إسلام ويب

سلعة الله غاليةللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ عن تأسيس بنيان التقوى، وذكر في هذا الدرس عاملاً أساسياً من عوامل التقوى وهو الجود، وفصّل في أنواع الجود المأمور بها شرعاً: الجود بالنفس، الجود بالعلم، الجود بالوقت، الجود بالجاه.. ثم ذكر نماذج من جود الصحابة وبذلهم، وختم بقصة طريفة لأحد العلماء.

    1.   

    الجود ومنازله

    الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً وتَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرا، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً.

    أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، هدى به الله الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بَعْد:

    فيقول الله تبارك وتعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109] أفمن أسس حياته ومستقبله على تقوى من الله وعلى رضوان من الله وعلى خوف من الله وعلى خشية لله خير أم من أسس بنيانه على معصية وتمرد وعدوان لحدود الله وانتهاك لحرمات الله.

    ومن سنن الله الكونية القدرية والشرعية الأمرية: أن ينصر أولياءه وأن يحفظ أحبابه ويؤيد عباده، ومن سننه كذلك: أن يخذل أعداءه وأن يمقت من ضاده وحاده؛ ولذلك أتى صلى الله عليه وسلم من غار حراء خائفاً وجلاً، لما أتاه جبريل ظن أن سيموت أو يهلك أو يخزى؛ لأنه رأى صورة ما رآها قبل، فقالت خديجة رضي الله عنها وأرضاها: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً! إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) فاستدلت بحسن فعاله وبجميل صنعه على أن الله لا يخزيه أبداً.

    هل رأيتم متصدقاً أخزاه الله؟! هل رأيتم صادقاً أخزاه الله؟! هل رأيتم صالحاً محسناً أخزاه الله؟! إنما يخزي الله أعداءه ومن حاده، أهل المعاصي وأهل الفواحش وأهل السيئات هم الذين يخزيهم الله، والله عز وجل ذكر أهل البر وأهل المعروف فقال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].

    ولم أر كالمعروف أما مذاقه     فحلو وأما وجهه فجميلُ

    الجود بالنفس

    يقول ابن القيم رحمه الله: الجود والبر منازل ودرجات أعظمها الجود بالنفس.

    أرأيت إنساناً يجود بنفسه لمرضاة الله، هل هناك أكرم منه؟! لا والله فيا من بخل بدرهمه وديناره! أصحاب الرسول عليهم الصلاة والسلام جادوا بنفوسهم وأرواحهم في سبيل الله،

    يجود بالنفس إن ضن البخيل بها     والجود بالنفس أغلى غاية الجودِ

    أتى الصحابة وما عندهم مال ولا عقار ولا درهم ولا دينار، فاستقبلوا القبلة متوضئين، ورفعوا سيوفهم شاهدين ظاهرين مقبلين، وقالوا: يارب لا نملك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً، وإنما نملك نفوسنا قد أهديناها إليك فتقبلها منا، جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88].

    ومن الذي باع الحياة رخيصة     ورأى رضاك أعز شيءٍ فاشترى

    أم من رمى نار المجوس فأطفئت     وأبان وجه الصبح أبيض نيرا

    ومن الألى دكوا بعزم أكفهم      باب المدينة يوم غزوة خيبرا

    خالد بن الوليد باع نفسه في المعركة، وذلك جميل ومعروف لنفسه، صلاح الدين، طارق بن زياد، محمود بن سبكتكين، وأحفاد محمود من المجاهدين الأفغان، ومن أمثالهم قالوا لله بلسان حالهم: يا رب نحن فقراء ما عندنا مال ولا عقار، ما عندنا قصور ولا سيارات، ما عندنا ملابس ولا مشروبات ولا مرطبات، لكن هذه نفوسنا قدمناها لك!

    أرواحنا يا رب فوق أكفنا     نرجو ثوابك مغنماً وجوارا

    كنا نرى الأصنام من ذهب     فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا

    لو كان غير المسلمين لحازها     كنزاً وصاغ الحلي والدينارا

    الجود بالعلم

    قال ابن القيم: ومن الجود:الجود بالعلم وهو من أشرف الجود!

    فيا دعاة الإسلام! يا طلبة العلم! يا حملة الدكتوراة والماجستير! يا من تفنن في أساليب التفنن العلمية والتخصصات الشرعية! الأمة ماتت جهلاً وشركاً وتخلفاً وعامية، فمن ينقذها بعد الله إلا أنتم! وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187] اشتروا به مناصب ووظائف وتكدسوا في بيوتهم، وتركوا الأمة غارقة في الجهل وفي الخرافة والشرك، فبئس ما يشترون! والله لساعة من التعليم واحدة خير من مناصب الدنيا ومن وظائفها وأموالها.

    هو العضب المهند ليس ينبو     تصيب به مضارب من أردتا

    وكنز لا تخاف عليه لصاً     خفيف الحمل يوجد حيث كنتا

    يزيد بكثرة الإنفاق منه     وينقص إن به كفاً شددتا

    والله يقول:إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160].

    كم من القضاة في بلادنا! كم من الأساتذة! كم من العلماء! كم من الدعاة؟ ألوف مؤلفة! ومع ذلك القرى جاهلة، والبوادي تعيش الخرافات، وكثير من الناس لا يعرفون أحكام دينهم ولا أمور شرعهم، وحولهم الماء لكن بخل أهل الماء بالماء، وفي الركاز الخمس، أرأيت البخيل إذا بخل بماله، كيف يكون ممقوتاً مذموماً مسبوباً مشتوماً من الناس! والله إن من بخل بقال الله وقال رسوله أكثر ذماً ومقتاً وبخلاً منه!

    وانظر إلى أهل الباطل، كيف بذلوا علمهم الباطل وعلمهم المتخلف، ولعنتهم بذلوها ووزعوها، كتبوا وتكلموا وحاضروا وأنتجوا وطبلوا وزمروا وغنوا ورقصوا، لكن أهل الحق في خجل أن يرفعوا حقهم ويوزعوه.

    الجود بالمال

    ومن الجود ومن منازله الكبرى: الجود بالمال، ونحن في هذه البلاد نعيش رغداً وعيشاً هنيئاً مريئاً، نحن أثرياء بالنسبة للعالم، إن متوسط دخل الواحد منا يعادل دخل كثير من تجار العالم، فهل قدمنا لأنفسنا؟ هل قدمنا للقبر؟ هل قدمنا للصراط؟ هل قدمنا ليوم الكربات يوم الفضائح؟

    لقد رأينا ورأيتم كثيراً من الناس يشكون العوز! مدين لا ينام الليل وأطفاله لا يجدون كسرة الخبز، لا يجدون قطعة القماش، يتقدمون بصكوك إلى أهل القصور، ويتقدمون بالدمعات الحارة إلى أهل المطاعم الشهية والملابس الوطية والمراكب الزهية، فيا أيها الناس! من فعل خيراً فإنما يفعل لنفسه، والله يقول: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].

    الخير أبقى وإن طال الزمان به     والشر أخبث ما أوعيتَ من زادِ

    يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {إن لله ملكين يناديان كل صباح، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً} فمن أراد أن يخلف الله عليه وأن يبارك في رزقه وفي دخله، فلينفق على الفقراء، وعلى المجاهدين، وعلى المساكين، وفي مشاريع الخير، فهذا من باب البر.

    كان الجاهليون وهم وثنيون يعبدون الأصنام والأوثان لا يرضون أن يعيش في مجتمعهم جائع ولا مسكين، كان ابن جدعان جاهلياً ما عرف لا إله إلا الله وما سجد لله، عنده صحاف تعرض كل صباح بلباب البر وبمسيل العسل، فينادي مناديه على جبل أبي قبيس في مكة: من أراد الإفطار فليأت فتمتلئ صحافه من المساكين، فإذا أتى الظهر قدم صحافه لحماً وخبزاً ثريداً، وقال: من أراد الغداء فليأت! يقول أمية بن أبي الصلت في آل جدعان أهل الكرم والجود:

    لا ينكتون الأرض عند سؤالهم     لتطلب الحاجات بالعيدانِ

    بل يشرقون وجوههم فترى لها     عند السؤال كأحسن الألوانِ

    وإذا الغريب أقام وسط رحالهم     ردوه رَبَّ صواهلٍ وقيانِ

    وإذا دعا الداعي ليوم كريهة     سَدُّوا شُعاعَ الشمس بالفرسانِ

    الجود بالجاه

    ومن الجود: الجود بالجاه -الجود بالوجاهة- بعض الناس آتاه الله جاهاً وواسطة وشفاعة، يعرفه المسئولون، يعرفه الأمراء والوزراء وأهل المناصب في الدولة بوجاهته وبمنصبه وبصدارته في المجتمع، والله يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً [النساء:85] ما هي الشفاعة الحسنة؟ يعني: يا أهل المناصب! يا أيها المسئولون في هذه البلاد وفي غيرها: أن تشفع للمحتاجين، أن ترفع حاجة المظلومين المضطهدين الأرامل العجائز، تتكلم إلى المسئول تتكلم إلى الأمير، تتكلم إلى الوزير في حاجتهم وفي مضرتهم وفيما أصابهم من ظلم وفيما أتاهم من جوع، وحينها تكون مشفوعاً لك عند الله، والجزاء من جنس العمل، يشفع لك محمد عليه الصلاة والسلام في دخول الجنة وفي الرضى الأبدي السرمدي عند الله: وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْل مِنْهَا [النساء:85] كما يفعل الذين انتقصت حقوقهم عند الله يسعى في إضرار المسلمين وفي التنكيد عليهم وفي تنغيص عيشهم وفي زلزلة أمرهم وفي تقديم دمائهم وأموالهم للشيخ، وهذا عنده عند الله مرصاد يتحراه: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]

    الجود بالوقت

    الجود بالوقت: أن تجعل وقتك للمسلمين، فتذهب إلى المريض في المستشفى أو في بيته فتواسيه، وكم تعادل زيارتك للمريض من الأجر والمثوبة، إنك تدخل الأنس عليه والفرج بعد فرج الله عليه، إنك تدخل ماء الحياة إلى قلبه، إنك تغرس شجرة الأمل في نفسه وفي روحه، وتعود مأجوراً.

    ومنها أن تصل الأرامل وأن تتفقد المحتاجين: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ [التوبة:109] أفمن بنى حياته ومستقبله على بر وخير وأصالة ومعروف.

    أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ [التوبة:109] أسس قواعده على المعصية، أسس قواعده على الجريمة، على البغض للمسلمين، على تنكيد حياتهم، على تنغيص عيشهم، على التثلج بدمائهم وأموالهم عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ_ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109].

    ما أحسن المعروف! وما أحسن الجميل! يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: [[ما أحسن الجميل! والله لو كان الجميل رجلاً لكان حسناً، ما أقبح القبيح! والله لو كان القبيح واللؤم رجلاً لكان قبيحاً]].

    جاءه رجل فاستحيا أن يسأل علي بن أبي طالب، فكتب حاجته في التراب فقال علي رضي الله عنه وأرضاه: أمسكت ماء وجهك وأعفيتنا من ذل سؤالك لألبين مسألتك فقال الرجل:

    كسوتني حلة تبلى محاسنها     لأكسونك من حسن الثنا حللا

    والثناء من أحسن ما وضعه الله للناس في الأرض.

    إنما المرء حديث بعده     كن حديثاً حسناً لمن وعى

    حاتم الطائي نذكره اليوم وهو مشرك، حاتم نتبجح بذكره في المجالس وهو وثني، لأنه كان كريماً جواداً.

    فيا عباد الله! قوا نفوسكم من نار تلظى، وقوا وجوهكم من لفح النار، بالمعروف، بالكلمة الطيبة، بالبسمة، بالصدقة، بالزيارة، بالشفاعة لما يرضيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، غفر الله لي ولكم، وأنقذني وإياكم من النار، وهداني وإياكم سواء السبيل، هنيئاً لكم إقبالكم على الله وتوبتكم إلى الله وثباتكم على ما يحبه الله ورسوله، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    1.   

    نماذج في الجود

    الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    عباد الله: فإن ما ذكرته في الخطبة الأولى عليه نماذج من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهم القوم المقتدى بهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] لم نقدم للإسلام عشر ما قدموا، وما فعلنا لرفع لا إله إلا الله ولو قيراطاً مما رفعوا- فرضي الله عنهم وأرضاهم وألحقنا بهم، بذلوا نفوسهم رخيصة في سبيل الله.

    بذل الصحابة لنفوسهم في سبيل الله

    أتى حمزة فترك أطفاله وأهله وداره وعقاره وأتى بثيابه الممزقة التي تستر جسمه الطاهر، فقاتل في أُحد حتى قتل، فكان أسد الله في أرضه، وكان سيد الشهداء في الجنة، وأتى أنس بن النضر، فرأى الناس فروا يوم أحد، فأقبل إلى الله وشم ريح الجنة من دون أحد، فقتل وضرب بأكثر من ثمانين ضربة، وأتى خالد وسعد فباعوا أرواحهم من الحي القيوم.

    هذه أعظم المنة وأعظم الصدقة والبذل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111].

    بذل الصحابة في العلم

    وبذلوا العلم رضوان الله عليهم وأرضاهم.

    وسيدهم وخيرهم وأبرهم محمد صلى الله عليه وسلم أحيا الله به الأرواح من الجهل، حتى يقول شوقي:

    أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له     وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ

    معنى ذلك: إن كان عيسى عليه السلام أحيا الأموات بإذن الله، فأنت أحييت الأرواح وأحييت الشعوب الميتة، وعلمت الجاهلين، ورفعت الأميين، وعلمت الذين ما كانوا يتعلمون ولا يفقهون ولا يتدبرون، ويقول الآخر:

    أتطلبون من المختار معجزة     يكفيه شعب من الأموات أحياه

    كان أبي بن كعب يجلس للناس بعد كل صلاة فيقول: هل من متعلم؟! هل من سائل؟! هل من مستفتٍ؟! فيفر بالعلم كالبحر الثجاج، وكان ابن عباس يجلس للناس من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، إذا انتهى أهل التفسير قال: [[اخرجوا علي بأهل الحديث، فإذا انتهوا قال: علي بأهل الفقه، فإذا انتهوا نازل أهل الفتاوى والأحكام، فإذا خلصوا قال: علي بأهل الأدب والشعر واللغة]] ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].

    بذل الصحابة أموالهم في سبيل الله

    وبذلوا أموالهم في سبيل الله، عثمان شرى بئر رومة من اليهود، وقال له صلى الله عليه وسلم وللصحابة: {من يشتري بئر رومة وله الجنة!} فشراها فكان الثمن روحه إلى الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام: {من يجهز جيش تبوك وله الجنة، فجهز جيش تبوك، فكان ثمن روحه، فلما جهزه قال عليه الصلاة والسلام: اللهم اغفر لـعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم}.

    قصة ابن أبي حاتم

    ذكر الذهبي في ترجمة ابن أبي حاتم، عبد الرحمن الإمام الورع الحبر: أنه ذهب إلى خراسان، فجلس في مجلس، فأتى قوم يقولون: نريد أن نبني مسجداً، فمن يبني لنا مسجداً؟ فقام هذا الإمام العالم، فقال: من يبني لهؤلاء الناس مسجداً فقد آذاهم الحر والبرد والمطر، فقام تاجر من التجار وقال: يا ابن أبي حاتم! أنا أبني لهم مسجداً، ولكن والله لا أبني لهم مسجداً حتى تشهد لي بمثله في الجنة، وتشهد أن لي بيتاً بمثله في الجنة، فتبسم الإمام وقال: من يتقول على الله؟ ومن يشهد على الله؟ لكن ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من بنى لله مسجداً بنى له الله بيتاً في الجنة ولو كمفحص قطاة}.

    قال: أما أنا فلا أبني حتى تكتب لي كتاباً أن لي مثله في الجنة، قال: الله المستعان! اللهم اعلم أني أحسنت الظن بك فلا تخيب ظني، علي بورقة وعلي بقلم، فكتب بسم الله الرحمن الرحيم: لقد قاله: ابن أبي حاتم على الجواد الكريم الذي لا تنفذ خزائنه ولا ينتهي معروفه ولا بره أن فلان بن فلان بنى في الحياة الدنيا مسجداً، فإنني أسألك يا ذا لجلال والإكرام أن تبني له بيتاً في الجنة مثله، وقد شهدت على ذلك وشهد فلان بن فلان وفلان بن فلان، ثم وقع الورقة وسلمها الرجل.

    قال الذهبي فنام ابن أبي حاتم تلك الليلة، وكان عابداً زاهداً ولياً لله، فرأى في المنام قائلاً يقول: أمضينا لك ما كتبت من صك ولا تعد إلى ذلك، أي نفذنا ذلك الخطاب لك ما دمت أحسنت الظن، ولكن لا تعد إلى ذلك، فإن معروف الله لا ينتهي ورحمته وسعت كل شيء، وهل تُدخل الجنة إلا بالمعروف: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72].

    أيها الناس.. صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، فقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:6] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا}.

    اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، اللهم بلغه صلاتنا وسلامنا وتحياتنا وحبنا، واجعلنا ممن يحشر في زمرته ويظل تحت ظله ويعمل بسنته.

    اللهم إنا نسألك من العيش أرغده، ومن العمر أسعده، ومن الوقت أعمه، ومن العمر أتمه.

    ونسألك من النعيم منتهاه إنك على كل شيء قدير، اللهم ارض عن الصحابة الموفقين الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

    اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك ولرفع رايتك، اللهم انصر المجاهدين الأفغان الذين أرضوك بجهادهم يا واحد يا ديان.

    اللهم ألف كلمتهم، واجمع شملهم وانصرهم على عدوهم، وأعد عليهم بلادهم ومساجدهم ومصحفهم وعزهم يارب العالمين، اللهم أنصر المجاهدين في فلسطين، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.

    اللهم أعد لنا المسجد الأقصى وكرامته وقداسته، اللهم العن اليهود ومن شايع اليهود.

    اللهم اخزهم، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم اسلب إرادتهم، واجعل تدبيرهم في تدميرهم.

    اللهم أنزل الصواعق عليهم، اللهم خذهم من كل مكان، اللهم اجعل أعداء المسلمين غنيمة للمسلمين بأطفالهم وأموالهم إنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم أصلح بيوتنا وشبابنا وأمهاتنا وأخواتنا وبناتنا.

    اللهم أصلح قلوبنا ووفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم أصلح ولاة أمورنا ومسئولينا ومن تولى ولاية فينا، اللهم اهدهم سبل السلام، اللهم خذ بأيديهم، اللهم وفقهم للعمل بكتابك وللعمل بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767395410