إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [42]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قعد أهل العلم من أهل السنة والجماعة قاعدة ذهبية مفادها أن الالتفات إلى الأسباب وتعليق حصول الشيء عليها قدح في التوحيد، وأن نفي الأسباب مطلقاً قدح في العقل وتعطيل له، وهذه القاعدة يستفاد منها في الجمع بين الأحاديث الواردة في نفي العدوى وبين الأحاديث الواردة في الأمر بالفرار من المجذوم، وبذلك هم يثبتون أن من خالط المجذوم فقد تعرض لسبب قد يمرضه إن قدر له ذلك وقد لا يمرضه، ومن أراد أن يبتعد عنه مراعاة لخاطره وبعداً عن الوساوس والشك فلا حرج عليه.

    1.   

    القول الأول في الجمع بين نفي العدوى والأمر بالفرار من المجذوم

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فآخر شيء تدارسناه في الموعظة الماضية الأخبار التي دلت على نفي العدوى، وقلت: وردت أخبار عن نبينا عليه الصلاة والسلام ظاهرها يشعر بخلاف ذلك، مثل حديث: ( فر من المجذوم كما تفر من الأسد )، وحديث: ( لا يوردن ممرض على مصح )، وهذان يتعارضان مع الأخبار المتقدمة مثل حديث: ( لا عدوى ولا طيرة )، وحديث: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام أكل مع مجذوم فقال: كل ثقةً بالله وتوكلاً عليه ).

    وقلت ظاهر الأخبار التعارض وقد وقف أئمتنا نحو هذه الأخبار ثلاثة مواقف:

    الموقف الأول: من لجأ إلى القول بالنسخ كما فعل الإمام عيسى بن دينار ، وهكذا أبو حفص عمر بن شاهين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين، فقالوا: الأخبار التي تنفي العدوى ناسخة لما يشعر بخلاف ذلك، هذا موقف.

    وموقف ثاني: القول بالترجيح، وسلكه فريقان من العلماء: فريق رجح الأخبار التي تنفي العدوى، وقالوا: ما يدل على خلاف ذلك شاذ غير محفوظ.

    وفريق آخر سلك عكس هذا المسلك فرجح الأخبار التي ظاهرها يثبت العدوى، وقال: إن الأخبار التي فيها نفي العدوى شاذة، وتقدم معنا توجيه هذا القول، وقلت: هذا المسلك بشقيه أعني الترجيح والمسلك الأول النسخ كلاهما بعيد، فإذا أمكن الجمع بين الأخبار فلا نلجأ إلى النسخ ولا إلى الترجيح، كما تقدم معنا كلام الإمام العراقي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا:

    والمتن إن نافاه متن آخر وأمكن الجمع فلا تنافر

    كمتن لا يورد مع لا عدوى فالنفي للطبع وفر للعدوى

    أولا فإن نسخ بدا فاعمل به أو لا فرجح واعملن بالأشبه

    ولذلك قلت: إن المسلك السديد الرشيد نحو هذه الأخبار أن نجمع بينها، وقد تعددت طرق الجمع بين هذه الأخبار، ذكرت الطريق الأول والثاني، فالأول كما تقدم معنا قال به إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس ومعه إمام الأئمة ابن خزيمة عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا.

    وخلاصة قولهم أن (لا عدوى) يشير إلى حقيقة مقررة ثابتة ألا وهي نفي العدوى كلية، فلا يوجد شيء يعدي شيئاً، وأما الأخبار التي تأمرنا أن نفر من المجذوم فهذا من باب رعاية خاطر المجذوم لئلا ينكسر خاطره إذا جلسنا معه، وحدقنا النظر بعد ذلك إليه.

    1.   

    القول الثاني في الجمع بين نفي العدوى والأمر بالفرار من المجذوم

    والقول الثاني: أن قوله: ( لا عدوى )، يشير إلى حقيقة مقررة ثابتة، والأمر كذلك، لكن هذا في حق من قوي يقينه وعظم توكله فليخالط من شاء، وليتوكل على رب الأرض والسماء.

    وقوله: ( فر من المجذوم كما تفر من الأسد )، هذا فيمن ضعف يقينه، وقل توكله، فيخشى إن خالط المرضى وأصيب بمرض أن يقول: هذا بسبب فلان وفلان أعدوني، والعدوى لا حقيقة لها، فيقع في المحظور ألا وهو إثبات العدوى، ومحافظةً على إيمانه ويقينه أمر بأن يفر، وتقدم معنا أن نبينا -عليه الصلاة والسلام- سلك المسلكين وعمل بالأمرين ليقتدي به الصنفان: من هو عظيم الإيمان وقوي التوكل، ومن في إيمانه وتوكله شيء من الضعف فليبتعد عن المكان الذي يوقعه في سوء الظن والمحظور، وهذا القول قال به جم غفير من أئمتنا منهم أيضاً إمام الأئمة ابن خزيمة ، وابن جرير الطبري والإمام الطحاوي ، وذكرت بعض الآثار التي تدخل في هذا، ووقعت في العصر الأول، وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يوجهنا إلى مثل هذا، مثل قوله: ( ذروها فإنها ذميمة )، كما تقدم معنا في الدار، وقلت: إنها دار من الدور، لكن عندما وقع في خاطرهم ودار في خلدهم أن النقص في أموالهم وأن سوء أخلاقهم، وأن قلة عددهم وفشو الموت فيهم بسبب هذه الدار قيل لهم: ( ذروها فإنها ذميمة )، بيعوها أو أهدوها لمن شئتم وتخلصوا منها وانتقلوا إلى دار أخرى حيث لا تجدون هذه الهواجس.

    إخوتي الكرام! يدخل في هذا -قبل أن ننتقل إلى الأمر الثالث- آثار في هذا المعنى أيضاً، منها ما رواه أبو نعيم في كتاب الطب، وهكذا الإمام ابن السني في كتاب الطب، وسند الحديث واه كما قال الحافظ في الفتح في الجزء العاشر صفحة تسع وخمسين ومائة، وقد نقل كلام الحافظ الإمام المناوي في فيض القدير في الجزء الخامس صفحة واحدة وأربعين.

    ولفظ الحديث: عن عبد الله بن أبي أوفى ، وهو من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين)، تحمله على الحالتين المتقدمين: فإما أن تقول: أن تكلمه وبينك وبينه مسافة على ألا تكسر خاطره، ولا تحتك به من أجل ألا تجرح شعوره، وأنه هو يتأفف من نفسه فيخشى أن تتأفف منه فينكسر خاطره، ويمكن أن نقول -على التعليل الثاني أيضاً- أن هذا في حق من ضعف إيمانه، وضعف يقينه، فيكلمه وبينه وبينه مسافة، ( كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين )، والحديث سنده واه.

    وقد رواه الإمام أبو حفص بن شاهين في كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كما رواه من رواية فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهم أجمعين، وإسناد الحديثين تالف واه أيضاً، ولفظ حديث فاطمة بنت الحسين : عن فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذاً فاطمة تروي عن جدتها، والحديث من رواية البضعة الطاهرة سيدتنا فاطمة بنت رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا رأيتم المجذوم ففروا منه كما تفرون من الأسد )، هذا الشق تقدم معنا في صحيح البخاري وغيره، (وإذا كلمتموه فكلموه وبينكم وبينه قيد رمح أو رمحين).

    ولفظ حديث ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بوادي المجذومين فأسرع المشي، وقال: إن يكن شيء يعدي فهذا)، والحديث إسناده تالف، ولا يثبت هذا وما قبله عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

    مخالطة عمر بن الخطاب لمعيقيب المجذوم

    ومما يدخل في هذا الباب ما أورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري في المكان المتقدم، وعزاه إلى الإمام الطبري ، أن سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه قال للصحابي الجليل معيقيب ، ويقال له: معيقب ، وكان خادم نبينا عليه الصلاة والسلام وهو الموكل بحفظ خاتمه الذي يختم به الكتب، وعداده في المهاجرين، وتوفي في خلافة سيدنا عثمان ذي النورين ، وقيل: مات سنة أربعين في آخر خلافة سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين.

    قال عمر لـمعيقيب : اجلس مني قيد رمح، وكان فيه داء الجذام كما سيأتينا، قال الحافظ ابن حجر : إسناده منقطع، أقول: وقد ورد ما يدل على عكس هذا وخلافه عن سيدنا عمر رضي الله عنهما مع معيقيب رضي الله عنهم أجمعين.

    فروى عبد الرزاق في مصنفه في الجزء الحادي عشر صفحة خمس ومائتين، أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين قال لـمعيقيب : ادن مني، فلو كان غيرك ما قعد مني إلا قيد رمح وكان أجذم، يقول: ادن مني، أنت لك شأن، أنت خادم النبي عليه الصلاة والسلام، موكل بخاتمه في حال حياته، إذن موكل، وإياك أن تلمس جلدي، ولو كان غيرك لما جلس مني إلا مسافة رمح أو رمحين، وهذا أثبت من الأثر الأول.

    وانظروا ترجمة معيقيب في سير أعلام النبلاء في الجزء الثاني صفحة واحدة وتسعين وأربعمائة، وهو مترجم في الإصابة في الجزء الثالث صفحة واحدة وخمسين وأربعمائة، وفي أسد الغابة في الجزء الخامس صفحة أربعين ومائتين، وانظروا ترجمته في طبقات ابن سعد في الجزء الرابع صفحة سبع عشرة ومائة.

    يقول الإمام الذهبي في ترجمته في السير: معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي ، أصله من قبيلة دوس من بلاد اليمن، من المهاجرين، وهو من حلفاء بني عبد شمس، وكان أميناً على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استعمله أبو بكر على الكيل، وولي بيت المال لـعمر رضي الله عنهم أجمعين.

    ثم بعد ذلك أخبر أنه لا يصح أنه شهد بدراً، نعم له هجرة إلى الحبشة، وقيل: إنه قدم مع جعفر ليالي خيبر، وكان مبتلىً بالجذام، أما الحديث الذي أورده ابن سعد في الطبقات، ونقله الإمام الذهبي في السير فلا يثبت ولا يصح كما سيأتينا إن شاء الله.

    نقل عبد الله بن جعفر عن عمر مجالسته للمجذوم

    عن محمود بن لبيد قال: أمَّرني يحيى بن الحسن على جرش، فقدمتها فحدثوني أن عبد الله بن جعفر حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لصاحب هذا الوجع يعني الجذام: ( اتقوه كما يتقى السبع، إذا هبط وادياً فاهبطوا غيره).

    و محمود بن لبيد أنصاري أوسي صحابي صغير رضي الله عنه وأرضاه، جل روايته عن الصحابة الكرام، قد خرج له الإمام البخاري في الأدب المفرد، والإمام مسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة، انظروا ترجمته في الإصابة في الجزء الثالث صفحة سبع وثمانين وثلاثمائة في القسم الأول من حرف الميم، محمود ، وانظروا ترجمته في سير أعلام النبلاء في الجزء الثالث صفحة خمس وثمانين وأربعمائة، ونقل عن الإمام البخاري عليهم جميعاً رحمة الله أن له صحبة، وفي الترغيب والترهيب للإمام المنذري في الجزء الأول صفحة تسع وستين، يقول المنذري عليه رحمة الله: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح له سماع فيما أرى، ثم قال: خرج له أبو بكر بن خزيمة في صحيحه مع أنه لا يخرج فيه شيئاً من المراسيل، وقال البخاري : له صحبة، وقال أبو حاتم : لا يعرف له صحبة، ورجح ابن عبد البر أن له صحبة، وهذا هو الظاهر والراجح والعلم عند الله، وقد توفي سنة ست وسبعين وقيل: سبع وسبعين عن عمر يقارب التاسعة والتسعين عليه وعلى الصحابة أجمعين رضوان رب العالمين.

    وأما عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين فهو آخر من رأى النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه من بني هاشم رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد توفي النبي عليه الصلاة والسلام ولـعبد الله بن جعفر عشر سنين، وقد اختلف في وفاة عبد الله بن جعفر ، والذي ذهب إليه الحافظ ابن حجر في التقريب أنه توفي سنة ثمانين للهجرة، وله ثمانون سنة، وحديثه مخرج في الكتب الستة، وكان كريماً جواداً حليماً يسمى بحر الجود، قال الإمام الذهبي في السير في الجزء الثالث صفحة ست وخمسين وأربعمائة: كان كبير الشأن كريماً جواداً يصلح للإمامة، وله أخبار في الجود والبذل.

    ثم ذكر قصصاً كثيرة في جوده وبذله وكرمه رضي الله عنه وأرضاه، منها: قال: جاءت امرأة بدجاجة مسلوقة إلى عبد الله بن جعفر رضي الله عنه وأرضاه فقالت: بأبي أنت وأمي هذه الدجاجة كانت عندي مثل بنتي، فأبيت ألا أدفنها إلا في أكرم موضع أقدر عليه، ولا والله ما في الأرض أكرم من بطنك، فقال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه وأرضاه: خذوها وأمر لها بأنواع من العطاء، فلما أعطيت ما أعطيت وهم يزيدونها، قالت: يا عبد الله بن جعفر ! إن الله لا يحب المسرفين رضي الله عنه وأرضاه.

    إخوتي الكرام! يقول محمود بن لبيد عندما حدثه أهل جرش بما حدثوه عن عبد الله بن جعفر : والله لئن كان ابن جعفر حدثكم هذا ما كذبكم، قال: فلما عزلني -يعني يحيى بن الحسن - عن جرش قدمت المدينة المنورة -على منورها صلوات الله وسلامه- فلقيت عبد الله بن جعفر فقلت: ما حديث بلغني عنك حدثني به عنك أهل جرش، فذكر له الحديث المتقدم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لصاحب هذا الوجع يعني الجذام: ( اتقوه كما يتقى السبع، إذا هبط وادياً فاهبطوا غيره ) فقال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه وأرضاه: كذبوا، والله ما حدثتهم هذا. ثم قال: ولقد رأيت عمر بن الخطاب يؤتى بالإناء فيه الماء فيعطيه معيقيباًً ، وكان رجلاً قد أسرع فيه ذلك الداء، فيشرب ويناوله عمر فيضع فمه موضع فمه.

    قال: وكان عمر رضي الله عنه يطلب الطب من كل من سمع له بطب، كل من يحكى عنه أنه طبيب يطلب منه عمر أن يعالج معيقيباً ، حتى قدم عليه رجلان من أهل اليمن، فقال: هل عندكما من طب لهذا الرجل الصالح؟ فقالا: أما شيء يذهبه فلا نقدر عليه، ولكن سنداويه دواء يوقفه -يعني: لا ينتشر الجذام في بدنه أكثر مما انتشر- فلا يزيد، فقال عمر : عافية عظيمة أن يقف هذا الداء عند حده، فقالا: هل تنبت أرضك الحنظل؟ وهو الثمر المر المعروف، قال: نعم، قالا: فاجمع لنا منه، فأمر فجمع له منه مكتلين زنبيلين عظيمين، فشقا كل حنظلة نصفين، ثم أضجعا معيقيباً وأخذ كل واحد منهما برجله ثم جعلا يدلكان بطون قدميه بالحنظلة حتى إذا محقت -يعني: ذهبت الحنظلة- أخذا حنظلة أخرى ويدلكان، حتى إذا رأيا معيقيباً يتنخمه أخضر أرسلاه، ثم قالا لـعمر : لا يزيد وجعه بعد هذا أبداً، قال: فوالله ما زال معيقيب متماسكاً لا يزيد وجعه حتى مات.

    يقول هنا: وفي رواية من طريق خارجة بن زيد -والإسناد صحيح لكن فيه انقطاع؛ لأن خارجة لم يدرك سيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين- أن عمر دعاهم إلى غدائه فأجابوا، وكان فيهم معيقيب وكان به جذام، فأكل معيقيب معه فقال له عمر : كل مما يليك، فلو كان غيرك ما آكلني في صحفتِي -يعني: لو كان غيرك ما جلس هذا المجلس، لكن أنت لك شأن أنت خادم النبي عليه الصلاة والسلام- ولكان بيني وبينه قيد رمح.

    عاش معيقيب إلى خلافة سيدنا عثمان ، وقيل: عاش إلى سنة أربعين رضي الله عنه وأرضاه.

    وعلق الذهبي فقال: والفرار من المجذوم وترك مؤاكلته كلاهما جائز والأمر فيه سعة، إن فررت فرخصة، وإن اجتمعت معه فهذا عزيمة وأفضل، لكن ليكن ذلك بحيث لا يكاد يشعر المجذوم أنك تفر منه فتكسر خاطره، فإن ذلك يحزنه، ومن واكله ثقةً بالله وتوكلاً عليه فهو مؤمن، أي: عظيم الإيمان، قوي التوكل على الرحمن، وانظر إلى برودة تعليق المعلقين على كلام الإمام الذهبي ، يقول بعضهم: قلت: هو لا شك مؤمن ولكنه مخطئ -سبحان الله! هذه فلسفة فارغة، وهل يريد الذهبي بذلك أنه مؤمن مخطئ، أو يريد أن يقينه عظيم، وتوكله كبير-؛ لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( فر من المجذوم فرارك من الأسد )، إلى آخر الأحاديث.

    إخوتي الكرام! (ثبت) لكن أما ثبت أيضاً في الحديث المتواتر: ( لا عدوى ) ولذلك لا بد من الجمع بين هذه النصوص.

    هذا الأثر يدخل -أيضاً- معنا في هذا التوجيه الثاني والجمع الثاني، ويدخل أيضاً في هذا التوجيه الثاني ما رواه الإمام مالك في الموطأ، في الجزء الأول صفحة أربع وعشرين وأربعمائة، وانظروه في شرح الزرقاني في الجزء الثاني صفحة أربعمائة، والإسناد صحيح لكن أيضاً فيه انقطاع، من رواية ابن أبي مليكة أن عمر رضي الله عنه وأرضاه مر بمجذومة تطوف بالبيت في الليل، فقال: يا أمة الله! لا تؤذي الناس، لو جلست في بيتك لكان خيراً لك وأتقى لربك؛ لئلا يتأفف الناس، الجذام لا يعدي لكنه يؤذي، فالذي يقترب من المجذوم يتأفف، وهذه الريحة الكريهة تزعجهم.

    فمر بها رجل بعد ذلك فقال لها: إن الذي نهاك -وهو عمر رضي الله عنه- قد مات، يعني فاخرجي إلى الطواف فقالت: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً، انتهى، فكأن سيدنا عمر رضي الله عنه نهاها للمصلحة العامة، فإذا كان يتأذى ويتأفف بعض الطائفين فالأحسن أن تمتنع هذه المرأة عن الطواف.

    ويدخل في هذا ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه في الجزء الثامن صفحة عشرين وثلاثمائة، وفي الجزء التاسع صفحة خمس وأربعين من رواية أبي قلابة رضي الله عنه وأرضاه: أنه كان يعجبه أن يتقى المجذوم، أي: أن يبتعد عن المجذوم، وهذا كله يدخل في القول الثاني خشية إن أصيب بهذا الداء أن يقول: هذا بسبب مخالطة المجذوم، لو ابتعدنا لكان أحسن، فيقع في الطيرة المنهي عنها، ويثبت العدوى ولا عدوى.

    مخالطة الصحابة للمجذومين

    ووردت آثار عن كثير من الصحابة الأبرار أنهم كانوا يخالطون المجذوم ومن عداه، فاستمع لهذه الحادثة مع صديق هذه الأمة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، رواها عبد الرزاق في مصنفه في الجزء الحادي عشر صفحة أربع ومائتين عن معمر ، أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه أكل مع مجذوم.

    وفي رواية في مصنف ابن أبي شيبة في المجلد الثاني صفحة سبع عشرة وثلاثمائة قال: قدم وفد ثقيف على سيدنا أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، فأتي بطعام فأتى القوم وأقبلوا، وتنحى رجل منهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: ما به؟ قالوا: به جذام، لا يريد أن يحضر ليأكل معنا، فقال له سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: ادن فكل، فكان أبو بكر رضي الله عنه يضع يده موضع يد المجذوم كلما رفعها.

    وروى ابن أبي شيبة في مصنفه في المكان المتقدم عن رجل لم يسم، أنه رأى ابن عمر رضي الله عنهما يأكل مع رجل مبتلى، أي: مصاب بداء الجذام الذي يتأفف منه غالب بني الإنسان، فكان ابن عمر رضي الله عنه يضع يده موضع يد هذا المبتلى في القصعة فيأكل.

    وفي مصنف عبد الرزاق عن معمر قال: بلغني أن سائلاً سأل ابن عمر رضي الله عنهما، وكان فيه داء -ولعله داء الجذام- فقام رضي الله عنه فوضع في يده درهماً وأعطاه بيده، فقال له بعض الحاضرين: لو أمرتنا فأعطيناه، قال: أنا أحق بأن أعطيه؛ لئلا ينكسر خاطره.

    وثبت في مصنف ابن أبي شيبة في المجلد الثاني أيضاً صفحة ثمان عشرة وثلاثمائة، والأثر رواه شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد صفحة خمس وخمسين وثلاثمائة، ورواه أبو حفص بن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه صفحة عشر وأربعمائة عن عكرمة رضي الله عنه وأرضاه، قال: لصق مجذوم بـابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، فقال له عكرمة : تلزق بمجذوم؟ قال: امض، أي: اذهب لشأنك فلعله خير مني ومنك، ثم قال له: أكل معه من هو خير مني ومنك، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعلق على ناسخ الحديث ومنسوخه صفحة عشرة وأربعمائة يقول: في إسناد الحديث عبيد الله بن سعيد ، قال ابن حبان : لا يجوز الاقتداء به، وفيه عمرو بن عبد الغفار متهم، وهذان الراويان لا وجود لهما في رواية المصنف، ولا لـابن أبي شيبة ، ولا في كتاب الزهد للإمام عبد الله بن المبارك شيخ الإسلام، وإسناد الحديث عندهما لا ينزل -إن شاء الله- عن درجة القبول.

    فانظر إلى هذه الرواية في الأكل مع المجذوم في مصنف ابن أبي شيبة ، يقول: حدثنا أبو بكر وهو ابن أبي شيبة ، قال: حدثنا وكيع عن سفيان الثوري عن أبي بكير ، عن عكرمة قال: لزق بـابن عباس مجذوم، فقلت له: تلزق بمجذوم؟ قال: امض فلعله خير مني ومنك، وفي رواية ناسخ الحديث ومنسوخه: قد جلس معه من هو خير مني ومنك.

    فهنا لا يوجد عبيد الله بن سعيد ولا عمرو بن عبد الغفار ، نعم هما موجودان في سند ناسخ الحديث ومنسوخه لـابن شاهين ، لكن لا وجود لواحد منهما في هذا الإسناد، فهو من رواية سفيان الثوري عن أبي بكير، وهكذا رواه الإمام عبد الله بن المبارك من رواية سفيان الثوري عن أبي بكير، وأبو بكير التيمي روى عن سعيد بن جبير ، وعن عكرمة ، وعن مجاهد، وهنا يروي عن عكرمة ، وعنه روى ليث بن أبي سليم والثوري وشريك وغيرهم، قال: وقد أورده ابن حبان في الثقات، وانظروا ترجمته في تهذيب التهذيب في الجزء العاشر صفحة سبع وثمانين، نعم، لم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، وأورده ضمن تهذيب التهذيب ليميز بينه وبين رواة شاركوه في هذه الكنية، أبو بكير التيمي . وفي طبعة الزهد لـعبد الله بن المبارك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا حصل تصحيف، بدل أبي بكير ابن بكير ، والصواب أبو بكير كما في طبعة المصنف، عن سفيان ، عن أبي بكير ، عن عكرمة .

    وفي رواية ناسخ الحديث ومنسوخه متابعة أيضاً لـأبي بكير، عن سفيان الثوري ، عن أبيه، عن عكرمة ، وفي مصنف ابن أبي شيبة ، وكتاب الزهد والرقائق لـعبد الله بن المبارك عليهم جميعاً رحمة الله، عن سفيان الثوري عن أبي بكير، عن عكرمة ، ووالد سفيان سعيد بن مسروق الثوري إمام ثقة عدل رضا، حديثه في الكتب الستة، وهو والد سفيان سعيد بن مسروق حديثه في الكتب الستة، وتوفي سنة ست وعشرين ومائة، وقيل: بعدها، وكما أن الولد حديثه في الكتب الستة، وهو من أئمة الإسلام، وكبار الأعلام فوالده كذلك، وهنا روى عن أبيه عن عكرمة ، هذا إذا كانت هذه الطبعة -طبعة ناسخ الحديث ومنسوخه لـابن شاهين التميمي - سليمة، فأنا أخشى أنه حصل فيها شيء من الخطأ والتصحيف من منشرها ومحققها والعلم عند الله، نحن الآن عندنا الرواية من غير طريق عبيد الله وغيره الذي في سند ابن شاهين عليهم جميعاً رحمة رب العالمين، فهي في رواية المصنف، وهكذا كتاب الزهد والرقائق من غير طريق هذين المتكلم فيهما ولا ينزل إسنادها عن درجة الحسن، والعلم عند الله جل وعلا.

    هذه أيضاً قصة عن سلفنا فيها الأكل مع المجذوم.

    مخالطة التابعين للمجذومين

    ويدخل في هذا أيضاً ما رواه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه في الجزء الثامن صفحة ثمان عشرة وثلاثمائة عن أبي يزيد الكوفي الربيع بن خثيم ، وهو من أئمة التابعين الكرام الطيبين، حديثه مخرج في الكتب الستة إلا سنن أبي داود ، روى له الإمام أبو داود لكن في كتاب القدر في غير السنن، وقد توفي سنة واحدة وستين، وقيل: ثلاثٍ وستين، والإمام الذهبي في السير في الجزء الرابع صفحة ثمان وخمسين ومائتين يقول: وقيل: توفي سنة خمس وستين، وهو ثقة عابد مخضرم، كان من تلاميذ سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، وكان إذا رآه عبد الله بن مسعود يتلو قول الله جل وعلا: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الحج:34]، وقال له كما في طبقات ابن سعد وحلية الأولياء لـأبي نعيم : لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك. قال الإمام الذهبي في السير: فهذه منقبة عظيمة للربيع بن خثيم ، وكان إذا قيل له: كيف أصبحت؟ يقول: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا، هذا الإمام المبارك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قال مرةً لأهله كما في مصنف ابن أبي شيبة : اصنعوا لي خبيصة وهي نوع من الحلوى، قال: فصنعوا له، فدعا رجلاً كان به خبل، وهو داء ومرض وعته وشيء يقرب الجنون، قال: فجعل الربيع يلقمه، أي: يطعمه بيده ولعابه يسيل، فلما أكل وخرج قالت له أهله: تكلفنا وصنعنا ثم أطعمتها من لا يدري ما أكل، يعني أنه تستوي عنده الخبيصة وغيرها، قال الربيع بن خثيم : لكن الله يدري.

    والشاهد أنه آكله، بل كان يطعمه بيده ولعاب ذلك المصاب يسيل، والقصص في ذلك كثيرة.

    آخر ما يدخل معنا أيضاً في هذا التوجيه الثاني من الأخبار والآثار ما رواه الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار في الجزء الرابع صفحة عشر وثلاثمائة، ورواه أبو حفص بن شاهين في المكان المتقدم صفحة تسع وأربعمائة في ناسخ الحديث ومنسوخه من رواية سيدنا أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مع صاحب البلاء تواضعاً لربك وإيماناً به)، فإن أردت أن تفر فلا حرج، وإذا تواضعت وقوي يقينك بربك فهذا أكمل كما قال الإمام الذهبي : من أكل مع المجذوم فهو مؤمن جيد الإيمان.

    إخوتي الكرام! رواية شرح معاني الآثار للإمام الطحاوي عن يحيى بن سعيد ، عن أبي مسلم الخولاني ، عن أبي ذر ، وأدخل أبو حفص بن شاهين بين يحيى بن سعيد وأبي مسلم رجلاً لم يسم، فقال: عن يحيى بن سعيد ، عن رجل، عن أبي مسلم الخولاني ، ويحتاج الأمر إلى تحقيق والعلم عند الله، فإن كان لهذا الرجل وجود في الرواية فهو مبهم.

    ولذلك قال المعلق: إسناده ضعيف لجهالة الرجل، وهذا الرجل لا وجود له، والإسناد من رواية يحيى بن سعيد عن أبي مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه.

    هذا فيما يتعلق بالجمع الثالث من طرق الجمع بين الأخبار التي ظاهرها يفيد إثبات العدوى، والأخبار التي تنفي العدوى.

    1.   

    القول الثالث في الجمع بين نفي العدوى والأمر بالفرار من المجذوم

    القول الثالث يقرب من القول الثاني لكن فيه زيادة عليه، قال به الإمام القرطبي أبو العباس في كتابه المفهم في شرح صحيح مسلم ، قال: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح )، والممرض من الإبل المريضة، والمصح منه الصحيحة، كأنه يقول أيضاً: لا عدوى، وإنما نهى أن يورد الممرض إبله على المصح خشية الوقوع في اعتقاد الجاهلية، فإذا أصيبت تلك الإبل بالجرب يقول صاحب الإبل الصحاح: هذا بسبب مخالطة الإبل المريضة، أو مخافة التشويش والأوهام، فيقول رائحتها كريهة، ومخالطتها للإبل ليست حسنة، يشوش نفسه.

    يقول: ونحو هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فر من المجذوم كما تفر من الأسد )، قال: وإن كنا نعتقد أنه لا يعدي شيء شيئاً، لكننا نجد في نفوسنا نفرةً وكراهةً لمخالطة المجذوم ومن به داء تعافه النفس وتكرهه، قال: ولو أكره الإنسان على القرب منه لتأثرت نفسه، فالأولى للإنسان ألا يتعرض لما يحتاج فيه إلى مجاهدة بتجنب ترك الأوهام والتباعد عن أسباب الآلام، وينبغي أن يعتقد الإنسان أنه لا يغني حذر عن قدر، فالقول هذا قريب من القول الثاني، لكن فيه زيادة تقرير، هناك معنا إيمان قوي فليقترب صاحبه، ومن فيه شيء من الضعف فليبتعد، وهنا يقول: إذا اقتربت فقد تقع في محظور مفهوم الجاهلية، وتقول: هذا بسبب العدوى، أو نفسك تتشوش، فإذا ابتعدت سلامةً لهذين الأمرين فهذا أحسن.

    إخوتي الكرام! القول الرابع يختلف عن القول الثاني والثالث، وهو قريب منهما والقول الخامس قريب من الرابع فانتبهوا لذلك.

    1.   

    القول الرابع في الجمع بين نفي العدوى والأمر بالفرار من المجذوم

    القول الرابع: ذهب إليه الإمام أبو بكر بن الباقلاني وابن بطال، وتقدم معنا أن الثاني من أئمة المالكية الكبار أبو الحسن علي بن خلف توفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة، يأتي معنا في شرح الحديث بكثرة، وهو من شراح صحيح البخاري ، وكتابه لا زال مخطوطاً، يقول هذان الإمامان، الجمع بين هذه الأحاديث: أن نثبت العدوى في الجذام خاصةً، وما هو في معناه مما له رائحة كريهة تنتشر، بحيث إذا أصابت إنساناً آخر أثر فيه ذلك الداء، وأصيب به، ونفي العدوى عن غير الجذام، وعما ليس له رائحة تنتشر وتفوح من الناس، فيقولان: الجذام وما يلحق به كالبرص والجرب يعدي، وما عداه من الأمراض لا يعدي، وعليه الطاعون لا عدوى، وتقدم معنا أنه وخز داخلي، بعد ذلك يظهر له أثر على النفس وعلى الجلد وعلى البشرة، لكن لا يخرج منه روائح منتنة كما هو الحال في الجذام.

    وهذا طريق من طرق الجمع، ومع جلالة من قال به من أئمة الإسلام إلا أن الصواب -فيما يظهر والعلم عند الله- أن الأقوال المتقدمة أقوى وأرجح منه؛ لأنه تقدمت معنا آثار كثيرة فيها مخالطة المجذومين، فلو كان فيها شيء يعدي لاحترز أولئك وابتعدوا، فالصواب ما تقدم عن جمهور أئمة الإسلام.

    1.   

    القول الخامس في الجمع بين نفي العدوى والأمر بالفرار من المجذوم

    القول الخامس يقرب من الرابع: ذهب إليه الإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث صفحة تسع وستين، فقال: هذه الأخبار المتعارضة في الظاهر: ( لا عدوى ) و( فر من المجذوم كما تفر من الأسد )، لكل منها وقت وموضع، إذا وضعت تلك الأخبار في ذلك الموضع وذلك الوقت يزال التعارض بينها، ثم قال: العدوى جنسان:

    الجنس الأول ينشأ عن الجذام؛ لأن المجذوم تنبعث منه رائحة شديدة بحيث يسقم من أطال مجالسته، فهذه ثابتة، وهذا ما أثبته النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: ( فر من المجذوم كما تفر من الأسد )، وهذا قريب من القول الرابع.

    يقول: وهناك عدوى منفية، وهي العدوى من غير هذا كالطاعون وغيره، ولذلك نهينا أن نخرج من البلد الذي ينتشر فيه الطاعون -ولا نقول: قد نصاب بالطاعون، بل نتوكل على الحي القيوم- فليس هناك انبعاث روائح بحيث يسقم ويصاب من بقي في ذلك المكان، إنما هذا بتقدير ذي الجلال والإكرام.

    وانظروا كلامه في صفحة تسع وستين من تأويل مختلف الحديث بعد أن أوردهما، قال: الحديثان متناقضان، ثم أورد الأخبار التي يدل ظاهرها على نشر العدوى وعلى إثباتها، قال أبو محمد : ونحن نقول: إنه ليس في هذا خلاف، ولكل معنى منها وقت وموضع، فإذا وضع في موضعه زال الاختلاف، والعدوى جنسان: أحدهما عدوى الجذام، فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومؤاكلته، وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد فيوصل إليها الأذى وربما جذمت، وكذلك ولده ينزع في الكثير إليه، وكذلك من به مرض السل أيضاً يكون معدياً كالجذام، والأطباء تأمر بألا يجالس المسلول ولا المجذوم، ولا يريدون بذلك معنى العدوى، إنما يريدون به تغير الرائحة وأنها قد تسقم من أطال مجالسته، والأطباء أبعد الناس من الإيمان بيمن أو شؤم، إلى آخر كلامه، ثم قال: وأما الجنس الآخر من العدوى فهو الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوفاً من العدوى فهذا الذي نهينا عنه.

    إذاً كأنه يريد أن يقول: هذا الداء لا يعدي بنفسه، إنما تخرج منه رائحة، هذه الرائحة إذا أنت شممتها وجاءت إليك وصاحبتها مراراً أثرت فيك، فنقلت ذلك السقم إليك، وأما في الطاعون وفي غيره فلا يوجد هذا المعنى، فالعدوى هناك منتفية، وهنا مثبتة بسبب الرائحة وهذا يقرب من القول الذي قبله، وما قلت في القول الذي قبله أقوله فيه، وما تقدمه من الأقوال أقوى والعلم عند الله جل وعلا.

    1.   

    القول السادس في الجمع بين نفي العدوى والأمر بالفرار من المجذوم

    القول السادس يقرب من القول الخامس والرابع، لكنه يجيب عن إشكال، أقول: الجذام كما تقدم معنا يعدي، وما عداه من الأمراض الأخرى لا تعدي، وعليه إن قيل لهم: إن النبي عليه الصلاة والسلام كما تقدم معنا أكل مع المجذوم، وهكذا بعض الصحابة الكرام قالوا: لعل داء الجذام الذي كان في ذلك المجذوم يسير، بحيث لا تنبعث منه روائح شديدة مؤذية تصيب الصحيح السليم وتؤثر فيه.

    إذاً نفر من المجذوم، وما ورد من أخبار أن النبي عليه الصلاة والسلام خالط المجذوم لا تعارض ما ذكرناه؛ لأن ذاك جذامه كان قليلاً يسيراً لا تنبعث منه روائح مؤذية كريهة شديدة بحيث تؤثر في المجالسين.

    1.   

    القول السابع في الجمع بين نفي العدوى والأمر بالفرار من المجذوم

    القول السابع وهو آخر الأقوال: لا عدوى بطبعها واستقلالها، والأخبار التي ظاهرها يثبت العدوى تفيد أن العدوى سبب عادي لا قطعي، وأما مخالطة الصحيح السليم للمريض السقيم فهي سبب عادي لانتشار المرض إليه، وقد يصاب الصحيح وقد لا يصاب، إنما لا يوجد عدوى بطبيعتها وحقيقتها، وليس بلازم إذا اختلط الصحيح بالسقيم أن يسقم الصحيح، إنما تعرَّض لحالة قد يسقم فيها بإذن الله.

    والأسباب كما يقرر أئمتنا الكرام: إما أن تفضي إلى مسبباتها قطعاً وجزماً، وإما أن تفضي إلى مسبباتها على سبيل الظن، وإما أن تفضي إلى مسبباتها على سبيل الوهم.

    إذاً هذه الأمور سبب يفضي إلى مسببه، وتخرج عنه النتيجة والثمرة قطعاً وجزماً حسبما أجرى سنته وعادته بين خلقه، فالطعام سبب للشبع، وتركه سبب للجوع والتلف، وهذا سبب حقيقي قطعي نراه، فالله قد جعل في الطعام هذه الخاصية وأودعها فيه. والدواء سبب حقيقي للشفاء، ولذلك من لم يأكل حتى مات دخل النار، ومن لم يتداو حتى مات فهذا أعظم اليقين والتوكل على الله، فلا بد من أن تميز بين هذا وهذا.

    وهناك سبب موهوم، وهو ما فيه حرص زائد ويفعله الإنسان من غير حاجة إليه في الوقت الحاضر، وقد يحصل له أثر في المستقبل وقد لا يحصل، إنما فعله من باب الجزع والخور وعدم التوكل التام على ذي الجلال والإكرام كالكي، الكي نهينا عنه، وفيه تعذيب للإنسان؛ لأنه يكتوي بنار، فاختلف الآن عن الدواء الذي إما أن تشفى به وإما أن لا تجد هذا، وأما هنا فكي بنار، وهذا في الحقيقة فيه أذى مع أن فيه شفاء، ويدخل فيه أيضاً التداوي قبل نزول الداء.

    قلت مرةً لبعض الإخوة: ما يجري في العالم الآن من تحصينات كما يسمونها، هذه كلها من باب العلاج الموهوم لا المضمون، فإن قيل: لم تحصنه؟ يقول: لئلا يصاب بكذا في المستقبل، حسناً أعندك يقين أنه سيصاب؟ قد يصاب وقد لا يصاب، لازم تتعبه بالإبرة وبمرارة الدواء قبل أن يصاب، هذا يسمى التحصين، وهو يدخل في السبب الموهوم، ويدخل في هذا الفرار من الطاعون فهو أيضاً سبب موهوم، يعني قد تصاب وقد لا تصاب، والفرار منه يدل على هلع وخور وجزع.

    وبقي بعد ذلك سبب رابع هو أشنع الأسباب، وهو السبب الذي هو شرك بالحي القيوم، يفعله كثير من الناس، كمن يلجأ إلى القبر، يذبح له، ويطوف حوله، ويتمسح به من أجل أن تلد زوجته ذكراً، أو من أجل أن تقضى حاجته، أو من أجل أن ينجح في الامتحان، فعندنا إذاً سبب حقيقي مقطوع به مضمون وسبب موهوم، وسبب شرك بالحي القيوم.

    إذاً من خالط المجذومين تعرض لسبب عادي، قد ينتقل إليه هذا الداء وقد لا ينتقل، فإن أراد أن يخالط ويتوكل على الله فلا حرج، ويقال هذا في القول الثالث والثاني والأول، وإن أراد أن يبتعد فلا حرج كما هو الحال في الدواء إن أراد أن يتداوى فلا حرج، وإن أراد ألا يتداوى فلا حرج، لا يقال: إنه عاص، وأئمتنا الكرام يقولون كلاماً في الأسباب ينبغي أن يحفظ في العقول والألباب، يقولون عليهم رحمة الله: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، يخدش في التوحيد، يعني تقول: لولا هذا السبب لما نتج مسبب، لولا الدواء لما حصل الشفاء هذا هو الشرك برب الأرض والسماء، ومحو الأسباب قدح في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية طعن في الشرع، وعليه فنحن نباشر السبب ونتوكل ونستعين بالله جل وعلا الذي هو خالق هذا السبب وخالق كل شيء سبحانه وتعالى، ولا نقول: هذا السبب أوجد كذا، ثم بعد ذلك السبب إن كان سبباً ينتج عنه المسبب على حسب ما أجراه الله في العادة قطعاً وجزماً نأخذه ونقول: الله هو الذي يطعمنا ويسقينا، مع أننا نأكل الطعام والشراب، والله هو الذي يشعبنا سبحانه وتعالى، وإذا كان السبب مضموناً إن شئت أن تأخذ به فخذ، وإن شئت ألا تأخذ فلا تأخذ، فإن أخذت به فاربط قلبك بربك جل وعلا، وإن كان موهوماً أخذه فالأخذ به منقصة في دين الإنسان، لأننا نهينا عن الأخذ بالأسباب الموهومة كحال الفرار من الطاعون والتحصينات وغير ذلك.

    والسبب الرابع أشنعها وأمرها، وهو ما فيه شرك بالله جل وعلا، يفعل شركاً من أجل أن تحصل له مصلحة عادية، إذاً الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب قدح في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية طعن في الشرع؛ لأننا أمرنا أن نتعرض لنفحات الله، وأن ندفع قدر الله بقدر الله، وأن نتوكل على المقدر، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن سبحانه وتعالى.

    إخوتي الكرام! هذا المبحث -على وجه العموم- من أوله إلى آخره فصله أئمتنا -كما ذكرت- في فتح الباري في الجزء العاشر صفحة ثمان وخمسين ومائة، وهكذا الإمام العيني في عمدة القاري في الجزء الحادي والعشرين صفحة سبع وأربعين ومائتين، وانظروه أيضاً في مفتاح دار السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة للإمام ابن القيم في الجزء الثاني صفحة أربع وستين ومائتين فما بعدها في صفحات كثيرة، وانظروا شرح صحيح مسلم للإمام النووي -عليهم جميعاً رحمة الله- في الجزء الرابع عشر صفحة ثلاث عشرة ومائتين، وصفحة ثمان وعشرين ومائتين، وانظروا شرح معاني الآثار للإمام الطحاوي في الجزء الرابع من صفحة ثلاث وثلاثمائة إلى صفحة أربع عشرة وثلاثمائة في إحدى عشرة صفحة.

    وأما الجملة الأخيرة التي ذكرتها: الالتفات إلى الأسباب شرك بالتوحيد فانظروها في عدد من الكتب في مجموع الفتاوى للإمام ابن تيمية مع شرح هذه الجملة في الجزء الثاني صفحة سبعين ومائة، وهكذا أوردها في الجزء العاشر صفحة خمس وثلاثين، وانظروها في مدارج السالكين للإمام ابن القيم في الجزء الأول صفحة أربع وأربعين ومائتين، وفي الجزء الثالث صفحة تسع وتسعين وأربعمائة، وانظروها في مفتاح دار السعادة في الجزء الثاني صفحة ثلاث وأربعين ومائتين، وأعادها في صفحة تسع وستين ومائتين، وفي شرح الطحاوية تعليق الشيخ أحمد شاكر صفحة أربع عشرة وأربعمائة.

    هذا ما يتعلق بهذا المبحث ألا وهو الجمع بين الأخبار التي تنفي العدوى، والأخبار التي ظاهرها يثبت العدوى، جمع بينها بهذه الأوجه السبعة، أوجهها كما قلت أربعة ثلاثة في البداية والأخير أيضاً يقرب منها، وهي أنه لا عدوى ولا يوجد شيء يعدي شيئاً بطبعه، إنما العدوى كما قلت سبب عادي قد يحصل للإنسان مرض بسبب مخالطته للمجذومين وغيرهم، وقد لا يحصل، والأمر مرده إلى الله جل وعلا، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن سبحانه وتعالى.

    1.   

    طرق التحصن من الجن

    وأما المبحث الرابع الذي عندنا فهو ما يتعلق بتحصن الإنس من الجن، وسأذكر هنا طرقاً للتحصن من الجان، هذه الطرق تنقسم إلى قسمين اثنين: منها ما هو من باب الاجتناب، ومنها ما هو من باب الاكتساب، يعني إثبات ونفي، شيء ننفيه عنا، وشيء نثبته ونتصف به، منها ما هو تخلية ومنها ما هو تحلية، ومجموع هذه الأمور خمسة عشر أمراً، سبع تخلية، نتخلى عنها، وثمان تحلية نتحلى بها.

    أما ما ينبغي أن نتخلى عنه فالخطرات الرذيلة، واللحظات الخبيثة: نظرات إلى ما حرم الله، وينبغي أيضاً أن نتخلى عن الألفاظ المذمومة، وعن الخطوات المحرمة، فهذه أربع، والأمر الخامس: ينبغي أيضاً أن تتخلى عن السماع المحرم، فتحصن الأذنين، هذه منافذ الشيطان التي يدخل منها إلى الإنسان، والسادس والسابع ينبغي أن تضبط الأجوفين: بطنك وما هو طريق إليه الفم، وبعد ذلك الفرج، فهذه سبعة أمور ينبغي أن يحصنها الإنسان، والشيطان يدخل على الإنسان منها، إما أن يدخل له من جهة وساوس وخطرات في قلبه، وإما من نظرات خيانة، وإما من كلام، وإما من نظر إلى ما حرم الرحمن، وإما من سماع، وإما من أكل وهذا من جهة البطن، وإما بعد ذلك من شر أعداء الإنسان فساداً إذا وضع في غير موضعه ألا وهو الفرج، هذه سبعة أمور ينبغي أن تضبط، وإذا ضبطها الإنسان حصن نفسه، يأتي بعد ذلك إلى ثمانية أمور ينبغي أن يتحلى بها وأن يكتسبها لينجو من أبواب النار السبعة، وليدخل الجنة من أبوابها الثمانية بفضل الله وتوفيقه وكرمه وإحسانه.

    أولاً أعدها، ثم أشرح الأمور الخمسة عشر إن شاء الله.

    ما يلزم المسلم فعله للتحصن من الجن

    أولها: ينبغي أن يكثر الإنسان من الاستعاذة بالرحمن من شر الشيطان، وسيأتينا صيغ متعددة للاستعاذة إن شاء الله.

    ثانيها: ينبغي أن يحصن الإنسان نفسه بتلاوة كلام الله عز وجل.

    ثالثها: ينبغي أن يكثر من الأذكار فهي حصن حصين للإنسان في هذه الدار.

    رابعها: ينبغي أن يكثر من الصلاة والسلام على نبينا خير الأنام عليه الصلاة والسلام.

    خامسها: ينبغي أن يحافظ على سلاحه في كل وقت ألا وهو الطهارة، وسيأتينا حديث: ( لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) وهو سلاح أهل الجنان.

    وسادسها: ينبغي أن يلازم جماعة المسلمين وأن يكون معهم؛ ففي ذلك حصن له من أعدائه شياطين الإنس والجن.

    سابعها: ينبغي أن يكثر من الصوم.

    ثامنها: ينبغي أن يحرص على طلب العلم.

    ما يلزم المسلم تركه للتحصن من الجن

    هذه الأمور السبعة إذا اجتنبها حصن نفسه من عدوه، ولا مدخل للشيطان عليه.

    أولها مما ينبغي أن يحترس الإنسان عنه: الخطرات، قلبك ينبغي أن تراقبه في جميع الأوقات، فالقلب ملك الأعضاء، فينبغي أن تضبطه، وإذا فسد الملك ضاعت الرعية، وإذا عشعشت الوساوس في القلب ستنبعث بعد ذلك هذه الجوارح إلى معصية الرب شئت أم أبيت، والشيطان يستحوذ ويستولي عليك.

    إخوتي الكرام! هذه النفوس لا تفتر عن الهم والإرادة، فإما أن تهم بالخير، وإما أن تهم بالشر، ولذلك كان أئمتنا عليهم رحمة الله ورضوانه يقولون: النفوس كالرحى تدور ولا تفتر، فإما أن تطحن حباً، وإما أن تطحن شوكاً.

    وقال العبد الصالح أحمد بن الخضر ، وقد توفي سنة أربعين ومائتين، ويقال: ابن خضرويه ، وهو الزاهد الكبير والإمام الرباني الشهير قال: القلوب جوالة، فإما أن تجول حول العرش، وإما أن تجول حول الحش، وانظروا ترجمة هذا العبد مع نقل هذا الكلام عنه -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- في سير أعلام النبلاء في الجزء الحادي عشر صفحة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفي صفة الصفوة في الجزء الرابع صفحة أربعٍ وستين ومائة.

    وكان يقول -كما في الجزء الحادي عشر صفحة ثمان وثمانين وأربعمائة-: لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رق أملك من الشهوة، عبد الشهوة أذل من عبد الرق، ثم قال: ولولا ثقل الغفلة لم تظفر بك الشهوة، متى يقع الإنسان في وساوس محرمة؟ عندما يغفل قلبه عن الله جل وعلا، ويعشعش الشيطان فيه ويوسوس له.

    1.   

    بعض كلام الصوفية في تقويم النفس وبيان موقف الشافعي منهم

    فلا بد إذاً من مراقبة النفس، فالنفس إن لم تشغلها بحق شغلتك بباطل، يقول العبد الصالح إمام المسلمين وسيدهم أبو عبد الله الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، يقول: صحبت الصوفية عشر سنين، فما انتفعت منهم إلا بكلمتين، كانوا يقولون مراراً: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

    والثانية: يقولون: النفس إن لم تشغلها بحق شغلتك بباطل. وهذا الكلام ينقله الإمام ابن القيم الجوزية في مدارج السالكين في الجزء الثالث صفحة تسع وعشرين ومائة، ويعلق عليه بكلام فيقول: يا لهما من كلمتين ما أنفعهما وأجمعهما وأدلهما على علو همة قائلهما ويقظته، ويكفي في هذا ثناء الشافعي عليهما، وهذا الكلام أعاده الإمام ابن القيم في كتابه الجواب الكافي في صفحة أربع وثمانين ومائتين، نقله أيضاً عن الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

    إخوتي الكرام! نقل عن الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا ما يدل على ذم الصوفية، ونقل عنه كما ترون ما يشعر بمدحهم، فلا بد من تنزيل الكلامين على صنفين مختلفين.

    والإمام البيهقي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا أورد الكلامين في الثناء عليهم وفي ذمهم في كتابه مناقب الإمام الشافعي في الجزء الثاني صفحة سبع ومائتين، أورد لكم كلامه لتعلموا الجمع بين الكلامين كما أشار إلى ذلك الإمام البيهقي ، وهذا لا بد من أن نعيه لا سيما في هذا الوقت، في المدارج في الجزء الثالث صفحة تسع وعشرين ومائة يقول: عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: لو أن رجلاً تصوف من أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق.

    ثم نقل عنه: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: ما رأيت صوفياً عاقلاً قط إلا سلم بن ميمون الخواص ، توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين، وفي الحلية كتبوه سالماً وهو سلم بن ميمون الخواص ، انظروا ترجمته في الحلية في الجزء الثامن صفحة سبع وسبعين ومائتين، وفي السير في الجزء الثامن صفحة تسع وسبعين ومائة، روى عن مالك كما روى الشافعي عن مالك عليهم جميعاً رحمة الله، وعن ابن عيينة ، وانظروا ترجمته في صفة الصفوة، قال الإمام الذهبي في المغني في الضعفاء في ترجمته: روى عن مالك ، قال أبو حاتم : لا يكتب حديثه؛ والسبب أن فيه ما في الصالحين من غفلة وعدم اعتناء بالرواية.

    يقول ابن حجر في اللسان كما هو أيضاً في الميزان في الجزء الثالث صفحة ست وستين، يقول: كان من كبار الصوفية، قال ابن حبان : كان من كبار العباد في بلاد الشام، غلب عليه الصلاح حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه فلا يحتج به في هذا الأمر، يعني أنه متأله متعبد لا يضبط ما يسمع رحمة الله ورضوانه عليه، الشافعي يثني عليه فيقول: ما رأيت صوفياً عاقلاً قط إلا سلم الخواص ، قلت: وإنما أراد به من دخل في الصوفية واكتفى بالاسم عن المعنى، وبالرسم عن الحقيقة، وقعد عن الكتب، وألقى مؤنته على المسلمين، ولم يبال بهم، ولم يرع حقوقهم، ولم يشتغل بعلم ولا عبادة، كما وصفه في موضع آخر، ثم ساق عن الشافعي أنه قال: لا يكون الصوفي صوفياً حتى يكون فيه أربع خصال: كسول، أكول، نئوم، كثير الفضول، ويقول: إنما أراد به ذم من يكون منهم بهذه الصفة، فأما من صفا منهم في الصوفية بصدق التوكل على الله عز وجل، واستعمال آداب الشريعة في معاملته مع الله عز وجل في العبادة، ومعاملته مع الناس في العشرة، فقد حكي عنه أنه عاشرهم وأخذ منهم، يعني الإمام الشافعي ، ثم قال: وذلك فيما حدثنا، وروى الإسناد عن الشافعي : صحبت الصوفية عشر سنين ما استفدت منهم إلا هذين الحرفين -يختلفان عما أورده الإمام ابن القيم - الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، والثاني: من العصمة ألا تقدر، وعند ابن القيم : نفسك إن لم تشغلها بحق شغلتك بباطل، والثلاثة مما استفاده من الصوفية، ومن العصمة ألا تقدر: أن يحال بينك وبين المنكر.

    يقول: وبلغني أنه رأى من بعض من تسمى باسم الصوفية ما كره، فخرج قوله في ذمهم، ثم ذكر قصةً خلاصتها: أنه كان رجل يحضر في المسجد الذي يتحدث فيه الإمام الشافعي وينشر العلم، وذاك الذي يحضر صوفي بطال ممن فيه هذه الأربع خصال: كسول، أكول، نئوم، كثير الفضول، وكان يسمي الإمام الشافعي بالبطال، وفي يوم من الأيام جاء ليشوش على الإمام الشافعي فدهن شاربيه بالعذرة وجاء وحضر في مجلس الشافعي ، وكان الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا رجلاً عطراً يحب الرائحة الطيبة، وكان قبل أن يتحدث تدهن الاسطوانة التي يستند إليها بالغالية وهي الطيب بالأنواع المتعددة، فيجلس ورائحة الطيب تفوح، فجاء ليتحدث فوجد رائحة العذرة منتشرة، فقال: لعل بعضكم دخل وفي حذائه أذى، فتفقدوا الأحذية فلم يجدوا فيها شيئاً، كره الإمام الشافعي هذا المشهد، وقال: ليشم بعضكم بعضاً، يعني من أين هذه الرائحة؟ فلما اقتربوا من هذا الصوفي الذي هو بطال في الحقيقة وجدوا رائحة العذرة فيه، وأنه قد دهن شاربيه بالعذرة، وقد صلى معهم وعلى شاربيه العذرة، ثم حضر في المجلس في المسجد، فقال الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: خذوه إلى عبد الواحد وكان على الشرطة فقولوا له: يقول لك أبو عبد الله: احبس عندك هذا حتى ينتهي أبو عبد الله من درسه، فلما انتهى الإمام الشافعي من درسه جاء إليه فأمر به فضرب ثلاثين درةً أو أربعين، وقال: هذا بما تخطيت به المسجد بالقذر، وصليت على غير طهارة، ثم قال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: رأيتك متكبراً فأردت أن أكسر نفسك، فحقيقةً من كان فيه هذا الوصف إذا تصوف أول النهار لا يأتي عليه الظهر إلا وهو أحمق، وكما قلت مراراً: فرقة مجتهدة في طاعة الله فيهم سابق مقرب، وفيهم مقتصد من أصحاب اليمين، وفيهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه، وفيهم من هو من أهل الزندقة والإلحاد.

    1.   

    التفصيل في الحكم على الصوفية

    وهذا الذي ذكرته هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة رب البرية في مجموع الفتاوى في المجلد الحادي عشر صفحة سبع عشرة، يقول عليه رحمة الله: طائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ثم قال: وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

    قال الإمام ابن تيمية : وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، ثم قال: والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله عز وجل كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله عز وجل، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه، ثم قال: وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم، كـالحلاج مثلاً، فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق مثل الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره، كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية، وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد .. إلى آخر كلامه رحمة الله ورضوانه عليه وعلى المسلمين أجمعين.

    فإن قيل لنا: هل ترضون أن تنتسبوا إليهم لتكونوا أيضاً من الصنف الأول من السابقين المقربين؟ نقول: لا إليهم ولا إلى غيرهم، لا ننتسب إلا إلى الإسلام الذي هدانا الله إليه، وإلى أهل السنة والجماعة، لكن ينبغي أن ننصف عباد الله، فإذا قيل لنا: هذا صوفي، وهذا سلفي، وهذا من حزب كذا، نزن بالقسطاس المستقيم، نعرض حاله على الكتاب والسنة ولا دخل لنا في هذه الألفاظ، فإن كان مستقيماً فهو على هدى، ولا يضره أنه نسب إلى الصوفية أو أنه صوفي، وإن كان ضالاً فلا ينفعه أن يتسمى بأنه من عباد أهل السنة والجماعة، وكل إنسان يوزن بمقدار التزامه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755959842