إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [11]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الدلالات المستنبطة على براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من الآيات التي أنزلت في براءتها كثيرة، وقد برأها الله بما لم يبرئ به غيرها، وهي أولى بالبراءة من مريم بنت عمران كما أوضح ذلك الباقلاني في مناظرته للروم، فتبرئة مريم العفيفة وكذا موسى ويوسف عليهما السلام وجريج تمت بشيءٍ دون تبرئة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقد برئت بآيات تتلى إلى يوم الدين.

    1.   

    دلالات قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات..) على براءة عائشة رضي الله عنها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

    اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

    فما زلنا نتدارس ترجمة أمنا المباركة الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه، وكنا في الأمر السادس إخوتي الكرام من ترجمتها، ويدور هذا الأمر حول حب الله جل وعلا لها، ودفاعه عنها، وغيرته عليها، وقلت: سأذكر في هذا الموضوع أمرين اثنين يقرران ذلك:

    الأمر الأول: ما يتعلق ببركة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها في سبب نزول آية التيمم؛ فإنها لما انقطع عقدها رضي الله عنها وأرضاها وسع الله عليها وعلى هذه الأمة المباركة المرحومة، فشرع التيمم إذا لم يجد الإنسان الماء ببركتها رضي الله عنها وأرضاها، وتقدم معنا أن هذا ليس أول بركةٍ منها، ومن آل أبي بكر، فبركاتهم كثيرة، جزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.

    والأمر الثاني إخوتي الكرام الذي يدل على منزلة أمنا عائشة رضي الله عنها عند ربنا جل وعلا، وعلى حب الله لها، وعلى غيرته عليها، قلت: إنزال آياتٍ تتلى من كلام الله في كتابه يتعبد بتلاوتها إلى يوم القيامة في تبرئة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقد أنزل الله في ذلك ست عشرة آية من سورة النور، وقد ذكرت عشرة أمورٍ فيها تبين منزلة أمنا عائشة رضي الله عنها عند العزيز الغفور، وقلت: سأختمها بعد ذلك بأمرين اثنين: بما يدل على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وأنه خير هذه الأمة بعد نبيها على نبينا وآله وأصحابه صلوات الله وسلامه، فهذه الآيات التي نزلت ببركة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أثبتت مكانتها عند الله كما أثبتت مكانة أبيها عند الله جل وعلا، ثم نروي لكم حديث الإفك الذي روي في كتب السنة المطهرة.

    إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمر الرابع من الأمور العشرة في الآيات التي أنزلها الله في تبرئة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها مما رميت به.

    وقلت: سنتكلم على ثلاثة أمور في هذه الدلالة الرابعة.

    دلالات لفظة (ظن) من قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ...)

    الأولى كلمة (ظن)، (لولا إذ سمعتموه ظن)، ولم يقل الله جل وعلا: لولا إذ سمعتموه تيقنتم بأنفسكم خيراً، استعمل الظن ولم يستعمل اليقين والجزم للإشارة إلى أن أقل ما يجب عليك، وهذا في وسعك أن تظن بأخيك خيراً، ولا ينبغي التفريط فيه بحال، فالتفريط بهذا الأمر جورٌ وبلاء، فأقل المراتب أن تغلب ظن الخير على ظن السوء والجور والتهمة، والظن ترجيح أحد الاحتمالين، وهناك قطعٌ ويقين، فإذا لم يكن عندك بينةٌ ولا برهان على وجه التمام في طهارة هذا الإنسان، فلا أقل من ترجيحٍ طهارته في قلبك، وهذا في وسعك؛ لأنه ليس عندك يقين على ثبوت التهمة فيه، وليس عندك يقين على براءته، تقول: احتمال واحتمال، فارجع إلى الأصل، والأصل هو الطهارة والبراءة، وقد أمرنا أن نحسن الظن بعباد الله، ولأن نحسن الظن بعباد الله ونخطئ خير لنا من أن نظن بهم سوءاً ونصيب؛ لأن الظن لا ينبغي أن نستعمله في جانب السوء، فإذا أخطأت فيا ويحك ويا ويلك، وأما الظن في جانب الخير فأنت لم تخرج عن أمر الخير وعن الهدى فلا أقل من الظن، فالخروج عن هذا ضلالٌ وظلمٌ وجور، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12]، هذا أقل ما ينبغي، وإلا الأصل أن تتيقن طهارة المؤمنين، وأن تجزم بذلك، وأن تدفع الشبهة، فأقل ما ينبغي فرط فيه بعض الصحابة الكرام كـمسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش رضوان الله عليهم أجمعين، وخدعوا بإرجاف وافتراء وإفك المنافقين، بخروجهم عن جادة الصواب، فلم يظنوا خيراً بأنفسهم، أي: بإخوانهم، وهذا أقل ما ينبغي أن تسلكه نحو عباد الله، إلا إذا قام عندك دليل القطع على تلبسهم بذنبٍ أو جريمة، فأنت هناك تشهد على مثل ضوء الشمس، وأما ما عدا هذا فدعك من الأراجيف والأقاويل وظن بعباد الله خيراً.

    فائدة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون...)

    الدلالة الثانية: قول الله: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12]، (سمعتموه) خطاب يوجه إليهم، ثم قال: (ظن المؤمنون) وجه الكلام إلى طريق الغيبة، وهذا الذي يقال له في علم البلاغة: التفات، وهو نقل الكلام من حالةٍ إلى حالة، والأصل أن يقول: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً، والالتفات غرضه العام تنبيه الأذهان عندما يساق الكلام من حالةٍ إلى حالة، لكن له مقصودٌ خاصٌ في هذه الآيات وفي كل مكانٍ يقع فيه التفات، والمقصود هنا المبالغة في الذم والتقريع، فبعد أن قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور:12]، فبدلاً من أن يقول: ظننتم طرحهم عن صريح الخطاب، وتوجيه الكلام إليهم، ونقل الكلام إلى الغيبة، (ظن المؤمنون)، ثم ذكر العلة التي تدعوهم إلى ذلك الظن الحسن ألا وهو الإيمان، (ظن المؤمنون)، كأنه يقول: أنتم مؤمنون، فكيف لم تتصفوا بصفات الإيمان التي توجب عليكم حسن الظن نحو أهل الإسلام، إذاً أتى بوصف الإيمان عند صيغة الغيبة ليبين أن هذا هو العلة في ذلك الظن الذي ينبغي أن يتصفوا به، فالمؤمن لا ينحرف قلبه عن حسن الظن بعباد الله الصالحين، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ [النور:12].

    ما تفيده لفظة (بأنفسهم) وقوله تعالى: (ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفهسم خيرا) من الدلالة

    الدلالة الثالثة في هذه الجملة المباركة: (بأنفسهم)، المراد بإخوانهم المؤمنين، وبأخواتهم من المؤمنات، وإنما قال: (بأنفسهم) حيث نزل المؤمن منزلة نفسه، فنزل المؤمن أخاه منزلة نفسه؛ لأن المؤمنين إخوة، وما يسر أخاك يسرك، وما يضره يضرك، والله جل وعلا يشير إلى هذا المعنى في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، والمراد هنا: ولا يلمز بعضكم بعضاً بنقيصةٍ وتعييرٍ وطعنٍ وذمٍ وتحقير، فلمز الأخ لمزٌ للنفس؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد، فإذا طعنت في أخيك فقد طعنت في نفسك، وعلى هذا يتنزل قول الله جل وعلا: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].

    1.   

    دلالة قوله تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) على براءة عائشة رضي الله عنها

    الدلالة الخامسة: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13]، كأن الله جل وعلا يقول: لا برهان على قذف أمنا الحَصان عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الطاهرة المطهرة، وما افتري عليها فهو محض بهتان، لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13]، إذاً لا بينة على قولهم وإفكهم وافترائهم، بل ذاك كما تقدم معنا من حبك العصبة المتآمرة، وإذا لم يقم دليلٌ على صحة الشيء وثبوته، فهو هذيان كهذيان المحموم وعربدة السكران، أي قيمةٍ لهذا الكلام إذا لم يقم عليه حجةٌ وبرهان؟! انتبه لقول الله جل وعلا: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ [النور:13]، وضع المظهر أيضاً موضع المضمر -والأصل أن يقول: فإذ لم يأتوا بهم- لزيادة التقريع، للدلالة على أن هذا لا يثبت إلا بشهداء، ينبغي ألا يغيب هذا عن أذهانكم، وأتى بصيغة اسم الإشارة الذي هو للبعد، فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد والشر حيث قالوا ما لا دليل عليه، وهو إفكٌ مفترى.

    لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، وإذا كان حكمهم عند الله أنهم كاذبون مفترون أفاكون، فيا عباد الله! عاملوهم بذلك، ولا تصدقوهم، فهم عند ربكم كذابون، فكيف تصدقون من كذبه رب العالمين؟!

    فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، وأتى بضمير الفصل هم الذي يفيد حصر الكذب فيهم، كأنه لا كاذب غيرهم لشناعة كذبهم وقبح فعلهم؛ حيث قذفوا زوجة نبيهم على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه.

    1.   

    دلالة قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم ...) على براءة عائشة رضي الله عنها

    الدلالة السادسة: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور:15]، (إذ تلقونه)، فسرت هذه الكلمة بعدة أمور كلها تدل على شيءٍ واحد، قيل: تتلقونه من التلقي، وقيل: من التلقف، وقيل: من التلقن، إذاً تلقي وتلقفٌ وتلقن، قال أئمتنا: وهذه المعاني متقابلة، لكن المعنى الأول تتلقونه يفيد معنى الاستقبال، أي: تأخذونه، وتستفيدونه من غيركم في المستقبل، ولفظ التلقف يفيد معنى الخطف وأخذ الشيء؛ كأنك تخطفه، ومعنى التلقن يفيد الحذق والمهارة في أخذ الشيء، فأنتم تأخذون هذا من غيركم، وكأنكم تخطفونه عندما تأخذونه، ثم تأخذونه بحذقٍ ومهارةٍ، (إذ تلقونه)، كأنه نبأٌ غريب عديم، قامت عليه البراهين، حتى حرصتم عليه، فتأخذونه من غيركم وتحرصون عليه، وتخطفونه منه، وتحذقون بعد ذلك أخذه وتلقيه، وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ [النور:15]، والقول لا يكون إلا بالفم، فقيل: هذا للتأكيد؛ لئلا يظن أن هذا كلامٌ قلبي فقط جرى منهم، بل صدر من ألسنتهم وخرج من أفواههم من بين شفتيهم، كما قيل:

    امتلأ الحوض وقال قطني مهلاً رويداً قد ملأت بطني

    فالحوض عندما يقول هذا، فهذا حكاية حال، وليس بلسان المقال، فلئلا يظن أن هذا الذي جرى منهم قولٌ بالقلب وعزمٌ عليه وحديث نفس، قال الله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ [النور:15]، يعني: ليس حديثاً قلبياً كما هو حال الحوض.

    وفي قوله: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ [النور:15] إشارة إلى أن هذا القول لا مصداق له، ولا صحة له، ولا برهان عليه، لم يصدر من قلبٍ، ولم ينبع من صدرٍ، ولا حجة عليه ولا يقين ولا برهان، بل هو مجرد قولٍ بالفم واللسان، يتشدقون به وكأنه ثابت، وهو إفك مفترى، وهذا كقول الله جل وعلا: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167]، لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، هذا كلامٌ لا حقيقة له، فهم يعلمون أنه سيحصل قتال بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين الكفار في موقعة أحد، وهذه نزلت أيضاً في عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين أيضاً، عندما انحاز مع أصحابه في ثلاثمائة، وذكرت هذه الكلمة أيضاً :(وتقولون بأفواهكم للإشارة إلى توبيخهم، فكأنهم يتشدقون بهذا الكلام ملئ أفواههم، مع أنه لا صحة له ولا دليل عليه في قلوبهم وصدورهم، وعلى ذلك حمل قول الله جل وعلا في سورة آل عمران أيضاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:118]، المراد أنهم يتكلمون من أفواههم ويتبجحون، ولا يكتمون ولا يسرون، بل يقولون ما يزعجكم، وما يدل على عداوتكم بملء أفواههم.

    1.   

    دلالة قوله تعالى: (لولا فضل الله عليكم ورحمته...) على براءة عائشة رضي الله عنها

    الدلالة السابعة: هي في قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14]، وهي الآية التي قبل الآية المتقدمة: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور:15]، فـ(لولا) هنا حرف امتناعٍ لوجود؛ لأنه وليها اسم، وقد ترتب على تلقي ذلك الإفك الإفاضة فيه، والإفاضة: هي الخوض في الكلام والإكثار منه، ومنه فاض الوادي بالماء، إذا كثر سيلان الماء فيه، ومنه قول الله جل وعلا: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:82-83].

    إذاً حصل كثرة كلام وثرثرةٌ بهذا الإفك والبهتان، وليست كلمة وانقضت، إنما هو حديث تلوكه الألسن مدة شهرٍ كامل فترتب على تلقي الإفك، وعلى النطق به إفاضةٌ وإكثارٌ وثرثرة، ولذلك يقول الله: لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14]، لولا فضل الله ورحمته عليكم في الدنيا والآخرة، ونعمه التي لا تحصى، ومن جملتها أنه لا يعاجل المخطئ بالعقوبة بعد أن يبين له الأمر، وتقام عليه الحجة، لولا ذلك لترتب على كلامكم أن يعاقبكم الله في الدنيا، وأن يذيقكم عذاباً أليماً في الآخرة، لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ [النور:14]، التنكير في عذاب يفيد التشنيع، ووصفه بالعظم لزيادة التهويل، لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14]، وانتبه هنا للإبهام في اسم الموصول حيث لم يذكر الإفك والقذف باسمه، ولم يعده مرةً ثانية لتهويل أمره، واستهجان ذكره، فأبهمه وكنى عنه، وكأن الله جل وعلا يقول: أنا لا أحكيه عنكم لشناعته، فكيف أنتم استسهلتم ذكره وقوله وترداده وإفاضة الكلام فيه؟!

    1.   

    دلالة قوله تعالى: (وتحسبونه هيناً ...) على براءة عائشة رضي الله عنها

    الدلالة الثامنة في قول الله جل وعلا: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، فهو أمر عظيمٌ اسمه، كبيرٌ جرمه، كيف لا! وقذف المحصنات من المؤمنات من الموبقات المهلكات، فكيف من قذف حرم خير المخلوقات! على نبينا وآله صلوات الله وسلامه، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن قذف المحصنة من الكبائر، فكيف من قذف زوجة النبي عليه الصلاة والسلام التي يترتب على قذفها تنقيص النبي عليه الصلاة والسلام وتحقيره! وقد وردت الأحاديث في التحذير من القذف، والدلالة على أنه من الكبائر، من ذلك ما ثبت في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي ، والحديث رواه الإمام البيهقي أيضاً، وهو في أعلى درجات الصحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن شناعة هذه الكبيرة وجرمها عند الله جل وعلا، ففي معجم الطبراني الكبير ومسند البزار، والحديث رواه الحاكم في المستدرك، في الجزء الرابع، صفحة ثلاثٍ وسبعين وخمسمائة، ورواه الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنةوَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، والحديث جميع رجاله ثقاتٌ أثبات إلا ليث بن أبي سليم فقد جرى حوله كلام، وهو صدوقٌ لكن طرأ عليه الاختلاط في آخر حياته، وقد أخرج حديثه البخاري لكن معلقاً في صحيحه، وأخرجه الإمام مسلم لكن مقروناً، وحديثه مرويٌ في السنن الأربعة، ولذلك قال الإمام الهيثمي في المجمع: في إسناد الحديث ليث بن أبي سليم ، وهو ضعيفٌ وقد يحسن حديثه، ودلالة الحديث العام يشهد لها آيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، من عظم شناعة الإفك أن القاذف بقذفه يحبط الله له عمل مائة سنة، وكنت قد أشرت في محاضراتٍ سابقة في غير هذا المسجد إلى وجه الحكمة في تحديد عقوبة القاذف في هذا الحديث بأن يحبط عمله لمائة سنة، فقلت: إن المقذوف غاية ما يتصور أن يعيش في الغالب مائة سنة وقلّ أن يجاوز ذلك، والقاذف قد آذى المقذوف بقذفه مدة حياة المقذوف فسيعير، والناس سيتكلمون على عرضه، فما دامت هناك مدةٍ يتصور أن يعيش فيها هذا المقذوف، فلا يقبل الله من القاذف عملاً فيها.

    إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، وهنا: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، إذا كان هذا هو حكم القذف بالنسبة لقذف المؤمنين والمؤمنات، فكيف يكون الحال فيمن قذف أمنا عائشة رضي الله عنها، وهي زوجة خير البريات على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه؟! حتماً أن الإثم سيتضاعف، والجرم سيكبر، ولذلك قال أئمتنا: كثيراً ما يكون عظم الذنوب باعتبار متعلقاتها، فالزنا جريمة، وليس الزنا بزوجة الجار كالزنا بأجنبية، وليس الزنا بالأم كالزنا بزوجة الجار، فالذنب كبير، لكن يكبر أيضاً باعتبار متعلقه، فإذا زنيت بأمك نعوذ بالله من ذلك، والعافية من سخطه، ليس الحال كما لو زنيت بامرأةٍ أخرى، وهنا من قذف أمه زوجة نبيه عليه الصلاة والسلام فإثمه أكبر بكثير مما لو قذف امرأةً من المؤمنات الأخريات.

    1.   

    دلالة قوله تعالى: (سبحانك هذا بهتان عظيم) على براءة عائشة رضي الله عنها

    الدلالة التاسعة قول الله جل وعلا: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16]، فـ(لولا) هنا وليها الفعل فهي أيضاً تحضيضية بمعنى هلا حصل منكم هذا، وقدم الله جل وعلا الظرف (إذ) على الفعل، (ولولا إذ سمعتموه) للاعتلاء به، فالواجب المبادرة إلى إنكار هذا الكلام، ورد هذا البهتان أول سماعه؛ لأن (إذ) ظرفٌ لما مضى من الزمان، فأنت بمجرد سماعك هذا كان ينبغي أن تنكره، وأن ترده، وألا تتوقف في نفيه، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا [النور:16].

    وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا [النور:16]. أي: إذاً هلا قلتم ذلك عندما سمعتم هذا في الزمن الماضي، وبمجرد سماعه تقولون: مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا [النور:16]، ثم تتبعونه بهذه الجملة: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16]، كلمة (سبحانك) هنا تفيد أمرين معتبرين:

    الأمر الأول: التعجب من هذه المقولة نحو حرم النبي عليه الصلاة والسلام وزوجته الحصان، كيف تجرأ المنافقون اللئام على قذف أمنا؟! عائشة رضي الله عنها، هذا لا يمكن أن يصدر منا، فكيف نتهم به زوجة نبينا عليه الصلاة والسلام؟! (سبحانك) نتعجب ممن تفوه بهذا، وكيف طاوعته نفسه أن يتكلم بهذه الكلمة؟!

    الأمر الثاني: تنبيه الله جل وعلا على سلامة نبيه عليه الصلاة والسلام؛ لأن فجور المرأة طعنٌ في زوجها، فكيف يجعل الله في نبيه عليه الصلاة والسلام هذه اللوثة، وهذه المعرة، وهذه النقيصة، وهذه الرذيلة؟! فمعنى سبحانك، ننزهك يا رب أن تجعل هذا في عرض نبيك عليه الصلاة والسلام؛ لأن الطعن في زوجه طعن فيه، وحكمتك تتنزه أن تجعل هذا في نبيك على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه.

    قال أئمتنا: وهذا الكلمة (سبحانك) تفيد التقرير لما قبلها وتثبته، مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا [النور:16]، وتفيد أيضاً التنزيه والتمهيد لما بعدها، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].

    قال الإمام السيوطي في كتابه الإكليل، في صفحة ستين ومائة: قال العلماء: إن قذف أمنا عائشة رضي الله عنها كفرٌ؛ لأن الله جل وعلا سبح نفسه عند ذكره، كما سبح نفسه عند وصف المشركين له بأنه اتخذ ولداً، يقول الله جل وعلا في سورة البقرة: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116]، فهنا سبح نفسه إشارة إلى أن وصفه بأنه اتخذ ولداً يعتبر كفراً ونقيصة يتنزه الله عهنا، وهكذا وصف زوجة النبي عليه الصلاة والسلام بالزنا يعتبر كفراً، نزه الله نفسه عن الولد كما نزه الله نفسه أن يجعل زوجة النبي عليه الصلاة والسلام فيها ذلك الدنس الذي افتراه المنافقون اللئام.

    ومثل هذا قول الله جل وعلا في سورة الأنعام: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام:100-101].

    1.   

    دلالة قوله تعالى: (يعظكم الله ...) على براءة عائشة رضي الله عنها

    الأمر العاشر في قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:17-18]، يعظكم الله، وعظ زجر مقترناً بتخويف، وتذكير بالخير فيما يرق له القلب، انتبه لقوله: إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور:17]، فأبرز إيمانهم في معرض الشك ليتضمن لوعة توبيخٍ ولومٍ وذمٍ على ما جرى منهم، وليذكرهم أيضاً بالعلة في ترك الإفك، لا لنفي الإيمان عمن صدر منهم إفك من الصحابة الكرام ممن خدع بقول المنافقين اللئام، كـمسطح وحمنة وحسان رضي الله عنهم أجمعين، إنما أبرز إيمانهم في معرض الشك ليهيج شعورهم، وليزيد في نفرتهم مما صدر منهم، وليتوبوا إلى ربهم جل وعلا، يقول: فإذا كنتم تتصفون بالإيمان فكيف تقعون في الإفك والبهتان؟! هذا لا يتناسب مع الإيمان، ولذلك ينبغي ألا يتكرر منكم ذلك في وقتٍ آخر، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:17-18]، فهو العليم بما أسررتم، وبما أعلنتم، ولا يعاقب إلا بعد إعلامكم ووعظكم، وإقامة الحجة عليكم، وهو الحكيم سبحانه وتعالى، يضع الأمور في مواضعها، وهو أعلم بمن يجعل تحت نبيه عليه الصلاة والسلام، وهو الحكيم بما اختار له من أزواجه عليه صلوات الله وسلامه، ولا يمكن أن يختار له زوجةً لا تناسب طهارته وطيبه، فهو الطيب المطيب، وزوجاته طيباتٍ مطيبات عليه وعليهن صلوات الله وسلامه.

    1.   

    ذكر من قذف واتهم من الأنبياء والصالحين ونزول براءتهم

    إخوتي الكرام! قبل أن أنتقل للأمرين لدلالة الآيات على فضيلة أبي بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه، ولذكر حديث الإفك أحب أن أذكر وأوضح ما ذكرته سابقاً من أن هذه الآيات وما بعدها في تبرئة أمنا عائشة رضي الله عنها تدل على مكانتها عند الله جل وعلا، وأنه حصل لها بهذه الآيات ما لم يحصل لغيرها ممن قذفوا واتهموا بمثل ما اتهمت به رضي الله عنها وعلى أنبياء الله جميعاً ورسله صلوات الله وسلامه.

    فقد قذف نبي الله موسى، وقذف نبي الله يوسف ، وقذفت الصديقة مريم ، وقذف العبد الصالح الصديق جريج ، وهؤلاء كلهم برئوا، لكن ببراءة أقل من براءة أمنا عائشة التي برئت بكلام الله وبوحيٍ يتلى، فاستمع لما حصل لمن قبل أمنا عائشة من افتراءٍ وبعد ذلك تبرئة، وقارن بين التبرئتين: بين آياتٍ تتلى في محاريب المسلمين، ويتعبد بها المسلمون لرب العالمين، وبين تبرئةٍ تثبت المطلوب فيمن تقدم، لكن هو دون ذلك بكثير.

    براءة مريم ومناظرة الباقلاني للروم في أن براءة عائشة أوضح

    مريم الصديقة بنص القرآن: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75]، اتهمت عندما حملت بنبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه من غير زوج: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:27-28] ، فبرئت بمعجزة: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:27-33]، إلى آخر الآيات، إذاً برئت بمعجزة وهي أن ولداً في المهد يتكلم ويقول: أنا سأكون نبياً في المستقبل، وأمي طاهرة، وسأكون باراً بها، وصديقاً، فكان عيسى بأمر الله الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، هذه تبرئة وهذه تبرئة، أي التبرئتين أعظم وأوضح؟! آيات تتلى أم أن ينطق مولودٌ في المهد؟! حتماً تلك أعظم. يذكر أئمتنا في ترجمة العبد الصالح أبي بكر محمد بن الطيب بن محمد الباقلاني ، الذي توفي سنة ثلاثٍ وأربعمائةٍ للهجرة، وكان من العلماء الربانيين في هذه الأمة، يقال له: سيف السنة ولسان الأمة، وهو الذي نصر طريقة أهل السنة الكرام على مذهب الإمام التقي أبي الحسن الأشعري ، الذي استقر عليه، عليه رحمة الله وعلى أئمة المسلمين، وهو مذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، يقول أئمتنا: كان يصلي في كل ليلةٍ عشرين ترويحة، أي: أربعين ركعة، وكان يكتب كل يومٍ قبل أن ينام خمساً وثلاثين ورقةً، ولما توفي عليه رحمة الله أحصي ما كتبه من يوم ولادته إلى زمن وفاته وقسمت الأوراق على حياته فنال كل يومٍ منها عشرين ورقة، وهو من العلماء الربانيين، وسأفرد إن شاء الله محاضرةً كاملةً حول هذا الإمام المبارك وما عنده من زكاءٍ وذكاء، وكان أئمتنا يقولون: لو أوصى إنسانٌ في حياته لأذكى أهل الأرض لصرفت الوصية إليه، أنتم انظروا ترجمته في تاريخ بغداد في الجزء الخامس، صفحة ثمانين وثلاثمائة، وهو من أئمة المالكية الكبار، لذلك ترجمه القاضي عياض في ترتيب المدارك في طبقات أصحاب الإمام مالك في الجزء الرابع من صفحة خمسٍ وثمانين وخمسمائة إلى صفحة اثنتين وستمائة، وانظروا ترجمته في تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام المبارك أبي الحسن الأشعري ، وفي البداية والنهاية وغير ذلك. والذي أريده من هذه القصة من ترجمته أنه عندما أرسل إلى ملك النصارى برسالة من قبل خليفة المسلمين اختار الخليفة هذا الإمام المبارك ليقوم بإيصال هذه الرسالة ومناقشة النصارى، وما يتعلق بترجمته يسر الآذان وينور قلوب أهل الإيمان، وسأترجم له في محاضرة أخرى، فلما ذهب هذا العبد الصالح إلى هذا الملك النصراني، وأراد أن يدخل قالوا: تغير زيك، لا يمكن أن تدخل عليه بثوبٍ وعمة، فقال: أنا جئت برسالة، وأنا أدخل بهذا الزي على أمرائنا، فمن أجل أمير النصارى أغير زيي؟ لا يمكن بحال، فإما أن أدخل بهذه الحالة، وإما أن تبلغوه هذه الكتب، ويجيب عليها ويصبح بيننا مراسلة، فكلموا الملك وما يدخل عليه إلا بزيٍ معين، فاستثناه من هذه المراسيم وهذه الضلالات التي عندهم، ثم عندما أراد أن يدخل كان من دخل يسجد له، وهو يعلم أن الذي امتنع عن تغييره لن يسجد لملك النصارى من بابٍ أولى، فاحتال هذا الملك اللعين على شيخ المسلمين فوضع عرشه وكرسيه في حجرةٍ، وجعل الباب نازلاً بحيث لا يدخل الإنسان إليه إلا إذا انحنى، وجلس هو مقابل الباب، فينحني ويمشي منخفضاً وكأنه راكع، ثم عندما يصل إلى الكرسي أمام الملك يكون كأنه راكع فقد أدى التحية، فقيل له: ادخل الملك في هذه الحجرة، فلما رأى أن الباب منخفض عرف الحيلة من ذكائه، فاستدبر الباب وبدأ يمشي إلى الوراء حتى دخل إلى ملك النصارى ومؤخرته في وجه الملك، ثم قام وانتصب بعد ذلك لئلا يكون في هيئة الراكع له، فبهت الملك من ذكائه، وهو الذي قصم الشيعة والرافضة في زمانه، وقصم جميع المبتدعة، وكان الشيعة إذا رأوه يقولون: جاء الشيطان، فيتلو عليهم قول الرحمن: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83]، جاء الذي يقصم ظهوركم، وهكذا المعتزلة، وهكذا غيرهم رحمه الله ورضي الله عنه، فلما دخل الإمام أبو بكر بن الباقلاني على هذا الملك اللعين النصراني صار بينهما مباحثات طويلة، من جملتها أنه قال: أخبرنا ماذا جرى لزوجة نبيكم عليه الصلاة والسلام؟ ويريد هذا اللعين أن يعرض بها بحادثة الإفك، فاستمع للجواب المحكم من هذا الذكي الزكي التقي، قال: أيها الملك! أخبرنا الله جل وعلا عن امرأتين في كتابه اتهمتا: واحدةٌ بكرٌ عذراء اتهمت فولدت، وواحدةٌ مزوجة اتهمت ولم تلد، وبرأهما الله جل وعلا، فمن أولى بالتهمة؟ أنتم تقدسون مريم ، وتقولون: هي ثالث ثلاثة، هي اتهمت وأمنا عائشة اتهمت، وكلٌ منهما برأها الله جل وعلا، أما أمنا عائشة فلها زوج ولم تلد، وتلك بكر اتهمت وولدت، فإذا وقعت أمنا عائشة فيما اتهمت به على التسليم، يمكن أن يصدق سفيهٌ بهذه التهمة، فالتصديق بتهمة تلك من بابٍ أولى، فما استطاع أن يتكلم الملك، بل قال: صدقت، صدقت، يعني لا جواب لهذا إلا هذا، كلاهما برأهما الله جل وعلا، هذه بريئة وهذه بريئة، وهذه طاهرة وهذه طاهرة، كلاهما مطهرتان، لكن أي البراءتين أعظم وأقوى؟ من برئت بآياتٍ من القرآن أو من برئت بمعجزةٍ أن ينطق ابنها وهو في المهد؟ حتماً تلك أقوى وأوضح وأظهر، وتبقى خالدة باقيةً إلى يوم القيامة يؤجر الناس على تلاوتها بكل حرفٍ عشر حسنات، فشتان شتان ما بين التبرئتين. ثم قال هذا العبد الصالح أبو بكر بن الباقلاني لقسيس النصارى الذي يجلس عند الملك: كيف الأهل والأولاد؟ فنخر هو وأصحابه وقالوا: ما أجهلك، هذا قسيس، ولا يمكن أن يكون له زوجةٌ ولا أولاد -نعم، لا يتزوجون، لكنهم يزنون ويلوطون- فقال أبو بكر بن الباقلاني : سبحان الله! تنزهون أنفسكم عن شيءٍ لا تنزهون عنه ربكم، وأنتم تقولون: إن الله اتخذ ولداً، كيف يتنزه القسيس عن الزوجة ولا تنزهون الله عن الزوجة؟ في مناظراتٍ كثيرة دامت معهم. ثم قال هذا القسيس الملعون للملك: أيها الملك! إن لم يخرج هذا من مملكتك في هذا اليوم فسيفسد عليك أهل دينك، انتبه، هذا لو تأخر مقامه النصارى كلهم سيوحدون الله في هذه الساعة، فجهزه وأرسله مباشرةً تخلصاً منه، فالشاهد هنا هو أن مريم طاهرةٌ مطهرةٌ صديقةٌ قانتة، برئت بواسطة نطق ابنها في المهد، وأمنا برئت بواسطة قرآنٍ يتلى من كلام الله جل وعلا.

    براءة يوسف عليه السلام ومعنى قوله تعالى: (وهمَّ بها)

    نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه اتهم، قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25]، اتهم وبرئ كما سيأتينا بعدةٍ براهين، لكن شتان بين تبرئة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وبين تبرئة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فهي برئت بقرآن، وهو برئ بأشياء أخرى.

    إخوتي الكرام! كل من له اطلاعٌ ومشاركةٌ وعلمٌ بحال نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يجد أنه: أولاً: هو نفسه أقر بأنه بريء، قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف:26]، ويقول هذا، قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33]، إذاً هو برأ نفسه بنفسه.

    الأمر الثاني: المرأة التي هي طرف في القضية أقرت بأنه بريء، وأنه ما فعل شيئاً، ولا أراد الاعتداء عليها، إنما هي المعتدية، وهي المراودة المتعرضة، قالت: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:32]، وقالت: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51].

    الثالث: زوجٌ المرأة اعترف ببراءة يوسف، إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28]، ويوسف لا صلة له بهذا الافتراء والإفك المبين.

    الأمر الرابع: الشهود، وقد أنطق الله غلاماً في المهد فقال: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27]؛ لأنه إذا جاء يريد أن يعتدي عليها ستدفعه عنها، وعندما تدفعه ستتمزق ثيابه من الأمام، وإذا كانت تطالبه وهو يهرب منها فستجره من ثيابه من الخلف وستتمزق ثيابه من الوراء، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28].

    الله جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية شهد ببراءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فقال: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ [يوسف:24]، (إنه من عبادنا المُخلَصين)، قراءتان متواترتان عن نبينا عليه الصلاة والسلام، قرأ المكي عبد الله بن كثير والبصريان: أبو عمرو بن العلاء ويعقوب الحضرمي ، والشامي عبد الله بن عامر بكسر اللام، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ [يوسف:24]، بصلة اسم الفاعل، وقرأ الستة الباقون المدنيان والكوفيون الأربعة: (إنه من عبادنا المخلَصين)، وعلى القراءتين فيهما دلالةٌ على نفي هذه التهمة عن نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فهو ممن أخلصهم الله لنفسه، وممن يخلصون لله جل وعلا، فلا يقعون في ذلك الدنس، وكلٌ من القراءتين حقٌ وثابت، ومعناه صحيحٌ في القرآن، فقراءة: المخلَصين؛ لأن الله أخلصهم لنفسه، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46]، والمخلِصين، أخبرنا الله عنهم أنهم يخلصون أعمالهم لرب العالمين، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14]، فمن أخلص في عمله لربه فهو مخلص، ومن استخلصه فهو مخلَص، فالله جل وعلا إذاً شهد بأن نبي الله يوسف مخلِص ومخلَص، وإذا كان كذلك فلم يقع في الدنس، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، المخلِصين.

    فهؤلاء خمسة شهود نبي الله يوسف والمرأة وزوجها والشاهد الذي من أهلها، والله رب العالمين الذي لا تخفى عليه خافية، والسادس إبليس الذي يكون مع الناس في كل حين ويجري منهم مجرى الدم في عروقهم، فقد شهد أيضاً ببراءة نبي الله يوسف؛ لأن الله جل وعلا حكى عنه أنه لا يستطيع أن يغوي عباد الله الطيبين المخلَصين، فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، فمن استخلصته وكان مخلصاً لا أستطيع أن أغويه، فهذه شهاده من هذا اللعين إبليس أنه لا سبيل له على هذا النبي الكريم العزيز.

    وهذه البراءة التي حصلت ليوسف عليه السلام دون البراءة التي حصلت لأمنا عائشة رضي الله عنها إجلالاً لنبينا عليه الصلاة والسلام.

    والإمام الرازي عليه رحمة الله بعد أن قرر ما ذكرته من أن كل من له تعلقٌ بالقضية أقر ببراءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ختم كلامه بكلامٍ في منتهى الإحسان رحمه الله ورضي الله عنه، فقال: سنقول بعد ذلك لمن حكى تلك الروايات عن نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عند قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24]، نقول لمن حكى الروايات بأنه جلس منها مجلس الرجل من زوجته، وأنه تكة سراويله، وأنه رأى يعقوب على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عاظاً على أنامله فلم يتعظ حتى ضربه بعد ذلك في ظهره، فخرجت شهوته من تحت أظفاره، إلى غير ذلك من هذا الهذيان.

    قال الإمام الرازي : يقال لمن يورد هذه الروايات: إن كنتم من عباد الله ومن أتباع الله ومن المؤمنين بالله فاقبلوا شهادة الله على براءة نبي الله يوسف، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وإن كنتم من جند إبليس وأعوانه فاقبلوا شهادة إمامكم في تبرئة نبي الله يوسف، يعني أنتم بين أمرين: إما أن تكونوا من عباد الله، وإما من أتباع الشيطان، وربنا جل وعلا، وهذا اللعين إبليس شهدا ببراءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.

    والهم المذكور في الآية فسر بأمرين لا يجوز بعد ذلك حمل الآية على غيرهما، أقوى القولين: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ [يوسف:24]، قف هنا، وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24]، طبق ما قلنا، (لولا) حرف امتناعٍ لوجود، لولا رؤية البرهان لهمّ، إذاً امتنع الهم برؤية البرهان، وعليه فما حصل منه همٌ مطلقاً، (ولقد همت به)، معروفٌ همها وماذا فعلت لتمكينها منها. قال الإمام أبو حيان : وهذا أقوى الأقوال، وهو أحراها وأقواها من حيث العربية. والبرهان هو أنه نبي الله، والله جعل في قلوب أنبيائه طهارةً وعصمةً، فلا يمكن أن يقعوا في الدنس، إذاً لولا أنه نبي ونفسه طاهرةٌ مطهرة لوقع في تلك المراودة التي فعلتها المرأة.

    والمعنى الثاني: أن المراد من الهم هنا نوازع الطبيعة البشرية التي لا تزيد على الهاجس وخاطر النفس فقط، تحركت نوازع الطبيعة البشرية، ثم زمت بزمام التقوى، وأنني نبي ولا ينبغي أن أفكر ولا أن أتعرض لمثل هذا الدنس بوجهٍ من الوجوه، فلو قدر أن إنساناً تعرضت له امرأةٌ ونوازعه الطبيعية تحركت، فقال: يا نفس! اتق الله، وقفي عند حدود الله، لا حرج عليه في ذلك، والقول الأول أقوى القولين.

    وكلام الرازي عليه رحمة الله في منتهى الإحسان والإتقان، وما علق به شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان على كلام الإمام الرازي فيه قسوة، ولا ينبغي أن يقال في حق هذا الإمام المبارك، يقول الشيخ الكريم في الجزء الثالث، صفحة ثمانٍ وخمسين، يقول: وكلام الرازي بأنهم إن كانوا من عباد الله والمؤمنين به فليقبلوا شهادته، وإن كانوا من جند الشيطان وأعوانه فليقبلوا شهادته، ثم قال الرازي : ولعل من يتعلق بهذه الأخبار ويقولها لعله يقول: كنا من تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا في السفاهة عليه، كما قال بعضهم:

    وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي

    فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسقٍ ليس يحسنها بعدي

    يقول شيخنا عليه رحمة الله: وقول هذا في التعقيب على من قال بتلك الروايات قول لا يخفى ما فيه من قلة الأدب، مع من قال تلك المقالة من الصحابة وعلماء السلف، وعذر الرازي اعتقاده أن ذلك لم يثبت عن أحدٍ من السلف.

    وحقيقةً: أنا أعجب غاية العجب من الشيخ الكريم كيف يقرر هذا ثم هو ينقض كلامه؟! فاستمعوا ماذا يقول، ثم قال في صفحة ثمانٍ وستين، يعني: بعد عشر صفحات متتالية: وأما النصوص الواردة عن الصحابة بأنه حصل من نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ما حصل، وحكى روايات عن ابن عباس وغيره أنه فك تكة السراويل إلى غير ذلك من الكلام الهزيل، يقول: أما الروايات التي نقلت عن الصحابة في هذا المقام، فتنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول لم تثبت صحته، انتهينا منه.

    والقسم الثاني ثبتت صحته عمن قال به، والظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين أنهم تلقوه عن الإسرائيليات، فـابن عباس إذاً حدث بما في كتب أهل الكتاب، ولم يأخذه من النبي عليه الصلاة والسلام، وتلك الروايات فيها كذبٌ وتلفيقٌ وتغييرٌ وتحريف، وعليه فليس هذا القول قولاً لـابن عباس ، ثم قال الشيخ: وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول: بأن نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه جلس بين رجلي كافرة، ثم قال: وفي الروايات التي وردت في ذلك لوائح الكذب، وقد دل القرآن على براءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأي قلة أدب إذاً في كلام الشيخ الإمام الرازي عليه رحمة الله عندما قال ما قال في حق من حكى تلك الروايات؟!

    وحقيقةً: مثل هذه العبارات تصدر أحياناً من بعض العلماء، ويتساهلون فيها، ولعله لو أعاد النظر في كلامه لحذفها، ومثل هذا لا يجوز أن يقال في التعليق على كلام الإمام الرازي بحال، فكلامه حق ولا شك، ولم يثبت هذا عن أحدٍ من الصحابة أنه قاله أو نقله عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولو قدر أن صحابياً حكى هذا عما في كتب أهل الكتاب ففيها زورٌ وبهتان، فالكلام إذاً صحيح ولا غبار عليه والعلم عند الله جل وعلا.

    تبرئة موسى بما هو دون تبرئة أم المؤمنين

    النبي الثالث الذي اتهم نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، اتهم أيضاً بالزنا كما اتهم بغيره، وقد برأه الله جل وعلا، لكن البراءة التي حصلت له مما اتهم به دون البراءة التي حصلت لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

    ثبت في المستدرك، والأثر في الجزء الثاني، في صفحة تسعٍ وأربعمائة، وإسناده صحيحٌ على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبي ، والأثر رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وابن المنذر في تفسيره، وابن أبي حاتم في تفسيره، وابن راهويه في تفسيره أيضاً كما في الدر المنثور في الجزء الخامس، صفحة ستٍ وثلاثين ومائة، ولفظ الأثر عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن قارون -عليه وعلى سائر العتاة لعنة الله جل وعلا في جميع الأوقات -أرسل بغياً إلى نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، لتقوم في مجلس نبي الله موسى إذا قام ليعظ الناس وتقول له: إنك زنيت بي، بغي تقول لنبي الله موسى هذا في وسط المجلس، وهذا حصل بعد مناظرةٍ جرت بين نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه وبين اللعين قارون ، فعندما أمرهم نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام بإخراج الزكاة امتنع قارون ، ثم في خلال الكلام قال له: ما حكم من يزني في شريعتك؟ قال: الرجم، قال: وإن كان أنت؟ قال: وإن كنت أنا، من يزني يرجم، فانفض المجلس ثم أرسل إلى بغي وأعطاها مبلغاً من المال لتقذف نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه على رءوس الملأ من بني إسرائيل، فقامت وتكلمت، فسجد نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه لربه والتجأ إليه وطلب منه أن يظهر الحق، ثم قال لها: تكلمي وقولي الحق، فبدأت تتلعثم وتتردد، قال: تكلمي، ودعا الله أن ينطق لسانها، فقالت: أرسل إليّ قارون وأعطاني مبلغاً من المال وهو عندي وأمرني أن أقذفك على رءوس الملأ من بني إسرائيل، فسجد نبي الله موسى مرةً ثانية لربه، وقال: رب أسألك أن تسلطني وأن تمكنني وأن تجيبني في هذا اللعين قارون ، فقال الله له: قد أمرت الأرض أن تطيعك، فمرها بما شئت نحو هذا، فقال لها: يا أرض خذيه، فأخذته إلى ركبتيه، فقال: يا موسى! أسألك الله والرحم، قال: يا أرض خذيه، فأخذته إلى سرته، قال: يا موسى! يا أرض خذيه إلى ثدييه، فأخذته، فقال القوم: إنما فعل موسى هذا بـقارون ليأخذ ماله، فقال: خذيه وماله، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].

    هذه براءة واضحة، وثبتت عفته وطهارته وصيانته ونقاء عرضه بمعجزةٍ عظيمة واضحةٍ لبني إسرائيل، لكن دون ما حصل لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، كما اتهم أيضاً رضي الله عنه وأرضاه بتهمٍ أخرى، وقد برأه الله مما اتهم به، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، من جملة ما أوذي به على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ما ثبت في الصحيحين وسنن الترمذي وغير ذلك من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان نبي الله موسى حيياً، فإذا أراد أن يغتسل يذهب إلى مكانٍ بعيد على شاطئ البحر ويغتسل بعيداً عنهم، فقالوا: ما يمتنع موسى من أن يغتسل معنا وبيننا إلا لعيبٍ فيه؛ إما أنه آدر)، أي: به أدرة وهو انتفاخ الخصيتين، وإما لبرصٍ فيه، وإما لآفةٍ أخرى لا نعلمها، سبحان ربي العظيم، إذا اتصف الإنسان بالحياء يتهم بالبلاء، (فذهب نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يغتسل بعيداً عنهم، فوضع ثوبه ووضع الحجر عليه من أجل أن يمسكه لئلا يطيره الهواء، فأراد الله أن يبرئه مما اتهم به، وأنه ليس آدر وليس به برص، فأمر الله جل وعلا الريح أن تحمل ثوبه، فحملت ثوبه إلى المكان الذي فيه بنو إسرائيل، فبدأ نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يمشي وراء ثوبه وينادي: ثوبي حجر، ثوبي حجر، أي: يا حجر امسك الثوب وثبته، حتى وصل الثوب إلى الملأ من بني إسرائيل، فنظروا إليه فلم يروا به آفةً؛ لا أدرة ولا برصاً ولا شيئاً، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69] ).

    واتهم أيضاً بأنه قتل أخاه هارون على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، ثبت ذلك في تفسير ابن أبي حاتم وتفسير الطبري ، قال الإمام ابن حجر : ورواه أحمد بن منيع في مسنده بإسنادٍ قوي، انظروا الجزء الثاني صفحة أربعٍ وثلاثين وخمسمائة في فتح الباري، وخلاصة الأثر: عن عليٍ رضي الله عنه وأرضاه قال: صعد موسى وهارون على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه الجبل، فمات هارون، فلما دفنه ورجع إلى بني إسرائيل قالوا له: أنت قتلت هارون، وكان رفيقاً بنا، وأنت فيك غلظة، فقتلته لتتخلص منه، فأمر الله الملائكة أن تحمل نبيه هارون على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فحملته، بعد أن دفن، وأتت به إلى الملأ من بني إسرائيل، فمرت به على مدارس بني إسرائيل، ثم تكلمت الملائكة بموته، وأنه مات ولم يقتله نبي الله موسى، فآذوه وبرأه الله مما قالوا، هذه الأمور مجتمعة أوذي بها نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، الشاهد منها في بحثنا الأمر الأول: اتهم بالعهر فبرأه الله وأثبت له تمام الطهر على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.

    الأثر الثاني والثالث أوردهما الإمام الطبري في تفسيره وقال: يحتمل أن يكون هذا هو المراد بالأذى، وجائزٌ أن يكون الأول، يعني إما أنه في بدنه آفة من أدرة أو برص، أو أنه قتل نبي الله هارون، ذكر الثاني والثالث ولم يذكر الأول، يقول: يحتمل أن يكون هذا أو هذا هو المراد، فلا قول أولى من قول الله تعالى مخاطباً المؤمنين: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [الأحزاب:69].

    الإمام ابن حجر في الفتح حكى القولين ثم قال: لكن ما في الصحيح أصح من هذا، وهو الحديث الذي رويته عن أبي هريرة في الصحيحين: أنه لا يغتسل معهم إلا لعيبٍ في بدنه، ثم قال: لا مانع أن يكون للشيء سببان فأكثر، وأنا أقول: يضم إلى السببين السبب الثالث، وهذا الذي يفهم من كلام الإمام ابن كثير في تفسيره في الجزء الثالث صفحة عشرين وخمسمائة، يقول: يحتمل أن يكون الكل مراداً، بعد أن أورد السبب الثاني والثالث أيضاً، ثم قال: وأن يكون معه غيره أيضاً، وهو السبب الثالث، وقد أورده عند قول الله جل وعلا: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص:79]، عند قصة قارون .

    إذاً هذا شخصٌ ثالث اتهم وبرئ، لكن براءة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أعلى مما حصل لغيرها من أنواع البراءات.

    تبرئة جريج بما هو دون تبرئة أم المؤمنين

    الشخص الرابع وهو آخر الأصناف: العبد الصالح جريج أيضاً، صالحٌ صديق اتهم بالزنا، وبرأه الله جل وعلا مما اتهم به بمعجزةٍ، لكن دون ما حصل لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها من البراءة، حديثه أيضاً ثابت في المسند والصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)، نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وصاحب جريج ، والغلام الذي كان في حجر أمه.

    أما صاحب جريج فهو محل الشاهد، كان العبد الصالح جريج رجلاً صالحاً، يعبد الله في صومعته، فنادته أمه يوماً وهو يصلي: يا جريج ! قال: اللهم أمي وصلاتي ولم يجبها، ثم نادته بعد ذلك: يا جريج ! وهو يصلي، قال: اللهم أمي وصلاتي، ثم نادته بعد ذلك: يا جريج ! قال: اللهم أمي وصلاتي، والإنسان إذا كان يصلي نافلةً ونادته أمه وجب عليه أن يقطع النافلة وأن يجيب أمه، ولو كان جريج فقيهاً لأجاب أمه، لكن هذا الذي حصل منه، فلما لم يجبها في المرات الثلاث دعت عليه، ولم تزد على أن قالت: اللهم لا يموت جريج حتى يرى وجوه المياميس، يعني: وجوه الزانيات، هذا الذي غدا؛ ليتعبد في صومعته، ولا يعرف حق أمه عليه، لا يموت حتى يرى وجوه الزانيات، ولم تدع عليه بما هو أشنع، وكان هناك امرأةٌ بغي في ذلك المكان فاتصل بها راعٍ يرعى الغنم، ثم حملت وولدت، فقيل لها: من أين؟ قالت: من جريج ، هذا الذي يعبد الله في هذه الصومعة، فجاءوا إليه دون إنذارٍ أو إعلام، معهم المعاول والمساحي، فبدءوا يضربون صومعته، ولولا أنه خرج لأسقطوها عليه وقتلوه، وقالوا: أنت زنيت بهذه المرأة، وهذا الولد منك، قال: أين الولد هاتوه، فأتي بالولد، فنقر على بطنه وقال: أيها الولد الصغير، من أبوك؟ من ماء من خلقت؟ وكان الولد في ذاك الوقت في المهد، قال: فلان الراعي، فأكبوا يقبلون يديه ورجليه، وفي الصحيح أيضاً يتمسحون به، وقالوا: نعيد صومعتك لبنةً من ذهب ولبنةً من فضة، عندما ظهرت كرامته ومنزلته، قال: لا، أعيدوها كما كانت، رأى وجوه المياميس، واستجيبت الدعوة، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا بارين بآبائنا وأمهاتنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فبرئ هذا العبد، لكن براءته دون ما حصل لأمنا عائشة رضي الله عنها من البراءة.

    أما الثالث الذي تكلم في المهد، كما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (وبينا امرأة ترضع صبياً لها، إذ مر عليها راكبٌ على دابةٍ فارهة وله شارة)، دابة فارهة، أي: منعمة مزينة جميلة ثمينة، وله شارة، أي: لباس. شارة: علامات كما هو الحال في علامات أهل الدنيا من الشرطة والجيش وغير ذلك، (فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وهو لا يتكلم في المهد، وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم مرت هذه المرأة بأمةٍ مسكينةٍ يضربها الناس ويقولون لها: زنيتِ سرقتِ، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، يضرب ويؤذى ويتهم، فترك الثدي وقال: اللهم اجعلني مثلها)، فعلمت الأم أنه كما تكلم يمكن أن يعي ويجيب، فقالت: (حلقى، أي: أصابك الله بداءٍ في حلقك، ثم ذكرت له ذاك؛ تقول: اللهم لا تجعلني مثله، وهو له شارة ويركب على دابة فارهة، وهذه تضرب وتتهم بالزنا والسرقة وتقول: اللهم اجعلني مثلها، قال: يا أماه! -وهو في المهد- ذاك جبارٌ من الجبابرة، وهذه مسكينةٌ لم تزن ولم تسرق، تتهم فقط من قبل الناس، فإذا كنت مسكيناً فهو خيرٌ من أن أكون جباراً).

    الشاهد أن العبد الصالح جريج اتهم بالزنا، فشهد ببراءته غلام في المهد، فحصلت البراءة لـجريج لكنها دون ما حصل لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وما ذلك إلا لمكانتها عند الله، ومكانة نبينا عليه وآله وصحبه وأنبياء الله جميعاً ورسله صلوات الله وسلامه.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755969327