إسلام ويب

خصائص الجمعةللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الجمعة عيد المسلمين، وهي خير أيام الأسبوع، ولذا اختصت بخصائص ليست لغيرها من الأيام، وسن لها بعض الآداب، وهناك عشرون خصيصة من خصائصها، مفصلة في هذا الدرس من خلال شرح أحاديث من صحيح البخاري في أبواب تتعلق بالجمعة.

    1.   

    حياة عبد الله بن المبارك

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    فإن من أعظم القضايا التي يلتمسها المؤمن ويبحث عنها في تدبر كتاب الله عز وجل، وفي قراءة سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قضية الهداية، وكيف ينقذ الإنسان نفسه من غضب الله وعذابه ولعنته.

    ولأن رجال صحيح البخاري هم ممن عرفوا الله عز وجل، كما قال أهل العلم: كل من روى له البخاري فقد تجاوز القنطرة لذلك فقد أثرنا أن نقف في هذا الدرس، مع رجل طالما مر معنا في كثير من الدروس، وفي بعض الأحيان نتعرض له وفي بعضها نهمل ذكره استعجالاً أو لضيق الوقت، وهو عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه.. وكثرة ترداد هذه التراجم لا تمل، بل كان هذا منهج كثير من أهل العلم: أنهم إذا أرادوا أن يشرحوا حديثاً، أو أرادوا أن يعرضوا درساً للناس، بدءوا بذكر الصالحين في مقدمة درسهم.

    قال أبو حنيفة رحمه الله: سير الرجال -أي: أخبار الرجال الصالحين- أحب إلينا من كثير من الفقه.

    وقال مجاهد رحمه الله: القصص جند من جنود الله يسلطها الله على من يشاء.

    ابن المبارك وطريق الهداية

    هذا الرجل - عبد الله بن المبارك - هو مثل لكل شاب يريد الله والدار الآخرة، أو لكل رجل أسرف في أول عمره أو أخطأ، ثم أراد أن يراجع حسابه، وأراد أن يعيد نفسه إلى الله تبارك وتعالى.

    عاش حتى بلغ السابعة والعشرين من عمره، وكان يصلي كما يصلي كثير من الناس، لكنه ما كان يعيش مع الإسلام في ليله ونهاره، ما كان يشغل أوقاته بطاعة الله بدقائقها وثوانيها وأنفاسها مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلما أراد الله أن يوقظ قلبه، وكان مع عصابة من القرناء الذين يريدون أن تكون الحياة معبراً للذات والشهوات، جلس في شمال إيران، وكانت هناك حديقة قريبة من منزله، فسمر مع هؤلاء القرناء، فلما انتهى من سمره نام، وكانت تلك الليلة ليلة مباركة أراد الله أن يوقظ قلبه، فسمع أن هاتفاً يهتف ويقول: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون115-116].

    فاستفاق وعلم أنه مقصود بالخطاب، وأنه مدعو إلى الجواب، فقام من تلك الليلة وبدأ حياة جديدة مع الله عز وجل، حياة التفقه في دين الله، وتدبر كتابه، والتزود بالنوافل؛ ففتح الله عز وجل عليه، وعاهد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عهداً أوجبه على نفسه ولم يوجبه غيره من الناس عليه؛ ولذلك يقول ابن تيمية: إن الحق الذي يذكره الله في كتابه كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] أوجبه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على نفسه ولم يوجبه أحد من الناس عليه؛ فحق عليه تبارك وتعالى أن من طلب الهداية وأراد الخير أن يهديه، فهدى الله هذا الرجل؛ فاستنار قلبه.

    خوف ابن المبارك من الله وإنفاقه في سبيل الله

    قال أحد تلاميذه: سافرنا معه إلى الحج، فجلسنا في ليلة ظلماء فانطفأ السراج، فذهبنا نلتمس سراجاً، فعدنا إليه، وإذا بدموعه تنهمر على لحيته، فقلنا: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لما تركتموني في هذه الغرفة تذكرت القبر والله.

    وقال الإمام أحمد: إن ابن المبارك رفعه الله بخبيئة من الخشية في قلبه.

    وكان مع ذلك قد رزقه الله بسطة في المال.. والمال لا يحاربه الإسلام كما يظن كثير من العباد أو الزهاد أو المتصوفة، بل إن الإسلام يستثمر المال ويوجهه في طرق الخير، وكان كثير من الصحابة يشتغلون بالتجارة وبالغنى، لكنهم ينفقون أموالهم في سبيل الله.

    بلغ من عطائه أنه كان يدعو القافلة ليحجوا، وينفق عليهم مما آتاه الله، حتى إنه في يوم من الأيام مر بقرية من قرى العراق وهو حاج؛ فوجد امرأة خرجت من بيتها فوجدت دجاجة ميتة في زبالة، فأخذتها فقال لغلامه: اذهب وراءها واسألها، فلما ذهب وسألها قالت: ما لنا طعام منذ ثلاثة أيام إلا ما يلقى من الأموات في هذه المزبلة. فلما عاد وأخبره دمعت عيناه، وقال: نحن نأكل الفالوذج والناس يأكلون الميتة من المزابل! والله لا أحج هذه السنة، واذهبوا بقافلتي هذه إلى أهل هذه القرية، فرد القافلة بأحلاسها وأقتابها وجمالها وبما عليها من متاع وطعام، ووزعها على أهل القرية، وعاد إلى خراسان ولما نام أول ليلة هناك رأى في منامه قائلاً يقول: حج مبرور وذنب مغفور وسعي مشكور.

    وله قدم ثابتة في الجهاد عرفتموها في بعض المناسبات، أو من قراءتكم واطلاعكم.. وله كذلك وفاة حميدة وخاتمة حسنة، يقول غلامه: لما حضرته الوفاة رأيته يتبسم وهو في سكرات الموت، قلت: ما لك؟ قال: لمثل هذا فليعمل العاملون.

    هذا هو عبد الله بن المبارك الذي يروي عنه البخاري ويقول: حدثنا عبدان -تلميذ عبد الله بن المبارك - قال: حدثنا عبد الله بن المبارك.

    1.   

    عمر يسأل الناس عن سبب تأخرهم عن الجمعة وهو على المنبر

    مازلنا في كتاب الجمعة الذي أجاد البخاري كل الإجادة في ترتيب أبوابه على عادته رحمه الله، يقول: (باب). ثم سكت ولم يأت بباب، وقد أكثر البخاري أن يبوب ثم لا يأتي بترجمة، وكأنه -والله أعلم- أراد أن يبيض الكتاب فلم يتسن له، أو أراد أن يفصل بين الأبواب، أو أراد ترجمة ثم تركها وأهملها وأبهمها لأنها تفهم من الحديث.

    عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: بينما عمر رضي الله عنه يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل فقال عمر: لم تحتبسون عن الصلاة؟ فقال الرجل: ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت. فقال: ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل) وهذا الرجل المبهم الذي دخل وعمر يخطب الناس هو عثمان رضي الله عنه، ولم يذكر في هذا الحديث ستراً عليه؛ لأنه ليس في مقام محمدة، فقد تخلف عن الجمعة، وليس من محمدة المحدثين أن يقولوا: دخل عثمان وتخلف عن صلاة الجمعة؛ إنما يقولون: دخل رجل؛ فالعبرة بالقصة وبالمعنى لا باسم الرجل، فليس فيه فائدة.

    وفي هذا الحديث مسائل.

    التبكير للجمعة والغسل لها

    المسألة الأولى: طلب التبكير من عمر لـعثمان رضي الله عن الجميع؛ فإن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنكر على عثمان بن عفان تأخره.

    المسألة الثانية: التوضؤ والغسل للجمعة. واعلم أن الغسل سنة مؤكدة، بل إن بعض أهل العلم من أهل الظاهر وغيرهم أوجبوه، وقد جاء في ترجمة سهل بن عبد الله التستري.. وهو من عباد الله الصالحين، وكان من رآه ذكر الله والدار الآخرة، عاش في القرن الثالث.. دخل على أبي داود صاحب السنن فقال: أسألك يا أبا داود مسألة. قال: سل. قال: أن تلبي لي ما أسألك. قال: ألبي لك إن شاء الله. قال: مد لي لسانك، فمدها فقبلها وقال: هذه لسان تكلمت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقيل له: إلى متى يحمل طالب العلم المحبرة؟ قال: إلى أن يوضع رأسه في المقبرة. وقال -وبعض أهل العلم كـالغزالي يرفع هذا الحديث وليس بمرفوع- قال: [[مداد العلماء خير عند الله من دماء الشهداء]]. يعني الحبر الذي يكتبون به. وليس كل طالب علم -نسأل الله السلامة والعافية- فإنه هو الذي يطلب العلم للدار الآخرة ولتقوى الله، أما الذي يطلبه للشهادة فمداده أرخص من الماء.

    الشاهد: أنه خرج لصلاة الجمعة فانقطعت حذاؤه؛ فقال: الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون! لم أغتسل هذا اليوم؛ وعاد فاغتسل. ويعلق بعض أهل العلم ويقول: إن الله عز وجل ينبه هؤلاء على أخطاء بسيطة تصدر منهم ليتنبهوا، وبعض الناس يرتكب من الجرائم كالجبال ولا ينبه عليها؛ لأنه عمي عن الطريق المستقيم.

    كلام الخطيب مع المأمومين

    المسألة الثالثة: كلام الخطيب مع المأمومين؛ فللخطيب أن يتكلم وله أن يرد وأن يجيب، ولذلك اشترط بعض أهل العلم؛ خاصة من المفكرين في العصر الحديث كـأبي زهرة في كتاب الخطابة: أن يكون الخطيب سريع البديهة؛ لئلا يرتبك في الخطبة؛ وألا يتكلم مع أحد فيضيع الخطبة.. فإنه اشترط هذا الشرط، وهذا الشرط ليس وارداً عند أهل العلم، وإنما هو من باب الملح والطرف.

    وقد دخل أعرابي والرسول عليه الصلاة والسلام يحدث أصحابه، وكان أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقارب ألف رجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يواصل إسداء المعاني، ويواصل إعطاء الناس من القوة الروحية التي ما أعطاها الله بشراً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، فيأتي هذا من جهله ومن جفائه، ثم يقف وسط الناس فينظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: يا رسول الله! متى الساعة؟ فلم يقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه فيعيد الرجل سؤاله.. ماذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الجواب؟ إن قال: الساعة لا أدري بها؛ قطع على الناس حديثهم. وإن قال: اجلس واسكت، كانت هذه من الفظاظة والغلظة التي برأه الله عنها فقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]

    وإن أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قطع حديثه الذي كان يتكلم فيه مع ألف رجل، وترك الموضوع الذي كان يتكلم عنه؛ لأجل أن يتكلم عن هذه القضية.. فسكت صلى الله عليه وسلم، وما كأنه سمع. قال أبو هريرة: فقال بعضنا: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضنا: بل لم يسمع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تلعثم ولا تغير ولا التفت، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من حديثه قال: أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله. فخطأه في السؤال؛ لأن من جواب الحكيم أن يعرض عن سؤال ورد لا فائدة فيه لتفاهته وسخفه، وأن يأتي بجواب هو أملح وأصلح، كأن يقول: لم تسأل عن هذا؟ ولذلك يقول الله عز وجل: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة:189] أي: كيف يبدو صغيراً ثم ينحني، ثم يبدو ضئيلاً ثم يكبر حتى يتضخم، ثم يعود كذلك؟ فما الفائدة من هذا السؤال؟! قال الله عز وجل: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].

    أي لماذا لا تسألون عن فائدة الأهلة؟ فالجواب هو هذا الجواب.

    فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ماذا أعددت لها؟ -والشاهد سوف يأتي- قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكنني أحب الله ورسوله. فقال: المرء يحشر مع من أحب}.

    وقطع الرسول صلى الله عليه وسلم حديثه للرجل الأعرابي الذي دخل من نحو دار القضاء، فقال هذا الأعرابي: يا رسول الله! هلكت الأموال، وتقطعت السبل، وجاع العيال؛ فادع الله أن يسقينا.

    هذا كلام في محله، وإن أخر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا فإنه لا يمكن أن يتأخر عن صلاة الجمعة، وهي مناسبة عبادة، وإن قال له: اجلس؛ جفاه كذلك، وإن تكلم في موضوع الاستسقاء فليس الحديث موضوع محاضرة تلقى على الناس؛ فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطبة مباشرة ورفع يديه وقال: {اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا}.

    الوقت في الصيف والناس في شدة حرارة، حتى يقول أنس: والله ما في السماء من سحابة ولا قزعة، والشمس تتوهج في الصيف وقد هلك الناس، فلما قال عليه الصلاة والسلام هذا -وكان المسجد شماسياً، يرون ما خلفه- ثارت سحابة كالترس، فارتفعت هذه السحابة، قال أنس: والله لقد ثارت مثل الجبال.

    وهو في الخطبة بعد أن استسقى صلى الله عليه وسلم ثارت كالجبال حتى غطت سماء المدينة، ثم نزل الغيث والرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر، فأخذ الماء يتحدر من السقف ويصب على جبينه الطاهر الذي كأنه البدر.

    يزيدك وجهه حسناً      إذا ما زدته نظرا

    فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم وهو في خطبته من هذه المعجزة التي شهدها أكثر من ألف ونقلت إلينا بالتواتر.. فلعن الله الملحدين أنى يؤفكون!

    وكان صلى الله عليه وسلم يخطب فدخل رجل اسمه سليك الغطفاني فلم يصلِّ، فقطع صلى الله عليه وسلم خطبته وقال: {أصليت؟} وهذا من الأدب؛ لاحتمال أنه قد صلى، ولذلك فأهل العلم يعتبرون الاحتمال حتى لا يكذب الصادق، ولذلك يقول سليمان عليه السلام للهدهد: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين. ولم يقل: أكذبت أم أنت من الصادقين، وهذا من حسن الظن بالصاحب.

    يقول ابن القيم عن قصة سليمان عليه السلام والهدهد في بدائع الفوائد: على المسلم ألا يستنكف من طلب العلم؛ فإن الهدهد عرض كلمة على سليمان وتواضع سليمان عليه السلام، حتى قال له بزعم وقوة: جئتك من سبأ بنبأ يقين، فما تكبر سليمان وما زها عليه السلام.

    الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقامه فصلى ركعتين.. فهذه مسألة الكلام من الخطيب إلى المأموم ومن المأموم إلى الخطيب.

    وقد مر معنا ولا بأس بإعادته مرة ثانية لحسنه.

    أعد ذكر نعمان لنا إنَّ ذكره     كما المسك ما كررته يتضوع

    وقف عمر رضي الله عنه على المنبر يخطب الناس فقال: أيها الناس، اسمعوا وعوا. فقام سلمان رضي الله عنه وقال: والله لا نسمع ولا نعي. قال: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: ألبستنا ثوباً ثوباً، ولبست أنت ثوبين! لأن عمر كان يوزع الثياب التي كانت تأتيه من اليمن، وكان عمر رجلاً طوالاً جسيماً، فأعطى الصحابة ثوباً ثوباً، ولما لم يكفه هذه الثوب أخذ ثوب ابنه عبد الله بن عمر الذي هو حصته مع المسلمين؛ فقال: لا يرد عليك إلا ابن عمر، قم يا عبد الله، فقام عبد الله فرد على سلمان، فقال سلمان لما سمع الجواب: الآن قل نسمع وأمر نطع. فقال عمر: أرأيتم لو انحرفت عن الجادة ما كنتم فاعلين؟ فقام أعرابي من طرف المسجد وسل سيفه وقال: والله يا أمير المؤمنين، لو قلت كذا لقلنا بالسيوف هكذا، فتبسم عمر وقال: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من إذا قال كذا برأسه قالوا بالسيوف هكذا.

    قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها     بفضل ربك حصناً من أعاديها

    معرفة حقوق أهل الفضل ورعاية حرماتهم

    المسألة الرابعة: أهل الفضل أحق بالفضل.

    فإن عمر رضي الله عنه استنكر على عثمان، أي أنت عثمان وتأتي في هذا الوقت؟! يقول القائل:

    لا تضع من عظيم قدر وإن     كنت مشاراً إليه بالتعظيم

    فالعظيم العظيم يصغر قدراً     بالتحري على العظيم الكريم

    فـعمر رضي الله عنه عرف أنه عثمان، ولو كان أعرابياً لما قال له عمر: أأعرابي وتأتي في هذا الوقت؟! حتى لو أنه أتى بعد الصلاة لما كان ليقول له عمر هذا، ولذلك يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

    فقال لـعثمان: تأتي في هذا الوقت؟! ليتك لست بـعثمان!! ولذلك يقول الله عز وجل:يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب:30] وذلك لأنها امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فالشهير العظيم المحترم يكبر منه الذنب، ولكن الحسن كذلك يتضاعف منه، يقول عز وجل: نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [الأحزاب:31] فيضاعف لها الأجر.

    1.   

    التطيب والادهان يوم الجمعة

    ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: باب الدهن للجمعة.

    وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهن أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى).

    سند الحديث وترجمة رجاله

    أولاً: رجال السند: قال البخاري: (حدثنا آدم) وهو آدم بن أبي إياس؛ جاء رجل إلى الفضل بن دكين وطرق عليه الباب، فقال: من؟ قال: رجل من ذرية آدم؛ فخرج وعانقه وقال: ما ظننت أنه بقي من ذرية آدم في الدنيا أحد!

    (قال: حدثنا ابن أبي ذئب) هو الإمام الشهير، قرين الإمام مالك، كان من أقوى الناس، ويقولون: إنه كتب موطأً -والله أعلم- أراد أن ينافس به الإمام مالك، فقال الإمام مالك: ما كان لله سيبقى.

    كان ابن أبي ذئب يكتب إلى الإمام مالك بالعزلة، ويوصيه بالقوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان من قوة ابن أبي ذئب أنه دخل على أبي جعفر المنصور وقيل إنه طاووس، وأبو جعفر هذا يقول فيه الإمام أحمد: جبار الدنيا، ما كان يستطاع أن يتكلم بين يديه.. فقال له أبو جعفر: ناولني هذه الدواة يا ابن أبي ذئب.. كانت الدواة على ماسة هناك، والخليفة أمير المؤمنين أبو جعفر جالس هنا، وابن أبي ذئب عالم المسلمين بينهما، فقال: والله لا أناولك الدواة. قال: ولم؟ قال: إن كنت تكتب باطلاً فلا أكون شريكاً لك في الباطل، وإن كنت تكتب حقاً فلست بخادم لك؛ فأرسل من أخذها وأتى بها.

    يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: دخل المهدي بن أبي جعفر المنصور المدينة -وهذه قصة معروفة- فلما دخل المسجد قام الناس جميعاً في المسجد؛ لأنه من بني العباس، ومعه أمراؤهم وعلماؤهم، وهو الخليفة، فلما دخلوا قام الناس كلهم إلا ابن أبي ذئب فما تحرك وكان ماداً رجله، فأتى المهدي فسلم عليه وقبل بين عينيه؛ لأنه كبير في السن وشيخ ومحدث وعالم وزاهد، وقال: لم لم تقم لي وقد قام الناس لي؟ قال: أردت أن أقوم لك وتحفزت وتهيأت فتذكرت قوله تعالى:يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] فتركت القيام لذلك اليوم. فقال المهدي: والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.

    قال: (عن سعيد المقبري) وهذا من مشايخ أهل المدينة ومن التابعين الكبار، وكان فيه عرج ولكنه من العباد الصالحين؛ كان يقوم من وسط الليل يصلي حتى الفجر، فتظن ابنة جاره إذا خرجت أنها خشبة منصوبة على السقف، فما انتقل من جيرتهم إلى بيت آخر قالت لأبيها: يا أبتاه! أين الخشبة التي كانت على بيت جارنا؟ قال: هذا المقبري، انتقل إلى بيت آخر، وما كان ينام كما تنامين (أو كما قال).

    قال: (أخبرني أبي عن ابن وديعة) وابن وديعة ليس من المشهورين المكثرين؛ ولذلك فترجمته قصيرة.

    (عن سلمان الفارسي) الباحث عن الحقيقة، رجل الحق الذي تمرس في الأديان وجربها في أرض الواقع، وخرج بنتيجة لكل عاقل إلى قيام الساعة؛ وهي أنه لا فلاح للإنسان إلا بهذا الدين.

    دخل مع المجوس في نارهم، ودخل مع النصارى في عبادتهم، واستقرأ أخبار اليهود، وفي الأخير أتى إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

    قواصد كافور توارك غيره     ومن قصد البحر استقل السواقيا

    وأكرم الله محمداً صلى الله عليه وسلم عن كافور.

    وفي الحديث مسائل:

    التجمل والتنظف للجمعة

    المسألة الأولى: ما هو الغسل؟ وماهو التطيب؟ وما هو التدهن؟ وما هو التنظيف؟ ألا تتداخل هذه الجمل؟

    قال ابن حجر: لا تتداخل. الغسل غسل الجسم، والتطهير تطهير الرأس، والتنظيف بأخذ الشعر والظفر من الجسم، والدهن إزالة شعث الرأس والتزين للجمعة، والطيب تغيير رائحة الجسم.. فهذه المعاني التي يريدها صلى الله عليه وسلم.

    وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يلبس للمناسبات حقها ولبوسها.. فإن كان صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه لبس عليه الصلاة والسلام ما تيسر من لباس، وإن أتى في الجمعة لبس الفاخر، يقول ابن عباس: [[خرج صلى الله عليه وسلم يوم العيد في حلة حمراء، فوالله ما رأيت أجمل منه]].

    ويقول البراء بن عازب: {صلى بنا صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء ورأيت ساقيه كالجمارتين (قلب النخلة) من البهاء؛ فقرأ بنا والتين والزيتون، فوالله ما سمعت صوتاً أحسن من صوته} وقد قيل:

    البس لكل حالة لبوسها     إما نعيمها وإما بوسها

    وفي المعركة يلبس درعاً وربما لبس درعين.. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين وأعرف بحقائق الأمور، فمن أراد أن يقتدي فعليه بمحمد صلى الله عليه وسلم في لباسه وفي طعامه وفي شرابه.

    وهديه في الجمعة أنه كان يلبس أفخر اللباس، حتى أنهم أهدوا إليه حلة لما رأوا منه العناية بلباس الجمعة -ولكنه حرمها- وقد كانت ترعد وتبرق وتزبد من حسنها ومن منظرها ومن زخرفتها، والصحابة ما كانوا يعهدون هذه الألوان رضوان الله عليهم، بل كانوا في فقر وفي حاجة ومشقة، وأما هذه فإنها لباس الملوك، فأتوا يلمسونها ويمشون أيديهم وأصابعهم عليها، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم، وعلم أن الدنيا تافهة وقال: {أتعجبون من هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه}. سعد بن معاذ هو الشهيد الكبير الذي اهتز له عرش الرحمن؛ أبو عمرو

    وما اهتز عرش الله من موت هالك     سمعنا به إلا لـ سعد أبي عمرو

    يقول عليه الصلاة والسلام: أتعجبون من هذه؟ لمناديل المخاط التي ربما يبصق فيها -إن كان لأهل الجنة بصاق- أو يمسح -إن كان له عرق وهو الجشاء- فمناديله أحسن من هذه التي تفتخرون بها.. ثم أتت المناظرة الأدبية التي مرت معنا في السير.

    إنما كان عليه الصلاة والسلام يلبس لباس الجمال، والذي أدعوكم في هذا الموقف إلى أن نجعل أحسن لباس للجمعة وقد مر هذا، واللباس الجميل هو ما تعارف عليه الناس في أي بلد أنه جميل، فعندنا هنا أن اللباس الجميل هي الثياب والبشت؛ فالإنسان إذا أتى الجمعة يلبس الجميل.. ولا ينبغي أن يختار لحضور المحافل لبس الجميل، وإذا أتى إلى الجمعة لبس الثوب العادي أو ثوب النوم.

    تخطي الرقاب

    وفي الحديث: كراهية تخطي رقاب الناس، ويدل عليه قوله في الحديث: {فلا يفرق بين اثنين} ورأى صلى الله عليه وسلم رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له: {اجلس فقد آذيت}. وفي لفظ: {اجلس فقد آنيت}. أي: تأخرت وآذيت الناس.

    فالتخطي ممنوع، قال الإمام مالك: ليس التخطي ممنوعاً إلا إذا وقف الخطيب على المنبر، وأما قبل ذلك فله أن يتخطى. وقال الشافعي: من كان له مكان لا يبلغه إلا بالتخطي فله أن يتخطى، وقال: إن كان له منزلة في الإسلام فله أن يتخطى.

    والصحيح أنه لا يتخطى رقاب الناس، لا يتأخر ويبقى في بيته ويضيع بركة الوقت وأجر التبكير، ثم يأتي ويضر الناس ويتقدم عليهم.. هذا خطأ يخالف العقل والنقل.

    النافلة يوم الجمعة

    مشروعية النافلة قبل الجمعة.

    وهذه مسألة عويصة؛ لأنها لم تنقل لنا بحديث، وابن تيمية يرى أنه يصلى قبل الجمعة، ولا أعلم في ورود الصلاة في المسجد قبل الجمعة حديثاً صحيحاً، أو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بها، وإنما أمر بالصلاة أربعاً بعد صلاة الجمعة كما سوف يأتي، وأما قبلها فقال ابن تيمية: هي من الأوقات التي يصلى فيها؛ فإن الصلاة الممنوعة هي حين يقوم قائم الظهيرة قبل الزوال؛ فهذا نهى عنه الشارع الحكيم، كما في الحديث الذي رواه مسلم عن عقبة بن عامر: {نهانا عليه الصلاة والسلام أن نصلي في ثلاث ساعات وأن نقبر فيهن موتانا.. وذكر منها: وحين يقوم قائم الظهيرة} أما يوم الجمعة فلك أن تصلي ولو قام قائم الظهيرة؛ يقول ابن تيمية: لأن الناس ما كانوا يخرجون من المسجد ليروا هل قام قائم الظهيرة أو زالت الشمس، بل يصلون حتى يدخل الخطيب.

    وأما جواز النافلة نصف النهار يوم الجمعة، وهي تتداخل مع تلك؛ لكن هذه مطلقة، أي أن النافلة المطلقة واردة ومشروعة، لقوله صلى الله عليه وسلم:{ثم صلى ما كتب له} أي: قبل الجمعة؛ وجواز النافلة نصف النهار تقتضي أنه لا نهي ولا كراهة في الصلاة في هذا الوقت.

    سؤال: بعض الناس يدخل المسجد فيصلي ركعتين ثم يقرأ القرآن؛ فإذا ظن أن الخطيب قد اقترب قدومه وقف وصلى. فما الحكم؟

    الجواب: هذا جائز ووارد؛ لأنه يدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام:{ثم صلى ما كتب له} فالوقت وقت صلاة ولا كراهية فيه.

    تكفير الذنوب بالحضور يوم الجمعة وشروط ذلك

    وأما التكفير للذنوب فمشروط بما تقدم من الغسل والطيب كما قاله أهل العلم؛ لأنها كفارة كما قال صلى الله عليه وسلم:{إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى} أي: غفر له لأنه اغتسل وتطيب وتدهن ولبس وبكر، ولم يتخط رقاب الناس، ودنا من الإمام وأنصت؛ فهذه كلها تقتضي أن تكفر له ذنوبه.

    أما إذا تأخر ولم يغتسل ولم يتطيب ولم يتنظف، وتخطى رقاب الناس، وآذى ولم ينصت؛ فهل تحصل له الكفارة؟ لا.. فإن مفهوم الشرط معتبر عند أهل العلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم شرط هذا بهذا.

    وقال ابن حجر: مفهوم الشرط معتبر؛ فلابد من تحصيل هذه الأمور؛ ليكفر الله عنه ما بينه وبين الجمعة الأخرى.

    وأما هل تدخل فيها الكبائر؛ فإن الشيخ عبد العزيز بن باز يعلق على هذا؛ لأنه يرد على الشافعية الذين يرون أن الأمر مطلق، والصحيح -كما هو رأي الجمهور- أنها تكفر الصغائر، أما الكبائر فلا تكفر إلا بالتوبة والاجتناب، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة:{الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، والعمرة إلى العمرة؛ كفارات أو مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر}

    وفي حديث عثمان في صحيح مسلم: {ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله}

    لكن هنا إيراد أورده ابن حزم الظاهري صاحب المحلى: وهو من لم تكن عنده صغائر فماذا يفعل به؟ الجواب: يكفر بها من الكبائر، وهذا رأي لـابن حزم. فمن ليس عنده صغائر ولا كبائر يرفع الله به درجاته ويعظم ثوابه.

    وليس المهم من الإيراد أن يكون واقعاً؛ فإنه قد تورد قضايا، لكن المقتضى ليس وارداً، المقتضى شيء آخر غير الإيراد، أن نورد قضية ثم نقول من مقتضاها كذا، ولذلك يقول ابن تيمية عن أبي حامد الإسفرائيني: يركب الفتوى.. لأنه يقول: من فعل كذا فأصبح كذا فصار كذا فهو كذا. فهذا تركيب الكلام على الكلام بالمقتضى، إنما المهم أن نعرف الأحكام لو وقعت، وسواء وقعت أم لم تقع، فـابن حجر ناقش هذه المسألة؛ مسألة: لو لم يكن عنده صغائر ولا كبائر. وقال: يرفع من درجاته.

    ثم هل تكفر الصغائر بصلاة الجمعة وعند صاحبها كبائر؟ الجواب: المسألة فيها قولان: فأصحاب القول الأول قالوا: هذا قيد، ومعناه: إذا انتهى من الكبائر في هذا الأسبوع، وإن كان له كبائر من قبل.. وهذا فيه تكلف، والصحيح -والله أعلم- أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، وأن التوبة لابد فيها من اجتناب الكبائر، ولكن يبقى عندنا إشكال وهو في قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]

    فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: إذا اجتنبتم الكبائر كفرنا عنكم الصغائر، لا بالجمعة ولا بالصلاة، والشرط في تكفير الصغائر هنا هو اجتناب الكبائر، فكيف تكفر صلاة الجمعة هذه الصغائر وقد كفرت باجتناب الكبائر؟

    الجواب: من عنده كبائر تكفر الجمعة عنه الصغائر، أما الذي ليس عنده كبائر فكفر الله سيئاته بغير الجمعة.. هذه مسائل الكبائر والصغائر، وليس هناك نص في الباب، ولكنه استطراد لقوله: {غفر له ما بين ذلك}.

    1.   

    آداب الجمعة وخصائصها

    أما آداب الجمعة وسننها، فالسنن العملية والخصائص عشرون خصيصة، يزاولها الإنسان يوم الجمعة، وأورد ابن القيم الكثير في زاد المعاد، لكن نكتفي بالأمور التي صحت فيها أحاديث، أو هي عملية يحتاجها المؤمن في الحياة.

    خصائص تتعلق بالتهيؤ والتنظف وهي سبع

    الخصيصة الأولى: الغسل يوم الجمعة؛ وقد مر الكلام عنه واختلاف أهل العلم فيه، وقلنا: إنه سنة مؤكدة.

    الثانية: الطيب. ومن لم يجد طيباً فعليه أن يتطيب من طيب أهله؛ كما قال عليه الصلاة والسلام، والعجيب أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة كان يتطيب على ما آتاه الله تعالى من طيب، وسواءً تطيب أم لم يتطيب فهو طيب، فقد جاء في حديث أم حرام بنت ملحان لما دخل عليه الصلاة والسلام ونام في بيتها، فجمعت عرقه من جبينه صلى الله عليه وسلم في قارورة وقالت: هو أطيب الطيب.

    ويقول أهل العلم: كان عرقه صلى الله عليه وسلم يتحدر كالجمان -أي الدر- وكان يوجد منه الطيب سواء تطيب أم لم يتطيب.

    يا خير من دفنت في القاع أعظمه     فطاب من طيبهن القاع والأكم

    نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه     فيه العفاف وفيه الجود والكرم

    والطيب من أشرف خصال الرجل، وهو زكاة للنفس ورفعة للروح وانشراح وبسطة، وورد في بعض الآثار التي لا تصح: {لو أتلف الإنسان نصف ماله أو ثلث ماله في الطيب لكان حسناً}. ومن حرصه صلى الله عليه وسلم على الطيب أن خصص أحد الصحابة وهو نعيم ليجمر المسجد فكان يفوح من المسجد، وكانت العرب تتمادح بطيب الرائحة، يقول الأول:

    رقاق النعال طيب حجزاتهم     يحيون بالريحان يوم السباسب

    فهم يمتدحون بطيب الرائحة وبحسنها.

    الخصيصة الثالثة في هذا الحديث: الدهن. وهل هو الدهن المعروف لدينا أم غير ذلك؟ يقول ابن حجر: الدهن إما الطيب وإما الدهن المعروف السائر. ولكن كأن الظاهر من الحديث أنه هو الطيب.

    الخصيصة الرابعة: السواك. قال ابن القيم: له ميزة يوم الجمعة على غيره من الأيام، وقد ورد في السواك أحاديث لو جمعت لأصبحت مجلداً بتحقيقها وتخريجها وشرحها. يقول عليه الصلاة والسلام: {السواك مرضاة للرب مطهرة للفم} كما عند النسائي وابن خزيمة، ويقول: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء} أو {عند كل صلاة} ويقول حذيفة: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل شاص فاه بالسواك}. ويقول صلى الله عليه وسلم: {أكثرت عليكم في السواك} ويقول: {لقد تسوكت حتى خشيت على أسناني} فكانت أسنانه كالبرد من كثرة ما يتسوك عليه الصلاة والسلام، وخصص أحد أصحابه وهو ابن مسعود ليجتبي له سواك أراك، فكان يصعد الشجر ويأخذ له منها سواكاً.

    وقد جاء في القصة: أن الريح هزت الشجرة وابن مسعود على أغصانها، كأنه عصفور من دقة جسمه، فتضاحك الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من دقة ساقيه؟! إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد}. أو كما قال عليه الصلاة والسلام. ويقول أبو الدرداء لأحد رواة الحديث من أهل العراق: أليس منكم صاحب النعلين والسواك والوساد؟

    فيوم الجمعة يستحب -بل يتأكد كثيراً- أن يتسوك المسلم وأن يكثر من السواك فيه؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب، وعدد ابن القيم من فوائده ما يقارب اثنين وثلاثين فائدة، وابن حجر يوافق على ثمانية عشرة، وأما بعضها فمحتمل وليس ظاهراً.

    ومن الخصائص كذلك: غسل الرأس، فإن غسل الرأس عند أهل العلم شيء وغسل البدن شيء آخر، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة: {حق على كل مسلم أن يغتسل في الأسبوع مرة يغسل فيها رأسه وبدنه} ففصل صلى الله عليه وسلم بين الرأس والبدن، ولو قال: يغسل جسمه. لاحتمل دخول الرأس فيه، ولكن أكده صلى الله عليه وسلم بغسل الرأس. فمن الميز أن يغسل المسلم يوم الجمعة رأسه، وأقل الغسل عند المسلم مرة في الأسبوع.

    الخصيصة السادسة: تنظيف الشعر وتقليم الأظافر؛ وهو يشمل شعر الجسم الذي يؤخذ إلا اللحية فإن أخذها حرام، لكن كالشارب وغيره من فضلات الجسم فإنها تؤخذ، وتقلم الأظافر، ولا أعلم أنه يصح حديث في أخذها يوم الجمعة أو يوم الخميس؛ لأن فيها حديثين ضعيفين؛ حديث يوم الجمعة وهو حديث سفيان الثوري، وحديث يوم الخميس، وكلاهما ضعيف، ومن اطلع على صحة حديث منهما فليفدنا.

    يقولأنس في التوقيت لأخذ الشعر: {وقت لنا أربعين ليلة في أخذ الشعر} ولكن هذا هو الحد الأعلى للأخذ، فإنه يتنزل حتى يأخذ بعض الناس في كل جمعة.

    الخصيصة السابعة: لبس الجديد. وقد مر، ويأتي حديث عمر أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله، خذ هذه الحلة السيراء تلبسها للجمعة والوفود}. وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] فالزينة هي أحسن ما يلبس المؤمن لبيت الله عز وجل، ولحضور الجمعة التي هي عيد المسلمين.

    التبكير والقرب من الإمام

    الخصيصة الثامنة: التبكير، وقد مر معنا في حديث البدنة والبقرة والكبش.

    الخصيصة التاسعة: الدنو من الإمام، والدنو من الإمام قيل: إذا كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويستفاد من خطبته، وأما سفيان الثوري فله تنظير آخر، قال: أما الظالم فلا يدنى منه، وكان يصلي فيأتي في آخر الناس، فقالوا له: ما لك؟ قال: أدنو من هذا الظالم، يسفك الدماء، ويلعب بالأموال، ويأمر بالمنكر، وماذا أستمع؟!

    ونقل مرة أن سعيد بن جبير صلى مع الحجاج فصلى في آخر الناس، فقام الحجاج على المنبر يسرد خطباً طوالاً في مدح بني أمية، وخالات بني أمية وعماتهم، فكان سعيد بن جبير يصلي إيماءً، فلما انتهت الجمعة قال له بعض الناس: ما لك؟ قال: أخر علينا الجمعة فصليت ظهراً إيماءً ثم صليت معه.

    وقال الحسن البصري في الحجاج: يخطب بنا خطب الواعظين، ويلبس لباس الفساق، ويقرأ القرآن على لخم وجذام، ويبطش بطش الجبارين.. فنعوذ بالله من ذلك!

    والغرض من الدنو من الإمام الفائدة وطلب الحكمة والموعظة؛ وحتى يلين القلب ويتأثر بذكر الله.

    الخصيصة العاشرة: الإنصات للإمام؛ فقد جاء عند أحمد وأبي داود: {ومن لغا فلا جمعة له} وهي زيادة ضعيفة، لكن جاء في الصحيح: {من مس الحصى فقد لغا} وزيادة: {لا جمعة له} اختلف فيها أهل العلم، لأنها لم تصح، وهي عند أبي داود وأحمد بسند ضعيف.

    وأما السواك والإمام يخطب فلا ينبغي، وليس بجائز ولا وارد، وقد قاسه أهل العلم على اللعب بالحصى، ومن فعله فقد لغا، ولا يحق له ذلك.

    قراءة سورة الكهف

    الخصيصة الحادية عشرة: قراءة سورة الكهف، والحديث الوارد فيها رواه الدارقطني والبيهقي بسند صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام:{من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أضاء له نور تلك الليلة} وفي رواية: {وغفر له ذنبه} وهذا الحديث صححه بعض أهل العلم وبعضهم حسنه، فليس بضعيف بل هو صحيح.. فتقرأ سورة الكهف ليلة الجمعة؛ أي: من مغرب الشمس ليوم الخميس إلى غروب الشمس من يوم الجمعة، فمن أراد أن يقرأ قبل الصلاة فله ذلك، ومن أراد أن يقرأ بعد الصلاة فله ذلك أيضاً، وفي تلك الليلة -ليلة الجمعة- حتى يكتب الله له عظيم الأجر.. فعلى المؤمن أن يحافظ على هذا.

    الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

    الخصيصة الثالثة عشرة: كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن أوس أنه قال:{أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: كيف يا رسول الله وقد أرمت؟! -أي: فنيت وبلي جسمك بعد الموت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} وبعضهم يقول: {والشهداء} ولكن لم أر هذه الزيادة، فاللفظة الصحيحة الثابتة (أجساد الأنبياء) أما الشهداء فلا أعرف إلا قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

    وقد صرح عليه الصلاة والسلام في الحديث أن أجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض، وهذه ليست قضيتنا، وسوف تمر علينا في كتاب الأنبياء من صحيح البخاري.

    وما هي أحسن الصيغ في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم؟ قال ابن تيمية: إن أحسن الصيغ هي الصيغة التي نقولها في التحيات: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آله محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد) لكن ابن تيمية رحمه الله وهم في هذا الحديث وقال: لا يقول: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) وإنما يقول: (كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم) وأما (كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على إبراهيم) فليست بواردة. ورد عليه ابن حجر في الفتح وقال: بل صحت كما في معجم الطبراني، وهذا وهم من ابن تيمية، ثم أتى بالحديث.

    والشاهد: أن هذه أحسن صيغة في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.

    ومن أحسن الكتب التي ألفت في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم: كتاب لـأبي إسماعيل القاضي المالكي اسمه: فضل الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، وأحسن منه وأجود كتاب ابن القيم جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم، وذكرها أهل العلم كما في الأذكار للإمام النووي، وفي كتاب عمل اليوم والليلة لـأبي بكر بن السني، وعمل اليوم والليلة للنسائي.

    من خصائص الجمعة

    الخصيصة الرابعة عشرة: لا يفرق بين اثنين، وقد مر هذا، وأنه من الإيذاء وأنه أمر مستقبح، وللخطيب أن يتكلم ويرد على من يفعل ذلك.

    الخصيصة الخامسة عشرة: لا يتخطى الصفوف، قال صلى الله عليه وسلم: {اجلس فقد آنيت وآذيت} تأخرت وآذيت.

    الخصيصة السادسة عشرة: السنة بعد الجمعة، قال ابن عمر كما في الصحيحين: {حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات؛ ركعتين بعد الجمعة، وركعتين قبل الظهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتي الفجر في بيته}. وزاد مسلم: {وركعتين بعد الجمعة في بيته} لكن يقول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم:{إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا بعدها أربعاً} فكيف نجمع بينهما؟ قال ابن تيمية: الجمع بينهما أنه من صلى في بيته فليصلِّ ركعتين، ومن صلى في المسجد بعد الجمعة فليصل أربعاً. وهذا من أحسن ما جمع به بين الحديثين.

    وقالوا: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً بعد الجمعة في المسجد.

    الخصيصة السابعة عشرة: الاهتمام بساعة الاستجابة؛ وقد مر معنا أن الصحيح أنها في آخر ساعة من ساعات الجمعة، وهناك من قال بأنها من جلوس الخطيب إلى أن تقضى الصلاة، والحديث في مسلم، وبعض أهل العلم ضعفه كـابن تيمية والدارقطني.

    ويقول ابن حجر: فيها ثلاثة وأربعون قولاً.. ثم أوردها في فتح الباري؛ ولذلك فلا هجرة بعد الفتح.

    الخصيصة الثامنة عشرة: الصدقة يوم الجمعة. ولها فضل، ولا أعلم فيها حديثاً، لكن قال ابن القيم في كتابه زاد المعاد: وكان شيخ الإسلام -يعني ابن تيمية - إذا أتى ليصلي تصدق بصدقة قبل صلاة الجمعة، فقلت له في ذلك، فقال: إن الله أمر بالصدقة عند مناجاة الناس لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12] ومناجاة الله أولى، وذلك يوم الجمعة فنتصدق.

    وهذا يسمع، ولكن يتوقف حتى يثبت حديث ويصح، ومن تصدق فهو مأجور مشكور، لكن لا نعتبرها من السنن؛ لأنه من كلام ابن تيمية، والعلماء يستشهد لآرائهم ويحتج لآرائهم، ولا يحتج بآرائهم لتصبح أدلة، فإن الذي يؤخذ كلامه ولا يرد هو محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يؤخذ من كلامه ويرد هم من سواه صلى الله عليه وسلم.

    المشي إلى الجمعة وعدم الركوب

    الخصيصة التاسعة عشرة: المشي إلى الصلاة، وقد فضلها أهل العلم على الركوب، وكان هدي الصحابة المشي إلى الجمعة، وقد جاء في السنن: {بشر المشائين في الظُلم} وقوله: (في الظلم) وارد على الغالب وليس قيداً مخصصاً؛ فإنه إذا وردت صفة ليست لعلة مطلقة في الوصف فإنها للتغليب فحسب، ويسمى هذا قيداً أغلبياً كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23] فقوله: (اللاتي في حجوركم) قيد أغلبي، وإذا كانت الربيبة في غير الحجر فلها أيضاً نفس الحكم، وقوله صلى الله عليه وسلم:{إذا التقى المسلمان بسيفيهما} فالسيف هنا قيد أغلبي، فليس لهما أن يلتقيا بمسدسيهما وببندقيتهما، وكذلك المشاءون إلى المساجد سواء في الليل أو في النهار.

    عدم إفراد الجمعة بالصوم

    العشرون: عدم إفراد الجمعة بالصوم؛ وبعض العباد الذين لم يطلعوا على النصوص يصومون هذا اليوم ويفردونه، وما علموا أن من داوم على إفراده بالصوم فقد ابتدع في دين الله.

    دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على جويرية وهي صائمة، فقال صلى الله عليه وسلم: {أصمت يوماً قبله؟ قالت: لا. قال: أتريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا. قال: فأفطري إذن.. فأفطرت}. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: {نهى صلى الله عليه وسلم أن تخص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي وأن يخص يوم الجمعة بصيام من بين الأيام}.

    هذه عشرون قضية وخصيصة من خصائص يوم الجمعة؛ إنما ذكرتها لأن البخاري فرقها في الصحيح، وكذلك ابن حجر، واعتنى البخاري بالتبويب على مسائل أهل الحديث، لا على المسائل التي في كتب الفقه.

    1.   

    لباس يوم الجمعة

    قال البخاري باب: يلبس أحسن ما يجد.

    قال : أي: فضل ذلك، أو فضل العمل بذلك، أو ما ورد فيه من فضل. قال: حدثنا عبد الله بن يوسف التنيسي المصري قال: أخبرنا مالك.. وهو النجم، قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فـمالك النجم (أو الفقهاء) فهذا هو مالك رحمه الله.

    و مالك حيث أفتى في مدينته      فلست أرضى بفتوى غير فتواه

    عن نافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن عمر -وهذه تسمى عند أهل العلم: السلسلة الذهبية، فمن أقوى الروايات عند البخاري: مالك عن نافع عن ابن عمر، وزاد بعض أهل العلم الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وزاد غيرهم: أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر؛ فهذه سلسلة الذهب أو السلسلة الذهبية التي لا تنفصم، وذلك لقوتها وجلالة أصحابها فهم كالنجوم.

    من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم     مثل النجوم التي يسري بها الساري

    شرح حديث الحلة التي أراد عمر أن يشتريها النبي صلى الله عليه وسلم

    والحديث: {أن عمر رضي الله عنه رأى حلة سيراء} -قال الخطابي: تضبط على (سُيراء) بضم السين، وقال غيره من أهل العلم: (سِيراء) بالكسر. وقال الخطابي: هي على وزن عُشراء؛ لأن الناقة إذا أصبحت في الشهر العاشر سمتها العرب عُشراء، قال تعالى: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ [التكوير:4] وهنا سُيراء لكثرة سيورها.. {عند باب المسجد} مسجده صلى الله عليه وسلم، وفيه جواز البيع عند أبواب المساجد.. { فقال: يا رسول الله! لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدم عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة. ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد... ما قلت!! }.

    وهذا هو عطارد بن حاجب التميمي خطيب الوفد الذين وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم لما وفدوا قالوا: يا رسول الله! نريد أن ننافرك ونغالبك. فأتوا بخطيبهم، قيل: أنه عطارد، وقيل: عمرو بن الأهتم فوقف على المنبر ومدح بني تميم وما تعرض للصحابة ولا للمهاجرين والأنصار.. والمنافرة عند العرب أن يأتي الخطيب ويتفاخر بمآثرهم في الجاهلية، فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؛ تألفاً لقلوبهم واستجذاباً لأرواحهم للإسلام.. فلما انتهى قال صلى الله عليه وسلم: أين ثابت بن قيس بن شماس، وهو أنصاري؛ فقام رضي الله عنه فقال له: رد عليه. فقام على المنبر فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُثبَّت فثبت الله كلامه، فألقى موعظة كأن الصواعق تتحدر من على المنبر حتى غلب خطيبهم، فإذا عرق بني تميم يتصبب على جباههم، ثم قام شاعرهم وهو الزبرقان بن بدر في قصيدته المشهورة التي يقول فيها:

    نحن الملوك فلا حي يضارعنا     منا الملوك وفينا تنصب البيع

    فلما انتهى من قصيدته قال صلى الله عليه وسلم: أين حسان؟ فقال: هأنذا يا رسول الله! فقال: رد عليه، اللهم أيده بروح القدس -يعني بجبريل- أي: ثبت قلبه وأيده؛ لأن الأمر ضيق والوقت عجل، وهو إما أن ينجح في هذا الموقف وإلا فهو الفشل، فقام فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: كيف أنت؟ فقال: يا رسول الله عندي لسان لو وضعته على حجر لفلقه، ولو وضعته على شعر لحلقه؛ ثم مد لسانه فضرب أرنبة أنفه.. وقليل من الناس من يفعل ذلك.

    يقول الذهبي: قال رجل لبعض زملائه: كل من في السوق لا يعقلون شيئاً وليس فيهم عاقل. قالوا: ما صدقت. قال: اذهبوا معي، فذهبوا معه فأخذ يهلل ويكبر حتى اجتمع الناس عليه فقال: يا أيها الناس! ورد في الأثر أنه من مس لسانه أرنبة أنفه أدخله الله الجنة!! فأخذ الناس في السوق كل يمد لسانه حتى مد جميع من في السوق.. فـحسان رضي الله عنه قالها بجدارة لطول لسانه في الحق، فقام على منبره صلى الله عليه وسلم، وأخذ صلى الله عليه وسلم يقرب له المنبر بيديه الشريفتين، فأخذ ينطلق وهو يقول:

    إن الذوائب من فهر وإخوتهم     قد بينوا سنناً للناس تتبع

    يرضى بها كل من كانت سريرته     تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا

    إلى آخر تلك القصيدة الرنانة التي ما سمع الناس بمثلها، فلما انتهى هزموا مرة ثانية، وقالوا: غلب شاعرك شاعرنا وخطيبك خطيبنا؛ فأسلموا.

    وكان فيهم قيس بن عاصم المنقري حليم العرب، فقال صلى الله عليه وسلم لما دخل الوفد: من هذا؟ -وكان عمره ستين أو سبعين سنة وعليه لفافة على رأسه- قالوا: هذا قيس بن عاصم. فقال: ما ذكر لي أحد إلا كان أقل مما ذكرلي إلا هذا فكان أعظم مما ذكر لي، أنت سيد أهل الوبر.. ولذلك يقول الأول:

    عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما

    تحية من ألبسته منك نعمةً     إذا زار عن شحط بلادك سلما

    وما كان قيس موته موت واحد     ولكنه بنيان قوم تهدما

    {فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! كسوتنيها، وقد قلت في حلة عطارد ما قلت!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أكسكها لتلبسها، فكساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخاً له بـمكة مشركاً}.

    التجمل ليوم الجمعة وللناس

    في هذا الحديث مسائل:

    التجمل للجمعة لإقراره صلى الله عليه وسلم لـعمر بن الخطاب، فإنه قال: لتلبسها للجمعة؛ فأقره وما أنكر عليه وما قال: ولم الجمعة؟ فعلم أن المعهود -كما يقول الخطابي - أن يتجملوا للجمعة.

    المسألة الثانية: إظهار التجمل للناس، وللوفود، وفي المناسبات.. فإن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله تلبسها للجمعة وللوفود. فالتجمل للناس مطلوب، ولذلك جاء في البيهقي بسند حسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:{إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه} ومن حسن الطالع أن يتجمل المؤمن، وأن يظهر الجمال في ملبسه ومظهره أمام الناس؛ ليظهر نعمة الله، ويظهر قوة الإسلام وروعته وبهاءه، فإن التكبر شيء والتجمل شيء آخر.

    والتجمل لا يدخل فيه الكبر إلا لمن أراد به الكبر؛ فقد جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود: {أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسن -أي: أهو من الكبر؟- قال صلى الله عليه وسلم: ليس من الكبر؛ الكبر بطر الحق وغمط الناس} بطر الحق: أي رده ودحضه، وغمط الناس: ازدراؤهم واحتقارهم.

    وقال صلى الله عليه وسلم:{إن الله جميل يحب الجمال} وهذه من الصفات التي وردت لله عز وجل، وقد ذكرها صلى الله عليه وسلم.

    وجاء في الترمذي: {إن الله نظيف يحب النظافة} وفي هذا الحديث كلام، لكن تهيب بعض أهل السنة من إطلاق هذا اللفظ، والحديث وارد.

    فيستحب إظهار التجمل للناس، يقول ابن القيم: المذموم في اللباس لباس الشهرتين، أن يلبس الإنسان لباساً شهيراً من الجودة والفخامة حتى يلحقه بالملوك، أو يلبس لباساً وضيعاً يلحقه بالشحاذين. وخير الأمور أوسطها، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143] وفي حديث في الترمذي: {خير الأمور أوساطها} لكنه ضعيف كما نص عليه الأرناؤوط في تحقيقه لـجامع الأصول.

    وهنا سؤال: هل إطالة الثوب إلى ما تحت الكعب من التجمل ليوم الجمعة، أم هو من القبح؟

    الجواب: يعتبر هذا من القبح يوم الجمعة وغير يوم الجمعة، وليس من التجمل، بل إنه من التهتك في دين الله، وهو خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ما أسفل من الكعب فهو في النار، وليس فيه شيء من الجمال؛ فإن الجمال في السنة أن يظهر الإنسان بمظهر محمد صلى الله عليه وسلم، فما هناك أجمل منه.

    رفض النبي صلى الله عليه وسلم للحلة وما يحرم من اللباس

    المسألة الثالثة: علة رفضه صلى الله عليه وسلم للحلة، وقوله: {إنما يلبس هذه من لا خلاق له يوم القيامة}.

    ذكر أهل العلم أنها من الحرير، وقالوا: هي من الديباج؛ فعلى ذلك فالديباج أعظم، وقد نهي في حديث البراء عن المياثر وعن الديباج، فلا تلبس في الدنيا، إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة.

    والسؤال: أيلبسها الكفار في الدنيا تحليلاً لهم لأنه قال: لا يلبسها إلا من لا خلاق له في الآخرة؟ وهل يعني ذلك أنها لهم في الدنيا حلال؟ كقوله صلى الله عليه وسلم: {فإنها لهم -يعني آنية الذهب والفضة- في الدنيا ولكم في الآخرة} لا.. وإنما يعني أنهم استحلوها وهي محرمة عليهم.

    المسألة الرابعة: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وقد ورد هذا في صحيح مسلم عن حذيفة، وقام عليه الصلاة والسلام -كما في حديث علي رضي الله عنه- على المنبر، فأخذ قطعة من ذهب وقطعة من حرير وقال: {إن هذين حرام على رجال أمتي حلال لنسائها} وروى هذا الحديث كذلك أبو داود وأحمد والنسائي وهو صحيح، وفيه رد على من حرم الذهب المحلق، وهناك رسالة بعنوان: القول الجلي فيما ورد في الحلي، وهو كتاب مطبوع ومن أحسن الرد.

    إعطاء المشرك وأهمية المشاورة

    المسألة الخامسة: إعطاء المشرك تأليفاً لقلبه؛ فـعمر أعطى الحلة أخاه من المشركين، والرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الكفار ليتألف بهذا العطاء قلوبهم، فلا بأس أن تعطي منافقاً أو مشركاً إذا كان هناك مصلحة تتألفه بها إلى هذا الدين.

    المسألة السادسة: المشاورة في الأمور الخاصة؛ فإن عمر رضي الله عنه اقترح على الرسول صلى الله عليه وسلم في زيه أن يغير منه أو يلبس حلة ليوم الجمعة، وهذا الزي أمر خاص يخص الإنسان.. فهذه مشاورة وعرض، وهذا يدل على أمرين:

    الأول: إجلال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم له؛ فيريدون له أن يظهر بالكمال والتمام.

    الأمر الثاني: تواضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث يستمع ويتكلم في هذا الكلام؛ لأن بعض الناس لا يجد قبولاً أن تقترح عليه، قيل للأعمش -كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء - وكان يلبس الفرو أو البردة خلاف ما يلبسها الناس، فأتى أحد تلاميذه وقال: يا أبا محمد، لو لبستها مقلوبة كان أحسن. فقال: لماذا ما أشرت على الخروف بهذا؟ يقول: الخروف يلبسها مقلوبة؛ لأن فروة الخروف تأتي من الخارج، فيقول: أشر على الخروف، أما أنا فلا تشر علي بهذا.

    أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقبل المشورة، لكنه قال: {إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة} فالمانع من الأمر ليس لأنك تدخلت في الشئون الخاصة؛ لكن لأنك ما عرفت أنها محرمة.

    سؤال: من أتى ليصلي سنة من السنن كسنة الظهر مثلاً، فهل يصلي قبلها تحية المسجد أو أنها تكفي عن التحية؟

    الجواب: السنة تنوب عن تحية المسجد، فإن النوافل تتداخل، فمن أتى وقصده أن يصلي قبل الجمعة ركعتين فيجعلها سنة للجمعة وتحية للمسجد، وكذلك ركعتي الفجر، إلا عند ابن حزم فإنه يقول: يصلي ركعتين تحية المسجد ثم يصلي ركعتين سنة الفجر، وهذا خطأ بل إنها تتداخل.

    وفي ختام هذه الجلسة نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم ممن يتحابون فيه ويتواصون بطاعته، وأن يتغمدنا برحمته.

    سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765025105