.

    فهذا كانوا يفعلونه في أول الأمر، ليس جميع الصحابة، إنما جرى من بعضهم، كان رجال إذا أراد أحد منهم الصوم ربط في رجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رِئيهما، فأنزل الله جل وعلا بعد ذلك: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، فعلموا أن الله جل وعلا أراد بذلك سواد الليل وبياض النهار. هذه حادثة.

    من أدلة العذر بالجهل: قصة عدي بن حاتم مع الخيط الأبيض والخيط الأسود

    حادثة أخرى: ثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة إلا سنن الإمام ابن ماجه ، والحديث رواه الإمام الدارمي في سننه، والإمام ابن عيينة في تفسيره، وسعيد بن منصور في سننه، والإمام ابن أبي شيبة في مصنفه، وهو في تفسير الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم، ورواه عبد بن حميد في مسنده، والبغوي في معالم التنزيل، والحميدي في مسنده، والطحاوي في شرح معاني الآثار، والبيهقي في السنن الكبرى، وهو كالحديث الذي قبله في أعلى درجات الصحة، فهو في الصحيحين، من رواية عدي بن حاتم عن نفسه، يقول عدي رضي الله عنه وأرضاه: ( لما نزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] الآية، عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض -والعقال هو الحبل الذي يعقل به البعير- فجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت أنظر من الليل إليهما -يعني حتى يتميز أحد العقالين عن الآخر- فلا يستبين لي، فجعلت آكل ما يتبين لي العقال الأبيض من العقال الأسود، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار )، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ أي: بياض النهار مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ أي: سواد الليل، يعني: إذا طلع الفجر ولاح النور في الأفق وظهر ضياء الصبح، فهذا هو الخيط الأبيض، وليس هو عقال أبيض وعقال أسود، تأكل حتى يتميز لك هذا من هذا.

    وفي رواية في صحيح البخاري: ( أنه أخذ عقالاً أبيض، وعقالاً أسود، يقول: حتى كان بعض الليل، فجعل سيدنا عدي ينظر إليهما فلم يستبينا، فبدأ يأكل، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله عليه الصلاة والسلام! جعلت تحت وسادي عقالاً أبيض وعقالاً أسود, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن وسادك لعريض أن كان الخيط الأبيض والخيط الأسود تحت وسادتك )، يعني: إذا كانت هذه الوسادة ستغطي الليل والنهار فهي عريضة، هذا الذي يُقصد، ثم بين له أن المراد هو سواد الليل وبياض النهار، ففي رواية في صحيح البخاري : قال سيدنا عدي رضي الله عنه وأرضاه: ( يا رسول الله عليه الصلاة والسلام! ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ أهما الخيطان؟ -يعني: المعروفان حبلان معروفان- قال: إنك لعريض القفا أن أبصرت الخيطين, لا، بل هما سواد الليل وبياض النهار ).

    إخوتي الكرام! في هذين الحديثين إشكال ينبغي أن نُزِيله ثم بعد ذلك نتدارس هذا الأمر، وأنه ما جرى من الصحابة من سيدنا سهل ومن سيدنا عدي رضي الله عنهم أجمعين يُعذرون في ذلك، ولا لوم عليهم؛ لأنهم فهموا على ما هو في لغتهم، من أن الخيط يطلق على الخيط الحسي المعروف، كما أنه في لغة العرب يطلق الخيط الأسود على ظلام الليل، ويطلق الخيط الأبيض على نور الفجر، فلعله في لغة بعض قبائل العرب لا يطلق هذا، أو يطلق هذا الإطلاق لكن غفلوا عنه، واستحضروا المعنى الثاني، الشاهد: أنهم جهلوا المراد، لكن هذا الجهل دون إعراض عن العلم، وهو جهل في قضية خاصة, والجهل قد يكون له ما يبرره، له فيه عذره، فيه سبب يعذر به الإنسان عندما جهل في هذه القضية.

    عندنا في هذين الخبرين إشكال, الإشكال هو: أن إسلام سيدنا عدي كان في العام التاسع أو العاشر من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام، أي: في أواخر حياة نبينا عليه الصلاة والسلام، وفريضة الصيام كانت في العام الثاني من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام، وعليه فهناك وقت متباعد بين ما جرى من الصحابة في حديث سيدنا سهل، وبين ما جرى من سيدنا عدي .

    وقد ذكرنا أن الإشكال عند الصحابة كان بسبب أنه عند نزول آية الصيام لم ينزل (من الفجر) فقد نزلت بعد ذلك، وما أسلم عدي رضي الله عنه وأرضاه إلا بعد أن نزلت، وكان قد عَلِمَها، لكنه مع ذلك ما انتبه لهذه اللفظة، وفهم أن المراد من الخيط الأسود الخيط الحقيقي، والخيط الأبيض كذلك الخيط الحقيقي، ولم ينتبه لكلمة (من الفجر)، أما من قبله من الصحابة فلم تكن قد نزلت كلمة (من الفجر)، فلما نزلت عرفوا أن المراد سواد الليل من بياض النهار.

    وعليه: ففعل سيدنا عدي متأخر عن فعل الصحابة الذين ذُكروا في حديث سيدنا سهل بن سعد، فإن قيل: كيف فهم هذا الأمر وقد حصل هذا لأناس قبله؟ أقول: لعله ما بلغه حديثهم، فهو قد آمن بنبينا عليه الصلاة والسلام، وفريضة الصيام نازلة من ثمان سنين، هذا إذا آمن في العام العاشر من الهجرة، فهذه الآية تُليت عليه، ففهم منها أن المراد خيطان حقيقيان، فذهب إلى بيته وأحضر عقالاً أبيض وعقالاً أسود، وبدأ يأكل حتى يتميز له أحدهما عن الآخر، فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال له: إن وسادك إذاً لعريض، إنك لعريض القفا.

    هنا إخوتي الكرام كما سيأتينا: في حديث سيدنا عدي شيء من لوم نبينا عليه الصلاة والسلام لـعدي، بينما في حديث سيدنا سهل عن الصحابة ما لامهم نبينا عليه الصلاة والسلام، لمَ؟ لأن أولئك حقيقة جهلوا ولم تكن الآية قد نزلت كلها، فجهلهم قد يكون لهم فيه عذر معتبر، أما عدي فيوجد عنده شيء من التقصير، وهو لو تدبر الآية تماماً لعلم أن كلمة (من الفجر) لا يراد منها الخيط المعروف، ولذلك عرض به نبينا عليه الصلاة والسلام وقال: (إن وسادك لعريض)، يعني: إذا كان وسادك سيسد الأفق بكامله ولم يظهر سواد الليل من بياض النهار, فما أعظم هذا الوساد! وقيل -وهو تأويل ثانٍ ذكره الإمام الخطابي -: إنك لعريض القفا، والقفا هو المكان الذي يضعه الإنسان من رقبته وصفحة الرقبة على الوسادة، كأنه يريد أن يُعرض بأنه عنده شيء من الغباء رضي الله عنه وأرضاه، وهذا التعريض من نبينا خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، كأنه يقول: أنت ما تأملت المراد بشيء من الفطنة التامة.

    والأمران -كما قلت- أشار إليهما الخطابي رضي الله عنه وعن أئمتنا، وبعض أئمتنا اعتبر الأول وقال: قوله: (إن وسادك لعريض)، يعني: يراد منه الذي ينام عليه الإنسان وهي المخدة، فكأنه يقول: إذا كان وسادك سَيسد الأفق بكامله فهو عريض، وفي ذلك تعريض بسيدنا عدي ، وأما في اللفظ الثاني: (إنك لعريض القفا)، يراد منه إنك ما بذلت فطنة من أجل أن تعرف المراد، فصار فيه شيء من اللوم والتعريض في حق سيدنا عدي ؛ لأن كلمة (من الفجر) كانت نازلة، وهو يقول: تليت علي، وأنا قرأت الآية، لكن ظننت أن المراد الخيط الحقيقي المعروف العقال الذي يربط به البعير، رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.

    إخوتي الكرام! هذه الحادثة التي جرت من الصحابة، وكما ترون قد قصروا في فريضة الصيام، وأكلوا بعد طلوع الفجر بنوع تأويل، ووقع عندهم جهل بشرع الله الجليل، لكن دون إعراض عن شرع الله، دون تقصير في تعلُّم شرع الله، ولعله -كما قلت- في لغة بعض القبائل أنه لا يطلق الخيط الأبيض على نور الفجر، ولا يطلق الخيط الأسود على ظلام الليل, ففهم من هذين الخيطين ما هو معروف له في لغته، فقال: إذاً يستمر وقت الأكل والشرب, وقت الطعام, وقت الإباحة, وقت الفطر إلى أن يتبين لي رؤية هذين، وهذا سيكون عند الإسفار الكثير، بحيث يقارب طلوع الشمس، بعد طلوع الفجر بنصف ساعة وأزيد.

    فهذه مخالفة، لكن هذه المخالفة بنوع جهل من غير إعراض وتقصير، فهو أيضاً معذور ولا لوم عليه ولا ذنب عند العزيز الغفور سبحانه وتعالى.

    من أدلة العذر بالجهل: شفاعة أسامة في شأن المرأة المخزومية التي سرقت

    ويدخل في هذا إخوتي الكرام: الحديث الثابت في الكتب الستة وهو في المسند وغير ذلك من رواية أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، في شفاعة سيدنا أسامة رضي الله عنه وأرضاه للمخزومية عندما سرقت، وأراد نبينا عليه الصلاة والسلام أن يقطع يدها، تقدم معنا أنهم قالوا: من يكلم رسول الله عليه الصلاة والسلام في شأنها، قالوا: ومن يجرؤ إلا أسامة حِب رسول الله عليه الصلاة والسلام وابن حِبه، فلما كلم سيدنا أسامة نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، قال: ( يا أسامة ! أتشفع في حد من حدود الله؟ إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها )، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    فقد توسط وشفع، ولا يجوز له أن يشفع في حد بعد أن يرفع إلى الإمام، ومن شفع في حد بعد أن يرفع إلى الإمام يلعن الشافع والمشفِّع، يعني: أيضاً لو قَبِلَ الإنسان شفاعته يُلعن أيضاً، فلا يجوز أن يشفع, ولا يجوز لولي الأمر أن يقبل الشفاعة إذا رفعت إليه القضية، هذا لا بد من إقامة حكم الله فيها.

    إذاً: هذا الذي جرى من سيدنا أسامة رضي الله عنه وأرضاه جهل بالحكم، ولا تعمد مخالفة ولا معصية، وظن أن الأمر لا مانع من الشفاعة فيه إذا شفع في ذلك، فنبينا عليه الصلاة والسلام أخبره أن الشفاعة لا تنبغي في هذه الحالة، وإذا قُبلت شفاعتك سوف يصبح حالنا كحال بني إسرائيل، من له وساطة يُعفى من الحد، ومن هو مسكين يُقام عليه الحد، بل لا بد من إقامة الحد عليها وعلى غيرها إذا بلغ الأمر للإمام والمسئول.

    فهذا يدخل في هذا النوع، وهو العذر بالجهل، لأنه ما عرف الحكم، فهو معذور ورحمة الله واسعة.

    أن يكون العبد مكرهاً

    الحالة الثالثة التي يخالف فيها الإنسان شرع الرحمن وهو معذور: الحالة التي يكون الإنسان فيها مُكرهاً، كأن يُكره على معصية الله عز وجل، فيفعل من غير اختياره، وكما تقدم معنا في الأحوال الثلاثة أنه لا يقصد الإنسان المعصية ولا يريدها، ولا خطرت بقلبه، إنما فعل ما ظاهره المعصية دون أن يقصد المعصية بقلبه، إما متأولاً، أو جاهلاً، وهنا ألجئ وأُكره وقُسر، ففعل المعصية دون أن يريدها، فلا ذنب عليه ولا إثم عليه عند الله عز وجل.

    قال الله جل وعلا: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].

    إذاً: إذا كفر الإنسان بالله من بعد إيمانه، وهذا الكفر بسبب الإكراه والقسر والاضطرار، فلا لوم عليه ولا ذنب، إنما إذا انشرح صدره بالكفر وهو أراده وأحبه وقصده ومال إليه، فهذا الذي عليه غضب من الله وله عذاب عظيم.

    الاستدلال على العذر بالإكراه بقصة عمار بن ياسر رضي الله عنه

    هذه الآية نزلت في سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، كما قال ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة سيدنا عمار ، قال: باتفاق المفسرين باتفاق الروايات، على أنها نزلت في سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه.

    وحديثه ثابت في المستدرك، في الجزء الثاني صفحة سبع وخمسين وثلاثمائة، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي ، فالحديث صحيح صحيح إن شاء الله، أما أنه على شرط الشيخين ففي ذلك شيء من التساهل، ففي الإسناد أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، وهو مقبول، خرَّج له أهل السنن الأربعة ولم يخرج له أحد من الشيخين المباركين البخاري ومسلم ، ووالده محمد بن عمار مقبول أيضاً وما خرج له إلا أبو داود في سننه ولم يخرج له صاحبا الصحيحين، فقوله: على شرط الشيخين، وأقره الذهبي ، في ذلك شيء من التساهل، لكن الأثر صحيح ثابت، ورواه عبد الرزاق في تفسيره، والإمام ابن سعد في الطبقات، والطبري في تفسيره، وهكذا الإمام ابن أبي حاتم وابن مردويه في التفسير، والبيهقي في دلائل النبوة، والإمام أبو نعيم في حلية الأولياء.

    والحديث من رواية محمد بن عمار بن ياسر ، ولد سيدنا عمار رضي الله عنهم أجمعين، قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في آلهتهم خيراً، أثنى على آلهتهم، وسب النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ثم تركوه، فلما أتى نبينا صلى الله عليه وسلم، قال له نبينا صلى الله عليه وسلم: ( يا عمار ما وراءك؟! قال: يا رسول الله! ما تُركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: كيف تجد قلبك يا عمار ؟ قلت: يا رسول الله! إنه مطمئن بالإيمان، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: إن عادوا فَعُد )، يعني: إذا أخذك المشركون مرة ثانية وأرادوا منك أن تذكر آلهتهم بخير وأن تسبني، فسبني واذكر آلهتهم بخير وتخلص منهم ما دام القلب مطئناً بالإيمان، فأنزل ربنا الرحمن هذه الآية: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106]، وأما هذا فقلبه مطمئن بالإيمان رضي الله عنه وأرضاه.

    والأثر -إخوتي الكرام- كما قلت: رُوي عن محمد بن عمار ، ورواه الإمام ابن المنذر في تفسيره، وهكذا ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، ورواه الإمام ابن سعد في الطبقات عن ابن سيرين مرسلاً إلى نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، أن عمار بن ياسر أخذ، وهو لم يدرك عمار بن ياسر ولم يحدثه بذلك، فالأثر مرسل، وقال له نبينا عليه الصلاة والسلام: ( إن عادوا فعد )، فهو من رواية محمد بن عمار ، ومن رواية عبد الله بن عباس ، ومن رواية ابن سيرين رضي الله عنهم أجمعين، والأثر صحيح.

    إخوتي الكرام! سيدنا عمار قال هذا الكلام، بعد أن قُتل أبوه ياسر رضي الله عنه وأرضاه، وهو أول شهيد في الإسلام، وقُتلت أمه يعني: أخذت هذه الأسرة الطيبة المباركة, الأب قُتل، والأم طعنها الملعون أبو جهل بحربة في فرجها وقتلها، وعمار ينظر إلى أمه سمية رضي الله عنها وأرضاها -وهي أول شهيدة في الإسلام- تطعن في فرجها بحربة من هذا اللعين، ووالده يُقتل وهو يُعذب، وهم من السبعة الذين أسلموا قبل غيرهم، مع سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، أما أبو بكر فله عشيرة، وهو في منعة من قومه، فمنعه قومه من إيذاء السفهاء، وأما هؤلاء فكانوا من المستضعفين، فصُب عليهم أليم العذاب، ومعهم بلال رضي الله عنهم وأرضاهم, ياسر يُقتل، وأمه سمية أم عمار تُقتل، وهو يعذب، وهو بشر، فضعُف إمام التعذيب في الظاهر، فقال ما قال في حق نبينا عليه الصلاة والسلام، ومدح آلهتهم فتركوه، فذهب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وهو حزين. ما وراءك؟ قال: ورائي شر، ما تركوني حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: إنه مطمئن بالإيمان، قال: إن عادوا فعد، وأنزل الله جل وعلا الآية الكريمة: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] فلا لوم على هذا ولا إثم.

    الاستدلال على العذر بالإكراه بحديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)

    هذا -كما قلت إخوتي الكرام- اضطرار وقع على الإنسان، فالقلم مرفوع عنه في هذه الحالة، والمؤاخذة لا تحصل عليه، ولذلك ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه )، وهو في كتب الفقه بلفظ: ( رُفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه )، وقد رواه الإمام ابن عدي في كتابه الكامل بهذا اللفظ: ( رُفع عن أمتي )، يعني: له أصل، لكن الرواية الصحيحة الثابتة بلفظ: ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه ).

    والحديث صحيح ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، رواه الإمام ابن ماجه في سننه، والإمام ابن حبان في صحيحه، ورواه الدارقطني في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في السنن الكبرى، والطبراني في معجمه الكبير، والطحاوي في شرح معاني الآثار، ورواه الإمام ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام، في الجزء الخامس صفحة ثلاث عشرة وسبعمائة، وكما قلت لكم: هو في ثمانية أجزاء، والطبعة التي عندي الأرقام متسلسلة من الجزء الأول إلى الجزء الثامن، في صفحة ثلاث عشرة وسبعمائة، والحديث رواه الإمام ابن أبي عاصم، والإمام الضياء المقدسي أيضاً، وقد صحح الحديث الإمام الحاكم في المستدرك، وقال: على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي، وصححه ابن حبان وصححه أئمة الإسلام: منهم الإمام النووي في الأربعين النووية، فقال: إسناده حسن، وفي كتاب روضة الطالبين في كتاب الطلاق قال: إسناده حسن، ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إن الله وضع لي عن أمتي )، ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه ).

    والحديث رُوي عن عدة من الصحابة الكرام الطيبين، منهم ابن عمر ، وأبو ذر ، وأبو بكرة ، وأبو الدرداء ، وثوبان ، وعقبة بن عامر ، فهؤلاء ستة، ومعهم ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، فيصيرون سبعة، رُوي عنهم هذا الحديث بلفظ: ( إن الله تعالى وضع لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه ).

    وانظروا هذه الروايات والكلام عليها وتصحيح الحديث في نصب الراية، في الجزء الثاني صفحة أربع وستين، وفي مختصره في الدراية في الجزء الأول صفحة خمس وسبعين ومائة، وفي التلخيص الحبير في الجزء الأول صفحة واحدة وثلاثمائة، وانظروا بعض الروايات في المجمع، في الجزء السادس صفحة خمسين ومائتين، وللإمام السبكي في طبقات الشافعية كلام على هذا الحديث في قرابة ثلاث صفحات، في الجزء الرابع صفحة اثنتين وثلاثين ومائة، في ترجمة العبد الصالح محمد بن نصر، الذي توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين للهجرة، عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.

    فالخطأ والنسيان رُفع عنا، وهكذا ما نُقسر عليه، ما نُكره عليه، ما نُضطر إلى فعله من غير اختيارنا، ففي هذه الأحوال معنا نُعذر عند ربنا سبحانه وتعالى.

    الاستدلال على العذر بالإكراه بقصة عبد الله بن حذافة السهمي حين قبل رأس ملك الروم

    إخوتي الكرام! يدخل في هذه الحالة الثالثة التي هي حالة اضطرار، حالة عذر، قد يفعل الإنسان المعصية كما قلت ويُعذر في فعلها، فلا إثم عليه، وقد يُرفع عنه اللوم أيضاً لعدم موجود تقصير منه، يدخل في هذه الحالة قصة كنت ذكرتها سابقاً، هي من كرامات ومناقب سيدنا عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه وأرضاه، كنت ذكرتها ضمن تفسير سورة الفاتحة في غالب ظني, انظروا هذه القصة في الإصابة، في الجزء الثاني صفحة ست وتسعين ومائتين، وفي السير في ترجمة عبد الله بن حذافة في الجزء الثاني أيضاً صفحة أربع عشرة.

    وهذه المنقبة والكرامة رواها الإمام البيهقي والإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق، من طريق أبي رافع رضي الله عنهم أجمعين، أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين وجَّه وأرسل جيشاً إلى قتال الروم، فأُسر سيدنا عبد الله بن حذافة، أسره الروم النصارى عليهم لعائن الحي القيوم، أسروا سيدنا عبد الله بن حذافة رضي الله عنه وأرضاه، فوضعوه في سجن، وأرادوا منه بعد ذلك أن يكفر بالنبي عليه الصلاة والسلام وأن يرتد، فقابله الملك بنفسه، وقال: هل لك أن تكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولك عليَّ أن أزوجك ابنتي، وأعطيك نصف مُلكي، واكفر بالنبي عليه الصلاة والسلام، قال: والله لو أعطيتني مُلكك كله، ومُلك العرب أيضاً، لما كفرت بمحمد عليه الصلاة والسلام طرفة عين، فقال هذا الطاغية رئيس الروم: خذوه فاصلبوه، ثم قال لجنده: لا توجهوا السهام إليه، إنما اجعلوها تقع بجانبه ميمنة وميسرة، من أجل أن يفزع ويخاف لعله بعد ذلك يراجع نفسه فيكفر بالنبي عليه الصلاة والسلام، فصلبوه على شجرة، وبدءوا يسددون السهام، تنزل يميناً ويساراً يميناً وشمالاً، ثم رفعوا الضرب عنه فاستدعاه الملك، قال: أتكفر ولن تقتل؟ قال: لا أكفر لو أعطيتني مُلكك وملك العرب، فأتوا بقدر من نحاس كبير، فوضعوا فيه الزيت، وأوقدوا عليه النار، وصار في منتهى درجة الحرارة، وأتوا ببعض أسرى المسلمين، فألقاهم هذا الطاغية بيده في هذا القدر، فانفصل اللحم عن العظم، وعبد الله بن حذافة ينظر، قال: أتكفر وإلا نلقيك مع أصحابك، فبكى عبد الله بن حذافة رضي الله عنه وأرضاه، فالملك قال: أعيدوه إلي قبل أن تلقوه في القدر، يعني: لعله يراجع نفسه، قال: ما لك تبكي؟ قال: أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة، إذا ألقيتموني في القدر سأموت مباشرة، كنت أتمنى أن يكون لي أنفس وأرواح بعدد الشعر الذي في جسمي، حتى أجد عذاباً كثيراً لأنال أجراً وفيراً عند الله جل وعلا، أنا الآن لحظة وسأموت، لكن كنت أتمنى أن أموت مرات متعددة بهذه القِتلة التي تقتلني بها، فلما رأى حاله وصلابته، قال: هل لك أن تقبل رأسي وأن أعفو عنك وأطلق سراحك؟ وهذا من باب الإكراه وحصول مصلحة، قال: بشرط، أن تطلق أسرى المسلمين لا يبقى أسير عندك، وأقبل رأسك.. ماذا نعمل، هذا شرط ما يبقى أسير إلا تطلقه، قال: لك ذلك، فقام عبد الله بن حذافة وقبل رأس طاغية الروم، فأطلق أسرى المسلمين وكانوا ثلاثمائة، وأعطاه ثلاثين ألف دينار، وثلاثين عبداً، وثلاثين وصيفة وأعاده، قال: ارجع إلى بلادك سالماً آمناً، فلما وصل إلى سيدنا عمر وأخبره الخبر، قال: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أول من يفعل ذلك، فقام وقبل رأسه رضي الله عنهم أجمعين.

    إخوتي الكرام! هذا الفعل فعله من باب الاضطرار لإخراج أسرى المسلمين، هو ما فعل هذا حتى لمصلحته؛ لأن مصلحته مضمونة، ولذلك قال: لا, إن تخرج الأسرى فعلت وإلا فالقتل أيسر عليَّ من هذا، وهذا من باب الاضطرار لتحصيل هذه المصلحة الشرعية وهي إنقاذ عباد الله.

    الإمام الذهبي علق على هذا وقال: لعل طاغية الروم كان يضمر الإيمان في قلبه، ولا يستطيع أن يظهره على لسانه وجوارحه، ولذلك فعل ما فعل من أجل أن يجد مبرراً لإكرام عبد الله بن حذافة ، فأكرمه وأعاده وأطلق الأسرى بسببه، ولو فعل هذا دون هذه القصة لقاتله قومه وكشفوا إيمانه، ثم قال: ولعل هرقل أيضاً كان يضمر الإيمان في قلبه، والعلم عند الله جل وعلا.

    وعلى كل حال يقول الإمام الذهبي : إذا كان في قلب هذا الطاغية -وهو هرقل - إيمان حقيقي فقد ينفعه في يوم من الأيام عند ذي الجلال والإكرام، وإما إذا لم يكن هناك إيمان وإنما فعل ما فعل فقط من أجل تعظيم رسول الإسلام، وأنه رسول لكن للعرب لا إليهم ولم يؤمن به على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فهذا لا ينفعه مهما عمل، والعلم عند الله جل وعلا.

    كنت قد ذكرت -إخوتي الكرام- أن الإمام البخاري بدأ كتاب الوحي بحديث: ( إنما الأعمال بالنيات ) وختمه بحديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قصة وفد أبي سفيان عندما كانوا في بلاد الشام، وسألهم هرقل ، فكأنه يشير إلى أنه إذا كان في قلب هرقل إيمان سينفعه في يوم من الأيام، والعلم عند ذي الجلال والإكرام، كما وضح ذلك الحافظ في الفتح رضي الله عنهم أجمعين.

    إخوتي الكرام! هذه هي الحالة الأولى من الحالات الثلاث لمن ينحرف عن حكم الله عز وجل، لا يقوم بحكم الله، لا يلتزم به؛ وهو مع ذلك معذور، ما وجه العذر؟ أما أنه أخطأ متأولاً فيما فيه مجال للتأويل، أو جهل ولم يعرض، ولم يقصر، أما أن يكون بين المسلمين، ويكفر برب العالمين، ويطلق زوجته، ولا يصلي، ولا يعرف الوضوء، ولا ولا، ولا يتقن قراءة الفاتحة، ثم نقول: إنه جاهل، هذا غير صحيح.. لم يا عبد الله لا تتعلم؟ أنت معرض لست بجاهل، فلا بد من تمييز هذه الحالة عن الحالة التي تقابلها، فالجهل لا يكون عذراً إلا إذا كان من غير إعراض ومن غير تقصير، أما أن يأتينا إنسان في هذه الأيام ويفهم كلام الرحمن على حسب هواه، وهذيانه، ويقول: أنا معذور جهلت, يا عبد الله! لا يحق لك هذا.

    والحالة الثالثة: أن يكون مُضطراً، مُكرهاً، مُلجأً إلى فعل المخالفة، فالقلم مرفوع عنه، ورفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.

    الحالة الثانية: وهي الحالة التي يأثم فيها الإنسان لكنه لا يكفر بالله عز وجل، فليس بمعذور، إنما هو موزور، عليه وزر وهو آثم عاص للعزيز الغفور، لكنه لا يكفر، ولها ثلاث حالات:

    أولها: أن يتأول فيما ليس من محل التأويل، أو هو ليس من أهل التَأُوُّل, ليس هو في هذه الرتبة في هذه المكانة, ليس هو من أهل الاجتهاد, ليس هو من أهل الفهم والاستنباط.

    الحالة الثانية: أن يجهل الحكم الشرعي لكن مع تقصير في الطلب.

    الحالة الثالثة: أن يتعمد المخالفة طلباً لحظ عاجل دون استحلال للباطل.

    هذه الأحوال الثلاثة يأثم فيها الإنسان، لكن لا يصل إلى الكفر، وسوف نتدارس هذا بعون الله وتوفيقه في الموعظة الآتية.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيك، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

    والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756313910