إسلام ويب

الفاروق في القرن الخامس عشرللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عمر بن الخطاب رضي الله عنه شخصية ألمعية, وعبقرية فذة, وعدالة نادرة, لا تخفى على مسلم, وحياته حافلة بالمواقف الموفقة, والدروس المتألقة: كالعزة الفريدة, والتواضع العجيب.

    وفي هذا الدرس تجد استعراضاً لبعض المواقف التي سطرها التاريخ بقلم الصدق عن تلك الشخصية الفريدة.

    1.   

    تعريف بعمر بن الخطاب

    قال الشيخ عبد الوهاب الطريري حفظه الله في مقدمة المحاضرة:

    الحمد لله على نعمائه، والشكر له على آلائه، وصلاته وسلامه على أفضل خلقه وأشرف أنبيائه، ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أيا عمر الفاروق هل لك عودةٌ      فإن جيوش الروم تنهى وتأمر

    يحاصرنا كالموت ألف خليفة     ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر

    تأخرت يا أغلى الرجال فليلنا      طويلٌ وأضواء القناديل تسهر

    سهرنا وفكرنا وشاخت دموعنا      وشابت ليالينا وما كنت تحضر

    دخلت على تاريخنا ذات مرةٍ      فرائحة التاريخ مسكٌ وعنبر

    أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا      وأنت لنا الفاروق أنت المحرر

    تضيق قبور الميتين بمن بها      وفي كل يومٍ أنت في القبر تكبر

    نحن الليلة على موعدٍ مع رحلة تخترق حقب الزمن, وترفع حجب التاريخ، لنفضي إلى ساح شريف ورحابٍ منيف، إنه رحاب الإمام العبقري، والمحدث الملهم الفاروق عمر؛ لنرى رجلاً عظيماً بفكره.. عظيماً بأثره.. عظيماً بخلقه.. عظيماً ببيانه.. عظيماً قبل ذاك بإيمانه، إنه العبقري الذي جمع العظمة من أطرافها.

    نفضي إلى ساحه لا لنقيم مأتماً في ذكراه، ولكن لنستكشف مواضع العبرة من سيرته، ومواقع القدوة من شخصيته، لأن أمتنا المعطاءة، لم ولن تعقم أن تدفع من يعيد سيرته، ويقفو طريقته.

    أما قائد هذه الرحلة وربانها فهو العالم، بل الداعية، بل الأديب، بل الأريب، بل كل ذلك وأكثر من ذلك، إنه صاحب الكلمة التي تسمعها فيتراءى لك صدق اللهجة, وحرارة الإخلاص, ووضاءة الحق, ونور الحقيقة.

    يحملنا ربان هذه الرحلة على جناح الكلمة المشرقة، والعبارة المتألقة، فإذا المعاني شاخصة، والحقائق ناطقة، فيا أبا عبد الله هذه الآذان قد أنصتت فصافحها بكلمتك، وهذه الأبصار قد نظرت فعانقها بطلعتك.

    فقم حادث الدنيا كأنك طارقٌ      على بركات الله يرسو ويبحرُ

    قال الشيخ عائض القرني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين, وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن سار على منهجه إلى يوم الدين.

    أيها الكرام.. أيها الموحدون.. يا أبطال العاصمة.. حياكم الله!

    أهلاً وسهلاً والسلام عليكم      وتحية منا تزف إليكم

    أحبابنا ما أجمل الدنيا بكم      لا تقبح الدنيا وفيها أنتم

    قمت وأنا -والله- كالمتحير, ما ظننت أن هذا الخطيب سوف يوقفني في هذا الموقف المدهش، وأنا أجعله أستاذاً وشيخاً لي، وأعلم من قدراته وفضله ما ليس فيَّ، ووالله! ما أتيت أكيل له المدح هاء وهاء ويداً بيد، لكن من باب أن يعرف الفضل لأهله، فهو رائدٌ من رواد الصحوة، وشيخٌ من شيوخ البلاد، أقولها كلمة وأنا مسئول عنها، وأما ثناؤه عليَّ فأنا أعرف بنفسي, وأسأل الله أن يغفر لي ما لا يعلم.

    أيها الأخيار.. أيها الفضلاء.. عنوان المحاضرة (الفاروق في القرن الخامس عشر) وكان العنوان (الفاروق في القرن العشرين) لكن من الذي أسس التاريخ الهجري؟!

    أليس عمر؟

    أليس وفاءً منا أن نجعل التاريخ بالهجري بدلاً من الميلادي, لأنه أسس التاريخ؟

    بلى أيها الأحباب! فأنا أعرف أن الأطفال عندنا في الابتدائية يعرفون أين ولد عمر , ومتى ولد؟ وأين توفي؟ ومتى توفي؟ ولكن أعرف أن من أساتذة الجامعة من لا يعرفون سطوع عمر، ولا عبقرية عمر.

    وأنا لن أحدثكم اليوم عن تاريخ الأموات.. عن زوجات عمر وأبنائه، أو عن لباس عمر , ولكني سوف أحدثكم عن تاريخ الأحياء الذي عاشه عمر رضي الله عنه إماماً وعبقرياً وعادلاً.

    أسلم عمر بسورة طه، وكان أصدق من الشمس في ضحاها، وأوضح من القمر إذا تلاها، وأشهر من النهار إذا جلاها، تولى الخلافة فأعلاها، وقاد الأمة ورعاها.

    من أين أبدأ يا أبا حفص ولي     قلب له في حبكم أسرارُ

    يا أيها الفاروق تاريخ الورى      زورٌ وفي تاريخكم أنوار

    لقبه الفاروق، وقد لقبه بذلك أهل الكتاب، أسلم وعمره بضع وعشرون عاماً، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها، وهو أول من عس بـالمدينة، ودار كالشرطة في الليل، وحمل الدرة، وأدب بها، وجند الجنود، ودون الدواوين، وفتح البلاد.

    كان خشن العيش، قليل الضحك، لا يمازح أحداً، كثير البكاء، نقَش بخاتمه: (كفى بالموت واعظاً يا عمر) وهذا من كلام ابن كثير.

    والله ما ادكرت روحي سيرته      إلا تمنيت في دنياي لقياه

    ولا تذكرته إلا وخالجني      شوق أبو حفص فحواه ومعناه

    تبكي عليه الملايين التي فقدت      بموته عزة الإسلام إذ تاهوا

    الطفل من بعده يبكي عدالته      يقول هل مات ذاك الغيث أماه

    والناس حيرى يتامى في جنازته      تساءلوا من يقيم العدل إلا هو

    مضى إلى الله والآلاف تندبه     ابن الشريعة حياها وحياه

    إني أحييك من قلبٍ يقطعه      شوقي إليك فهل واسيت فقداه

    يقول خالد محمد خالد -وأنا أعترف وأزيد على ما قال- يقول: لست أكتب تاريخاً لـعمر، ولا أزيد معرفةً بـعمر، ولكني لا أرفع شأوه، ولا أزكي على الله نفسي بالكتابة عن عمر، فالله أحبه واصطفاه، لأنه الرجل الكبير في بساطة، والبسيط في قوة، والقوي في عدل، والمتواضع في رحمة، والرحيم في تواضع.

    فضائل عمر

    يترجم الرسول صلى الله عليه وسلم لـعمر بن الخطاب! الشيخ الإمام يترجم لأحد طلابه ويثني على أحد تلاميذه، فاسمع إليه عليه الصلاة والسلام.

    عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بـعمر بن الخطاب أو بـعمرو بن هشام} رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان، ورواه أيضاً الطبراني عن ابن مسعود والحاكم عن ابن عباس، وأغار عليه الألباني فضعفه ومزقه شذر مذر، وأنا أقول: ما زال الحديث يحتمل التحسين إن شاء الله.

    وعن ابن عباس عند الحاكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم أعز الإسلام بـعمر بن الخطاب} وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بينما أنا نائمٌ رأيتني في الجنة بجانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـعمر بن الخطاب فأردت أن أدخله فذكرت غيرتك يا عمر؛ فبكى عمر؛ وقال: أعليك أغار يا رسول الله}.

    إذاً أصبح قصره هناك، لا بطوله ولا بأمواله ولكن بمؤهلاته التي سوف تسمعونها هذه الليلة ترشق آذانكم رشقاً.

    وعند الترمذي من حديث حذيفة بسندٍ حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر} قال ابن تيمية في كتاب قتال أهل البغي: "وإنما خص الشيخين لأن عثمان تأول في الأموال، وعلياً تأول في الدماء، وأما أبو بكر وعمر فلم يتأولا، لا في الدماء ولا في الأموال" لله درك!

    وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بينما أنا نائمٌ أُتيت بلبنٍ فشربت حتى رأيت الري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} إنه العلم الشرعي.. العلم الذي وصله بالله، وهو علم الخشية؟ علم إياك نعبد وإياك نستعين.

    وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بينما أنا نائمٌ رأيت الناس يعرضون عليَّ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثُدي -جمع ثدي- ومنها ما دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين}.

    إن الرجل ديِّن من الطراز الأول، إنه يخاف الله، وسوف تسمعون من خوفه لله العجب العجاب، وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يـابن الخطاب والذي نفسي بيده! ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلكَ فجاً غير فجك}.

    وعند البخاري عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: {لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناسٌ محدثون, فإن يكن في أمتي فـعمر بن الخطاب}.

    من لي بمثل سيرك المدلل      تمشي رويداً وتجي في الأول

    وروى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه} فهو يقول الحق, ويعتقد الحق، ويعمل بالحق.

    وعند الترمذي والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لو كان بعدي نبيٌ لكان عمر بن الخطاب} ورواه ابن عساكر والطبراني عن ابن عمر أيضاً، وهو حديث صحيح.

    مدح الصحابة لعمر وبعض شمائله

    ويستمر المديح، ويشارك الصحابة في الإعجاب بـعمر، كلهم يثني ويمدح ويحب، يقول علي في البخاري: {والذي نفسي بيده! لطالما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبك}.

    وعن ابن مسعود قال: [[ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر , كان إسلام عمر عزة, وهجرته نصراً, وتوليه رحمة]] روى هذا الأثر ابن أبي شيبة في المصنف , والطبراني في المعجم الكبير.

    وقال ابن الحداد، عالم المالكية في القرن الخامس, قال: "كفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر".

    لما دفن عمر كفنت سعادة الإسلام ونوره وإشراقه، ولكن بقيت من الإسلام بقايا عمر، فكان حاجباً بين الفتن، وكان حصناً في وجوه الأعداء، فلما مات دخلت الفتن على الأمة.

    يقول مايكل هارف وهو الأمريكي الذي له كتاب الأوائل المائة كما تعرفون، يقول في صفحة (166) من كتابه: "إنما مآثر عمر مؤثرة حقاً، فقد كانت شخصية رئيسية في انتشار الإسلام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبجهاده وتضحياته، ضرب الإسلام بعطنه عبر العالم" أو كما قال.

    وقال أنس وهذا عند ابن سعد في الطبقات: [[كان عمر وراء حائط، فسمعته يبكي، ويقول: والله يا عمر! إن لم تتق الله ليعذبنك]] لقد كان يحاسب نفسه، وكان أكبر ما يخاف من الله، فكان قبل أن يقدم على خطوة أو كلمة يراقب الله في رضاه وغضبه، وفي حركته وسكونه.

    فاروق مصر وهو نكرة أراد أن يقلد عمر، لكن عمر اسمه الفاروق بأل وفاروق مصر بدون (أل) للتعريف، كتب له محمد إقبال في أرض المشرق رسالة يقول فيها: يا فاروق مصر! إنك لن تكون كـالفاروق عمر حتى تحمل درة كدرة عمر.

    يقول: أخرج الجواري التي في قصرك، فعندك ستمائة جارية, وتريد أن تسمى الفاروق، وتكذب على الجماهير، عندك تلاعب بالأموال، وبضمائر الناس، وتريد أن تكون عمر؟ لا. أنت فاروق لكنك لست الفاروق , لأنك لا تحمل درة كدرة الفاروق.

    قال أبو نعيم في الحلية: "كان عمر يمر بالآيات في ورده فتخنقه، فيبكي حتى يسقط، ثم يلزم بيته ويعاد -مريضاً- من تأثره".

    وقد قلت لكم: إننا لن ندخل في تفصيليات وجزئيات حياة عمر في أكله أو في لباسه، لكنا ندخل في خطوطٍ عريضة قوية أثرت في حياة هذا الرجل حتى أقر به أهل الشرق والغرب، وألف فيه أكثر من ستة وخمسين كتاباً ما بين غربيٍ وشرقي لغير المسلمين، ألفوا في التربية في حياة عمر , وفي علم العمران، وعلم العدل والسياسة، كلها مشتقة من فطنة عمر رضي الله عنه وأرضاه.

    1.   

    صور وعبر من حياة عمر رضي الله عنه

    اسمعوا إلى قصص عمر وهو يعيش الخلافة وقد تولى أمر الأمة.

    حرص عمر على الرعية

    أولاً: يبدأ البيعة بكلمة باكية ويطلب من الناس أن يبحثوا عن خليفة إذا لم يكن هو أهلاً لذلك، لكن الأمة تجمع على أنه أهل لهذه الخلافة وزيادة, وأن أبا بكر قد رضيه, والرسول عليه الصلاة والسلام مات وهو عنه راضٍ، يقول عبد الرحمن بن عوف: [[خرجت مع عمر رضي الله عنه وأرضاه ذات ليلة، فمشينا حتى أتينا إلى خيمة, فسمعنا بكاء صبيٍ من وراء الخيمة, فقال عمر: هلم يـابن عوف , فمضيت معه إلى بيت المال، فأخذ كيساً من دقيق, وكيساً من زبيب, وحمل شحماً، فقلت: أحمله عنك يا أمير المؤمنين!

    قال: أنت لا تحمل أوزاري يوم القيامة، وذهب بالكيس وبما فيه ودخل الخيمة ثم أشعل النار, وركّب القدر, وصنع العشاء للأم وللطفل، فقالت له: والله إنك خيرٌ من عمر بن الخطاب]] وهو عمر بلحمه وبشحمه, وبإيمانه ورسوخه وعدله... هكذا يقدم الطعام للأطفال في نواحي المدينة، لأنه راعٍ يخاف من الراعي الكبير.

    بكاء الطفل أسهر مقلتيكا     ينادي حسرة يشكو إليكا

    سهرت لجوعه وبكيت خوفاً     من الديان بل خوفاً عليكا

    قارن هذا مع سيرة الحجاج الذي جعل في السجون مائة ألف, وكان يمر إلى صلاة الجمعة، فيسمع تضاغي المحبوسين، فيقول: اخسئوا فيها ولا تكلمون.

    أين الكتاب والسنة؟

    أين خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم؟

    أين الأثر الذي تركه صلى الله عليه وسلم برسالته التي سعدت بها الدنيا؟

    إنها ليس لها أثر على حياة الحجاج، ولكن عمر يأبى هذه السيرة المتخلفة, التي إنما هي ضربة في صميم الإسلام، وتشويه لجمال الإسلام.

    وهذه قصة يرويها أسلم مولى عمر وهي في البداية والنهاية قال: خرجت مع عمر ذات ليلة وهو يتفقد الفقراء -ما كان ينام الليل-.

    نامت الأعين إلا مقلةً      تذرف الدمع وترعى مضجعك

    تقول زوجته عاتكة بنت زيد: [[قلت: يا أمير المؤمنين! لو نمت فإنك لا تنام في الليل ولا في النهار، قال: لو نمت في الليل ضاعت نفسي، ولو نمت في النهار ضاعت رعيتي]] فمرّ هو وأسلم إلى الخيمة، فوجد امرأة تسهر صبيانها من الجوع.. الشعب جائع، والأمة في برد ومرض، ولكن الخليفة يقف على الأبواب، وإذا بقدرٍ فيه حصى وتلهيهم به حتى ينامون, ثم قالت: [[آه يا عمر بن الخطاب -أو كلمة تشبهها- أي: أنت قتلت الأطفال, بعدم إنفاقك على الأطفال]] وهذا في عام الرمادة، ومن أين ينفق عمر؟ انتهت الميزانية، أنفق دموعه وكل ما يملك، حتى أصبح بطنه على المنبر يقرقر جوعاً, فيقول لبطنه: [[قرقر أو لا تقرقر, والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].

    قارن بين هذا الموقف وموقف إسماعيل الخديوي! ففي تاريخه أنه كان عنده أربعمائة جارية في القصر، وكان أهل مصر ينامون على الأرصفة, لا يجدون كسرة خبز، أما عمر فيقف على المرأة، ويذهب إلى بيت المال, ويأتي فيصنع الطعام ويقدمه, ثم يفرض للصبية من بيت المال طعاماً ورزقاً, ويصلي الصبح بالناس ويقرأ: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24] فيبكي حتى يرتج المسجد بالبكاء، إنها تلمذة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو لم يفعل عمر هذا الفعل؛ لما كان أدَّى الأمانة الربانية, والمنهج الرباني الذي خرج للناس في هذه الصورة العجيبة.

    وروى أهل السير والتراجم في ترجمة عمر رضي الله عنه وأرضاه: أن علي بن أبي طالب أشرف ذات ظهيرة من نافذة بيته فرأى عمر يطارد بعيراً من إبل الصدقة، وكان يطلي الإبل بنفسه، فندَّ بعير منها, فذهب عمر وراءه يهرول هرولة, فشرد البعير, فشد عمر من الجري, وأشرف علي وقال: [[يا أمير المؤمنين! أنا أكفيك البعير، قال: لن تكفيني أنت يوم القيامة]].

    وعاد وحبس البعير ورده إلى مكانه.

    عفاءٌ على دنيا رحلت لغيرها      فليس بها للصالحين معرج

    كأنك لما مت ماتت قبائلٌ      أأنت امرؤ أم أنت جيشٌ مدججُ

    لكن لما انطمست هذه السيرة والتربية الربانية, روى لنا التاريخ المضحك المبكي في القرن الثاني -ما أسرع أن تخلفت الأمة عن العدل! ما أسرع ما نسيت منهج الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم! وإذا برجل ينسلخ من معالم العدل والربانية والسيرة الخالدة.

    روى التاريخ أن الوليد بن يزيد ملأ بركة طيباً, وشرب الخمر، فلما سكر قال: أريد أن أطير, قيل له: طر إلى جهنم، فقفز في البركة مخموراً, وهو يقول: أنا الملك الهياب، أنا المقدم الشاب.

    أي هياب؟

    وأي شاب؟

    أهذه رسالة الأمة؟

    أهذه الخلافة؟

    أهذه هي قيادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟

    لقد وصل العوج إلى هؤلاء لأنهم ما استضاءوا بنور الوحي الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فقل للعيون الرمد للشمس أعينٌ     تراها بحق في مغيبٍ ومطلع

    وسامح عيوناً أطفأ الله نورها      بأبصارها لا تستفيق ولا تعي

    تربية عمر للرعية على إنكار المنكر

    أيها الأفاضل والأكارم من قصة الأعرابي ننطلق!

    وقف عمر ليتحدث للناس، وأراد أن يختبر مقدار قوة الناس في إنكار المنكر، ومقدار إيمانهم وعدم تملقهم ونفاقهم, لأن الناس إذا كانوا منافقين، فلن يقولوا كلمة الحق، ولن يصدقوا مع الله، والأمة المنافقة لا تستحق أن تنشر لا إله إلا الله في الأرض، وقف على المنبر يخطب ثم قطع الخطبة في وسطها وقال: [[يا أيها الناس! لو رأيتموني اعوججت عن الطريق فماذا أنتم فاعلون؟]] فسكت كبار الصحابة، ومعنى الكلام ببساطة: ما رأيكم لو خنت رسالة الخلافة؟

    ما رأيكم لو جُرت؟

    ما رأيكم لو عدلت عن الطريق؟

    فقام أعرابي بدوي في آخر المسجد وسل سيفه أمام الناس وقال: [[والله يا أمير المؤمنين! لو رأيناك اعوججت عن الطريق هكذا لقلنا بالسيوف هكذا]] فماذا قال عمر؟

    أتظن أن عمر سوف يقول: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه، إنه حيا بطولته ولموعه وكلمته وإيمانه، قال: [[الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو اعوججت عن الطريق هكذا, لقالوا بالسيوف هكذا]].

    قارن هذا الموقف بموقف شاه إيران!! الذي كان الكرسي الذي يقضي عليه حاجته في دورة المياه من ذهبٍ خالص، وكانت طائراته تخرج على الجماهير في طهران وتقصفهم بالرشاش, فيموتون كما تموت الذباب من المبيدات، هذه نماذج يخجل التاريخ أن يرويها للناس، وأصبح أهل إيران يسترون وجوههم من هذا النموذج الفاشل الذي يعيرهم به التاريخ، أما الإسلام فلا نحاور مع شاه في هذا فهو بعيدٌ كل البعد، فهو شاة وليس بأسد.

    عمر يؤسس الكلمة الحية، ويشجع على الصدق مع الله؛ لكن تتردى الأمة في عصر الفاطميين، فيأتي الحاكم بأمر الله الخبيث الملحد المنتن, الذي يدوس القرآن, وإذا خرج إلى الناس في الشارع سجدوا له، ومن أراد أن يتزود فليراجع كتب التاريخ.

    أتى النابلسي المحدث الشهير العالم, يقول الحق، فسأله تلميذ، قال: ما رأيك هل أقاتل الفاطميين حكام القاهرة أو الصليبيين من النصارى؟

    قال: من كان عنده عشرة أسهم, فليرم الفاطميين بتسعة, وليرم النصارى بسهمٍ واحد.

    وتنقل الاستخبارات هذه الكلمة إلى الحاكم بأمر الله فيستدعي النابلسي ويقول له: هل صحيح أنك تقول: من كان عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بتسعة ويرمينا بسهمٍ واحد؟

    قال: لا، أنتم حرفتم الفتيا، قال: وما هي الفتيا الصحيحة؟

    قال: يرميكم بتسعة ويرمي النصارى بسهمٍ واحد.

    فقتله قتلة ما قتل أحدٌ في التاريخ مثلها فيما أعلم, وهو يسمى شهيد العلماء، فقد سلط عليه يهودياً فنكسه وربطه بأرجله في السقف ودلاه، فأخذ اليهودي يسلخ جلده عن لحمه, وكان يقول: الله أكبر، الله أكبر! فلما وصل إلى قلبه, رحمه اليهودي -وما بالك بمصيبة يكون راحمها اليهودي- فطعنه بالسكين فمات في سبيل الله.

    فهذه نماذج قدمها التاريخ، لكن ما روت سيرة عمر ولا مرت على طريقه.

    قد كنت نجماً في ذرى العلياء      يا منصف الموتى من الأحياء

    وبنيت صرح العدل يا علم الهدى      ورفعت رأس الدين للجوزاء

    عمر فخرٌ لنا.

    عمر تاريخٌ لنا.

    عمر منارةٌ لكل شاب من شباب الصحوة.

    وعمر تاجٌ على رءوسنا، نفاخر به أهل الشرق والغرب.

    عمر كان يشجع القائل أن يقول كلمته.

    ذكر ابن الجوزي في المناقب أن عمر قال للصحابة: [[من ترون أن أولي على العراق؟ فقام منافق -والمنافقون قديمون- قال: أرى أن تولي الرجل الأريب الأديب الداهية المنصف عبد الله بن عمر -ابن عمر بن الخطاب - وما أراد إلا المداهنة، وإلا ففي المسلمين من هو أكفأ وأقدر وأعلم وأفضل- قال عمر: كذبت يا عدو الله، والله ما أردت الله بذلك]].

    لماذا التدليس على الناس؟

    لماذا الكذب على مناهج الله؟

    ألأنه ابني؟

    وهو عبد الله بن عمر الذي لا نصل إلى غبار قدميه، لكن في المسلمين أكفاء، أين ابن عوف؟

    أين ابن عفان؟

    أين أبو الحسن علي بن أبي طالب؟

    أين فلان وفلان؟ لكنه ما أنصف.

    وتستمر القافلة, وجسد عمر دائماً يعلن الإيمان والقوة والشجاعة على المنبر.

    جسدٌ لفف في أكفانه     رحمة الله على ذاك الجسد

    من لجسم شفّه طول النوى      ولعينٍ شفها طول السهر

    أبو مسلم الخراساني قتل ألفي ألف -أي: مليونين- فهو أكبر قاتل في التاريخ، وقف في مسجد خراسان، وكان يلبس السواد، وهو شعار الدولة العباسية، لأنه هو الذي نقل دولة بني أمية إلى بني العباس، ثم مات ولم يحظ بشيء، فقام أحد الناس من وسط المسجد يريد أن يرد عليه، وقال: لا تلبس السواد، فلبس السواد ليس من السنة، وقد أخطأ هذا القائل، قال أبو مسلم: حدثنا فلان عن أبي الزبير عن جابر {أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعليه عمامة سوداء} قال: يا غلام! اضرب رأسه بجانبك، فضرب رأسه، فإذا جثته في وادٍ ورأسه في وادٍ آخر, والحديث الذي ذكره في صحيح مسلم ولا أدري كيف حفظه!!

    فهذه نماذج الخيانة والخيبة، وقد سود هذا وجه التاريخ.

    لماذا قتلته؟

    اقنعه، حاوره، أو أدبه، لكن تذبحه؟! هذا حرامٌ عقلاً ونقلاً، ولكن من يسمع هذا أبو مسلم أم الحجاج؟!

    حرص عمر على عدم تسلط الولاة

    ونقف في موقفٍ طريف رواه أهل السير والتراجم, نعيشه مع عمر رضي الله عنه وأرضاه، ونستمد هذا من إمام العبقرية الفذة عبر التاريخ رضي الله عنه وأرضاه ورفع منزلته، يقول الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] ويقول تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص:26] أي: انتبه، إن المنهج بيدك، والرسالة معك، فلا تجامل في الدين، ولا تلعب بالقيم، قال تعالى: وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26].

    كان أمير مصر عمرو بن العاص الداهية، وله ابن اسمه محمد سابق مصرياً فسبقه المصري، وأحياناً بعض الخيول تسبق خيول ولاة الأمور, فسبق هذا, فقال محمد بن عمرو: خيلك يسبق خيلي! أتسبقني وأنا ابن الأكرمين! ثم ضربه، فذهب المصري يشتكي إلى عمر رضي الله عنه وأخبره الخبر، فقال عمر: عليَّ به وبأبيه، ليؤدب الأب، لأنه لو كان مؤدباً -في نظره- لأدب ابنه واستدعاه والمصري واقف, والصحابة جلوس.

    قال: والله لا يحول بيني وبين عمرو وابنه أحد, ثم أخذهم فبطحهم أرضاً, وأخذ الدرة التي تخرج الشياطين -دائماً- من الرءوس، وهذه الدرة رقية الرحمن، التي يؤدَّب بها، فضرب عمرو بن العاص وابنه ضرباً مبرحاً.

    وقال: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً]] متى كانت هذه الجمركة على عقول الناس؟

    متى كان هذا الضرب على وجوه المسلمين الساجدين الراكعين؟

    من أعطاكم هذه الرخصة؟

    هل هو الله؟

    إن هذا حرام، فأدبهم فعادوا إلى رشدهم رضي الله عنهم أجمعين.

    ويستمر الحال، ولكن عمر يفاجئ الناس, وإذا هذا الذي هز العالم من شرقه إلى غربه لا يملك إلا ثوباً واحداً فيه أربع عشرة رقعة، وإذا عمر ليس له حراسة، ولكن حارسه الله، يقول شوقي:

    وإذا العناية لاحظتك عيونها      نم فالحوادث كلهن أمان

    يقول: إذا لاحظك الله فنم في أي مكان كنت، وإذا لم يلاحظك الله فلن يمنعك أحد، ولو كان حرسك سبعين ألفاً كحرس شاوسسكو مجرم رومانيا , فقد كان عنده من الحرس سبعون ألفاً من الشرطة السرية، ثم سحب كالدجاجة, وذبح في الشارع أمام الناس، أين السبعون ألفاً والله ما حرسه؟

    وإذا العناية لاحظتك عيونها      نم فالحوادث كلهن أمان

    عناية الله أغنت عن مضاعفةٍ      من الدروع وعن عالٍ من الأطم

    ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على      خير البرية لم تنسج ولم تحم

    1.   

    جوانب أخرى من عظمة عمر رضي الله عنه

    لكن ما كفى عمر أنه يخرج إلى الشارع، ويكلم الأطفال، ويقف مع العجوز، وينام على الرصيف، بل المفاجأة الكبرى أن هذا الإمام صاحب الثوب المرقع, والبطن الذي يقرقر يوم الجمعة من الجوع؛ تهتز له الأكاسرة والأباطرة والملوك, يغم عليهم من ذكره إذا ذكر؛ يقول محمود غنيم:

    كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها      وبات يملكنا شعبٌ ملكناه

    يا من يرى عمراً تكسوه بردته      والزيت أدم له والكوخ مأواه

    يهتز كسرى على كرسيّه فرقاً      من خوفه وملوك الروم تخشاه

    لماذا؟ لأنه خاف الله، فخوف الله منه كل شيء.

    أتى الهرمزان إلى المدينة ليفاوض عمر، وهذه القصة صحيحة عند المؤرخين، فأتى وفي عقله مشكلة.. كيف يقابل عمر؟

    وكيف يجلس؟

    ومن يدخل على عمر؟

    فدخل المدينة وإذا البيوت من طين، قال: أريد قصر الخليفة؟

    قالوا: لا قصر له، قال: أريد بيته، قالوا: هذا بيته، فوجد بيته كبيوت الناس من طين، فأتى وطرق الباب, فخرج ابن لـعمر فقال: ماذا تريد؟

    قال: أريد الخليفة، أليس له حراسة؟

    قالوا: لا حراسة له، قال: أين هو؟

    قالوا: التمسه في المسجد فلعله نائم فيه، فذهبوا إلى المسجد فما وجدوه, وانحدر أهل المدينة وراء الهرمزان , كان عليه ذهب وديباج، وهذا شيء من التكنولوجيا ما عرفه الصحابة، فذهبوا وراءه وبحثوا، وبعد تعب شديد وجدوه تحت شجرة نائماً, وإذا الدرة بجواره، وهو في عميق النوم، قال: أهذا الخليفة؟

    قالوا: هذا الخليفة، قال: أهذا عمر؟

    قالوا: هذا عمر، قال: أهذا أمير المؤمنين؟!!

    قالوا: هذا أمير المؤمنين، فوقف مبهوتاً يقول: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، لكن حافظ إبراهيم يترجمها قصيدة:

    وراع صاحب كسرى أن عمراً      بين الرعية عطلاً وهو راعيها

    رآه مستغرقاً في نومه فرأى      فيه الجلالة في أسمى معانيها

    فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً      ببردة كاد طول العهد يبليها

    فقال قولة حقٍ أصبحت مثلاً      وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها

    أمنت لما أقمت العدل بينهمُ      فنمت نوم قرير العين هانيها

    كان استالين إذا مر بشوارع موسكو دخل الناس البيوت خوفاً من أنفاسه, لا يتنفس متنفس وهو في الشارع، فإذا انتهى موكبه خرجوا إلى الضياء ينظرون هل بقوا أحياء أم لا؟

    ويبقي الله عليهم حياتهم, ولكنها كحياة الحيوانات.

    توضيح عمر لمبدأ العزة

    تستمر حياة عمر رضي الله عنه، ولكن عمر لا ينتهي عند هذا الحد, فليس هو عادلاً في الرعية فقط، بل فاتحاً, وأعظم فتح سوف أذكره، وإلا فثلاثة أرباع فتوح المسلمين فتحها عمر بجيوشه رضي الله عنه وأرضاه. فتح بيت المقدس والقصة صحيحة، ويرفض النصارى أن يستلم مفتاح باب بيت المقدس إلا عمر، أمراؤه أربعة وجيوشه كثيرة، ولكن النصارى يطلبون عمر رضي الله عنه وأرضاه.

    فيخرج من المدينة، ويشير عليه الصحابة أن يأخذ حراساً فيأبى، لأن الحارس هو الله، ويأخذ مولى له ويقول للمولى: [[اركب أنت عقبةً وأنا عقبة، قال: يا أمير المؤمنين! لا. قال: لا، أنت مرة وأنا مرة]] لأن هذا المولى إنسان يتعب كـعمر، ويجوع كـعمر، ويظمأ كظمأ عمر، فكان يركب عمر قليلاً وذاك يقود الجمل بزمامه ويمشيان، فإذا تعب نزل عمر وركب المولى... وهكذا، ويستقبله أمراء الأجناد أبو عبيدة وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وقد خرجوا لاستقبال الفاتح العظيم، وكما تفضل الشيخ عبد الوهاب:

    أيا عمر الفاروق هل لك عودةٌ      فإن جيوش الروم تنهى وتأمر

    رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم     وجيشك في حطين صلوا وكبروا

    فيستقبلونه فيقول عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين! خيبتنا وفضحتنا! قال: بماذا؟

    قال: أتيت بلا حرس ولا جند، ولا لباس، فثوبه الذي في المدينة أتى به بوصفه، قال: [[نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام, ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].

    نحن قوم لا نعتز بالسيارات أوالموديلات أوالفلل، فنحن عندنا إرادة وأصالة وعمق، وعندنا شيء ثمين، إذا تمسكنا به أعزنا الله وأخزى أنوف أعدائنا, ويوم أن نتخلى عن هذه الوثيقة الربانية، والعلم الشهير، والرسالة الموروثة عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام نبقى هناك في آخر الركب، ففي هيئة الأمم المتحدة الأعضاء الخمسة الذين يملكون حق نقض الفيتو من الأمم الكافرة، وترى ممثلي دول المسلمين ينامون في آخر هيئة الأمم فإذا قيل: موافقون؟! قالوا: موافقون.

    ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ      ولا يستشهدون وهم شهود

    فذهب عمر، ولما اقترب من النصارى، خرجوا وقالوا: اقترب عمر، اقترب عمر، ولما اقترب من بيت المقدس، أتت نوبة المولى ليركب، قال المولى: اقتربنا يا أمير المؤمنين! ولن أركب، قال: والله لتركبن، فهذه نوبة العدل، فركب وأخذ عمر زمام الجمل، وكان هناك طينٌ قريب من بيت المقدس، فأخذ عمر يرفع ثيابه ويقود الجمل، فيقول النصارى: أهذا مبشرٌ بالخليفة؟

    أي: أهذا الرجل أتى يبشرنا بقدوم الخليفة؟

    قالوا: بل هو الخليفة، قالوا: هو الذي على الجمل؟

    قالوا: لا، بل هو الذي يقود الجمل، وهذا شيء عجيب! لو أن شيئاً لا يثبت لما كانت العقول تثبت هذا، لكن يثبت هذا الكتاب الموروث عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم وسيرة عمر، ويفتتح بيت المقدس، ويدخل ويصلي ويقود الجماهير، ويقول لـبلال: اسألك بالله أن تؤذن لنا؟

    قال: ما أذنت لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: عزمت عليك، فقام بلال وأذن يوم الفتح لـبيت المقدس، فبكى الناس وبكى عمر.

    تلك المكارم لا قعبان من لبن      وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن

    وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا      وهكذا يعصف التوحيد بالوثن

    ماذا فعلنا بعد عمر؟ ماذا فعلنا بعد هذه المسيرة المتوجهة المتأججة؟

    ماذا فعلنا شجبنا بالكلام ولم      نحمل سلاحاً ولم نركب على سفن

    نشكو على مجلس الأمن الدعي وهل      أشقى العروبة إلا مجلس المحن

    قضية فلسطين أصبحت في ملفات حمل ثلاثة حُمُر.

    تنديد، واستنكار، وبعضهم اتهم إسرائيل واغتابها، وقال: لها نوايا توسعية في المنطقة، أين الورع؟!

    قارن بين هذا وبين ذاك الغبش الذي عاشه بعض الخلفاء في خلافة العباسيين كـالمأمون.

    يقول ابن كثير في البداية والنهاية (10/277): لما تزوج المأمون بـبوران وما أدراك ما بوران؟!

    امرأة كبنات الناس، تزوج بها لكنه أمهرها الميزانية، وهي بنت الوزير الحسن بن سهل، أراد أن يتزوج المأمون بها, فسلم الميزانية كلها مهراً للبنت، وهذا عام (210هـ).

    قالوا: إنه نثر على رأس الحسن بن سهل الدر والجوهر، وكان عدد الجوهر ألف درة، وأنفق خمسين ألف ألف درهم، وأطلق لأبي البنت عشرة آلاف ألف درهم، ووزع على قواد الجيش بمناسبة الزواج الضياع والقرى والبساتين، فأين عمر؟

    وأين الفاروق؟

    وأين العبقرية؟

    وأين أثر الإسلام؟

    هكذا فعل المأمون ووقع في الغبش، وما اتضحت له طريقة عمر، وكان خطأً فاضحاً في التاريخ.

    ويأتي القاهر بعد المأمون بما يقارب عشرة خلفاء, فيريد أن يتحصن أكثر وأكثر، ويريد أن يتمكن أكثر وأكثر, فيحفر بركاً ويملؤها بالذهب ويجمع أبناءه، ويقول: لا تخافوا الفقر؛ فقد ملئت لكم هذه البركة ذهباً وفضة، سبحان الله، أتتحدى الله؟

    تقضون والفلك المسيّر دائر      وتقدّرون فتضحك الأقدار

    فسلب الخلافة، وخلع مباشرة، وسملت عيناه، وسلمت البركة للخليفة من بعده بذهبها وفضتها، وأخذ يقف في مساجد بغداد ويقول: من مال الله يا مسلمين!!

    قال تعالى: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [الإسراء:16] إن هؤلاء الخلفاء: القاهر والمأمون لم يطالعوا يوماً من الأيام سيرة عمر، ولم يجدوا فراغاً من الوقت ليراجعوا حسابهم مع الله، ويعلموا أن هذه السيرة تغضب الله تماماً، وأنها خطأ في مسيرة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، أتظن أن عمر يبقى في بيته وقصره؟ لا. فهناك أرامل وأطفال ومساكين.

    تفقد المساكين وخدمتهم

    إن عظمة عمر تأتي من أنه الإنسان البسيط البسيط لكنه العظيم العظيم، والمتواضع المتواضع لكنه الكبير الكبير، والضعيف الضعيف لكنه القوي القوي، فهذه الأعجوبة في سيرة عمر.

    يقول طلحة بن عبيد الله: [[خرجت وراء عمر رضي الله عنه وأرضاه, وقد دخل بيتاً فدخلت بعدما خرج, فوجدت عجوزاً عمياء -وابن القيم يظنها قصتان, أو قصة وقعت لـأبي بكر، لكن أهل التاريخ يقولون: إنها لـعمر - قال: فدخلت فوجدت عجوزاً عمياء حسيرة كسيرة في البيت, فقال: من أنتِ؟

    قالت: امرأة عجوز ليس لي عائل، قال: من هذا الرجل الذي يأتيكم؟

    قالت: رجلٌ ما عرفته، قال: ماذا يصنع؟

    قالت: يقُمُّ بيتنا -أي: يكنسه- ويصنع لنا إفطارنا, ويحلب لنا شياهنا، قال: أما عرفتيه؟ قالت: لا، فجلس طلحة يبكي ويقول: أتعبت الخلفاء بعدك يا عمر]].

    إن عمر لا يرضى أن يسكن قصراً عاجياً، وتبقى أرامل الأمة ومساكينها وأيتامها في البرد والجوع والفقر والمرض.

    سقى الله ذاك اللحد دمع غمامة      إذا راعها برق الشمال استهلت

    على خير مدفونٍ وشهم ممزق     سعادتنا من بعده قد تولت

    يرى عمر أن الناس لا تكفيهم المحاضرات، ولا يشبعهم الكلام، ولا يستأنسون بالحديث ما لم يروه فعلاً، يقول أبو العتاهية:

    العنز لا تشبع إلا بالعلف     لا تشبع العنز بقولٍ ذي لطف

    العنز لا تشبع إلا بالعلف، تعرفون العنز؟

    فالعنز لا تشبع بالمحاضرات، فلو ألقيت محاضرة على عنز ولم تطعمها قاطعتك في وسط المحاضرة، فـعمر لا يريد أن يُشبع الناس كلاماً، وإنما يُشبعهم رحمة وتواضعاً وعدلاً وإنصافاً، حينئذٍ يكون عمر صادقاً مع الله، وهذا منهجه في الحياة، أن يشبعهم تطبيقاً وعملاً لا يشبعهم كلاماً.

    عمر مع خولة بنت ثعلبة

    وللنساء في حياة عمر مسيرة.

    وقفت عجوزٌ كبيرة تقول: يا عمر! قف، فتلهى عنها قليلاً, فاستدعته وقالت: يا عمر كنا نسميك في الجاهلية عميراً، وهي الآن تخاطب الخليفة الذي يحكم اثنتين وعشرين دولة، الذي إذا أصدر مرسوماً اهتزت له الدنيا، قالت: يا عمر كنا نسميك في الجاهلية عميراً، ثم دعوناك عمر، ثم سميناك أمير المؤمنين، فأنصت لها وأطرق واستمع، وقضى حاجتها، فقال الصحابة: أوقفتك في الشمس يا أمير المؤمنين، قال: كيف لا أسمع لها, وقد سمع الله لها من فوق سبع سماوات؟

    وذلك لأنها خولة بنت ثعلبة الذي يقول الله تعالى فيها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1].

    تقول عائشة: [[سبحان من وسع سمعه كل شيء، كنت في طرف البيت لا أسمع كلامها, فأنزل الله عز وجل قوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]]] ولذا أنصت لها عمر وقال: لماذا لا أستمع لها وقد استمع الله لها؟

    وأنصفها وقضى حقها.

    يا إماماً صَدَق الله فما      زاده إلا سناءً وعُلا

    كل قلبٍ يا أبا حفص غدا     يتراءى فيك مجداً أجملا

    1.   

    المؤثرات في حياة عمر رضي الله عنه

    من المؤثرات في حياة عمر ثلاثة أسباب:

    أولاً: تربية الرسول صلى الله عليه وسلم: فلقد تخرج عمر من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يدرس في ريفرسايد، ولم يتخل عن الإسلام، ولم ينسلخ من تعاليم الدين، إنما درس هناك حيث العلم والعدل، حيث الرحمة والعفاف والنور، يقول العقاد -وهي كلمة جيدة-: "الفرق بين أبي بكر وعمر أن أبا بكر عرف محمداً النبي، وأما عمر فعرف النبي محمداً".

    فما معنى هذا؟

    يعني أن أبا بكر عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والإسلام، أما عمر فبدأت الصداقة بين هذا التلميذ والمعلم العظيم بعد الإسلام، فعرفه وتتلمذ عليه.

    ثانياً: أن عمر يصدر عن بطانة: فقد قرب أهل القرآن وأهل بدر، إذ كانت بطانته علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل، وهؤلاء الثلة هم النجوم الذين يستسقى بذكرهم الغمام من السماء، وهؤلاء هم البدور، ولو كانوا ملائكةً لكانوا أسمى وأجل من أن يسموا احتراماً، وإنما جعلهم الله بشراً ليتعاملوا تعامل البشر، فهؤلاء جلاسه، فكيف لا يؤثرون في سيرته؟

    وكيف لا يكونون معه؟

    لما تولى علي بن أبي طالب رجرجت الأمة عليه وشاغبت، فقال له أحد الناس: [[يا أمير المؤمنين! ما للناس وافقوا أبا بكر وعمر ولم يوافقوك، وأطاعوا أبا بكر وعمر ولم يطيعوك؟ قال: رعية أبي بكر وعمر أنا وأمثالي، ورعيتي أنت وأمثالك]].

    ثالثاً: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه جعل الله نصب عينيه في كل ما يأخذ ويذر، وجعل رضي الله عنه وأرضاه الخلافة مغرماً لا مغنماً، يحاسب عليها أو يقول: [[يا ليتني كنت شجرة تعضد، يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني ما عرفت الحياة]].

    وكان دائماً باكياً خاشعاً رضي الله عنه وأرضاه، يقول عمر فيما صح عنه: [[والله لو عثرت بغلة في ضفاف دجلة , لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة لم لم تصلح لها الطريق يا عمر؟]] لأنه راعٍ, والراعي لابد أن يتعهد شئون الأمة، ولابد أن يكون واقفاً أمام الأسئلة التي يسألها الله عز وجل هذا الرجل، وإلا فما معنى أن يكون عمر خليفة؟

    وما معنى أن يكون حاكماً؟

    ما معنى أن يكون مسيراً للأمة إلا بهذا.

    يقول ابن تيمية (28/146): إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.

    وهذه قضية هي في التاريخ بسمعٍ وبصرٍ من شهود التاريخ عبر قرونه.

    1.   

    صور من محاسبة عمر للولاة والرعية

    قال ابن الجوزي في المناقب: خرج عمر رضي الله عنه وأرضاه ذات ليلة، وكان يمر بالأبواب ويستمع ماذا حدث في المدينة وماذا طرأ، هل الأمة نائمة نوماً هادئاً؟ هل أكل الناس وشربوا؟ هل الأرامل في راحة؟ هل المساكين هادئون؟ فحينها يهدأ، أما إذا كانت الأمة في ولهٍ وقلق, وفي مرض وجوع، فلا يمكن أن يصبر عمر.

    وفي جنح الظلام سمع امرأة تبيع لبناً تقول لابنتها: امزجيه بالماء، قالت: إن عمر منعنا من مزج اللبن بالماء -أصدر مرسوماً في السوق يمنع بيع اللبن إلا صافياً، وهذا المرسوم من وزارة التجارة في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه وأي لبنٍ يعثر عليه وقد مزج بالماء يغرم صاحبه ويتلف ماله- فقالت الأم: إن عمر لا يدري, قالت البنت: فإن لم يدر عمر ألا يدري رب عمر؟!!

    فعرف عمر البيت, وفي الصباح أتى إليهم فخطب ابنتهم لأحد أبنائه, فولدت له وأنتجت، فكانت ذرية مباركة وشجرة طيبة، ومنها عمر بن عبد العزيز.

    عليك سلام الله وقفاً فإنني      رأيت الكريم الحر ليس له عمر

    إذا شجرات العرف جذت أصولها      ففي أي غصن يوجد الورق النضر

    فـعمر بن عبد العزيز، من ابنة ماذقة اللبن: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:34] فـعمر يراقب حتى أهل البيع في السوق، ويقيم امرأة تشرف على النساء اللواتي يبعن الطيب في السوق، لئلا يدخل الغش في جانب النساء، وعمر ينزل إلى السوق ويتخاطب مع الأعراب، ويرى حوائجهم، ويسمع أعرابياً يتأوه وسط السوق ويقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل، قال: مه! ما هذا الكلام؟

    دعاءٌ ليس معروفاً، قال: يا أمير المؤمنين! يقول الله: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13] فقلت: اللهم اجعلني من القليل، فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر.

    أرسل عمر والياً على العراق، وهذا الوالي من قريش، وكان شاعراً أراد أن يقول شعراً, وما ظن أن شعره سوف يصل مباشرة إلى عمر، فقال الوالي يمزح مع جلاسه:

    اسقني شربةً ألذ عليها      واسق بالله مثلها ابن هشام

    معنى هذا: أي: اسقني شربة خمر، فالوالي كيف يشرب خمراً؟!

    وهل عمر مستعد أن يترك في دولته والياً يشرب خمراً؟!

    أهذا جزاء رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؟

    أهذا مصداقية لبقية ما أبقت الرسالة في تاريخ الأمة؟!

    فطار البيت مباشرة إلى عمر في المدينة، وقالوا له: يقول واليك يا أمير المؤمنين:

    اسقني شربةً ألذ عليها      واسق بالله مثلها ابن هشام

    يعني: جليسه، يقول هذا الوالي: بالله! يا ساقيّ قدِّم لي كأساً أشربه، واسق مثلها زميلي ابن هشام، فاضطرب عمر وغضب وأزبد وأرعد، فهو ليس مستعداً أن يبقي مثل هذه النوعية الفاشلة في دولته ولو ذهبت الرقاب، واستدعاه مباشرة، وفي الطريق ذهب الناس إلى هذا الوالي، وقالوا له: أنقذ نفسك، فالبيت هو الذي أوصلك في المصيبة، قال: كيف؟

    قال: وصله قولك:

    اسقني شربةً ألذ عليها      واسق بالله مثلها ابن هشام

    قال: ما عليكم، أي: أنه سوف يحلها بإذن الله، فقال بعدها بيتاً:

    عسلاً بارداً بماء سحابٍ      إنني لا أحب شرب المدام

    ووصل إلى الخليفة، قال عمر: أأنت القائل: كذا وكذا؟

    قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قلت بيتين ما قلت بيتاً واحداً، قال: ما هو البيت الثاني؟

    قال:

    عسلاً بارداً بماء سحابٍ      إنني لا أحب شرب المدام

    قال عمر: أما الحد فلن أجلدك بهذا البيت، فقد سلمت نفسك، لكنك لن تلي لي عملاً بعدها.. تلعب بهذه الأبيات, وتصدر هذه الكلمات، ماذا تقول الأمة لي ولك وقد أسمعت الناس أنك تشرب الخمر؟

    ما هو موقفي أمام الله يوم القيامة، إذا قال لي: إن واليك يشرب الخمر، كيف أقول؟

    كيف أجيب؟

    ماذا أقول للملايين والتاريخ؟

    ماذا أقول لله؟

    ماذا أقول لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!

    ويرسل أميراً آخر إلى ميسان قريباً من البصرة، ويقع هذا الأمير فيما وقع فيه الأول، وكانوا شعراء من قريش، ويحبون أن يتمازحوا، لكن عمر كان وراءهم بالمرصاد، فأتى هذا في ليلة يسمر ويقول:

    ألا هل أتى الحسناء أن حليلها       بـميسان يسقى من زجاج وحنتم

    يقول: ليتكم تخبرون زوجتي في مكة أن حليلها -زوجها- أصبح يشرب الخمر، واسمع القصيدة:

    ألا هل أتى الحسناء أن حليلها       بـميسان يسقى من زجاج وحنتم

    إذا شئت غنتني دهاقين قريةٍ      ورقاصة تحثو على كل منسم

    حتى المغنية موجودة!

    فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني       ولا تسقني بالأصغر المتثلم

    لعل أمير المؤمنين يسوءه      تنادمنا بالجوسق المتهدم

    وتصل الأبيات إلى عمر، فقالعمر: عليَّ به، فأجلسه أمامه، قال: ما هذه الأبيات والله لقد ساءتني.

    قال: والله! يا أمير المؤمنين ما شربت الخمر، قال: وما هذه الأبيات؟

    قال: من باب قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:224-226] قال: أسقطت الحد، لكن -والله- لا تلي لي ولاية.

    طيرته أبيات! رقاصة وموسيقى وخمر، ضعها في غير دولة عمر، أما هذه الدولة التي أقيمت على شهادة أن لا إله إلا الله وآمنت بـإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وعرفت طريقها، فلن يكون هذا وعمر حي يرزق في الحياة؛ لأن معنى ذلك أنه سوف يضيع مصير الأمة وتاريخها, ويدوس معالم الأمة في التراب، يوم يتهاوى أمام هذا الرصد المفاجئ رضي الله عنه وأرضاه.

    ويرسل أميراً زاهداً، وهو سعيد بن عامر إلى حمص، ليتولى الإمرة عليها، وعمر يطوف كل سنة على الأمراء يجمعهم ويسألهم أمام الناس، يوقف الوالي هنا، ويجلس الناس، ويقول: ما رأيكم في الوالي؟ فيتكلمون في ترجمته، مثل ترجمة الذهبي في الرجال، وأهل حمص مشاغبون، قال: ما رأيكم في سعيد بن عامر؟ قالوا: نعم الرجل، قال: اصدقوني، قالوا: لولا أربع خصال فيه، قال: ما هي؟

    قالوا: لا يخرج لنا بليل، قال: هذه واحدة. قال: والثانية؟

    قالوا: له يومٌ في الأسبوع لا يخرج إلينا فيه، أي: إنه لا يداوم يوماً في الأسبوع. قال: والثالثة؟

    قالوا: يجلس حتى يتعالى النهار ثم يأتي، أي: أنه يتأخر عن الدوام، قال: هذه الثالثة. والرابعة؟

    قالوا: إذا جلس في مجلس القضاء أغمي عليه، قال: أجب يا سعيد بن عامر، اللهم لا تخيب ظني فيه.

    فيقوم سعيد بن عامر ويتبرأ إلى الله من حوله وقوته، ويقول: يا أمير المؤمنين! أما قولهم: لا أخرج إليهم في الليل، فقد جعلت النهار لهم, والليل لربي، أتعبد، وأما الليل فذكرٌ وقراءة القرآن وتعبد.

    قال: والثانية وكانت دموع عمر تسيل، قال: وأما يوماً في الأسبوع فإني -يا أمير المؤمنين- ليس لي خادم وامرأتي مريضة، فأنا أغسل ثيابي وثياب زوجتي ثم أحميها ذاك اليوم.

    قال: ولماذا تتأخر لا تخرج إليهم في النهار حتى يتعالى؟

    قال: أصنع طعامي وطعام زوجتي ثم أتوضأ وأصلي الضحى, ثم أخرج إليهم، لأنه ليس لنا خادم وامرأتي مريضة.

    قال: ولماذا يغمى عليك؟

    قال: حضرت مقتل خبيب بن عدي في مكة فسمعته يقول: اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وكنت مع من نظر قتله وما نصرته، فكلما تذكرت ذاك أغمي عليَّ.

    فبكى عمر وقال: الحمد الله الذي لم يخيب ظني فيك، وأمره أن يواصل، قال: يا أمير المؤمنين! اعفني والله لا أتولى لك ولاية، إذا كانت هذه هي المحاسبة, على أني صدقت وبررت ثم تحاسبني أمام الناس، وأكون مداناً ومتهماً فلن أتولى لك ولاية، قال عمر: مع ذلك لنحاسبنك، فحاسبه بما أعطاه كل شهر، وحاسبه عما أخذ من بيت المال، وحاسبه عما صرف فوجد عنده شملةً وقصعةً وإبريقاً وعصاً، قال: هذه من دخلي، قال: أما الآن فنجوت، ولو أنك كذبت لكنا فتكنا بك.

    1.   

    دروس وفوائد من سيرة عمر

    هذه هي مسيرة عمر رضي الله عنه.

    قال: سفيان الثوري بلغني أن عمر كان ينشد:

    لا يغرنك ليلٌ ساكنٌ      قد يوافي بالمسيئات السحر

    وكان ينشد هذا البيت كثيراً، يقول: لا يغرك الليل والهدوء، ولا تأمن انقلاب الأمور، يقول: ربما تنام الليل هادئاً، ولكن تأتيك مفاجآت يأتي بها الله، ومثله قول بشار:

    يا راقد الليل مسروراً بأوله     إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

    قال الحسن البصري رضي الله عنه وأرضاه: قال عمر: [[والله إني لو شئت لكنت ألينكم طعاماً, وأرقكم عيشاً، إني والله ما أجهل عن كراكر-الكراكر: مقدمة الذبيحة- وعن صلاء وصنائب وصلائق، ولكني أخشى أن أعرض على الله عز وجل، فيقال لي: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها]].

    كان عمر -أيها الأبرار- موسوعة في العدل والرحمة.. موسوعة في الإيمان والتواضع، وكان تاريخاً مستقلاً، ومن أراد أن يتزود من ترجمة عمر فليراجع مناقب عمر لـابن الجوزي، فقد كان عمر يضبط بالشورى فوضى الديمقراطية، ويضرب بدرة العدل كذبة الشيوعية، ويهذب بالإنصاف طيش الراديكالية، فهو يبني من الشرع دولةً متميزة, نجومها أهل الحل والعقد، يديرها العلماء لا أوباش الائتلاف, ومنظروها أهل الريادة وحفظ الله لا أبناء صناديق الاقتراع.

    قرأت عن هتلر أنه كان من تعاليمه إذا اجتمع بوزرائه وحاشيته، من الأدب أن يلحظوه بعيونهم وقت الحديث, ولا ينحرف أحد بعينه عن وجهه وإن فعل ذلك فقد عرض نفسه للإعدام، فأي تعاليم هذه التعاليم؟

    وأي ضحكٍ على الشعوب؟!

    كلب الخليفة قد عطس      جمهور حشد شمتوه

    شكر الوفا بعيونه      فتقدموا واستأذنوه

    طلبوا الكلام تفضلاً      بتواضعٍ كي يشكروه

    رفض الكلام بذيله      متوعداً لو ينبحوه

    الكلب مد يمينه      من حسنه إذ قبلوه

    أوصاهم فتعهدوا      أن يحفظوه ويسمعوه

    شكراً لكلب خليفة      ربى مكارمه أبوه

    أيها الأبرار.. نخلص من سيرة عمر بأمور:

    أولاً: أننا لا نريد من سيرة عمر -كما قلت سالفاً- تاريخ الأموات ولا التعداد والأوصاف، بل نريد من سيرة عمر الدروس والتربية والحياة والعدل والصدق، والتضحية والبذل والرحمة، ونريد من سيرة عمر أن يتجدد في الجيل أناس يشكلون مسيرةً لـعمر، وصدقه مع الله، وشجاعته في الحق، لكن بحكمة عمر , وبنفاذ بصيرة عمر، وبهدوء عمر.

    ثانياً: أن هذا الإسلام معطاء، وأن الذي يقول: (لم يعد للعظماء مجال) كاذبٌ مفترٍ على الله، بل سوف تتكرر نماذج ونماذج من الدعاة والحكماء والعلماء والأدباء ما بقيت هذه الأمة، وما بقيت رسالتها في الأرض.

    ثالثاً: من أراد أن يتزود من هذه السيرة العطرة، فليتزود من منبع عمر رضي الله عنه الذي نبع وشرب منه، وهو الكتاب والسنة.

    رابعاً: عندنا عظماء وليس عند غيرنا عظماء، عظماؤنا نتفاخر بهم أنهم عظماء، فهم عظماء عمل، وعظماء صدق، ولهم من بركة العمل وجهود التضحية ما نباري بهم الآخرين، والآخرون عندنا أقزام، مدائح وهراء وإطراء؛ لكن لا عمل ولا قداسة ولا طهر.

    أيها الأحباب.. أنتهي من هذه المحاضرة شاكراً لكم حضوركم، وأنا أعلم أنكم حضرتم حباً في عمر لا حباً في عائض، وأنكم حضرتم من أجل صاحبكم الكبير ورجلكم الملهم، والعبقري الفاتح، فرضي الله عنه وأرضاه، وعندي تنبيهان:

    الأول: جزيرتنا وبلادنا ليست مستعدة إلا لفكر عمر، وعقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست مراهنة على فكرٍ علماني كافر، وليست مستعدة أن تفتح أبوابها لهذا الفكر الدخيل المعارض للإسلام, حتى والله لو شدخت الرءوس بالدبابات, وفتكت الأكتاف بالمجنزرات، فلن تـبقى إلا ملة الرسول عليه الصلاة والسلام.

    الثاني: يا شباب الإسلام! يا حملة التوحيد! يا أبطال العقيدة! السكينة السكينة، والهدوء الهدوء، ومراجعة العلماء والدعاة، وإيصال النصيحة بحكمة، لا بطيشٍ ولا بتعجل، وليس معنى الحكمة تكفين الكلمة ودسها في أكفان! لا، بل الحكمة الصادقة الهادئة التي توصل كلمة الحق، وتغير بها المنكر، في غير طيش ولا سفه وانزعاج، وأئمتكم الآن هم العلماء، أعلنوا أنهم أمامكم، وأنهم يريدون أن يسمعوا منكم وتسمعوا منهم, لتجددوا تلك المسيرة الخالدة، ولتقولوا للعالم:

    نبني كما كانت أوائلنا      تبني ونفعل مثلما فعلوا

    السلام على عمر يوم ولد، والسلام عليه يوم أسلم، والسلام عليه يوم بويع بالخلافة، والسلام عليه يوم قتل شهيداً، طلب من الله أن يُقتل شهيداً فقُتل شهيداً، لكن أين؟

    في المحراب، ومتى؟

    في صلاة الفجر، وإلى أين؟

    إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، وفي أي ساعة؟

    في ساعة الصباح يوم يتنفس الصباح على إطلالة يومٍ جديد، فيقدم فيه عمر على الله ليكافئه على عمله، طعن وحمل إلى البيت، وقال لابنه وقد وضع رأسه على مخدة: [[انزعها وضع رأسي على التراب، علَّ الله أن يرحمني]] وقال: أدخلوا عليَّ الأطفال، فأدخلوا عليه الأطفال وقبلهم، وقال: أدخلوا الشباب، فدخل عليه الشباب, ودمه يثعب, وجراحه تسيل، ونفسه تقعقع؛ وإذا بشابٍ قد أسبل إزاره, فقال: [[يا بن أخي! ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك, وأنقى لثوبك]].

    قال بعض المفكرين العصريين: أمير المؤمنين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في ساعة الموت، وهذا إزار، فكيف بالمنكرات التي يجب على الإنسان وهو في سعادة الحياة أن ينهى عنها كالربا، والفساد المستشري، والحجاب الذي يكاد يتهتك، والغناء الذي يقتلع البيوت، وانتشار الرذيلة، وسكوت أهل الفضل إلا من رحم ربك، وإيذاء الصالحين في وقت قول الحق، فهذا عمر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن على مسألة أصبحنا نراها من جزئيات الجزئيات، ثم ذهب عمر إلى الله، فقال علي: [[والله ما أريد أن ألقى الله بعمل رجلٍ إلا بعملك]] وأثنت عليه الأمة شرقاً وغرباً، وذهب إلى الله سعيداً.

    كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر      فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر

    تردى ثياب الموت حمراً فما دجا      لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضر

    فتى كلما فاضت عيون قبيلة     دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر

    ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة      غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر

    اللهم اجمعنا بـعمر، وأجلسنا مع عمر، اللهم ارفع رسالة وعبقرية وعدل عمر على جماجمنا وأرواحنا وأكتافنا يا رب العالمين.

    وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767457615