إسلام ويب

كيف نعلم الناس؟للشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • رسالة المعلم في المؤسسات التعليمية عظيمة، فهو الذي يرسم للجيل الطريق، وهو قدوة الطلاب وقائدهم، وفي هذه الخطبة يخاطب الشيخ المعلمين، ويرشدهم إلى الطريق الذي ينبغي أن ينتهجوه، ويوضح دورهم في الحياة.

    1.   

    أهمية العلم النافع

    الحمد لله القائل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5].

    والصلاة والسلام على رسول الله القائل: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) صلى الله وسلم على مؤسس حضارة الأمة, ومعلم الأجيال, وهادي الشعوب, والذي أقام صرح الحضارة, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, أمَّا بَعْد:

    عباد الله: غداً يبدأ العام الدراسي، وتفتح الجامعات والمعاهد والمدارس أبوابها, وغداً يخرج شبابنا وكريماتنا لتلقي العلم النافع, وغداً تستهل السنة الدراسية يومها الأول.

    والسؤال: ما هو موقفنا من العلم؟

    وما هو العلم الذي نريده؟

    وما هو واجب العلم علينا؟

    وما هي مسئولية الأساتذة الأخيار والمعلمين الأبرار تجاه شباب وكريمات الأمة، وأجيالها؟

    غداً يومٌ يرسل الأب فيه فلذة كبده إلى الأساتذة والمعلمين, فماذا يفعلون بهذه الفلذة؟ وبهذه القلوب التي تجلس أمامهم؟

    وما هو موقف الإسلام من العلم؟

    أولاً: أيها الأبرار: لقد نادى الله بطلب العلم ومدحه، وأثنى على العلماء وبجلهم وذكرهم في كثير من الآيات, وذم صنفاً آخر من العلماء، ومقتهم وندد بهم، وذم مسعاهم.

    يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لرسوله في أول طرق الدعوة وخطواتها: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19].

    قبل أن تبدأ في الدعوة والحياة والمسيرة عليك بطلب العلم، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] فاملأ قلبك بالإيمان, وجوارحك باليقين, وكن عبداً لله قبل أن تتعلم العلم.

    ويقول الله له ممتناً عليه يوم أن أخرجه من بين جبال مكة ووهادها وشعابها -فإنه ما تعلم في مدرسة ولا دخل جامعة، ولا تلقى العلم على شيخ- قال الله له: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء:113] فمن الذي علمك؟ من هم شيوخك؟ من هم أساتذتك؟ الله هو الذي علمك وفقهك ونوّر بصيرتك: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19].

    واستشهد الله بالعلماء وطلبة العلم على أكبر شهادة في الدنيا, وأكبر شهادة عرفتها الإنسانية وهي شهادة التوحيد, فقال عز من قائل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] فانظر كيف جعلهم شهداء على وحدانيته, وألوهيته؛ وذلك لعظم قدرهم.

    ووصف الله طلبة العلم بأنهم يخشونه تبارك وتعالى, ويقفون عند حدوده, ولا ينتهكون حرماته, وبأنهم يراقبونه في السر والعلن.

    فالذي لا يراقب الله ولا يخشاه ولا يتقيه ولا يتقه ليس بطالب علم, قال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    ووصف الله طلبة العلم بأن عندهم من الفهم للدعوة، والفقه في الدين، والاستنباط من النصوص شيئاً كبيراً، فقال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] فالرسالة الخالدة والمبادئ الأصيلة، والأهداف الجليلة لا يعقلها إلا من يفهم عن الله أمره ونهيه.

    ولم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتزود من شيء إلا من العلم فقال له: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] لا يكتفي بعلم ولا يقف عند نص, وإنما همته تمر مر السحاب, كل يوم في ازدياد, وكل لحظة في تحصيل, وكل ليلة في مواصلة في هذا الصرح الجميل فهذا العلم هو الذي يغبط عليه صاحبه.

    كل وقت في ازدياد العلم إرغام العدا     وجمال العلم إصلاح العمل

    لا تقل قد ذهبت أربابه     كل من سار على الدرب وصل

    والله عز وجل حكم بين طلبة العلم وبين غيرهم فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] وسكت عن الجواب؛ لأنه لا يوجد للسؤال إلا جواب حاصل، ولا ينبغي أن يجاب للعلم به. وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

    يا أيها المسلمون: يا أبناء من تعلموا العلم النافع الذي أوصلهم إلى الدرجات العليا في الجنة! أبناؤكم إذا لم يتعلموا العلم النافع، ويطلبوه لمرضاة الواحد الأحد، فأقلل به من علم! ويا لحسرة صاحبه! ويا لندامته وخسارته! علم لا يجعلك تشهد أن لا إله إلا الله، وتعظم الله فليس بعلم, وعلم لا يجعلك تحافظ على الصلوات الخمس في جماعة فليس بعلم, وعلم لا يجعلك باراً بوالديك وصولاً لرحمك صادقاً وفياً، خاشعاً منيباً متقياً سنياً ليس بعلم.

    العلم ليس حفظ النصوص، فمن الناس من يحفظ القرآن ولكنه فاجر, يلعنه القرآن وتلعنه السنة, ومن الناس من يدهده بالكلمات ولكن قلبه ما عرف الله.

    التحول الجذري في الجزيرة العربية

    العنصر الثاني: كيف حول النبي صلى الله عليه وسلم الجزيرة العربية من جزيرة يسكنها بدو رحل, جزيرة لا تفهم ولا تفقه ولا تعي شيئاً, أهلها قتلة نهبة، سلبة سرقة، زناة كذبة، ولو ظن القوميون أن العرب لهم مجد قبل الإسلام, وأيُّ مجد؟ مجد الإبل والبقر والغنم! مجد القتل والنهب والحقد والضغينة؟! لا والذي رفع السماء بلا عمد, ما بدأ مجدنا وتاريخنا وعظمتنا، وما ارتفعت رءوسنا إلا بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    أتى عليه الصلاة والسلام إلى الأمة الضائعة المسكينة الضالة، فهداها إلى الله, قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] لكن كيف علمهم؟ أعلمهم بالسوط والسيف؟ أعلمهم بالحبس والسجن؟ أعلمهم بالحديد والنار؟ لا والله، قال الله: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] لو كنت سفاكاً ما اجتمعت عليك القلوب, ولو كنت قتالاً نهاباً ما أحبتك القلوب, لكن كما قال الله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] وقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] وقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

    أتيت أيها المصطفى إلى العرب الذين هم كقرون الثوم، يتقاتلون على مورد الشاة ومربط الناقة, فأتيت بالخلق الفاضل، والبسمة, واللين, والرفق والنصيحة, فانقادت لك القلوب, فحررتها من وثنيتها وشركيتها وقدتها إلى الله.

    إن الدعاة الذين يحاولون اليوم أن يصلحوا بالتجريح والعنف، وبالتعريض بالناس, وبالنقد لبعض العلماء الذين لهم زلات انغمرت في بحار حسناتهم؛ هؤلاء لا يفقهون ولا يعلمون، ويفسدون أكثر مما يصلحون, وسوف يعلمون أنه ليس بأيديهم نتيجة.

    يرسل الله موسى وهارون إلى فرعون السفاك المجرم، وقال لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] قال سفيان الثوري كما في تفسير ابن كثير: القول اللين أن يكنياه أي: نادياه بالكنية وكنية فرعون: أبو مرة، -مرّر الله وجهه في النار- فأخذ موسى يقول: يا أبا مرة، إذا أسلمت أنعم الله عليك بملكك وصحتك وشبابك.

    فالرسول عليه الصلاة والسلام جاء إلى هؤلاء البدو الرحل، الذين لا يتفاهمون إلا بلغة الهراوات والمشاعيب, فأتى إليهم بالهدوء واللين حتى قاد قلوبهم، يقول الله له من فوق سبع سموات: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62-63] إنها معجزة، كيف استطعت أن تؤلف بين غطفان وبني تميم؛ وتؤلف بين قريش والأوس والخزرج؛ وتؤلف بين هوازن وفزارة، حتى أصبحوا إخواناً متحابين متصافين متقاربين؟

    خطاب الناس على قدر عقولهم

    أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام بدوي جلف لا يفهم شيئاً، تربى مع التيس والكلب, فدخل على المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأخذ جبته وسحبها وقال: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك ولا من مال أمك.

    فغضب الصحابة، وتبسم عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه, وأراد الصحابة أن يبطشوا بهذا الأعرابي ويطرحوه أرضاً، فيضربوه ضرباً مبرحاً ينسيه أباه وأمه, فقال عليه الصلاة والسلام: خلوا بيني وبين الرجل وأخذه وشبك أصابعه بأصابعه، وأخذه يقوده إلى بيته ويمازحه ويلاطفه ويداعبه, ثم أتى به إلى غرفته وقال: خذ ما شئت من تمر وزبيب وحب وثياب, هل أحسنت إليك؟ قال: نعم. جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً قال: اخرج إلى أصحابي فأخبرهم بما فعلت بك، وبما قلت لي ليذهب غيظهم الذي وجدوه في أنفسهم عليك. وخرج أمام الجماهير فقال له صلى الله عليه وسلم: هل أحسنت إليك؟ قال: نعم. جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً, ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله, ما رأيت معلماً قبلك ولا بعدك أحسن منك. فقال عليه الصلاة والسلام للصحابة وهو يتبسم: {أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الإعرابي؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: مثلنا كمثل رجل كانت له دابة انفلتت منه فأخذ يلاحقها، فلما رآه الناس أخذوا يلاحقونهها معه, فلما رأتهم ما زادها إلا فراراً, فقال: أيها الناس! خلوا بيني وبين دابتي أنا أعلم بها، فأتى بشيء من حشائش الأرض -أي: من خضار الأرض- وأخذ يلوح به أمام الدابة حتى أتت فأمسكها فقيدها, قال: لو تركتكم وهذا الأعرابي فضربتموه لكفر فدخل النار}.

    وذهب الأعرابي إلى قومه، فكان داعية فيهم حتى أسلموا عن بكرة أبيهم, فسبحان من علمه! سبحان من ثبته! سبحان من سدد خطاه على هذا التعليم!

    أفلا يأخذ الأساتذة الأخيار والمعلمون الأبرار درساً من هذا الأسلوب الراقي في تعليم شباب المسلمين؟! لقد أخطأ كثير من الأساتذة والمدرسين يوم استخدموا السوط في جلد البشر، وفي ضرب أبناء المسلمين. إن العنف لا يولد إلا عنفاً, وإن البغض لا يأتي إلا ببغض.

    يقول عليه الصلاة والسلام: {ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه} فالجمل إذا رأى منك صلفاً وحدة، قطع حباله وغضب عليك وناهش وباهش..! فكيف بالأجيال؟ وكيف بأبناء المسلمين؟

    والرسول عليه الصلاة والسلام كان في تعليمه يخاطب الناس على قدر عقولهم, فأستاذ الابتدائي ليس كأستاذ الجامعة, فهو يريد أن يصل إلى عقول هؤلاء الناشئين وإلى أفهاهم, فلا ينبغي عليه أن يكبر عليهم المعلومات، ولا يحجم عليهم المقتضيات، وعليه أن يخاطبهم بقدر عقولهم.

    جاء في صحيح البخاري أن أحد أطفال المسلمين -وهو أبو عمير أخو أنس - كان له نغر (طائر) يلعب به، فمات الطائر, فأراد صلى الله عليه وسلم أن يسلي هذا الطفل، فلما ذهب إلى بيتهم سأل أمه عن حاله فأخبرته، فقال له صلى الله عليه وسلم: { يا أبا عمير ما فعل النغير؟} قال أهل العلم: فيه درس عظيم على أن الناس يخاطبون على قدر عقولهم, وأن المعلومات تصلهم على قدر العقول.

    وكان عليه الصلاة والسلام إذا تكلم مع الأعراب خاطبهم بكلام يفهمونه, بكلام على مستواهم وعلى ما تبلغه أفهامهم, فإذا أتى إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجلة الصحابة، كلمهم في القضايا الكبرى.

    التعليم بالقدوة الحسنة

    كان عليه الصلاة والسلام في التعليم ينهج طرقاً شتى, منها: التعليم بالقدوة في نفسه, ووالله ما قال كلمة إلا عمل بها, ووالله ما دعا الناس إلى خير إلا كان أسبقهم إليه, كان يتأثر بما يقول, يدعو إلى الصدق وهو صادق, يدعو إلى الصلاة وهو مصلِّ, يدعو إلى الخشية وهو يخشى الله. أما الذي يدعو وهو كاذب فلن يجعل الله في دعوته خيراً, ولن يكون لها تأثيرٌ, يدعو بعض الناس -ونعوذ بالله أن نكون منهم- إلى بر الوالدين وهو يعق والديه, ويدعو إلى صلة الرحم وهو قاطع لرحمه, فلا يجعل الله لكلامه نوراً ولا لدعوته تأثيراً, قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] أي: أما تستحون؟! تتكلمون كلاماً جميلاًوتحاضرون وتؤسسون وتؤلفون، ولكن الأفعال تكذب الأقوال! أين الحياء من الله؟! خيبة لمن يفعل ذلك إن لم يتب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليه.

    فكان عليه الصلاة والسلام يربي بالقدوة، يراه أول من يفد عليه ساعة من الزمن فيهتدي بمرآه, لأنه يراه صادقاً أميناً مخلصاً، محباً للخير، قائداً إلى البر والتعاطف.

    وكان عليه الصلاة والسلام يربي بالتطبيق, فهل يعي الأساتذة هذا المبدأ؟ كان إذا أراد أن يعلم الناس الصلاة قام فصلى أمامهم.

    إن كثرة الحصص النظرية والمحاضرات بلا تطبيق معناه: إدخال المعلومات في الأذهان وخروجها من الآذان.

    جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال: {يا أيها الناس صلوا كما رأيتموني أصلي} ثم قام فصلى لهم, فأراهم كيف يركعون ويسجدون، وكيف يخشعون ويسبحون.

    فهل فكر أحد من الأساتذة بدلاً من أن يكتب كثيراً على السبورة معلومات لا تنفع أطفال المسلمين، أن يريهم الوضوء أو الصلاة, أو أن يريهم كيف يسبحون الله عز وجل, أو أن يريهم هيئة صلاة الكسوف والاستسقاء وصلاة الخوف؟! ليكون علم التطبيق نافعاً محفوظاً مجدياً.

    وكان عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال المذهلة التي تبقى في النفوس فلا تزول, أراد أن يصف لهم فضل الصلوات الخمس, فماذا عسى أن يقول؟

    في الجزيرة العربية القاحلة قال: {أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل كل يوم منه خمس مرات, أيبقى من درنه شيء؟ -وتوقف الصحابة عند هذا المثال في الصحراء التي تلتهب، وتصوروا النهر وهو يمر أبوابهم وكأن الماء البارد يتدفق على رءوسهم- فقالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا}.

    وورد مع الصحابة في السوق فرأى جدياً أسك ميتاً -ليس له أذان، ومع ذلك ميت- فرفعه بيده الشريفة وقال لأصحابه: {من يشتري هذا بدرهم؟ قالوا: والله لو كان حياً ما يستحق درهماً لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟! قال: أفرأيتم هوانه على أهله؟ قالوا: من هوانه رموه في السكك قال: والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذا على أهله} هذا هو التعليم ووضوح المنهج.

    أنواع العلم

    والعلم علمان:

    1- علم ضار لا ينفع, وهو العلم الذي يسلخ الشاب من مبادئه ودينه، ومن تقوى الله وخشيته، فيخرج حاملاً الشهادة وهو فاجر, ويحمل مؤهلاً علمياً وهو فاسق، لا يعرف من الدين قليلاً ولا كثيراً. فهذا هو العلم الضار، قال تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [البقرة:102] فعلم لا يصل إلى القلوب, ولا تدمع منه العينان, ولا يشدك إلى كثرة الذكر والتلاوة, والنوافل, ويجعلك داعياً ليس بعلم.

    2- العلم النافع، وقد سبق تفصيله في بداية الكلام.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.

    1.   

    فضل المعلم ودوره في المجتمع

    الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً, وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً, وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.

    والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    أيها الأخيار.. فإنني أدعو كل معلم وأستاذ أن يتقي الله عز وجل في أجيال المسلمين, وأن يخلص النية، وأن يصدق مع الله عز وجل في تعليم شباب المسلمين, ولا يظن أنها مجرد وظيفة واستلام راتب وقضاء وقت, لا والله! فالأمر أعظم من ذلك, الأمر رسالة خالدة واتباع للرسول عليه الصلاة والسلام.

    إن المعلم كاد أن يكون نبياً من الأنبياء, فإن أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام وورثة الأنبياء هم الدعاة إلى الله والأساتذة والمعلمون.

    فأدعو كل أستاذ إلى أن يكون مربياً متقياً، وأن يعلم أن هذه البلاد تختلف تماماً عن كل بلاد -أقصد من غير بلاد المسلمين- في التعليم والتوجيه, فنحن لسنا في فرنسا ولا أمريكا ولا الصين بل نحن في مهبط الوحي وقبلة المسلمين، وفي بلد الحرمين، نحن في بلاد انبعثت منها لا إله إلا الله, وانطلقت منها الدعوة الخالدة, وخرجت منها الكتائب التي فتحت بلاد الدنيا, وعلمنا يؤخذ من فوق سبع سموات، كتاب وسنة, ونسأل الله ألا نتعلم لغير الأغراض التي يريدها الله عز وجل.

    فيا أيها الأستاذ.. مهما كان تخصصك؛ تاريخاً، أو جغرافيا، أو رياضيات، أو تربية، أو علم نفس، فإنك معلم ومن المأجورين المشكورين في الإسلام, اجعل هذه المادة عبادة، وصلة تصل الشباب بربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى, فإنك -والله- مسئول عن هذا الدرس وعن هذه المادة التي تقدمها عند الله.

    لقد أزرى الله عز وجل وندد ببني إسرائيل يوم تعلموا وما استفادوا منه, غضب الله عليهم ولعنهم حيث قال: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] نقول: ما للبركة في أرزاقنا قلَّت؟ ما للشباب -إلا من رحم الله- فسد؟ ما للأجسام أصابها المرض؟ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، ولو اتقينا الله في تطبيق العلم لرحمنا الله عز وجل.

    ووصف الله بني إسرائيل بأنهم كالحمير, تعلموا علماً لكن ما استفادوا منه, حمار يحمل مجلدات ومصنفات، فهل يستفيد الحمار؟! فدماغه دماغ حمار! تكلمه فلا يفهم, قال تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] والآيات والأحاديث تقرأ في الفصل صباحَ مساءَ, ولكن كما قال الله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18].

    1.   

    العمل بالعلم

    يا شباب الإسلام.. هذا القرآن وهذه السنة، وهذه الجامعات والمعاهد والمدارس، ما أقيمت إلا لتقودكم إلى جنة عرضها السموات والأرض, فالخواجات يتعلمون للدنيا، قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] وينتهي علمهم إلى المادة، ولكن ما وراء عالم الشهادة يخفقون فيه, قال تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66] وقال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176] هذا مثل لعالِم السوء, ولطالب العلم الفاسق الفاجر.

    رجل من بني إسرائيل اسمه "بلعام بن باعوراء " تعلم العلم، فأراد الله أن يرفعه بالعلم لكنه ما ارتفع؛ لأنه خسيس, جعل مكان التلاوة أغنية ماجنة, وجعل مكان المصحف مجلة خليعة, وجعل مكان الدروس وحلقات العلم رفقة السوء في المقاهي والملاهي، والليالي الحمراء، وليالي السوء في تاريخ الإنسان؛ فما اهتدى ولا ارتفع، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] يريد الله أن يكرم الإنسان فيأبى الإنسان, ويريد أن يلبسه ثوب الستر فيخلع ثوب الستر, ويريد أن يرفعه من الطين والرذيلة والفاحشة فيرفض!! فمثله كمثل الكلب، إذا أدخلته الظل أخرج لسانه ولهث واطرد نَفَسُه, وإن أخرجته في الشمس لهث وأخرج لسانه, فالظل والشمس سيان عند الكلب, ولذلك بعض الناس يتعلم ويسمع المواعظ والخطب والنصائح مما غيرت في حياته ذرة.

    وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] فهو أغوى الناس, لأنهم يقولون: هذا خريج كلية الشريعة وأصول الدين، وهو فاسق! فيمكن أن يكون عنده دليل على جواز الفسوق والفجور! فقد أضل الناس، (وزلة العالِم زلة عالَم) والعالِم إذا زل زلّ به فئام كثيرة من الناس, قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا لو علم الله منه صدقاً لرفعه ولكنه ما ارتفع.

    فيا أيها الأساتذة.. أروا الله من أنفسكم الصدق! ويا طلاب المسلمين! أروا الله من أنفسكم النصح، وطلب العلم لوجهه، والقوة في التحصيل.

    إن هذه الدعوة تقام على علم, وإن من يهون من شأن العلم، أو يقلل من شأن الحلقات والدروس والتحصيل معناه أنه يضرب في صميم الإسلام، ويهدم بمعوله حصن الإسلام، ويدوس كرامة الإسلام.

    الإسلام ما بني إلا على علم, وما نشر إلا بقال الله وقال رسوله؛ فبماذا ندعو الناس؟ أنصفف لهم كلمات؟! أنجعل لهم خطباً إنشائية رنانة طنانة لا علم فيها ولا توجيه ولا نصوص ولا أدلة؟!

    غداً أيها المسلمون يبدأ هذا العام، ونسأل الله أن يكون عاماً حافلاً بالخير واليُمن, حافلاً بالصدق والنصح, وأن يتقي أساتذتنا ربهم فيما ولاهم الله جل وعلا, وأن يحملوا الأمانة بصدق، وأن يعلموا أن الله سوف يسألهم: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] وقال: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].

    عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه, فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلّى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً).

    اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، اللهم اعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين, اللهم ارض عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بمنّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

    اللهم اجمع كلمة المسلمين, اللهم وحد صفوفهم, اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه, اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا, وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.

    اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة, ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا, ونسألك القصد في الغنى والفقر, ونسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718694

    عدد مرات الحفظ

    764925404