يقال الجيلي والجيلاني وكلاهما واحد.
وهو عبد القادر بن أبي صالح عبد الله الجيلي الحنبلي أبو محمد مولده بجيلان سنة إحدى وسبعين وأربع مائة، اشتهر بالزهد والعبادة، وكان يأكل من عمل يده، ذاع صيته واشتهر، من كبار الصوفية حتى نسبت له الطريقة القادرية، وهي من طرق الصوفية المشهورة، قال عنه الذهبي : الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء.
وقال في نهاية ترجمته: وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن وعليه مآخذ في بعض أقاويله ودعاويه، والله الموعد، وبعض ذلك مكذوب عليه. انتهى.
وهو حنبلي معروف يثني عليه شيخ الإسلام كثيراً، له كتاب الغنية، وله قبر في العراق يعبد ويدعى من دون الله إلى الآن نسأل الله السلامة.
وقد نقل شيخ الإسلام عنه -أي: عبد القادر - أنه سئل: هل كان لله ولي على اعتقاد أحمد بن حنبل ؟ فقال: لا كان ولا يكون. انتهى.
وقال عنه ابن كثير : ويذكرون عنه أقوالاً وأفعالاً ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحاً ورعاً، إلى أن قال: وبالجملة كان من سادات المشايخ.
وقال الشيخ عبد الله بن جبرين : إن أكثر ما ينقل عن مثل هؤلاء من أمور لا تتوافق مع الشرع فهو لم يقلها ولم يفعلها وما هي إلا من تلاميذهم وأتباعهم.
وقال عنه ابن رجب بعد أن ذكر أن بعض ما ينقل عنه لا يصح، قال: وللشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى كلام حسن في التوحيد والصفات والقدر، وفي علوم المعرفة موافق للسنة. انتهى.
توفي سنة إحدى وستين وخمسمائة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن متأخريهم الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي قال في كتاب الغنية: أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد ].
قوله: (الصانع) هو من باب الخبر لا من باب التسمية كما أطلق ذلك شيخ الإسلام.
قال: [ أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتقين أن الله واحد أحد إلى أن قال: وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5] ].
الشاهد أنه يثبت الصفات، وأثبت الاستواء على العرش، وفيه الرد على أهل البدع من الجهمية وغيرهم.
قال: [ ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان ].
لأن هذا قول الحلولية وهو كفر نعوذ بالله.
قال: [ بل يقال: إنه في السماء على العرش، كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].. وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف ].
هذا يدل على أن له كلاماً جيداً في الاعتقاد والعلو رحمه الله.
قال: [ وذكر كلاماً طويلاً لا يحتمله هذا الموضع، وذكر في سائر الصفات نحو هذا، ولو ذكرت ما قال العلماء في ذلك لطال الكتاب جداً ].
وقال في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال: هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو منقول من طرق سوى هذه، من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم].
الظاهر أن حديث النزول من الأحاديث المتواترة.
قال: [ وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش استوى من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله في كل مكان.
قال والدليل على صحة قول أهل الحق قول الله.. وذكر بعض الآيات إلى أن قال: وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار، لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم ].
قوله: (لم يوقفهم عليه أحد) في نسخة يتبعهم، ونسخة يوافقهم، ونسخة يؤنبهم، وكل هذا جيد.
قال: [ وقال أبو عمر بن عبد البر أيضاً: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7] هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله ].
أي: كون قوله تعالى: (إلا هو معهم) يعني: بعلمه وهو فوق العرش سبحانه وتعالى، وبهذا يجمع بين النصوص.
وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، حيث يقرون بالصفات، ويؤمنون بها، ويعتقدون معناها، أما الكيفية فيفوضونها إلى الله، ويؤمنون بها على حقيقتها، كما قال الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول، فيؤمنون بالاستواء باللفظ والمعنى على حقيقته وأنه استواء حقيقي، أما الكيفية فلا يعلمها إلا الله.
قال: [ وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ].
أما أهل البدعة فيقولون: الاستواء مجاز، ومعناه الاستيلاء وهذا باطل.
قال: [ إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع من الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرونها ولا يحملون شيئاً منها على الحقيقة ].
بل يحملوها على المجاز، والخوارج يغلب عليهم اتباع المعتزلة، ولاسيما المتأخرون.
قال: [ ويزعمون أن من أقر بها مشبه ].
هكذا يزعمون، أن من أثبت الاستواء والعلم والقدرة فهو مشبه.
قال: [ ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود ].
وهم -يعني: المعطلة- عند من أقر بها -وهم أهل السنة- نافون للمعبود أي: الله، والمعنى: أن المعطلة هم عند أهل السنة نافون للرب واصفوه بالعدم؛ لأنهم لما نفوا الأسماء والصفات أنتج النفي أنهم نفوا الرب فلم يثبتوا معبودهم. نسأل الله السلامة والعافية.
قال: [ والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الجماعة. هذا كلام ابن عبد البر إمام أهل المغرب ].
قال الله تعالى: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وقال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب، مثل قوله في غير حديث في حديث الشفاعة: (يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه)، ومثل قوله في الحديث المتفق عليه: (أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده -وفى لفظ- وكتب لك التوراة بيده) ومثل ما في صحيح مسلم : (وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده)، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكتفأ أحدكم خبزته في السفر؛ نزلاً لأهل الجنة) ].
هذه النصوص كلها تثبت اليدين لله عز وجل، وأبو بكر البيهقي يتولى أهل الكلام الأشاعرة ومع ذلك أثبت اليدين، ومعروف أن الأشاعرة لا يثبتون اليدين، بل يثبتون الصفات السبع، لكن أبو بكر البيهقي كان يميل لأهل السنة وإن كان يوافق الأشاعرة في بعض ما يقررونه، لكنه هنا وافق أهل السنة وأثبت أن اليدين من صفات الله، لكن قوله: (ليستا جارحتين) مما يؤخذ عليه. والمؤلف رحمه الله ينقل عن العلماء النقول وقد لا يوافقهم في كل ما يقولون، لكنه يبين موافقتهم أهل السنة والجماعة، فقوله: لا على الجارحتين، لا ينبغي التكلم به لا نفياً ولا إثباتاً، فلا يقال: جارحة، ولا يقال: غير جارحة؛ لعدم ورود النص بذلك.
قال: [ وذكر أحاديث مثل قوله: (بيدي الأمر)، (والخير في يديك)، (والذي نفس محمد بيده) (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، وقوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين) ].
هذه النصوص فيها إثبات اليدين من الكتاب والسنة.
وهذا الحديث فيه إثبات اليمين والشمال.
والحديث رواه مسلم ، لكن بعضهم طعن في قوله: (بشماله)؛ لتفرد بعض الرواة فيها.
والصواب أنها ثابتة، وهو معروف من الأحاديث الأخرى أيضاً، يعني: إثبات اليمين يدل على إثبات الشمال، فله يمين وله شمال سبحانه وتعالى، أما حديث (كلتا يديه يمين) يعني: في الفضل والشرف والبركة وعدم النقص، بخلاف المخلوق، فإن يده الشمال فيها نقص عن اليمين، أما الرب سبحانه وتعالى فكلتا يديه يمين في الشرف والفضل والبركة وعدم النقص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فانه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع) ].
وجاء في رواية بلفظ: (بيده الأخرى القبض) وفي الأخرى بلفظ: (بيده الخير).
وفي الأصل القسط، وكذا في نسخة الفتاوي وغيرها، وما أثبت من الصحيحين والأسماء والصفات للبيهقي .
وفيه: إثبات صفة القبض والبسط.
قال: [ وكل هذه الأحاديث في الصحيح.
وذكر أيضاً قوله: (إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت قال: اخترت يمين ربى يمين مباركة) ].
والحديث أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة . انتهى. وابن أبي عاصم في السنة، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم وذكر له شاهداً ووافقه الذهبي والبيهقي في الأسماء والصفات وابن حبان .
قال: [ وحديث: (إن الله لما خلق آدم مسح ظهره بيده) إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع.
ثم قال البيهقي : أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب، وكذلك قال في الاستواء على العرش وسائر الصفات الخبرية، مع أنه يحكي قول بعض المتأخرين ].
قوله: (لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار).
يعني: لم يفسروا الكيفية ولم يتأولوها، أما المعنى ففسروه ووضحوه.
وهذا الكلام من أبي يعلى جيد، وهو من الحنابلة، وقد يؤول أحياناً.
قال: [ وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق -وفي نسخة مجموع الفتاوي: لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق- ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة، وذكر بعض كلام الزهري ومكحول ومالك والثوري والأوزاعي والليث وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن عيينة والفضيل بن عياض ووكيع وعبد الرحمن بن مهدى والأسود بن سالم وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم في هذا الباب، وفى حكاية ألفاظهم طول.. إلى أن قال: ويدل على إبطال التأويل أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفوها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغاً لكانوا إليه أسبق لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة ].
ولأن الصحابة هم أعرف الناس بما يجب على الله، وأدرى بمعاني هذه النصوص، فهم شاهدوا التنزيل، وهم أهل اللغة، وعندهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عما أشكل عليهم.
ولو كان في هذا تشبيه لبينوا ذلك، فالشبهة تختلف عند بعض الناس.
وكان قد رجع عن قول المعتزلة حيث كان على مذهبهم، وقال: إنه مكث أربعين سنة ثم أعلن رجوعه، وخلع ثوباً في الجامع على المنبر، وقال: إني رجعت عن أقوال المعتزلة، خلعتها كما أخلع هذا الثوب، ثم تحول إلى مذهب وسط وهو مذهب الأشاعرة، ثم تحول إلى مذهب أهل السنة والجماعة، إلا أنه بقي عليه أشياء يسيرة من المذهب السابق، له كتاب الإبانة في أصول الديانة، قال فيه: إنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
قال: [ وذكر فرق الروافض والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم، ثم قال: مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث جملة.
قول أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون شيئاً من ذلك، وأن الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وكما قال تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وأن له عينين بلا كيف؛ كما قال تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]، وأن له وجهاً كما قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] ].
إثباته لصفة العينين من آية: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ، غير سديد، فإن معنى الآية: بمرأى منا، والمعروف أن إثبات العينين لله عز وجل مأخوذ من حديث الدجال : (إن ربكم ليس بأعور، وإن
قول البخاري في قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] : إلا ملكه، هذا من التأويل، والبخاري لم يقل هذا، بل يمكن أنه نقل قولاً من الأقوال، وفي هذه الآية إثبات الوجه لله تعالى، وجهه وذاته سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله تعالى: [ وأن أسماء الله تعالى لا يقال أنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علماً كما قال تعالى: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، وكما قال تعالى: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]، وأثبتوا له السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15]، وذكر مذهبهم في القدر إلى أن قال: ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في اللفظ والوقف، من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم ].
على مذهب أهل السنة والجماعة أن من قال: القرآن مخلوق فقد كفر.
وهذا هو الصواب، أن يقال: كلام الله لفظه ومعناه منزل غير مخلوق، ومن قال باللفظ أي: قال: لفظي بالقرآن مخلوق أو قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع؛ لأنه لا يخصص اللفظ، كما لو قال إنسان: السبع الطوال من القرآن ليست مخلوقة نقول: هذا بدعة؛ لأنه لا تخصص السبع الطوال، فكلام الله منزل غير مخلوق السبع الطوال وغيرها، وكذلك إذا قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فنقول: هذا بدعة؛ لأن التخصيص هذا بدعة، وكذلك التوقف، من قال: أنا أتوقف في اللفظ، فلا أقول: مخلوق ولا غير مخلوق، فهذا مبتدع، فالتوقف بدعة. قال بعض السلف: اللفظية شر من الجهمية، أي: من يقول: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وكذلك من توقف.
فالمقصود أن معتقد أهل السنة والجماعة: أن كلام الله منزل غير مخلوق، ولا يقال في اللفظ، ولا يتوقف، ولا يخصص اللفظ بشيء.
وكما قال الله تعالى عن المؤمنين: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) فهو أعظم نعيم يعطاه المؤمن في الجنة، فيراه المؤمنون ويحتجب على الكفرة، قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].
والمنافقون كفرة محجوبون عن الله، أما في الموقف فهناك اختلاف بين أهل العلم فيهم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يراه أهل الموقف كلهم المؤمنون والكافرون ثم يحتجب عن الكفرة.
القول الثاني: أنه يراه المؤمنون والمنافقون، كما جاء في الحديث: أنه يقال يوم القيامة لكل من كان يعبد شيئاً: (ليتبع كل من كان يعبد شيئاً من يعبده، فمن كان يعبد القمر يتبع القمر، ومن كان يعبد الشمس يتبعها، ثم يتساقطون في النار، وتبقى هذا الأمة فيتجلى الله لهم) فظاهره أن المنافقين معهم، فيسجد له المؤمنون، والمنافقون يكون ظهر الواحد منهم طبقة لا يستطيع السجود، ثم إذا ساروا انطفأ نور المنافقين وضرب بينهم بسور له باب، وهذا حديث طويل.
والقول الثالث: أنه لا يراه إلا المؤمنون في الموقف. وظاهر الحديث الطويل أن المنافقين كانوا مع المؤمنين في الدنيا، وتنزل عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، وظاهره أنهم يرون الله في الموقف ثم يحتجب عنهم بعد ذلك، فيكون هذا عذاباً لهم نسأل الله السلامة والعافية.
خلافاً للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان تصديق القلب فقط.
قال: [ ولا يقولون: مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ].
قوله: (ولا يقولون: مخلوق) يعني: العمل، وكأن المقصود التخصيص، وإلا فقد قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] والقول في أن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة، وهذه المسألة أيضاً شبيهة بالمسألتين السابقتين، وهي أنه لما ظهرت مقولة القائلين: لفظنا بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق تكلم الناس حينئذ في الإيمان، فقال طائفة: الإيمان مخلوق، ودخل في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان وقول: لا إله إلا الله، فصار مقتضى قولهم: أن نفس هذه الكلمة مخلوقة، ولم يتكلم الله بها، فبدع الإمام أحمد هؤلاء، قال شيخ الإسلام بعد إيراد هذه المسألة والكلام عليها: وهذه الأقوال كلها مبتدعة مخترعة لم يقل السلف شيئاً منها، وكلها باطلة شرعاً وعقلاً، ثم ذكر في نهاية البحث أنه من قال: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق فلابد من الاستفصال منه ما يريد بالإيمان؟ فإن أراد بالإيمان شيئاً من صفات الله كقوله: لا إله إلا الله، وإيمانه الذي دل عليه اسم المؤمن فهو غير مخلوق، وإن أراد شيئاً من أفعال العباد وصفاتهم فالعباد كلهم مخلوقون، فجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد المخلوق صفة قديمة.
بل هم تحت مشيئة الله عند أهل السنة والجماعة، لا يشهد عليهم بالنار المعين، لكن العموم لا بأس به، فيشهد عليه بما شهدت له النصوص كحديث: (من أكل مال اليتيم فهو في النار) أي: أن من أكل مال اليتيم فهو في النار على العموم، وكذلك اللعن كحديث: (لعن الله شارب الخمر) فهو على العموم، أما فلان ابن فلان الذي أكل مال اليتيم فلا يحكم عليه بالنار، أو فلان ابن فلان السارق فلا نلعنه؛ لأنه قد يكون معذوراً، كأن لم يبلغه النص، أو قد يكون له إيمان عظيم وحسنات تقضي على ما صدر منه. والمسألة فيها خلاف، فبعض العلماء يرى لعن المعين، لكن الصواب عدم لعنه.
ولا شك أن الجدل والجدال يؤدي إلى الخصومات والشحناء والبغضاء، ولاسيما الجدال في الدين، والمراء في القرآن، فكل هذا ينكره أهل السنة والجماعة وينهون عنه.
أي: أن أهل السنة يسلمون ويقبلون النصوص، ويثبتون الصفات التي ثبتت في النصوص الصحيحة التي رواها الشيخان عن الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث النزول: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر) إذ هذا من الأحاديث المتواترة، ومثل حديث الرؤية، ولا يقولون: كيف؟ ولا لم؟ لا يقولون في الصفات: كيف؟ ولا يقولون في أفعال الله: لم؟ فإنه لا يعترض على الله، قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23]؛ لأنه حكيم سبحانه، ولا يقال: لم فعل كذا؟ ولا يقال في صفاته: كيف، فلا يقال: كيف نزوله؟ كيف استواؤه؟ كما قال الإمام مالك : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
هذا على أحد القولين.
والقول الثاني: أن هذا قرب الملائكة فقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ [ق:16]، يعني: أقرب إليه بملائكتنا من حبل الوريد، بدليل قيده بالظرف؛ لقوله: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17]، وقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، أي: نحن أقرب إليه بملائكتنا، ولو كان المراد قرب الله لما كان مقيداً بالوصف وهو تلقي الملكين؛ لأن قرب الله عام وليس خاصاً، وهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية .
والقول الثالث: أن المراد قرب علم الله، وهو قول مرجوح عند شيخ الإسلام وابن القيم ، لكن المؤلف رحمه الله ينقل عن أبي الحسن وعن غيره، وقد ينقل عن غيره مسائل فيوافقه في بعضها وقد لا يوافقه، لكن قصده من ذلك تبيين أن السلف والعلماء كلهم يثبتون الصفات ويردون على أهل البدع، ومن ذلك أبو الحسن الأشعري حينما رجع إلى أهل السنة والجماعة وألف هذه المؤلفات القيمة بعد أن هداه الله.
فإن قال قائل فقوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] هل هو من هذا الباب أم لا؟
قلنا: معنى قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ، يعني: يجيء الله والملائكة، فإن الواو لا تقتضي الترتيب، بل الواو لمطلق الجمع، والمعنى: أن الملائكة يجيئون كما جاء في الحديث: تشقق السماوات فتنزل الملائكة، ثم يجيء الله لفصل القضاء سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته.
فالنصوص دلت على تشقق السماوات على الملائكة، وأنهم يصفون، ثم يجيء الله، كما قال سبحانه وتعالى في الآية: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210].
وفي الآية الأخرى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158]، فالإتيان ثابت لله عز وجل كما يليق بجلالته وعظمته.
يعني: مجانبة أهل البدع، والبعد عنهم، وعدم الاختلاط بهم ومعاشرتهم وجالستهم؛ لئلا يضروك.
ولا شك أن الروافض من أشد الناس بدعاً، فالواجب البعد عنهم، والحذر منهم، وعدم الاختلاط بهم وهجرهم، فإن الزندقة تكثر فيهم كما قال شيخ الإسلام .
فإن قيل: وهل يرد على أهل البدع السلام؟
قلنا: كما يرد على أهل الكتاب، فإنه إذا سلم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم، وإن كان مسلماً فترد عليه السلام.
أما المبتدع إذا لم يظهر بدعته، ولا يعلم عن حاله فيعامل بالظاهر مثل المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانت تنزل عليهم أحكام الإسلام.
ينبغي الاشتغال بكتابة القرآن وكتابة الأحاديث والآثار؛ لأنها هي الطريق إلى ثبوت السنة.
قال: [ وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع الاستكانة والتواضع وحسن الخلق، مع بذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسعاية ].
كل هذا من معتقد أهل السنة والجماعة ويأمرون به.
قوله: (والسعاية) في مجموع الفتاوي: وترك الغيبة والنميمة والشكاية.
وعلى الأول يكون المعنى: يسعى في الباطل، وعلى الثاني يكون المعنى: الشكاية إلى المخلوق.
قال: [ وتفقد المآكل والمشارب ].
أي: حتى لا يكون فيها شبهة أو حرام، فمن معتقد أهل السنة والجماعة أنه ينبغي للإنسان أن يتفقد مأكله ومشربه ومركبة، ويبتعد عن المكاسب الخبيثة كالقمار، أو الربا، أو الغش، أو تنفيق السلع بالحلف الكاذب، فهذه الصفات الخبيثة والرديئة يبتعد عنها المسلم.
قال: [ قال: فهذه جملة ما يأمرون به، ويستسلمون إليه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول ].
قوله: (ويستسلمون إليه) في المقالات: ويستعملونه، ولعلها أحسن.
قال: [ وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو المستعان ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الأشعري أيضاً في اختلاف أهل القبلة في العرش: قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش ].
هذا الكلام من الأشياء التي بقيت على الأشعري ، فإن إثبات الجسم ونفيه ليس له أصل، وأهل السنة والجماعة لا ينفون هذه الأشياء ولا يثبتونها، فلا يقال: إن الله جسم، ولا يقال: إن الله ليس بجسم؛ لأنه لم يرد في النصوص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
[ قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش، كما قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ولا نتقدم بين يدي الله في القول ].
عملاً بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].
قال: [ بل نقول: استوى بلا كيف، وأن له وجهاً، كما قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وأن له يدين، كما قال تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وأن له عينين، كما قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] ].
وهذا كله ثابت بالأدلة، ولكن الدليل على صفة العينين حديث الدجال : (إن ربكم ليس بأعور ، وهو استدل عليهما بآية: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] لكن معناها: بمرأى منا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته، كما قال تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] ].
يعني: في الآية إثبات صفة المجيء لله تعالى.
قال: [ وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، كما جاء في الحديث ].
أي: نزولاً يليق بجلاله وعظمته.
قال: [ ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب وجاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش، بمعنى: استولى، وذكر مقالات أخرى].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر