أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ولا زلنا في طوافة ومعيشة مع البخاري في صحيحه، ولو أنصفوه لما خط صحيحه إلا بماء الذهب؛ ولذلك كان لهذا الكتاب مكانته كما تعرفون ويعرف غيركم من طلبة العلم، ولا بد من تكرار هذه المعاني في كتب أهل السنة التي قدمها أئمة الإسلام إلى هذه الأمة المرحومة، الأمة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
ومعنا في هذه الجلسة حديث يستهل به الإمام البخاري رحمه الله كتاب الزكاة في هذا الكتاب، وقد قلنا في مناسبة: إنه لا بد في مثل هذه الجلسات من التنويع بين الرقائق والأحكام وبين المسائل والفضائل، وأنه لا بد أن يجمع طالب العلم بين مسائل العلم التي ترقق القلب وبين الأحكام التي تفقه المسلم في دينه.
قال البخاري رحمه الله: "باب وجوب الزكاة" وقال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:83] ثم قال بعد أن ساق الحديث بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم
أما صاحب هذه القصة فإنه سيد العلماء رضي الله عنه وأرضاه وقائدهم إلى الجنة، يسبقهم يوم القيامة برتوة حجر، فهم يمشون يوم القيامة بعده حتى يدخلوا الجنة جميعاً.
والعجيب أن هذا الحديث من رواية الأقران، أي: من رواية صحابي عن صحابي، وهو فن مستقل بذاته.
والطرفة الأخرى هي: أن هذا الحديث رواه عالم عن عالم، فـابن عباس ترجمان القرآن وحبر الأمة يروي قصة معاذ رضي الله عنه وأرضاه وقبل أن نشرع في هذا الحديث الذي سمعتموه فإن معنا عشرون قضية:
ألا أيها المال الذي قد أباده تعزى فهذا فعله في الكتائب |
قال كعب بن مالك: [[كان أسخى الأنصار بعد
فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن المسألة سوف تطول، وأن أموال الناس سوف تهدر، وأن تركته لا تغطي ولا تفي، حجر عليه صلى الله عليه وسلم، وأعلن في الناس أن ماله محجور تحت تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لحكم سوف أذكرها بإذن الله.
والعجيب أن ابن كثير في كتابه الشمائل، ساق بسند مظلم أن هذا الحمار لما توفي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المدينة يطوف ويلتمس كأنه فقد صاحبه ثم تردى في بئر ليس فيها ماء ومات.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان راكباً وكان معاذ رديفه قال: {فمشينا برهة -أي ردفة من الزمن- فقال عليه الصلاة والسلام يا
ففي تلك الليلة قال معاذ: اقتربت منه صلى الله عليه وسلم فوجدت أبا قتادة من الأنصار قريباً منه، وكان في آخر الليل، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعس على راحلته -لأنه سهر في الليل في تلك الليلة- وكاد أن يسقط من على الراحلة وتكاد تسقط به.
قال أبو قتادة كما في صحيح مسلم: { فاقتربت منه ودعمته بيدي -أي: أسندته بيدي- حتى رددته إلى مكانه، قال: ثم نعس الثانية، فرددته، ثم نعس الثالثة حتى كاد يسقط، فانتبه عليه الصلاة والسلام، قال: من؟ قلت:
يقول ابن المسيب رضي الله عنه: [[إن الله يحفظ العبد المؤمن في أهله وأولاده ودويريته]] أي: حتى في الدور التي تقاربه في قريته.
ففي تلك الليلة العامرة التي لا ينساها معاذ رضي الله عنه وأرضاه تقدم ليستغل الوقت في سمر من أحسن السمر مع سيد البشر عليه الصلاة والسلام -هل يتحدث معه في الدور أو القصور أو الوظائف أو يطلبه منصباً؟ وهو عليه الصلاة والسلام يستطيع أن يعطيه ذلك؛ فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاه من الولايات ما الله بها عليم- فقال: يا رسول الله! ما هو العمل الذي يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟!
هذا أعظم سؤال قد وقع بعد سؤال العقائد على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: {إنه ليسير على من يسره الله عليه} وفي لفظ الترمذي: {يا
أي: لقد سألت عن أمر من أعظم الأمور، وهذا الحديث الذي تسمعونه قاعدة من قواعد الإسلام وأصل من أصول الدين، وهو من الأحاديث النبوية التي عليها مبنى أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: {لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه} ثم أتى صلى الله عليه وسلم يسوق الأمور التي تقرب العبد من الجنة وتوصله إليها، وهي مفاتيح من مفاتيح أهل الجنة، فاستمعوا إليه:
يقول: {تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت -ثم وقف عليه الصلاة والسلام، وظن
وقال ابن مسعود: [[أوتي رسول الله جوامع الكلم وهديه وآخره]].
ثم قال: { ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم سكت صلى الله عليه وسلم وقال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: الصوم جُنة -يعني: وقاية- والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل صدقة، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قوله تبارك وتعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ... ) [السجدة:16] إلى قوله: (يعلمون) ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا، وأخذ بلسان نفسه عليه الصلاة والسلام، فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! -أي: أيسجل علينا؛ لأنهم ما علموا إلا ما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا معاذ! -وهذا عند العرب لا يراد به الظاهر وإنما هو دعاء، أي: فقدتك، حتى هذه المسألة لا تعرفها- وهل يكب الناس على مناخرهم أو قال: على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم} رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
عاش معاذ رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام معجباً به وبعلمه، وروى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي بسند صحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أرحم أمتي بأمتي
فاشتد عليه ذلك أيما شدة؛ لأنه سوف يفقد حبيبه عليه الصلاة والسلام، وسوف يفقد صاحبه الذي يقول له كما في سنن أبي داود وغيره قال: {صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فشبك أصابعه مع أصابعي، وقال: يا
كان معاذ -رضي الله عنه- فيه بعض الحدة على جودة خلقه وجودة يده وسخائه، فقال له صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي: {يا
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله |
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله |
من ملاحظاته صلى الله عليه وسلم على معاذ:
أن معاذاً -كما في الصحيحين- كان إماماً على قباء عند بني سلمة، فصلى بهم وأطال العشاء، وفي ألفاظ في السنن أنه قرأ بهم سورة البقرة، فأتى أحد الأنصار كان يعمل على ناضح له طيلة يومه يروي النخل، فأقبل الظلام فترك عمله وأتى للصلاة فوجد معاذاً يصلي، فكبر وبدأ معه، فطال عليه الليل وطالت القراءة، ومعاذ ربما كان متفرغاً مرتاحاً همه أن يراجع الآيات وهو جالس في البيت، لكن كثيراً من الأنصار عندهم سقي المزارع رضوان الله عليهم وأرضاهم، فهم أهل كسب ومعيشة.
فانتظر هذا الرجل وإذا الليل يسري، فأخذ نفسه وصلى في طرف المسجد، فلما سلم قال الناس: يا أبا عبد الرحمن! إن فلاناً دخل في الصلاة ثم قطعها، فأفتاهم معاذ، قال: ذاك رجل منافق؛ لأنه ظن أنه من لا يصبر على طول الصلاة أنه منافق.
فسمع الرجل هذه الفتوى فذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وطرح القضية بين يديه، قال: يا رسول الله! والله إني لأترك صلاة الغداة مما يطول بنا معاذ، وقد تركت معه صلاة البارحة مما طول بنا، فلما تركت الصلاة قال إني منافق.
فاستدعاه صلى الله عليه وسلم، وربما يتوهم متوهم أنه سوف يعطيه جائزة على صبره وحسن قراءته، ولأنه طول بالناس، قال ابن مسعود: {فلما دخل
قال الذهبي: صح بأسانيد أنه لما أرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له : {حفظك الله يا
ثم التفت إليه صلى الله عليه وسلم فقال: {اتق الله حيثما ما كنت -وهذا أعظم حديث وهو من الأحاديث النووية- وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} ثم قال: {يا
طوى الجزيرة حتى جاءني خبره فزعت فيه بآمالي إلى الكذب |
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شركت بالدمع حتى كاد يشرق بي |
فذهب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي بكر وقال: يا خليفة رسول الله! أأرسلتم معاذاً إلى اليمن تاجراً أو معلماً؟! قال: وماذا؟! قال: أتى بإبل وخيل ومال، فحاكمه وناصفه وخذها لبيت المال.
وهو يقصد النصيحة، وإلا فوالله إنه يحب معاذاً كما يحب نفسه، وهذا لا نشك فيه؛ لأن الله عز وجل جعلهم إخوة متحابين كما وصفهم في القرآن أنهم رحماء بينهم.
فقال أبو بكر: لا والله لا آخذ مال معاذ، إنه أصدق وأنصح لله ولرسوله من أن يأخذ من بيت المال شيئاً، قال معاذ: فحلمت تلك الليلة وكأنني أساق إلى النار، وكأن عمر يأخذ بحجزي -يعني بأطراف ثيابي يبعدني عن النار- فلما أصبح الصباح، صليت الفجر، فسلمت على عمر واحتضنته وهو يبكي وأنا أبكي، قال: مالك؟! قال: رأيت البارحة كذا وكذا. قال عمر: قلت أما قلت لك ذلك.
قال: فذهبت إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه حتى بسوطي -أي: بعصاي التي أتيت بها من اليمن- فقلت: يا خليفة رسول الله! والله ما أبقيت في بيتي فرساً ولا جملاً ولا درهماً، ولا ديناراً حتى هذا السوط الذي أتيت به من اليمن خذه، قال أبو بكر: لا. الآن طابت أنفسنا، هو لك حل وبل فخذه.
قال: فخرجت فلقيت عمر: قال هو لك حل وبل فخذه، الآن طابت أنفسنا، فاستمر معاذ -رضي الله عنه وأرضاه- على هذه الحالة، وكان من المقربين في أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.
ولما ابتلي بالطاعون -والطاعون شهادة لكل مسلم- مكث في بلده صابراً محتسباً، رزقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الشهادة فهو من الشهداء بلا شك، فحضرته الوفاة وتغشى جسمه بالطاعون حتى أصبح كل جسمه أحمر، فأتوا وهو على الفراش، فسلموا عليه وعزوه.
فلما أتى صباح يوم من الأيام صلى الفجر، يومئ إيماءً على فراشه؛ ثم قال لجاريته: [[انظري هل طلع الفجر؟ فنظرت، قالت: لا بعد، فانتظر برهة ثم قال لها: انظري هل طلع الفجر؟ فقالت: طلع، قال: اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار]] لأن هذا الصباح أول صباح يلقى فيه الله عز وجل، وهذا اليوم أول أيام الآخرة، وهذا اليوم آخر أيام الدنيا، يوم يستقبل الإنسان سجل أعماله، ويقبل على الله عز وجل:وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].
فيقول: [[أعوذ بالله من صباح إلى النار]] لأن الإنسان إذا مات في الليل إما أن يمسى في الجنة أو يمسي في النار، إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وإذا مات في الصباح فإما أن يصبح في حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، فهو ينظر إلى هذا الصباح الذي أطل عليه ويقول: [[أعوذ بالله من صباح إلى النار]].
ولذلك يقول الحسن البصري: [[يا بن آدم! إنما هما يومان، يوم تصوم فيه ويوم تفطر، فاجعل صيامك في الدنيا عن المحرمات وفطرك عند الله عز وجل]].
وهذا صح من كلام سالم بن عبد الله لما كتب لقريبه عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة، قال: [[يا أمير المؤمنين! اجعل الدنيا يوم صوم تفطره عند الله عز وجل]].
فـمعاذ -رضي الله عنه- يقول: [[اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار، ثم التفت إلى أهله -وكان عنده ابن فقط اسمه عبد الرحمن -وقال: إني أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، ثم قال: اللهم إنك كنت تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور، ولكن كنت أحب الحياة لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، ولصيام الهواجر، ولقيام الليل]].
فقبض -رضي الله عنه وأرضاه- وتأسف عليه الناس أيما أسف، وأصابتهم حسرة، وكان ممن قال فيهم عمر رضي الله عنه: [[والله لقد هممت أن أوصي بالخلافة بعدي لـمعاذ، فإذا سألني الله عز وجل يوم القيامة، أقول: سمعت رسولك محمد صلى الله عليه وسلم يقول: معاذ يأتي يوم القيامة، يتقدم العلماء برتوة]] أي: قبلهم بخطوات وبمسافة يقودهم إلى الجنة، هذا هو معاذ بن جبل الحبيب المحبوب، والذي كان من أجلِّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عمر لخادمه: خذ هذه الدراهم وسلمها إلى أبي عبيدة وانتظر عنده قليلاً وانظر ماذا يفعل بها؟ فذهب بها فلما أعطاها أبا عبيدة، قال أبو عبيدة: وصله الله ورحمه -يقصد عمر- ثم وزعها على جيرانه ومساكين الحي ثم نفذت فلما انتهى ورجع الخادم قال: خذ هذه الدراهم، وسلمها لـمعاذ بن جبل وتلهى في بيته قليلاً، فلما أعطاها معاذاً وجلس عنده وتلهى، فأخذ معاذ خادمة وقال: يهذا بذهب إلى فلان، وبهذا إلى فلان، حتى ما أبقى درهماً واحداً، فلما وصل إلى عمر، دمعت عينا عمر وتلا قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:34].
وأثر في ترجمة معاذ: أن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- صلى بالناس الفجر فالتفت إلى الناس وقال: [[يا أيها الناس: يا أصحاب محمد.. والله الذي لا إله إلا هو، إني لأشتاق إلى الواحد منكم فأبيت سهران لا يأتيني النوم حتى أصبح، ولقد اشتقت اليوم لـمعاذ بن جبل، فقام هو ومعاذ يتعانقان ويبكيان]].
فهذا معاذ رضي الله عنه وأرضاه بقي له حديث واحد، قال: ابن القيم في مدارج السالكين -وهذا الحديث في مسند أحمد- " ثبت أن عمر مر بقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد معاذاً جالساً عنده يبكي قال: مالك، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن أدنى الرياء شرك} وإن أحب الناس إلى الله كما قال: الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، أولئك مصابيح الدجى يخرجون من فتنة مدلهمة، رضي الله عن معاذ وأرضاه، ورضي الله عن أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم.
يقول: فالتمسناه فلم نجده، فذهبنا بدداً -أي: انتشرنا- لنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت فسمعت حسه صلى الله عليه وسلم في المزرعة، فأتيت إلى قائد ماء، أي ساقية يدخل فيها الماء، وكان الأنصار يسقون مزارعهم فكان لكل واحد منهم قائداً. قال: فجمعت ثيابي -كما في رواية مسلم - فدخلت كالثعلب من هذا المكان، فرأيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رآني صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا هر -كان رسول الله يمازحه- قلت: نعم. بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قال: خذ نعلي هاتين واخرج فمن لقيت من الناس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فبشره بالجنة، فأخذ رضي الله عنه نعلي الرسول وضمهما.
قال: ثم جمعت نفسي وخرجت، قال: ثم لقيت الناس، وقلت: يا عباد الله! من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشره بالجنة، قال: فلقيني ابن الخطاب -أي: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- قال: وما جاوزت المكان كثيراً، فجمع يديه، ثم ضربني في صدري فوقعت على قفاي، قال: أتبشر الناس فيتكلوا؟! عد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فأخذت النعلين وفي رواية في الصحيحين فبكيت بكى إما من شدة الضربة وإما من هذا العنف، أو لأنه عطل المهمة التي أرسله رسول الله لها، والتي فيها بشارة للناس وأجراً في الآخرة، فرده عمر من حيث أتى.
قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي وقلت: يا رسول الله! فعل بي عمر كذا وكذا، فتبسم صلى الله عليه وسلم، قال: ادع عمر، فدعوت عمر، فدخل عمر رضي الله عنه.
فقال صلى الله عليه وسلم: مالك؟! قال: يا رسول الله! أتخبر الناس أن من شهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله أنه يدخل الجنة فيتكلوا؟!! قال: صدقت، فلا تخبرهم.
وهذا من رأيه الحصيف، ومن قوة نظره وفكره، فإنه من عمالقة العالم.
يقول: ابن تيمية: "فلشدة فرقانة رضي الله عنه وللنور الذي في قلبه جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كلامه يصيب الحقيقة بلا شك" حتى في صحيح البخاري يقول ابن عمر: [[كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان
كما قال عمر وهو جالس مع الصحابة في المدينة يتحدث بعد صلاة العصر، وإذا برجل قد انحدر من جبل، فقال عمر: أتدرون ما خبر ذلك؟ قالوا: ما ندري! قال: هذا إما ساحر وإما كاهن وترك وديعة في الجبل وأتى.
فأتى الرجل وجلس بين الصحابة فقال عمر رضي الله عنه: يا فلان! قال: نعم، قال: قد كنت ساحراً أو أنت ساحر، وتركت وديعة في الجبل؟ قال: والله ما استقبلني أحد من العرب بمثل ما استقبلتني اليوم يا أمير المؤمنين -أي: كان ينتظر أن يقول له: حياك الله وأهلاً وسهلاً -فقال: أأنت ساحر أو كاهن؟ فسكت الرجل، فقال عمر: أسألك بالله إلا صدقتني، فقال: أما وقد سألتني فأنا سواد بن قارب كاهن العرب، هو كاهن العرب على الإطلاق وليس كاهن قومه، قال عمر رضي الله عنه: وماذا تركت في الجبل؟ قال: مات ابني -يا أمير المؤمنين- في الصباح، فحفرت له وصليت عليه ودفنته؛ لأنه أسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وله قصيدة عند ابن هشام يقول:
فكن لي شفيعاً يوم لاذو شفاعة بمغنٍ فتيلاً عن سواد بن قارب |
فوقع أمر عمر رضي الله عنه وأرضاه حتى إن أمراء عمر على الأقاليم كانوا إذا أتى يحاسبهم تحرجوا أيما حرج، لأنه سوف يكشفهم بإذن الله.
ولاني عمر على الكوفة فجمعت الأموال وأتيت أحاسبه في المدينة، فأتاني من الهم ما قرب وما بعد، قلت: إن هذا الرجل سوف يكشف ما عندي وإن أخفيت عنه شيئاً فسوف يظهره الله، قال: فلما جلست عليه كان يسألني فكنت أتحفظ في كل كلمة -حتى لما دخل المدينة كان ثوبه غالياً وثميناً- فلما قربت من المدينة، نزلت عن راحلتي وطويت ذلك الثوب الثمين وشريت ثوباً بثمانية دراهم ولبسته حتى يظهر النسك والزهد أمام عمر رضي الله عنه وأرضاه.
قال: فلما دخلت على عمر قال: أخذ يلمس هذا الثوب، قال: أتيت بشيء، قال: أتيت بالأموال يا أمير المؤمنين، قال: يا فلان! اذهب وائتي بالراحلة، ما أرسل الرجل هذا إلا لأنه سوف يخفي الثوب، قال: فذهب ذاك فأتى بالراحلة فأناخها عنده، فقام ليفتشها فوجد الثوب.
قال: لمن هذا الثوب؟ قلت: لي يا أمير المؤمنين، قال: أتلبس لي ثوباً بثمانيه دراهم، وتلبس لله ثوباً بخمسين درهماً؟!
قال: فما زلت أتحفظ حتى ظننت أني انتهيت من المحاسبة، قال: ثم قلت كلمة ليتني ما قلتها، قالوا: وماذا قلت؟! قال: قلت: يا أمير المؤمنين! أنت أولى الناس بالمطعم الهنيء، والملبس الرضي، والمطعم الشهي، قال: أنا؟! قلت: أنت، قال: انتظرني قليلاً، قال: فضربني فأخذ خشبة فظربني على رأسي قال: اذهب، والله لا تلي لي عملاً أبداً، أي: لا تتولى لي عملاً.
وكان عمرو بن العاص من دهاة العرب، فإذا لم يخرج نفسه من هذه الورطة فمتى يخرجها؟
قال: فانتظرت حتى أتى بعض الأمراء والولاة على الأقاليم؛ لأن عمر كان يحكم العراق والشام ومصر واليمن، أقاليم كثيرة وواسعة.
قال: فانتظرت حتى أتى الأمراء وجلسوا بجانب عمر، فلما أتى يحدثهم دخلت -ليحاسبه في هذه الزحمة- فلما جلست معه، قلت: يا أمير المؤمنين! قال: تكلم، قلت: يبدأ من هو أكبر مني، قال: فتكلم معاوية، فلما تكلم قاطعت معاوية فقال معاوية: أتقاطعني يا لكع؟ يقول عمرو: فلطمت وجهه، فقام عمر رضي الله عنه قال: ادعوا لي أبا سفيان، أتت مشكلة غير مشكلة المحاسبة، فدعوا أبا سفيان، فقال: إن هذا لطم ابنك فإن تجعلها لله عز وجل يثيبك خيراً منها، قال: قد جعلتها لله، قال: فقم قبل على رأسه ويقبلك على رأسك، قال: فقبلت رأسه وقبل رأسي وقلت في أثناء ذلك: يا أمير المؤمنين! خذ هذه الأموال واتركني أذهب، فذهب فما حاسبه، ذكر ذلك الذهبي وابن كثير في سيرهم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أرضاه وهذا من فقهه.
الجواب: عند أهل العلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرف رجال المواقف، يعرف كل رجل ومؤهلاته فيجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجانب الذي يريده، وهذا من حكمته صلى الله عليه وسلم، فهو يضع الأمور في موضعها
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى |
فأهل اليمن لما كانوا أهل كتاب، وكان معاذ هو حامل القرآن، وما اختار لهم رجلاً عسكرياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً؛ لأن عمر في الإدارة هو البارع في الصحابة، وأبو ذر في الزهد، وابن عباس في تأويل القرآن والفتوى، لكن يحتاج أهل اليمن إلى فقيه يعلم الحلال والحرام ويعلم فقه الدعوة، فاختار صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه وأرضاه وأرسله.
الجواب: قال أهل السير ومنهم ابن إسحاق: دخلت اليهودية اليمن في عهد أسعد بن كرب وهو جد العرب، ولهذا قال: صلى الله عليه وسلم: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب}.
الجواب: الفائدة عند أهل العلم: أن يأخذ حذره في الدعوة وفي أساليب الدعوة وفي توجيه كلام الناس، فيقول: المدعوون أمامك أهل كتاب فانتبه لعقولهم وفهمهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يكلم الناس على قدر عقولهم، فانتبه واعرض عليهم عرض من يعلم أنه يخاطب أهل كتاب.
ولذلك فرق بين أن يخاطب الإنسان طلبة علم، أو من كان على درجة من المعرفة، وبين من يخاطب أناساً في البادية ما عرفوا من الإسلام شيئاً كالأعراب، وهذا من فقه الدعوة، فإن بعض الناس -وربما قد يكون هذا غير موجود ولكن من باب ضرب المثل- إذا أتى إلى البادية وهم لا يعرفون الوضوء ولا الصلاة، ولا الغسل من الجنابة، ولا يعرفون عن أمور الدين الأساسية فمن الخطأ أن يتحدث لهم عن الربا، أو البنوك الربوية، أو الفكر الإسلامي، أو أسس الدعوة، أو الكلمات المنفوشة والضخمة التي تنطلق من أطر وتنصهر في بوتقة، فينظرون إليه وكأنه يتكلم لهم بالإنجليزي.
ورجل آخر إذا أتى في مجتمعٍ قد عرف الدين والطهارة وعرف أركان الإسلام وأصبح يتلمس إلى الدقائق، أتى إليهم وقال: يا أيها الناس: يجب على الإنسان أن يغتسل من الجنابة وهو واجب، من تركه يعذب.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إنك تأتي أهل كتاب فانتبه إليهم وادعهم كأهل الكتاب، ثم قال: عليه الصلاة والسلام: {وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله} وهذا هو التدرج في الدعوة، وهذه هي حكمته صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] فإنه يبدأ بأسس الدين وأسس العقائد قبل أن يخاطب الناس في أمور جانبية ولو أنها من السنة، كمن يأتي إلى أناس لا يصلون ولا يصومون ولا يحجون ولا يعتمرون ولا يزكون فيقول: يا أيها الناس: يجب عليكم أن تعفوا لحاكم، فقد صح في تربية اللحى عشرة أحاديث، أيربون اللحى وهم فسقة مردة لا يعرفون من الدين شيئاً.
أو يأتي إلى أناس آخرين قد شهدوا أن لا إله إلا الله، وأصبحوا في العلم والفهم والفقه على درجة عظيمة فأتى يقول: يا أيها الناس: قولوا: لا إله إلا الله، وهم يقولون: لا إله إلا الله وإن كان مقصوده تجديد الإيمان، فهذا وارد وإن كان المقصود أنهم كفرة، فهذا مخطئ.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: { وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} فالواجب على الداعية بدايةً هو الدعوة إلى التوحيد، ولكل مقام مقال، والداعية أو طالب العلم أو الأستاذ أو المربي أو الموجه يعرف ما هي حاجة الناس.
ولذلك يشترط في مجال الدعوة أن الداعية يعرف أحوال الناس، ولذلك قال أهل التفسير: إن الله عز وجل بعث الأنبياء من أقوامهم وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه صلى الله عليه وسلم: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:22]
وقالوا: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ ِ [الفرقان:7] كيف يكون منا؟ فأخبرهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أنه لو أنزل عليهم ملكاً من السماء لما آمنوا ولكفروا به.
إذاً: فالله عز وجل أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس يجوع كما يجوعون، ويشبع كما يشبعون، ويغضب كما يغضبون، ويعرف المشكلات والآمال والآلام التي يعيشها أتباعه عليه الصلاة والسلام، ولذلك هداهم الله به، ولو كان ملكاً لما استطاع أن يتلاءم معهم، قال: {ليكن أول ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله} وأن هذه هي دعوته عليه الصلاة والسلام ودعوة كل نبي وكل رسول عليهم الصلاة والسلام، كل نبي يقول: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وأسعد الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه.
وفي الصحيحين عن أبي طلحة، قال: {كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقدم رجل من أهل نجد ثائر الرأس من الغبار والشعث، نسمع دوي صوته ولا نسمع ما يقول، فقال رسول الله: مالك؟! فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت قال الرجل: والله! لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فانصرف ثم قال عليه الصلاة والسلام: أفلح وأبيه إن صدق} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فالصلوات الخمس المرتبة الثانية بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبعض الناس يقولون: من قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله يكفي هذا ويدخل الجنة للأحاديث التي وردت وسبق ذكرها، وسواء صلى بعض الصلوات أو ترك البعض أو صلاها كلها فلا شيء عليه، وهذا ليس بصحيح، ومن قال ذلك فقد أخطأ خطأً بيناً وغلط غلطاً فاحشاً، بل من ترك الصلاة فقد كفر وبرئت منه الذمة، واستبيح دمه وعرضه وماله، نسأل الله العفو والعافية، فالصلوات الخمس في اليوم والليلة هي الفرائض التي افترضها الله على عباده.
فقال عليه الصلاة والسلام: { فإن هم أطاعوك لذلك} أي بعد الصلوات الخمس، وقال أهل العلم: ليس المعنى أنهم إذا لم يطيعوا فلا يخبرهم بما بعدها، فهذا ليس بصحيح وليس بوارد، وإنما درج لـمعاذ الأمور المهمة التي يدعو الناس إليها.
وهل يفهم من الحديث أن بين الله وبين خلقه حجاب إلا فيما بينه وبين دعوة المظلوم؟
لا. لأن الله عز وجل له معية سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فمعيته للكافر بالرصد وبالإحاطة وبالمحاسبة وبالمراقبة، ومعيته للمؤمن بالنصرة والتأييد والحفظ والرعاية، وفي صحيح مسلم عن أبي موسى -رضي الله عنه وأرضاه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره} سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهناك فائدة عند كلمة (لا ينام) في سيرة موسى عليه السلام -كما ذكرها أهل التفسير-: أنه كلم الله تبارك وتعالى فقال: يا رب أتنام؟ فقال: يا موسى! لا تنم هذه الليلة، فما نام موسى تلك الليلة، فلما أتت الليلة الثانية قال: يا موسى! لا تنم، فما نام، فلما أتت الثالثة قال: يا موسى! لا تنم فما نام، فلما أتت الرابعة قال يا موسى: خذ قارورتين ثم املأهما ماءً ثم قف هذه الليلة من المساء حتى الصباح ولا تجلس، فوقف موسى عليه السلام وكان ينعس وتكاد تلتطم القارورتان، وعند الفجر لطم بين القارورتين فتكسرتا.
فكلمه الله عز وجل وقال: إني لا أنام ولا ينبغي لي أن أنام، وإني لو نمت لوقعت السماء على الأرض، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41].
فهو سبحانه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، هذه فائدة عند كلمة "لا ينام" ولكن الشاهد في الحديث: "حجابه النور" أنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحجبه نور عن خلقه، وإنما هو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يراهم، بل يرى النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
قال أهل العلم: أي أخفى من السر الذي ما علمه العبد الذي هو صاحب السر، أنت تريد أن تسر شيئاً وقبل أن تسر شيئاً وقبل أن تدري أنت فإن الحي القيوم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يعلمه، فهذا هو معنى يعلم السر وأخفى.
وهل يخاطبهم الله عز وجل ويقول: لماذا لم تصلوا يوم القيامة؟ أو لماذا لم تزكوا؟
الجواب: ذهب كثير من أهل العلم إلى أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة، ودليل ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـمعاذ: {فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم بخمس صلوات} فدل ذلك على أنهم إذا لم يوحدوه فلا يسألهم عن هذا، لكن في القرآن: يقول الله عز وجل للكفار: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:43-44] فالله عز وجل أنبأهم على لسان الملائكة، فاعترفوا أنهم لم يكونوا من المصلين ولم يطعموا المسكين، كأنهم مخاطبون، والصحيح: أن الله يحاسبهم على كل ما تركوه من الإسلام، ولكنهم غير مطالبين بها حتى يسلموا؛ لأنهم تركوا أعظم أصل وهو التوحيد.
الجواب: يقول عليه الصلاة والسلام: {ثم أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم} في هذا دليل أن الزكاة والصدقة تصرف في فقراء البلد، فلا تؤخذ مثلاً من أبها إلى الطائف حتى ينتهي مثلاً فقراء أهل أبها وتصرف فيهم وهذا هو مفهوم هذا الحديث، وأخذ به الإمام أحمد ومالك وكثير من أهل العلم، وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: من صرفها في أي بلد جاز، والأولى ألا يصرفها الإنسان إلا في البلد الذي هو فيه، وهذا هو الأحسن والأولى، حتى زكاة الفطر من كان هنا في أبها وأهله في بلد بعيد فعليه أن يبذل زكاة الفطر لأهل وفقراء هذا البلد، وزكاة ماله كذلك لفقراء هذا البلد، وإن نقلها فهذا خلاف الأولى.
أما في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه فقد نقلت زكاة خراسان إلى الشام فردها إلى خراسان وقال: توزع على فقرائهم لا على فقراء الشام.
الجواب: الفقير الذي تدفع إليه الزكاة لا بد أن يكون مسلماً، ولا يجوز أن تدفع الصدقة إلى يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بوذي، بل يتوخى الإنسان لمن يدفعها حتى يلمس الأصلح فالأصلح، فإذا كان هناك فقيران: أحدهما قانت منيب إلى الله عز وجل، يتقرب إلى الله بالنوافل، يصوم، ويصلى الضحى، ويكثر من الذكر، وهذا فقير ولكنه فاسق يشرب الدخان، ويؤخر الصلوات، ويخالف السنة، فالأولى أن يصرفها على هذا الرجل الصالح كما قال أهل العلم؛ لأنها تكون عوناً له على الطاعة؛ لأن الآخر قد يذهب بها في المعاصي.
فالصحيح ألا تصرف على الكافر وأن الأولى والأصلح هو هكذا.
وأما صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم فهذا صنف ثامن؛ لأن الله عز وجل ذكرهم فإن علمت أن في إعطاء هذا الكافر شيئاً من الزكاة أنه سوف يسلم، أو تكف شره، أو سوف يكون للإسلام دعاية طيبة فلا مانع أن تعطيه شيئاً من الزكاة، كأن تكون تعمل في شركة أو في مؤسسة وفيها بعض الخواجات وفيهم قسوة وعنف فإن عليك أن تعطيه شيئاً من الزكاة تتألفه بها أو يرق قلبه أو تدرأ حدته وشوكته كما نص أهل العلم على ذلك، أو تطمع في إسلامه وعرض الدين عليه فتعطيه من ذلك.
أما العباس فقد امتنع لأن الرسول عليه الصلاة والسلام اقترض منه زكاة عامين، قال له صلى الله عليه وسلم: ادفع لي زكاة عامين مقدماً؛ لأني أحتاجها في الجهاد، فأخذ العباس زكاة عامين وأعطاها الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام ما نسي لكن أرسل عمر للمسلمين ونسي أن يقول له: لا تأخذ من العباس، فذهب عمر وطرق باب العباس، وقال: ادفع الزكاة، قال: لا أدفعها، واستحى أن يقول: إنها عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن دفعها سوف تذهب عليه زكاة ثالثة وما مر إلا عام، فقال عمر رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: دفع الناس جميعاً إلا ثلاثة: عمك، وخالد بن الوليد وابن جميل، فأتى صلى الله عليه وسلم، يجيبه عن كل واحد ويفصل:
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عمر! أما تدري أن عم الرجل صنو أبيه -يقول: أتيت تشكو عمي علي وهو أخو والدي بل هو والدي في الحقيقة- أما علمت أنها علي دين ومثلها له.
وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، يقول: دائماً مظلوم، احتبس أدراعه وخيوله ونفسه ودمه في سبيل الله وتطلب منه الزكاة.
لأن خالداً -رضي الله عنه- أوقف ماله في سبيل الله، يقول: ليس لي مال، كل هذه السيوف معلقة في سبيل الله، وهو أبو سليمان يعرف كيف يضرب بالسيف، وفي مؤتة ذكر ابن كثير بأسانيد كثيرة أنه كسر تسعة أسياف بيده حطمها تحطيماً وما ثبتت إلا صحيفةٌ يمانية، وعلق مائة سيف وقال: هي في سبيل الله، وملأ اسطبلاً من الخيول وقال: هي في سبيل الله، فيقول عليه الصلاة والسلام: أما يكفي أن يوقف أمواله في سبيل الله حتى تأخذوا الزكاة من خالد.
وأما ابن جميل هذا فإنه لا عذر له، فقال عنه صلى الله عليه وسلم: فما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، أي كيف يحق لـابن جميل أن يغضب ويتحامل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان فقيراً لا يملك شيئاً من الدنيا فأغناه الله.
وروي أن ابن جميل أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له: {يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً، فأشار عليه الصلاة والسلام ألا يفعل ذلك؛ لأنه فتنة، فألح عليه فدعا له صلى الله عليه وسلم، فكثر ما له حتى، ترك الجماعة مع الناس في المسجد، ثم ترك الجمعة، ثم منع الزكاة} وهذا ليس بـثعلبة.
وقصة ثعلبة لا تصح بل هي باطلة، وأما ابن جميل فهي في صحيح البخاري وسندها صحيح.
فلما ذهب عمر إليه رفض وقال: إنما هي جزية وليست بزكاة، فعاد عمر وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما ينقم إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، فأنزل الله عز وجل في ذلك: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ [التوبة:77].
كذبوا مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فأرسل عليه الصلاة والسلام أصحابه ومنهم معاذ بجمع الزكاة، وهذا واجب على الإمام أن يرسل السعاة وألا يترك الزكاة بأيدي الناس لأنها تضيع، بل الواجب عليه أن يأخذها منهم ثم يصرفها في مصارفها.
فكان يضع كل شيء في موضعه صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمِّر من يستحق الإمارة عليه الصلاة والسلام وأتى بعض الناس من الصحابة يطلبون الإمارة فيرفض؛ لأنه يعرف أنهم ليسوا أهلاً بالإمارة لا لقلة دينهم أو لقلة زهدهم أو ورعهم، لكن لأنهم لا يجيدون التصرف في الإمارة كـأبي ذر قال له صلى الله عليه وسلم: {والله إني أحبك، وأريد لك ما أريده لنفسي، لكنك رجل ضعيف} قالوا: ضعيف لا يحسن تصريف قيادة الجيش، فما ولاه عليه الصلاة والسلام، وفي هذا توصية الإمام، أو توصية من يرسل بتقوى الله عز وجل، وواجب على كل مسئول ومدير ورئيس أن يوصي الموظفين والطلاب عنده بتقوى الله عز وجل صباحاً ومساءً.
قال الإمام النووي: حق على من ولاه الله شيئاً ألا تفتر لسانه بتقوى الله عز وجل للناس، فإنه إذا أدمن صباح مساء أن يوصي بتقوى الله والإخلاص في العلم وبذل الجهد والصدق مع الله رسخت هذه الكلمات ونفع الله بها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى. أي أنه لا يكفى أن يقول لهم في الشهر مرة ثم يتركهم، لا. بل يكرر عليهم هذا دائماً إذا كان ناصحاً وصادقاً ومخلصاً، أما إذا كان غير ذلك فنسأل الله العافية والسلامة.
وكان عليه الصلاة والسلام يقبل خبر الواحد، فقبل خبر الذي أخبره بالهلال، والذي أخبره بأنه قد منع قوم الزكاة، والذي أخبره عليه الصلاة والسلام بصدقات القوم واحد، فقبل صلى الله عليه وسلم خبر الواحد حتى في العقائد.
فعلى الإنسان ألا ينظر إلى هذا المال، أو يجعله كما يقول ابن تيمية في كتاب التصوف " كالكنيف -يعني: الحمام- إذا احتاج إليه ذهب إليه، وإن لم يحتج فلا يفعل"، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لـعمر {: ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل وما لا فلا تتبعه نفسك} فإن من أخذ المال باستشراف وبسؤال لا يبارك الله فيه، ويكون كالشاة التي تأكل من خبط الربيع أو من خضراء الربيع ينتفخ بطنها ولكنها ما شبعت، هذا مثل من يأخذ من أموال الناس ويسأل ولا يرد شيئاً ويتطلع إلى الأموال، ولا يرد فاقته بالقناعة وتقوى الله فهذا مثله.
فعلى المسلم أن ينتبه لهذا، فإن من أخذ المال بقناعة أو عدم استشراف بارك الله له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والبركة ليست بكثرة المال ولكن بما ينزله الله عز وجل من حلال فيه وطيب.
مثلاً: يكون عنده غنم ومن حمقه لأنه لا يريد أن يدفعها إلى السلطان وأتى وقت حول الزكاة، أتى بسم، فماتت الغنم وقال: ماتت الغنم وأنا ما وجب علي شيء، فهذا إذا علم به تؤخذ عليه الزكاة ويؤدب ويعزر، ومن منعها كما قال عليه الصلاة والسلام كما في سنن أبي داود {فإنا آخذوها وشطر ماله، عزيمة من عزائم ربنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى}.
الجواب: الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان معتنياً بهذه الأركان الثلاثة، وأما تلك فتأتي تبعاً.
وذكر صلى الله عليه وسلم الزكاة لأنها مقرونة في الكتاب بالصلاة في كثير من المواطن بخلاف الصوم والحج فإنها تأتي تبعاً، وبعض الصحابة منهم من شهد أن لا إله إلا الله، ولكن منع الزكاة مع أنه مسلم ولم يحارب أو يقاتل.
فلما مات عليه الصلاة والسلام ارتدت العرب عن الإسلام -إلا من رحم الله- وبعضهم رفض الإسلام جملة وتفصيلاً، والبعض رفض الزكاة، حتى قالوا:
رضينا رسول الله إذ كان بيننا فما بالنا نرضى بحكم أبي بكر |
أيملكها بكر إذا مات بعده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر |
فرفضوا الزكاة، فسمع أبو بكر رضي الله عنه ذلك فصعد على المنبر، وأخبر الناس وقال: ماذا ترون؟ فقام عمر: وأشار بألا يقاتلوا، وأشار عثمان بأن لا يقاتلوا، وقام علي وقال: لا يقاتلوا، وأجمع المهاجرون والأنصار في كل المسجد على ألا يقاتلوا.
فسل أبو بكر السيف وقال: [[والذي نفسي بيده! لأقاتلن الذي يفرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وفي لفظ عناقاً- لقاتلتهم عليها]].
ثم عقد الراية وهو على المنبر، ثم سلم الجيوش وأرسل خالداً إلى اليمامة وخالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن وعمرو بن العاص إلى ناحية البوادي، وعكرمة رضي الله عنه إلى اتجاه البحرين وكان يعقد الرايات ويقول للصحابة: [[والله لو أخذت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم]].
فنصره الله نصر عزيز مقتدر، حتى أتى الذين منعوا الزكاة في عمائمهم يقودهم خالد وعكرمة وعمرو وخالد بن سعيد بن العاص حتى أدخلوهم المسجد، فقام عمر -رضي الله عنه- على المنبر، وهؤلاء أهل العمائم رافضين الزكاة، في أطراف المسجد ساداتهم ومشائخهم.
فقال أبو بكر: [[اختاروا من اثنتين -وفي لفظ: من ثلاث- قالوا: وما هي يا خليفة رسول الله؟- أصبح اليوم خليفة بعد أن ذاقوا سيف خالد - قال: إما حربٌ مجلية أو سلم مخزية. قالوا: بين لنا، قال: السلم المخزية، أن نترككم كالنساء، لا تحملون سيفاً ولا رمحاً ولا درعاً، وتبقون تذهبون مع النساء ومع الأطفال، وتأتون معهم، لا تحضرون معركة ولا غنيمة، ولا فيئاً. قالوا: والحرب المجلية، قال: أن نلبس سلاحنا الآن وننزل معكم فنتقاتل، فاضطربوا فقالوا: سلم مخزية. يكفيهم ثلاثة أشهر وخالد يعمل فيهم بالسيف، والآن أبو بكر رضي الله عنه يريد أن يقاتلهم مرة ثانية، ثم قال: إذاً كل من قتل لنا فادفعوا ديته، واشهدوا على أنفسكم أنكم ضلال وأنكم تبتم، وأن قتلاكم في النار وأن قتلانا في الجنة فنكسوا رءوسهم، فقام عمر فقال: يا خليفة رسول الله! أما قتلانا ففي الجنة, وأما أن يدفعوا دية قتلانا فما نرى ذلك، فما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: صدقت، ولهم ذلك. فسلب أبو بكر سلاحهم وتركهم في عامة الناس
وإذا قلنا: لماذا ذكرت الزكاة في هذا الجانب؟
قلنا: فقَّه الله أبا بكر، وشرح صدره، ووافقه الناس على ذلك يوم يشرح الله صدور أوليائه، نسأل الله أن يهدينا بهداه، وأن يوفقنا لرضاه، وأن يأخذ بأيدينا وأيديكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم من المتفقهين في دينه، المتطلعين على أسرار كتابه، العاثرين على سنن نبيه صلى الله عليه وسلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر