وفي هذه المادة بيان لهدي السلف في النصيحة، وذكر آدابها.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعـد:
فأشكركم -أيها الطيبون- وأشكر من جمعني بالأخيار، وعلى رأسهم من كان له هذا الفضل في هذا اللقاء بعد الله، فضيلة الشيخ جابر بن محمد المدخلي، الأمين العام للتوعية الإسلامية، وعنوان هذه المحاضرة: أدب النصيحة في الإسلام.
أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا |
أترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقه الندى إكليلا |
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلا |
أنت فينا النصوح فارفق جزاك الله خيراً فالرفق أهدى سبيلا |
-النصيحة في الكتاب والسنة.
-هدي السلف في النصيحة.
-آداب النصيحة.
-الإخلاص.
-اللين.
-العمل بما يقول.
-الصبر على الأذى.
-إنزال الناس منازلهم في النصيحة.
-الإسرار بالنصيحة.
لا إله إلا الله، ما أعظم منة الله على البشرية بمحمد عليه الصلاة والسلام! بعث إليهم رحيماً رفيقاً هادياً مهدياً، ما ترك خيراً إلا دلهم عليه، ولا ترك شراً إلا حذرهم منه، كان والله أرحم من الوالدة بولدها يوم هدى الناس، ولذلك مجده الله من فوق سبع سماوات فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] عظيم خلقك، وعظيم حلمك، وعظيم برك، وعظيم صبرك، أتيت إلى أمة عربية جوفاء، ضالة ضائعة، تسجد للوثن، تزني، تخون، تغش، تشرب الخمر، الواحد منهم يرفع سيفه فيذبح أخاه كذبح الشاة، فأتى إليهم فترفق بقلوبهم قال الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] فدخل إلى قلوبهم بالبسمة الحانية، بالعناق، بالبشاشة، بالكلمة الطيبة، حتى قال الله له ولدعوته: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].
فجمع الله له القلوب، قال جرير بن عبد الله البجلي سيد بجيلة وهذا الحديث صحيح: [[ما رآني عليه الصلاة والسلام إلا تبسم في وجهي]] مع معنى ذلك؟ بسمة تشتري بها قلبه، بسمة تأسر بها روحه، بسمة تكسب بها شخصه، بسمة تهتدي بها أمة، فكان عليه الصلاة والسلام يشتري بالبسمات قلوباً.
جرير سيد من سادات قومه، ومكث عليه الصلاة والسلام يتألفه بالبسمة اليوم بعد اليوم، بالكلمة الحانية، حتى هداه الله إلى الإسلام فأصبح سيداً من السادات.
يقول جرير بن عبد الله، والحديث في الصحيحين: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فاشترط علي والنصح لكل مسلم. فيقول
أرأيت منهج محمد صلى الله صلى الله عليه وسلم الذي شق العالم في خمس وعشرين سنة، جلس مع قبائل متحاربة متضادة، كما قال بعض المفكرين: نحن العرب كقرون الثوم، إذا كشفت قرناً ظهر لك قرون. فلولا أن هذا المصطفى عليه الصلاة والسلام، أتانا بدعوة ربانية، وبخلق حسن، والله ما لانت له قلوبنا, قال الله فيه وفي دعوته: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] أهل السنة لا يسكتون عن المنكر، قال سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورفع منـزلته: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بلا منكر، ما أحسن هذه الكلمة!
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا |
والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن النصيحة علامة النفاق، قال الله سبحانه في بني إسرائيل: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79] وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة قال الراوي: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم}.
قال أهل العلم: النصيحة لله بامتثال أمره واجتناب نهيه تبارك وتعالى. والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم بتجريد المتابعة له، بأن تجعله إماماً لك. والنصيحة لكتابه أن تقرأه، وتتدبره، وتعمل به، والنصيحة لأئمة المسلمين؛ ألا تشق عصى طاعة عليهم ما أطاعوا الله، وألا تفضحهم على رءوس الناس ما لم يظهروا كفراً بواحاً، وأن تصلي وراءهم، وأن تجاهد تحت رايتهم ما لم تر كفراً بواحاً عندك من الله فيه برهان، وأن تجمع الكلمة لهم، وأن تدعو لهم في ظهر الغيب بالصلاح والهداية. والنصيحة لعامة المسلمين؛ أن تحب لهم ما تحب لنفسك، وأن تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {حق المسلم على المسلم خمس -وفي رواية: ست- وذكر منها: وإذا استنصحك أن تنصح له} ما أحسن الكلام! ألا تغشَّه، وألا تفظَّ بأسلوبك عليه، وألا تجرح مشاعره، وألا تفضحه على رءوس الناس وهذا هدي الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
أزورهم وظلام الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي |
كم زورة لك في الأعراب داهية أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب |
قبل هذا، حفظ عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[إذا رأيت الناس يتناجون في أمر دينهم، فاعرف أنهم على دسيسة]] اعرف أنهم غشوا الله ورسوله، الإسلام واضح، مبادئنا تعلن يوم الجمعة على المنبر، مبادئنا تسمع على المنارة، ليس لدينا ألغاز ولا شيء نتستر به، عندنا وفي قلوبنا وعلى ألسنتنا وفي أيادينا وفي أقلامنا وفي صحفنا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) نكلم بها الرئيس والمرءوس، والغني والفقير، والرجل والأنثى.
جاء أبو سفيان فطرق الباب على علي، يوم تولى أبو بكر الخلافة؛ لأن أبا سفيان ينظر إلى بني هاشم، ويريد أن يتولوا هم الخلافة؛ لأنه حديث عهد بجاهلية وما هضم فكرة أن يتولى أبو بكر الخلافة؛ لأن أبا بكر من تيم وهي أسرة ضعيفة. طرق الباب على علي، من هو علي؟ تربى في القرآن، عرف النصيحة، عرف الأدب، عرف كيف يتعامل مع الكتاب والسنة، رضع الرسالة الخالدة، ففتح الباب في ظلام الليل، قال أبو سفيان: يا علي! كيف يتولى أبو بكر الخلافة، وهو تيمي وأنت من بني هاشم؟ إن شئت ملأت لك المدينة خيلاً جرداً وشباباً مرداً. فهو يريد القتال، قال علي وأخذ بتلابيب أبي سفيان: يا أبا سفيان! المؤمنون نصحة، والمنافقون غششة.
رضي الله عنك، ما أصدقك في ظلام الليل! لقد سمع الله كلمتك الخالدة؛ المؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، يريد بك التشهير أو الغش، أو يريد أن يظهر على كتفيك، وأما الناصح فإنه يريد أن يستنقذك من النار، ولذلك جاء في الصحيح، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أنا النذير العريان} النذير العريان عند العرب، هو الرجل يأتي من المعركة فيخبر قومه بالهول أو بالجيش فيخلع ثوبه فيصبح عرياناً، هذا في الجاهلية، قال: أنا كالنذير العريان. وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {مالي آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون فيها تهافت الفراش} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
إن الله عز وجل أخبرنا بآداب النصيحة، وما كل من نصح عرف كيف ينصح، ولا كل من دعا عرف كيف يدعو، ولا كل من أراد الخير وفق له، ورب كلمة منعت ألف كلمة، ورب خطوة أخرت عن ألف خطوة.
أرسل الله موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون، فقال لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] قال أبو أيوب وعلي، كما نقل ذلك ابن كثير في تفسيره ونقل عن سفيان: القول اللين هو أن يكنياه بكنيته. أي: إذا أتيتم إلى فرعون، فقفا في البلاط الملكي، وتكلما معه بكلمة حانية، لا تجرحا شعوره، الرجل عاش على الملك، الرجل طاغية، الرجل مجرم، فإن جرحتم مشاعره فلن يهتدي أبداً، قولا له قولاً ليناً، قال أهل العلم: كنياه بالكنية. وكنيته: أبو مرة مرر الله وجهه بالنار وقد فعل، قال أبو أيوب: كنية فرعون أبو مرة.
فدخل موسى وكان يتلعثم في الكلام، وقال: يا أبا مرة! وهذه تفتح الصدر، وأنت مثل لنفسك أن رجلاً يدعوك، فيقول: يا أبا محمد! يا أبا عصام! يا أبا أنس! ينفتح صدرك، قال عمر: [[ثلاث تكتب لك الود في صدر أخيك: أن تدعوه بأحب الأسماء إليه، وأن توسع له في المجلس، وأن تبدأه بالسلام]] قال الشاعر اليمني:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب |
كذاك أُدبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب |
أتجرحني لتنصحني؟
أتشتمني لتردني؟
أتفضحني لتهديني؟
أنا لن أطيعك ولن أوافقك؛ لأن مشاعر الإنسان لا تعيش إلا على الرضوان، والإنسان لا بد أن تشعره بمكانته وبفضله وبحسناته.
أما آداب النصيحة فكما يلي:
وبعض الناس لا يريد بالنصيحة وجه الله، ظاهرها نصيحة وباطنها فضيحة، يريد بها أن يشفي غلاً في قلبه، من حسد هذا الرجل أو هذا الجيل أو هذه المؤسسة، فقام على رءوس الناس ينقدها، ويجرحها، ويفضحها، فيقول الناس: جزاك الله خيراً من ناصح، وفي قلبه غليان على هؤلاء، لا يريد الخير ولا التوفيق وإنما البغي والحسد.
ومنهم: من يريد بهذا الانتقام لموقف نسبي مرَّ معه، فإن بعض الناس إذا صادفه موقف عارض؛ قام على رءوس الناس ينتقم من المسلمين، ويفضح سرائرهم، ويشخص أمراضهم، ويضخم أخطاءهم، وهذا غير منهج أهل السنة والجماعة.
أهل السنة لهم طريق آخر في نصيحة العامة، فهم ينصحون العامة على ملأٍ من الناس، فيبينون أخطاءهم لهم لا أسماء، وبلا أشخاص، كان إمامهم عليه الصلاة والسلام يرى الخطأ فلا يقول للرجل أخطأت، ولكن يصعد المنبر فيقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا. وإني أشكر فضيلة الشيخ جابر هذه الليلة، يوم وجه الملاحظة الأولى توجيهاً عاماً مطلقاً لم يقيده بهيئة أو بشخص أو بصحيفة، وهكذا ينبغي، فصاحب الخطأ يدرك خطأه وهو جالس، وهو مستور والحمد لله، ويصحح مساره، أما أن تخبر باسمي، وبمسكني، وعنواني، وتلقي فيَّ محاضرة، أنا سوف أعمى تماماً، أنا سوف أسل سلاحي وأنتقم، أنا سوف أدافع عن كرامتي إلى آخر قطرة من دمي؛ لأن هذه أصبحت معارك متبادلة، أو استحداث خصومات مع القلوب، وأصبح فيها من الفتنة ما الله به عليم.
لكل إنسان مكانه، من الذي لا يرى مكانته؟ من الذي يحتقر نفسه؟ من الذي لا يرى أن ينبغي أن يحترم بقدر ما فيه من الخير؟
المقصد الأول: أن تبرئ ذمتك من هذه النصيحة التي في عنقك، ولا تكتم علماً يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160].
الناس أمام هذه الآية ثلاثة أقسام: أما الكفار أنا لا أتحدث فيهم فهم في منزلة الحمير.
المسلمون أمام هذه الآية ثلاثة أصناف: صنف يأمر بالمعروف بالمعروف وينهى عن المنكر بلا منكر، ويعطي كل مسألة حجمها ومساحتها، العقيدة لها حجمها، والسنن بحجمها، والآداب والسلوك، فهو مهتدٍ على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاك هو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم، ووارث علم النبوة، وهو الذي يصلح الله به، وهو الذي يستمر، وهو كالشجرة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وهو كالعين النابضة بالحياة، وهو كالمشكاة التي تلقي نورها، وهو كالشمس، وهو وهج في ظلام الليل.
وقسم آخر: أطلق الحبل وفلت الأمور، وكسر المعاريض، وخندق الطرق بحجة اللين، يرى المنكرات كالجبال ويقول: لا. الإسلام ليس دين تطرف ولا تزمت، لا تنكروا على أحد، كلنا على خير، ومع الخيل يا شقراء! وكلنا مأجورون، والله غفور رحيم، ولا تشوشوا علينا، ولا تثيروا الخلاف. قلنا: حنانيك يا بارد القلب! حنانيك يا ميت الروح! الغيرة ماتت في روحك فأنت لا تتحرك، ولذلك بعض الناس كأنه في ثلاجة، يرى المنكرات كالجبال، ولا يتمعر وجهه، ولا يتغير، ولا يقول كلمة ولا ينبس بلفظة؛ بحجة أن الإسلام يسر، وأن الإسلام دين عدالة ودين تراحم وتآخ، كلمة حق أراد بها باطل، هذا متسيب وهذا لا ينتج.
أين غيرتك يا فلان من غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه؟ يقول عليه الصلاة والسلام وقد سأله سعد: {يا رسول الله! لو وجد أحدنا مع امرأته رجلاً ماذا يفعل؟ -أي: وجده مع امرأته أجنبياً في بيتها ماذا يفعل؟- قال عليه الصلاة والسلام: يذهب فيأتي بأربعة شهداء} هذا حقن للدماء، وحكمة، وحفظ للأرواح والأنفس، ولو أطلق عليه الصلاة والسلام، وقال: يذبحه، لكان كل إنسان يرى عند بابه رجلاً يضرب الجرس أو يطرق الباب؛ يذبحه عند الباب، لا. يأتي بأربعة شهداء، قال سعد وهو سيد الخزرج: {يا رسول الله! أنتظر وأجمع أربعة! والله الذي لا إله إلا هو لأضربنه حينها بالسيف غير مصفح. فضحك عليه الصلاة والسلام وقال: أتعجبون من غيرة
غيرة حية أن تعيش معالم الدين، تتحرق إذا رأيت المرأة لا تتحجب، تتحرق لوعةً إذا رأيت الغناء يسود في الساحة، تتحرق إذا رأيت كأس الخمر ينتشر، تتحرق إذا رأيت المخدرات فاشية، تتحرق إذا رأيت شباب الإسلام يضيعون أوقاتهم، تتحرق إذا رأيت الصلاة تؤخر عن أوقاتها، تتحرق إذا رأيت الربا فاشٍ، تموت وتذوب، لكن تصل إلى مقصودك بحكمة وأناة، وتغضب لله عز وجل.
وقسم ثالث: أفرط حتى خرج من السطح، لأن بعض الناس يخرج من العرض وبعضهم من السطح، والوسط هم عباد الله الأخيار، بعضهم يقيم الدنيا ويقعدها على جزئية اختلف فيها أهل العلم، يضارب الناس على الإشارة بالأصبع، أو على وضع اليدين، ويلقي محاضرة بعد الصلاة، يَبكي ويُبكي الناس ويصيح، ويضرب المكرفون على مسألة جزئية، قال فيها أبو حنيفة بقول وخالفه مالك، أين إنزال المسائل منـزلتها؟ والله يقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269] بعضهم يقوم فلا يشغل باله إلا كلمة صدرت من شاب، أو تصرف من شاب، فيجعلها قضية ويعممها ويكبر الأخطاء، وينسى ما هو أكبر منها. عجباً!
أحد السلاطين الظلمة رآه أحد الوعاظ -ليس عالماً بل واعظاً- فقال لهذا السلطان: لي إليك حاجة، أسألك بالله أن أناجيك في حاجتي. قال: تفضل -والسلطان هذا سفاك للدماء، يذبح الناس كذبح الدجاج، يأكل الربا، يزني، مجرم، طاغوت- فتخيل هذا السلطان أن هذا الواعظ سوف يتحدث له عن الدماء التي سفك، أو عن الزنا، أو عن الربا، أو عن تعطيل الشريعة، فدخل معه في مكتبه، قال: ما ذا رأيت؟ قال: جنودك يُسبِلون ثيابهم.
قال: لعصر أنتج مثلك وأمثالك؛ حقيقٌ أن ينتج جنوداً يُسبِلون ثيابهم. هذه القضية كلها، تأتي إلى هذه المسألة الجزئية وتنسى الكبار وتجعلها قضيتك. فرضاً أنهم قصروا ثيابهم، ولكنهم يشربون الخمر، ويتركون الصلاة، ويزنون، ويسفكون الدماء.
وليكن مقصودك من النصيحة رحمة بالمنصوح، لأن بعض الناس تغيب عنهم هذه، أريد أن أنصح؛ لكن ما في ذهني أن أرحم هذا المسكين الذي وقع في خطأ.
والأمر الثالث: أن يكون قصدك، أن تكون كلمة الله هي العليا، ليبقى الدين قوياً وأن تفرح إذا سمعت بموجِّه أو برجل صالح، أو بمنفق، أو بداعية، أو بعالم يتكلم ويدعو؛ أن تحمد الله عز وجل، وأن تسأل الله له الاستقامة، والعون، والسداد.
وهذا أتى في سورة لقمان، يوم قال لقمان رضي الله عنه لابنه: يا بُني! فقال في أول الخطاب: يابني! أخذ من ذلك بعض العلماء: أن عليك أن تقدم مقدمات للمنصوح، إذا أخطأ عالم من العلماء فلا تقل: يا فلان! أخطأت، لكن قل: أنت صاحب فضل، وأنت صاحب خير، ونفع الله بك، وقد شفى الله بك العليل، وأروى الغليل، وأفاد الأمة، ولكن ما رأي سماحتكم في هذه المسألة؟ أينكرها؟ أما أن تصدمه بالرد صدماً على وجهه، فكيف يقبلها؟ تأتي إلى وجيه في الناس فتقول: أنت فيك كيت وكيت، وقد نفع الله بك، ثم تذكر جوانب الخير فيه، ثم تلاحظ عليه ملاحظة، هذا من اللين. قال ابن المبارك، في بيتين من أدب الدعاة وأدب النصيحة:
إذا رافقت قوماً أهل ودٍ فكن لهم كذي الرحم الشفيق |
ولا تأخذ بزلة كل قوم فتبقى في الزمان بلا رفيق |
هذه حق على كل مسلم يريد الدعوة -أحقه أنا، وما أحقه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم- أن يحفظ البيتين، هذه تكتب بماء الذهب، تخرج من مثل ابن المبارك، ابن المبارك قوي على أهل البدعة، على جهم المجرم، ألا تعلم ما ذا يقول في جهم، صاحب البيتين هذه، يقول:
عجبت لدجال دعى الناس جهرةً إلى النار واشتق اسمه من جهنم |
اسمه جهم مشتق من جهنم فكان شديداً على أهل البدع، لكن مع إخوانه كالماء،
وأتى إلى إخوانه فقال:
إذا صاحبت قوماً أهل ودٍ فكن لهم كذي الرحم الشفيق |
ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق |
ذكر الشيخ الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي، العلامة الشهير رحمه الله قاعدة عن ابن تيمية، في كتابه المأمول قال: يقول شيخ الإسلام: بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح -ما أحسنها من كلمة- بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح. الذباب وأنت بثيابك البيضاء النظيفة، وبطيبك، وبمظهرك، لا يقع عليك، لكن إذا رأى جرحاً في جسمك وقع عليه وانصب عليه، فبعض الناس يترك المحاسن وينسى الفضائل ويقع على منقصة أو عيب كما يفعل الذباب إذا انطلق إلى هذا الجرح فلا بد من اللين.
دخل واعظ على هارون الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين! إني واعظك ولكني سأشدد عليك. يقول: عندي موعظة، لكنها حارة ساخنة، ويتكلم مع، خليفة لو أراد ذبح رجل لذبحه، وقف أمامه، والسيوف على رأس هذا الواعظ، ويقول: يا أمير المؤمنين! عندي كلام لكنه شديد فاسمع لي، قال: والله لا أسمع لك، والله لا أسمع لك، والله لا أسمع لك، قال: ولم؟ قال: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] ما هو الداعي للكلام الشديد؟ وهل بلغنا دعوتنا وأدخلناها في قلوب الناس بالحديد والرصاص؟ بل أدخلناها بالحب، أدخلناها بالبسمة، زرعناها بالود، فآتت أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.
فاللين اللين في تبليغ الكلمة، بإمكانك أن تصادر بعض الكلمات الجارحة، وأن تستبدل بعض الكلمات الطيبة الحميدة، وإنني أشكر بعض الفضلاء في الساحة حين كتبوا بعض الكتب والرسائل والأشرطة، فيها من الأدب والروعة والعلم ما الله به عليم. ومن أراد أن يرى مثلاً حياً لأدب الدعوة، وأدب النصيحة، وأستاذاً معلماً في هذا الباب، وهو لازال على قيد الحياة، فلينظر إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رجل في الثمانين من عمره، يتكلم بالكتاب والسنة، عكف الله وعطف عليه القلوب، كلمته طيبة ولينة تصل إلى القلوب مباشرة.
تعمدني بنصحك في انفرادٍ وجنبني النصيحة في الجماعة |
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه |
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة |
أتنصحني أمام ألف؟
أتنصحني في الحارات؟
أتخبر أني أخطأت؟
أَوصلتَ بيتي؟
أَكتبتَ لي رسالة؟
أَطرقتَ عليَّ الباب؟
هل جلست معي؟
هل أشفقت عليَّ؟
أبعد أن نشرت مقابحي، ورذائلي، وسوآتي أمام الناس تريد أن أقبل منك، طبيعة الإنسان أنه إذا رأى الخصام والجدل لن يقبل، يغلق منافذ السمع لن يتقبل، فـأهل السنة يسرون بالنصيحة في موضع الإسرار، يسرون بها بكتابة أو اتصال أو غيره، إذا علم أن المنصوح من أهل السنة، وهو الذي لا يريد إلا الخير بدعوته، ويعلم الله أنه يريد الصلاح لأمة محمد عليه الصلاة والسلام.
فحقيق على الناصح أن يسر النصيحة، ولكن قال بعض علماء السنة: من شهر بنا شهرنا به. من شهَّر بـأهل السنة شهرنا به. إنسان يدّعي بدعاً، ويهاجم الدين من على المنبر أو في صحيفة، أنرد عليه سراً؟ يفضحنا جهراً ونرد عليه سراً؟ يشتمنا نهاراً ونرد عليه ليلاً؟ لا. بل السلاح بالسلاح قال الله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] ما دام أنه شهربنا فنشهر به، لأن الناس سمعوا كلامه، ولا يمكن أن يُنهى كلامه إلا برد مثل كلامه الذي شهَّر به، كرجل كتب معتقداً بدعياً ونشره في الصحف، حق علينا أن نأتي في هذه الصحف، وننشر ردنا الصادق الناصح؛ لأنه شهَّر برده أو بكلامه، لكن إنسان ارتكب بدعة، ولا يعلم إلا أنا أو أنت، أذهب إليه بيني وبينه، ولا أكتب في صحيفة ببدعته؛ لأنه قد يتوب.
سئل أحد العلماء الأحياء: أما رددت على فلان؟ قال: ليس من منهجي هذا، قالوا: ما هو منهجك؟ قال: منهجي أن أكتب للذي أريد الرد عليه بيني وبينه، فإن استجاب لي فبها ونعمت، والحمد لله فقد حصل المقصود، وإن رفض الاستجابة أعلنت الرد عليه لينتبه له الناس. هذا هو المنهج السليم، فهدي أهل الإسلام في النصيحة: أنهم لا يتفاضحون بها ولا تصبح مسبة.
فإذا أردت أن ينفع الله بدعوتك وبنصيحتك، فأعمل بها أنت أولاً، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3] لم تتكلمون كلاماً جميلاً وتفعلون فعلاً قبيحاً؟ وهذه أكبر القواصم التي يتعرض لها الداعية في الحياة، أن يتكلم بكلام جميل ولكن فعله قبيح، فيكذِّب فعله قوله فلا يتقبل الناس منه، ولا يجعل الله لكلامه تأثيراً ولا نوراً.
في الصحيحين من حديث أسامة رضي الله عنه: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم، ذكر رجلاً اندلقت أقتابه، والأقتاب هي: الأمعاء، يدور بها كما يدور الحمار بالرحى في نار جهنم، فيقول له أهل النار: يا فلان! أما كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: نعم. كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه, وأنهاكم عن المنكر وآتيه} قال بعض العلماء معلقاً على الحديث، وهو تعليق لابد أن يفهم، قال: ما دخل النار بسبب أمره ولا بنهيه، وإنما دخل النار بسبب مخالفته لأمره ونهيه.
ولذلك بعض الناس عنده ورع بارد في الدعوة، سامج مظلم، مالك لا تدعو؟ قال: أخشى من صاحب الرحى في نار جهنم، أخشى أن أدور في الرحى، أنت تدور من اليوم بالرحى، من أول اليوم وأنت دائر في الرحى، وأول دورانك بالرحى وأول الفتوح والبركات؛ أنك تركت الدعوة، قال أبو هريرة لرجل: [[ألا تحفظ القرآن؟ قال: أخشى إن حفظته أن أنساه قال: كفى بك نسياناً أنك ما حفظته]] من أول الطريق، وكذلك الذي عنده ورع بارد لا يأمر ولا ينهى، ولا ينصح، ولا يتحرك بالدعوة؛ بحجة أنه يخشى أن يكون مثل هذا الذي يدور في رحاه في نار جهنم، والمقصود: أن الحديث لام هذا الرجل لأنه خالف، أما إذا أمر وائتمر، ونهى وانتهى فهو مأجور، فمن أدب النصيحة: أن تعمل بها قبل أن تنصح الناس، وبعد أن تنصح الناس أن تسدد وتقارب.
بعض الناس يظن أن الداعية لا ينصح حتى يصبح معصوماً لا يخطئ أبداً أو لا يذنب، كأن الداعية هذا إذا وقع في خطأ بسيط؛ ارتكب الجرائم وخرج من الملة. ولذلك خطأ الدعاة مضخم، وحسناتهم مصغرة، للداعية تسع وتسعون حسنة ولكنها تنسى، وله سيئة ولكنها كالجبل، أمر عجيب! قال عامر الشعبي: والله الذي لا إله إلا هو، لو أحسنت تسعاً وتسعين لنسوها ولعدوا علي غلطة واحدة. ترفقَّ حنانيك:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عطر يفوح بلا دخان |
العصمة لمحمد عليه الصلاة والسلام، والدعاة ليسوا معصومين في الإسلام، فقد يخطئون، لكنهم يراجعون خطأهم ويتوبون إلى الله الواحد الأحد.
أسألك -يا مسلم- بمن خلقك فسواك فعدلك، أسألك بمن جعل لك عينين ولساناً وشفتين؛ أن تعرف أنك إن لم تتثبت من الأنباء والشائعات، فسوف تضيع دينك ولا محالة، يأتيك خبر عن مسلم فعليك أن تتثبت هل قاله أم لا، تسأله وتحتاط حتى تكون على بصيرة؛ لأن الشائعات كثرت، لكثرة أهل النميمة، قال عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة قتات} وفي لفظ: {نمام} وهو الذي يطلب المعايب، وهو الذي يأتي بالأراجيف بين الأحبة، وهو الذي يهدم المجتمع المسلم.
فمن آداب النصيحة عند أهل السنة: أنهم يتثبتون من الشائعات، حتى ينكروا أو يأمروا على بصيرة، فإذا أمروا ونهوا كانوا على قدم ثابتة مما قالوا ومما فعلوا، كان عليه الصلاة والسلام إذا أتته الأخبار؛ سأل وتثبت عليه الصلاة والسلام واحتاط حتى يبلغ به العلم اليقين صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم:28] وكثير من الناس إن يظنون إلا ظناً وما هم بمستيقنين، وقد رأينا بعض الناس يتقول على فضلاء ونبلاء، فإذا سألته: هل سمعته؟ قال: لا. بل قال لي فلان، فتذهب إلى فلان؛ من قال لك؟ قال: فلان، فتذهب إلى فلان، فردك على فلان سند إسرائيلي من الإسرائيليات، معنعن بالمجاهيل والمناكير من أوله إلى آخره، أحاديث مبهرجة لا أساس لها من الصحة، وهذه وكالات أنباء عالمية، اسمها (وكالة يقولون) وهي تفسد القلوب، وتشتت بين الأرواح، وتأتي بالأخطاء للفضلاء والنبلاء، وتستحدث الخصومات، وتعتمل المعارك بدون أن يكون لها أساس.
قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع} بعض الناس جالس بلا عمل على الرصيف، همه في أول النهار -لأن الناس في مدارسهم ووظائفهم- أن يوصل السيارات بعينيه، يأخذ السيارة من طرف الشارع فيوصلها إلى طرف الشارع الآخر، ويأخذ الثانية إلى صلاة الظهر هكذا، ثم يذهب إلى بيته ويستمع إلى الأنباء التي تدار في الساحة، وفي اليوم الثاني ينشر الأخبار الصباحية على المسلمين، وهذا لو أنه أخذ بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يوم قال: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} اشتغل بخاصة نفسك، تركك ما لا يعنيك أفضل، وإذا لم تفعل خيراً لمسلم فكف أذاك عن المسلمين، فإنها صدقة تتصدق بها على نفسك.
والرسول عليه الصلاة والسلام أوذي، والله الذي لا إله إلا هو لو أوذي كل داعية، ومهما أوذي من الدعاة والعلماء وطلبة العلم والصالحون والصالحات؛ ما بلغوا عشر معشار ما وُجِدَ من الأذى ما وجد عليه الصلاة والسلام في سبيل الدعوة، فلا إله إلا الله كم صبر! ولا إله إلا الله كم صابر! ولا إله إلا الله كم احتسب! حتى بلَّغ اللهُ دعوته مبلغ الليل والنهار.
والفيافي حالمات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير |
والرمال العفر صارت حللاً عجباً من قلبك الفذ الكبير |
أوذي، وشتم، وسُبَ وأخرج من داره، وبيعت أملاكه، حورب، جرح، قتل أصحابه، ضربت بناته، ومع ذلك يردد حاله:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم |
وقد ورد في أحاديث: أن ملك الجبال أتى إليه لما أخرجه أهل مكة بأذى، أخرجوه من مراتع الصبا، من أرض الطفولة، من الأرض التي أحبها، أسفك الدماء؟ أأخذ الأموال؟ أهدد الأبرياء؟ بل أراد أن ينقذهم من النار إلى الجنة، وأن يخرجهم من الظلمات إلى النور، أخرجوه، وقف ينظر إلى مكة وهو يبكي، وهذا الحديث يحسنه كثير من العلماء، وقف يقول: {والذي نفسي بيده، إنكِ لمن أحب بلاد الله إليَّ، ولو لا أن أهلك أخرجوني ما خرجت}.
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا |
أطفاله؛ زوجاته؛ أصحابه، أخرج وحيداً فريداً، لا زوجة ولا ولد، ولا معين إلا الواحد الأحد، ففكر في الدنيا، إلى أين يذهب؟ فذهب إلى أهل الطائف، فوقف عليهم جائعاً متعباً سهران ظمآن، فدعاهم إلى الله عَزَّ وَجَلّ. واسمعوا إلى الرد القبيح الذي يساوي وجوه هؤلاء الكفرة، قال أحدهم: أما وجد الله غيرك في الدنيا حتى يرسلك إلينا؟ فتضاحكوا، وقال الثاني: أنا أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. وقال الثالث: إن كنت نبياً فأنت أجل من أن أكلمك، وإن كنت كذاباً فلن أكلمك، فليتهم تركوه، جائع ليس في بطنه شيء، ضمئان سهران، قال الله له: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً [المزمل:1-2] فقام ثلاثاً وعشرين سنة، ما نام وما ارتاح، في سهاد، وجهاد، وجلاد، وعبادة، وزهادة؛ حتى رفع الله به راية الحق واجتمعنا على ذكره.
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء |
عاد فأصبح بين حربين بين الطائف ومكة، إلى أين يذهب، قال ملك الجبال بعد أن جرحوه بالحجارة: يا محمد! أتريد أن أطبق عليهم الأخشبين؟ جبلين في مكة على أهل مكة، قال: {لا. إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله، ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} رفع الله منـزلتك، وآتاك الوسيلة، وجزاك الله عما قدمت لنا من الهدى ومن نصيحة، والله الذي لا إله إلا هو ما تركت خيراً إلا دللتنا عليه،ولا تركت شراً إلا حذرتنا منه، أعطيتنا وهديتنا وواسيتنا، فرفع الله منـزلتك وأعطاك الشفاعة يوم العرض الأكبر.
هذا من هديه عليه الصلاة والسلام في النصيحة، هديه الصبر على الأذى، والداعية يتعرض لإيذاءات، وطالب العلم، والرجل الملتزم، والرجل الصالح يترك الغناء، فيوصف بالتطرف والتزمت، يهتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام بالسنة فيُلمز، يحافظ على الصلوات فيوصف بأوصاف بشعة، وهو على الحق، يا ملتزم! يا مستقيم! يا من تتعرض لحروب من الشائعات والتجريحات! قل لهذا المنتقد:
ولـو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان |
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني |
عجيب! أصبح عبد الأغنية يتكلم! أصبح ابن المسرحية يتحدث! أصبح الذي لا يعرف المسجد المتخلع في الحرمات ينتقد الأخيار! والله هذا أمر عجب، وإنه واقع لا محالة، وكأنه من السنن الكونية في الأرض، والله تعالى يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31].
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضركوضع السيف في موضع الندى |
أتى عليه الصلاة والسلام إلى الحرم المكي يدعو إلى لا إله إلا الله محمد رسول الله، في قوم لا يعرفون الله، يشربون الخمر، يأكلون بالشمال، يتعاملون بالربا، يسبلون، أفمن الحكمة أن يقول: الإسبال حرام؟ أيستمع له أبو جهل وأبو لهب إذا قال: السنة أن يكون الثوب فوق الكعبين؟ وهل المسألة مسألة ثياب الآن؟ أيستمع له لو قال: الخمر حرام؟ فالمسألة أعظم من ذلك، وبعض الناس يذهب إلى بعض الوثنيين فيكلمهم في تربية اللحى، وما عليك لو ربى الوثني لحيته، أما كان - كاسترو - إلى سرته، وأمثاله من أعداء الله عَزَّ وَجَلّ لحاهم إلى أسفل صدورهم! وكذلك وكارل ماركس الذي يتبعه على إلحاده ولعنته في العالم ألف مليون، هذا عنده لحية طويلة، لكن على غير هدى، فماذا ينفعنا أن نربي الناس على جزئيات يتمثلونها والخراب من الداخل، هذا مثل رجل أتى إلى بيت مهدم من كل جهه فلطخه بالألوان فأظهر أنه جديد، وهو بيت مهدم يقول الله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109] تأتي إلى رجل لا يصلي في المسجد، فتقول: يا فلان! رأيتك قبل أسبوع تأكل بالشمال، وقد ورد فيها أحاديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم، هو لا يعترف بك ولا بـالبخاري ولا بـمسلم، يأكل باليمين، ولا يصلي بالمسجد، إبدأ بالتدرج.
ودليل التدرج في الدعوة ما في الصحيحين، من حديث معاذ: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسله إلى اليمن وانظر الكلام، وانظر إلى المنهج الرباني الخالص، نحن نتحدى به عملاء الضلالة وأصنام الجهالة والأغبياء والأقزام في العالم، أهل المذكرات السخيفة الغبراء، التي هي كوجوههم، نحن نتكلم لهم بمنهج رباني، (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام).
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا |
قال: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} ثم سرد معه الحديث المتفق عليه، عجيب! هذا من أحسن المناهج التي يجب على المسلم أن يطبقها في الحياة.
فهل يعقل أن يأتي داعية إلى هؤلاء فيتكلم عن مشكلات البنوك الربوية، أو الحد من الأسلحة، أو درجات الحرارة؟ أو يأتي إلى هذا المجتمع بمشكلة الخدم والخادمات؟ هم لا يعرفون الخدم ولا الخادمات، ولا الخروج ولا السائق، وليس في البادية ولو سيارة، سياراتهم الحمير المصفنة المجنحة، فحالة البيئة، ومعرفة مع من تتحدث؛ من آداب أهل السنة إذا تحدثوا مع المدعو.
تأتي إلى إنسان تشعر بمكانته وكرامته فتهين كرامته تحت رجليك ثم تقول: اتق الله، إن لم تتق الله ليقصمنك الله، وليعذبنك عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين. هذا لا يليق، بل أعطه مكانته، خاطبه بألفاظه، ألفاظ الوقار، ألفاظ التبجيل، والتدبيج، والتوشيح، الطعام لا يُقبل إلا بالتوابل، لو لم تفلفله وتجعل منه مذوقات ومشهيات ما أكل، فهذه الدعوة مثل ذلك، إن لم تقدمها في باقة من الود والحب واللين، وتضفي عليها شيئاً من الأنس واللطافة، ما قبلها أحد.
ولذلك كان هذا منهجه عليه الصلاة والسلام، يأتيه أعرابي من صناديد الكفر ينكر الدين، فيعطيه عليه الصلاة والسلام مائة ناقة، وفي اليوم الثاني مائة، وفي اليوم الثالث يعطيه مائة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. لا بد أن نقدم للناس خدمات، بعض الشباب كانوا في سكن جامعي، وكان عندهم شاب جار لهم، يترك الصلاة في المسجد، ويمرض، ويصحو، ولا يزورونه، مهمتهم فقط إذا حانت الصلاة يضربون بابه ضرباً ويقولون: صل يا عدو الله! صل قاتلك الله، ثم يخرجون، ويقول أحدهم: اللهم اعلم أني برأت ذمتي، وأني دعوت إليك، وكلما جاءت الصلاة ضربوا الباب، صل يا عدو الله! مرض هذا الشاب وزاره داعية في المستشفى، وقال -وهو لم يعرف سيرته- قال: يا أخي! هذا المرض درس لك في الحياة، أرى أن تتوب إلى الله، وأن تعود إلى المسجد، وما تطلب مني فأنا أخوك وأنا صاحبك، وأنت لا زلت في الإسلام وأسرتك مسلمة، وأعطاه محاضرة. قال: يا أخي! بعد ماذا أهتدي مع هؤلاء الجيران، والله ما زاروني، لقد احتجت إلى سيارة أحدهم يوماً من الأيام فلم يفعلوا، أحتاج إلى قرضة من المال ما فعلوا، وحسب ونسب فيهم، قال: ما يعرفون إلا ضرب الباب مع كل صلاة، كيف أستجيب؟ أريد أن أصلي لكن أتذكر فعائلهم فأبقى على السرير.
ولذلك بعض الأفعال تحبط المدعو، تجعله لا يستجيب، ينكى في قلبه بنكايات، فيريد أن يقوم فيرفض قلبه، يقول له: لا تقم، لأنهم ما قدموا له شيئاً، ما قدموا رصيداً.
الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتلطف بالمدعو أياماً، يقول صفوان: يا محمد! أمهلني شهراً حتى أفكر في هذا الدين، قال صلى الله عليه وسلم: لك أربعة أشهر، فقبل الشهر، وقبل الأربعة الأشهر فأتى وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأحد الجاهليين من اليهود، اسمه ابن سعنة، ذكره المؤرخون، قرأ التوراة فرأى أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وصفاً واحداً، أنه صلى الله عليه وسلم، كلما زدته غضباً زاد حلماً، فأراد أن يجرب، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، فرآه أبيض مشوباً بحمره كالوصف، رآه ربعةً، النور في وجهه، كل وصف رآه، لكن كيف يجربه بالحلم، ذهب وأتى بمال وقال: يا محمد! عندي مال وأنت بحاجة إلى المال، اقترضه مني إلى حين، فأخذه صلى الله عليه وسلم مقترضاً لحاجة، وقبل أن يحل الوعد أتى اليهودي في صلاة العصر، والناس مجتمعون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! اقضني مالي، إنكم مطل يا بني عبد المطلب! أي: تماطلون صاحب المال، اقض مالي ثم غضب ورفع صوته، فغضب عمر، قال هذا اليهودي بعد ما أسلم: فرأيت عيون عمر تتدحرج في رأسه، يريد عمر أن يقضيه من الحياة؛ لينقله إلى الآخرة مباشرة، فأسكته عليه الصلاة والسلام، وقال: يا عمر! كان الأولى أن تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن الاقتضاء، ثم قام عليه الصلاة والسلام، وكلما رفع اليهودي صوته كلما تبسم صلى الله عليه وسلم، وذهب به فأعطاه ماله وزاده، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، قرأت كل صفة فيك فرأيتها كما قرأتها، إلا صفة أنك كلما أُغضبت ازددت حلماً، فرأيتها اليوم، فأنت رسول الله لا محالة، قال الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف:10] قيل هذا في عبد الله بن سلام وقيل في غيره.
أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا |
أترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى الندى فوقه إكليلا |
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلا |
أنت فينا النصوح فارفق جزاك الله خيراً فالرفق أهدى سبيلا |
وبقيت كلمة أن نقول: يقاس الناس في باب النصيحة بحسناتهم وسيئاتهم، والفضلاء يعفى عنهم لبعض عثراتهم لا في الحدود، لحديث يقبل التحسين: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) يقول ابن القيم هم أهل التقوى والاستقامة والصلاح، يتجاوز عنهم في الأخطاء التي ليست حدوداً ولا حقوقاً للناس. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) فإذا زادت فضائل الرجل؛ عفي عن بعض ما يأتي به من عثرات لحسناته في الإسلام، ولعلكم تراجعون ترجمة قتادة بن دعامة السدوسي، ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء، ثم أتى بهذه المعاني الخالدة الرائدة، وقد ذكرني بعض الإخوة أن أذكركم بشريط، كانت محاضرة بـأبها، اسمه "ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ليسمع إن شاء الله؛ لأن فيه بعض القضايا والنقولات من كلام أهل العلم، والأدلة والنصوص، وهي تنفع في هذا الجانب، علَّ الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يردنا إليه رداً جميلاً.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
.
الجواب: جانب النصيحة يحتاج إلى زمن، يحتاج إلى صبر، يحتاج إلى أن تتحمل المنصوح أياماً طويلة حتى تعذر إلى الله عز وجل، ما تستطيع أن تصلح الرجل في نصف ساعة ولا في ساعة ولا في يوم، محمد عليه الصلاة والسلام هدى الله به الناس في ثلاثٍ وعشرين سنة، حاور الناس في ثلاثٍ وعشرين سنة على كلمة، وأنت اهتديت اليوم وتريد غداً أن تحول بيتك، هذا متعذر إلا أن يشاء الله، لكن سنن الله عز وجل في الكون: أن الأمور تأتي برتابة، الشمس ما تأتي فجأة وتغرب فجأة، النبتة ما تصعد اليوم وتثمر غداً، بل تأخذ مسارها، فالكلمة لا بد أن تصل، ثم تعطف عليها بالكلمة، ثم بالبسمة، ثم بالدعوة، ثم بالنصيحة.
جلست مع رجل صالح كبير في السن في بلد ما، هذا الرجل هدى به الله مجرماً من المجرمين، كان هذا المجرم فتاكاً مروجاً للمخدرات، يطارد الناس، ورجال الأمن يطاردونه بالسلاح، ما يعرف يتخاطب إلا بالرصاص، وهذا الرجل فتك بعباد الله عز وجل، وروع الآمنين، حتى ظن بعض الناس أنه لن يهتدي وأصبحوا يدعون عليه، فأتى هذا اللبيب العاقل فأخذ هدية وذهب بها إليه، هدية غالية، وما تكلم معه بكلمة ثم أعطاه قال: فأخذ الهدية وسكت، قال: وبعد فترة، وأنا كل ليلة كلما قمت في الثلث الأخير، يوم يتنزل الله إلى السماء الدنيا، أدعو الله أن يهدي قلبه، قال: ثم ذهبت فدعوته إلى بيتي فاستجاب لي، فعزمته على وجبة دسمة، فأكلها وذهب، وما قلت له شيئاً، ثم زرته، وجلست معه وما تحدثت له عن شيء، وبعدها زرته وفاتحته في الهداية، فبدأ معي بكلمة ثم زرته، ثم أخذته إلى المسجد، ثم أسمعته شريطاً ثم مضيت معه في الأيام حتى اهتدى معي إلى صلاة الجمعة، ثم حضر واهتدى وشرح الله صدره، ثم أصبح ولياً لله قال الله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269].
أما أن تقول: أجب وإن لم تجب أذبحك، هذا عند حمورابي، ليس عند محمد عليه الصلاة والسلام، في بعض الناس يدعوه اليوم ويهجره غداً، الهجر سهل لأن الهجر عند بعض الدعاة أن تهجره وترتاح، الهجر لا يكون إلا بعد أن تصبر، قال ابن تيمية: في القرآن هجر جميل، وصبر جميل، وصفح جميل، ثلاثة ألفاظ في القرآن، صبر جميل، وهجر جميل، وصفح جميل، قال: الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه، والصفح الجميل الذي لا عتب فيه، والهجر الجميل الذي لا أذى فيه. فإذا ما استجاب لك فالهجر.
وقد عقد أهل السنة في أبواب الحديث والفقه: باب الهجر، البخاري عقد على قصة الثلاثة: باب الهجر، هجر أهل المعاصي المتخلفين عن تبوك، فتهجره عن الود، تهجره عن الزيارة، تهجرة -مثلاً- من السلام، لكن لا تقطع وده مرة واحدة، تبقى تراسله، إلا إذا عذرت إلى الله عز وجل، وكانت المسألة من الفرائض الواجبات التي تعمد تركها، فحينها المقاطعة، والله تعالى يقول: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ [المجادلة:22] لكن بعد أن تعذر إلى الله، وبعد أن تبلغه الحجة، وبعد أن يصفى منهجك ويبين عذرك.
الجواب: سئل الإمام أحمد، قيل له: ألا يأمر الرجل وينهى حتى يستكمل؟ قال: لو قيل هذا لما نهى عن المنكر أحد وما أمر بالمعروف أحد؛ لأن المعصوم محمد عليه الصلاة والسلام
ذهب الله بالكمال وأبقى كل نقص لذلك الإنسان |
فلا بأس أن تأمر بالمعروف وأن تنهي عن المنكر وإن كنت في بعض المسائل مقصراً، لكن فيها تفصيل أما الفرائض فلا يعذر فيها أحد، والداعية لا يعذر في ترك الواجبات، ولا يعذر إذا ارتكب المنهيات، أما عذره ففي النوافل عند بعض العلماء بينها ابن الوزير في كتابه العظيم الجليل: العواصم والقواصم، هذا الكتاب الضخم الذي أنصح بقراءته بيَّن هذه المسألة قال: قد يدعو الداعية إلى نوافل ولكن لا يستطيع أن يعملها. مثل: أن تكون داعية تدعو الناس إلى الإنفاق وإلى الصدقة، لكنك فقير أو أن تدعو الناس إلى قيام الليل، لكنك مجهد من انتقالك، وأسفارك، وعملك، ودعوتك؛ أفتسكت عن قيام الليل؟ لا. ادعهم يصلوا ولك مثل أجر صلاتهم؛ لأنك الذي دلهم على صلاة الليل. ولذلك الحديث الصحيح: {من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجورهم دون أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة فعليه من الوزر مثل أوزار من تبعه دون أن ينقص من أوزارهم شيء}.
الجواب: أولاً: ما حضروا المحاضرة إلا لخير في قلوبهم، وأراد الله بهم الخير فأجلسهم في هذا المكان قال الله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125] فإن الله عز وجل إذا أراد بالعبد خيراً سهله للخير، وإذا أراد به سوءاًً سهله للسوء، ومن تردى فإلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، من جلس في المسجد فمراده الخير، وهو يختلف عمن جلس في السهرة الحمراء، أمام الشاشة المغرية، أو عند المجلة الخليعة، أو مع البلوت، أو السيجارة المحرمة.
حينها ما دام أنهم جلسوا وهم هنا فهم مهتدون، لكن عليهم بعض الملاحظات التي ذكرت؛ فأسأل الله في هذه الجلسة المباركة أن يشرح صدورهم للإسلام، وأن يهديهم هداية عامة وخاصة سراً وظاهراً، وأن يقودهم إليه، وأن يحسن عاقبتنا وعاقبتهم في الأمور كلها.
ثالثاً: ما ذكرته -أيها الأخ- فيه تفصيل، حلق اللحى محرم بالإجماع عند علماء المسلمين ويعزر من فعله، وقد جرح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عرفت عالماً من علماء المسلمين من أهل السنة الذين يوثق بهم؛ قال بسنيتها فحسب أو باستحبابها، بل قال بوجوب إعفائها وبتحريم حلقها.
وسماع الأغاني محرم، وسمعت قائلاً يقول: الأئمة الأربعة لم يجمعوا على تحريمها؛ بل أجمعوا، ولو لم يجمعوا لكان في الكتاب والسنة ما يكفينا على تحريم الأغاني، وسوف يكون هناك لقاء يبين فيه هذه المسائل إن شاء الله. ومشاهدة الفيديو أو ما يضر في الفيديو محرم معلوم ذلك.
ولكني أدعوهم رابعة إلى أن يعودوا إلى الله، وأدعوهم إلى البديل وهو الشريط الإسلامي، التلاوة، ذكر الله، حضور مجالس الخير، التسبيح، قراءة الكتاب الإسلامي، مجالسة الصالحين، نسأل الله أن يردهم إليه رداً جميلاً.
الجواب: قلت في بداية ذلك الشريط: السفر عند علماء الإسلام لبلاد الكفر لمطالب ومقاصد لا بأس، منها أن تطلب علاجاً ليس في بلاد المسلمين كأن تعذر وجوده في بلاد المسلمين، فلك أن تسافر للعلاج، ومنها: أن تسافر داعية بشرط أن تكون مؤثراً هناك، وأن يقبلوا منك، أما أن تكون لست مؤثراً وتقول: أدعو هناك، فهذا ليس بوارد، بعضهم بقرية ما تكلم بكلمة، وما علم عجائز قريته سورة الفاتحة ويقول: أريد أن أدعو في سنغافورة أو في الولايات المتحدة الأمريكية.
نحن لا ينقصنا العدد، نحن غثاء كغثاء السيل، ينقصنا جودة، ولا ينقصنا كم بل ينقصنا كيف، اليهود الإسرائيليون عددهم مليونان لعلوا بنا طولاً وعرضاً، والمسلمون الآن مليار، لكن تعال إلى المليار نصفهم بالتابعيات مسلم، ولا يعرف يصلي، ولا يعرف الله ولا القبلة، والبقية يصلي بالاختيارات، إلا من رحم ربك، والبقية الخيرة ولا زالت الطائفة المنصورة موجودة، لكن هناك بقية كذلك، لا تعرف الإسلام إلا صلاة، وعمرة وحجاً، ومراسم تعبدية فقط، لكن لا صدق، لا وفاء، لا أمانة، لا انتهاء عن ربا، لا انتهاء عن زنا، لا انتهاء عن محرمات، لا حفظ للأوقات، لا خوف من رب الأرض والسماوات، فأين الإسلام؟ وطائفة جهلت بالإسلام، لا يعرفون شيئاً، يعرفون يصلون لكن جاهلون، يعرف يقود سيارته، يعرف يأكل، يخلع قميصه، يبني بيته، لكن إذا قلت تعال تفقه في الدين يقول: الحمد لله العلم متوفر، والله منَّ علينا بالخير، وقد عرف الدين العجائز. لكن لو سألته في سجود السهو هل هو قبل السلام أم بعد السلام ما عرف، فأقول هذا للدعوة.
ومنها لتحصيل علم لا يوجد عند المسلمين مثل علم التكنولوجيا، هذا العلم الذي سبقونا فيه، هذه العلوم الطبيعية تطلبها من هناك، أما أن تطلب الحديث هناك أو الفقه من هناك فلا. لا يطلب الشفاء من مريض، هم أمراض، واحذر منهم، والسنة أتت من هنا.
فتذهب هناك بشرط أن يكون هناك مصلحة، لكن أقول لك أولى وثانية وثالثة: استخر الله قبل سفرك، فإن الخيرة بيده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، واستشر أهل الرأي، وإن كان فيه مندوحة عن السفر فاترك، وإن كان يتوقف عليه نفع لك ولأمتك ولبلادك، فاذهب والله معك.
لكن إذا ذهبت فأمامك أمور، أولها: أن تذهب بزوجتك، ولو كان عندك أربع فأذهب بهن، فإنه سوف تأتيك دواهٍ ولواهٍ، مصغيات وملهيات، إن لم تعتصم بحبل الله هلكت، ومنها: أن تكون متحصناً بالأذكار والأوراد، وسنة محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن بعض الناس إذا وصل إلى هناك بين عشية وضحاها يصير أنكى من الخواجات ضد الإسلام. والأمريكان ما أحجموا عن الإسلام إلا لسببين:
السبب الأول: التمثيل السيئ في بلاد المسلمين للإسلام، يأتون جاليات هنا إلى مهبط الوحي، إلى أرض الرسالات، إلى أرض الحرمين، فيظنون أنهم سوف يسمعون بتلك السيرة الماجدة لمحمد عليه الصلاة والسلام، ولـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، يجدون الصدق، والعدل، والوفاء الذي يقرءونه في القرآن والسنة، ولكن يطبقوا السنة والقرآن على المجتمع، فإذا به خلاف الأصل، الكتلوج خالف التعاليم الأرضية، الواقع خالف الخيال المكتوب، فأصبح عندهم الإسلام خيال.
ولذلك يقول كريسي موريسون يقول: ما عندكم إسلام، في بلادكم لا يوجد إسلام، فقط الإسلام يوجد عندكم في الكتاب والسنة متى تصلون إليه. وشُوه الإسلام من أناس ذهبوا إلى، أو من جهات وكيانات هناك، تبنت الإسلام وقد شوهت الإسلام، يذهب شاب وإذا هو غداً مع فقاة ويعاقر الخمر، ويترك الصلاة، ويخون، ويغدر، ويترك العمل، فيقولون: أنت مسلم وتفعل كذا؟! هذا الإسلام ليس بصحيح. فمثل الإسلام تمثيلاً جيداً، فأنت داعية هناك، وقد أقبل عباد الله إلى الإسلام، وقد اهتدى شبابنا هناك، ونسبة المهتدين إن لم يكونوا ثمانين أو أكثر فلا يقلون عن ذلك، والحمد لله عادت الأمة والدنيا إلى الله؛ لأن الإسلام دين حق، يصل إلى القلوب بحق ونور، وخسئت الشيوعية، ولعنت، وقبحت، انهارت رومانيا أمس.
الجواب: على كل حال، الآن تحصيل حاصل، الجهاد الأفغاني يعرفه الوثني الأفريقي، والبرشفي الأحمر، والخواجة الأشقر، ما أحد في الدنيا لا يعرف الجهاد الأفغاني، سلُّوا سيوفهم، وحرابهم، ورفعوا لا إله إلا الله حتى تاب برجنيف وجرباتشوف وأذنابهم وعملاؤهم، من الاعتداء على قداسة المسلمين، قوم أتتهم الدبابات فخرجوا بالسلاح يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا |
نحن في ظل ظليل، وفي نعم وفي نعيم، وفي رخاء وفي شيء من العيش عظيم، لا نخشى على أنفسنا إلا أن نموت تخماً، بعض الناس يموت شهيداً في المستشفى من أكل العصيدة، يسوى له عملية قالوا: أكلها وهي حارة، وبعضهم قالوا: أدخل العشاء على الغداء بدون ترتيب، وبعضهم يغص بلقمة فيموت إلى رحمة الله على مائدته.
فنحن ما نشكو إلا من الإحباط، فجدير بنا أن نوجه بعض النعم (بعض التبرعات) بعض المال إلى أولئك الذين أعلنوا جهادهم لله عز وجل، يلتحفون السماء، ويفترشون الأرض، وأنت عندما تقدم مالك إنما تعلن إيمانك من جديد، وتعلن صدقك مع الله وإخلاصك يقول الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
أخذت أموالنا الأزياء، والأحذية، والكنبات، فماذا نقول للجنات يوم فتحت أبوابها للمتصدقين، ألا إن عثمان دخل الجنة بماله، قال عليه الصلاة والسلام: {من يجهز جيش العسرة وله الجنة، فجهزه
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت نفسك فيما فيه خسران |
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان |
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران |
قتل أحد المجاهدين وهو شهيد، فوجدوا في قميصه خمسة قروش، ما ترك قليلاً ولا كثيرا. دخلوا على قائد من قواعد المجاهدين الأفغان، فوجدوه في بيت من خشب، قالوا: أنت قائد، وأنت في بيت من خشب! قال: لو كنت أعمل للدنيا لسكنت قصراً، لكنني أريد جنة عرضها السماوات والأرض.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر