قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ نهى الله عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وأفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولوا: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:46] ].
الرعونة: ضعف العقل، فاليهود قبحهم الله يقولون: راعنا، أي: اسمع وانتبه لنا، وهم يقصدون الرعونة، وهي ضعف العقل، فالله تعالى نهى المؤمنين عن هذه الكلمة المؤلمة حتى لا يشابهوا اليهود، فقال: (لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا)؛ لأن (راعنا) فيها إيهام، وأما (انظرنا) فليس فيها إيهام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ: (وعليكم)، فإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104].
وقال الإمام أحمد: أخبرنا أبو النضر قال: أخبرنا عبد الرحمن بن ثابت قال: أخبرنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم) ].
والحديث فيه عبد الرحمن بن ثابت بن الدرغام الموصلي، وهو ضعيف، قال ابن حجر رحمه الله: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العنسي الدمشقي تغير في آخر عمره. وهذا الحديث ثابت، فله شواهد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي النضر هاشم قال: أخبرنا ابن قاسم به: (من تشبه بقوم فهو منهم) ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها ].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأقل أحوال هذا الحديث أنه يفيد التحريم، وإلا فظاهره يفيد الكفر، فلا يجوز للمسلمين التشبه بالكفار في أقوالهم أو أفعالهم أو لباسهم أو أعيادهم أو تقاليدهم، ومن ذلك مشابهتهم في قولهم: (راعنا)، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن التشبه بهم فيما هو خاص بهم.
وأما عادة الكافرين فإنه إذا فعلها المسلمون كلهم فذلك ممكن، وأما إذا فعلها بعض الأفراد ممنوع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي قال: أخبرنا نعيم بن حماد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا مسعر عن ابن معن وعون -أو أحدهما- أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه.
وقال الأعمش عن خيثمة قال: ما تقرءون في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) فإنه في التوراة: (يا أيها المساكين) ].
(ما) في قوله: (ما تقرءون) بمعنى: الذي، أي: الذي تقرءونه في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) هو في التوراة: (يا أيها المساكين).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير -أو عكرمة- عن ابن عباس رضي الله عنهما: (راعنا) أي: أرعنا سمعك، وقال الضحاك عن ابن عباس : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا [البقرة:104] قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أرعنا سمعك، وإنما (راعنا) كقولك: أعطنا.
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية وأبي مالك والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة نحو ذلك، وقال مجاهد : (لا تقولوا راعنا): لا تقولوا خلافاً، وفي رواية: لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. وقال عطاء : (لا تقولوا راعنا) كانت لغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها، وقال الحسن : (لا تقولوا راعنا) قال: الراعن من القول السخري منه، نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام، وكذا روي عن ابن جريج أنه قال مثله.
وقال أبو صخر : لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فيقول: أرعنا سمعك، فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له).
وقال السدي : كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع غير صاغر، وهي كالتي في سورة النساء، فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا: راعنا، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بنحو من هذا.
قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم: (راعنا)؛ لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقولوا للعنب: الكرم، ولكن قولوا: الحبلة، ولا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي)، وما أشبه ذلك.
وقوله تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105] يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم، ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول تعالى: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105] ].
هذا فيه بيان شدة عداوة أهل الكتاب والمشركين للمؤمنين، وأنهم يودون قطع المدد من السماء عن المؤمنين، وقطع أسباب الخير والرحمة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ما ننسخ من آية): ما نبدل من آية، وقال ابن جريج عن مجاهد : (ما ننسخ من آية) أي: ما نمحو من آية، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : (ما ننسخ من آية) قال: نثبت خطها ونبدل حكمها، حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك، وقال الضحاك : (ما ننسخ من آية): ما ننسك، وقال عطاء : أما (ما ننسخ) فما نترك من القرآن، وقال ابن أبي حاتم يعني: ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقال السدي : (ما ننسخ من آية) نسخها: قبضها، وقال ابن أبي حاتم يعني: قبضها ورفعها، مثل قوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) وقوله: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً).
وقال ابن جرير : (ما ننسخ من آية): ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يحول الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
وأصل النسخ: من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها، وسواء نسخ حكمها أو خطها؛ إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة ].
هذه الآية الكريمة فيها إطلاق النسخ، وأن الله سبحانه وتعالى ينسخ ما يشاء من الآيات لحكمة بالغة، وبين سبحانه وتعالى أنه إذا نسخها أتى بخير منها، وله الحكمة البالغة، وهو سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده، واليهود ينكرون النسخ ويقولون: إنه يلزم منه البداء على الله، وهو أن يظهر لله الشيء بعد أن كان خفياً، ولذلك أنكروا النسخ، وهذا من جهلهم وضلالهم، فالنسخ فيه حكم ومصالح للعباد، والله تعالى عليم بمصالح عباده، ولهذا قال سبحانه: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:106-107].
وقد ينسخ الحكم ويبقى اللفظ، كنسخ آية تربص المرأة المتوفى عنها زوجها حولاً كاملاً بآية التربص أربعة أشهر وعشرة أيام، فنسخ حكمها ولفظها باق، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240] نسخ حكمها بآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234].
وقد يكون النسخ إلى بدل، كما في هاتين الآيتين، وكما في آية المصابرة، فقد نسخ الله تعالى مصابرة المسلم الواحد لعشرة إلى حكم أخف، بأن يصابر الواحد اثنين، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65] فكان المسلم يجب عليه أن يقف أمام عشرة أولاً، ثم خفف الله ذلك، فنزلت بعدها: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال:66].
فقد يكون النسخ إلى ما هو أخف كما في هاتين الآيتين، وقد يكون النسخ إلى ما هو أثقل، وقد يكون النسخ إلى مماثل، كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
وقد يكون النسخ إلى غير بدل، كنسخ الصدقة عند مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] ثم نسخت إلى غير بدل، والله تعالى له الحكمة البالغة.
وقد ينسخ الحكم قبل التمكن من العمل به، فقد فرض الله الصلاة خمسين صلاة على نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج، ثم نسخها الله إلى خمس صلوات قبل تمكن العباد من الفعل فضلاً وإحساناً، فله الحكمة البالغة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء.
ولخص بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر، فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه، والنسخ لا إلى بدله، وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه ].
وقد يقال: ما حرم الله على بني إسرائيل الطيبات إلا بسبب تعنتهم، فنسخ الله الحل إلى التحريم، مثل قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِه [آل عمران:93]، فقد كان حرم على نفسه لحم الإبل، وقوله فيمن صدوا عن سبيل الله: فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160]، وكذلك حرم الله عليهم الشحوم بسبب تعنتهم، فنسخ الله الحل إلى التحريم فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام:146].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال الطبراني : أخبرنا أبو سنبل عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها مما نسخ وأنسي، فالهوا عنها).. ].
قوله: (فالهوا عنها) أي: تشاغلوا عنها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فكان الزهري يقرؤها: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] بضم النون الخفيفة، سليمان بن الأرقم ضعيف ].
أي أن السند ضعيف؛ لأجل سليمان بن الأرقم .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعا، ذكره القرطبي.
وقوله تعالى: (أو ننسها) قرئ على وجهين: (ننسأها) و(ننسها)، فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه: نؤخرها، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ما ننسخ من آية أو ننسها) يقول: ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها، وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: (أو ننسأها): نثبت خطها ونبدل حكمها.
وقال عبيد بن عمير ومجاهد وعطاء : (أو ننسأها): نؤخرها ونرجئها، وقال عطية العوفي : (أو ننسأها): نؤخرها فلا ننسخها، وقال السدي مثله أيضا، وكذا الربيع بن أنس ، وقال الضحاك : (ما ننسخ من آية أو ننسأها) يعني: الناسخ والمنسوخ، وقال أبو العالية : (ما ننسخ من آية أو ننسأها): نؤخرها عندنا.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي أخبرنا خلف أخبرنا الخفاف عن إسماعيل -يعني: ابن أسلم - عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه فقال: يقول الله عز وجل: ما ننسخ من آية أو ننسأها أي: نؤخرها.
وأما على قراءة (أو ننسها) فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) قال: كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جرير : أخبرنا سواد بن عبد الله أخبرنا خالد بن الحارث أخبرنا عوف عن الحسن أنه قال في قوله: (أو ننسها) قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل أخبرنا محمد بن الزبير الحراني عن الحجاج -يعني: الجزري -عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله عز وجل: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106].
وقال ابن أبي حاتم : قال لي أبو جعفر بن نفيل: ليس هو الحجاج بن أرطاة ، هو شيخ لنا جزري ].
وقال عبيد بن عمير : (أو ننسها): نرفعها من عندكم.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم أخبرنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ: (ما ننسخ من آية أو تنسها)، قال: قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرأ: (أو ننساها)، قال: فقال سعد : إن القرآن لم ينزل على المسيب ، ولا على آل المسيب، قال: قال الله جل ثناؤه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6]، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24]، وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم ، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي ، عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به، وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد .
وقال الإمام أحمد : أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: علي أقضانا، وأبي أقرؤنا، وإنا لندع من قول أبي؛ وذلك أن أبياً يقول: ما أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يقول: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106].
قال البخاري : حدثنا عمرو بن علي أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر : أقرؤنا أبي ، وأقضانا علي ، وإنا لندع من قول أبي ؛ وذلك أن أبي ـاً يقول: لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله: (ما ننسخ من آية أو ننسها).
وقوله: (نأت بخير منها أو مثلها) أي: في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (نأت بخير منها) يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وقال أبو العالية : (ما ننسخ من آية) فلا نعمل بها، (أو ننساها) أي: نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها، وقال السدي : (نأت بخير منها أو مثلها) يقول: نأت بخير من الذي نسخناه، أو مثل الذي تركناه، وقال قتادة : (نأت بخير منها أو مثلها) يقول: آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي ].
وهذا فيه أن الله سبحانه وتعالى عليم بمصالح عباده، فهو يشرع لهم ما يناسب حالهم وما فيه صلاحهم، ولهذا قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:106-107].
هذا مبني على الحكمة البالغة، فهو يوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويحيي من يشاء، ويميت من يشاء، لما له من الحكمة البالغة، والله سبحانه وتعالى يفعل لحكمة، ويخلق لحكمة، ويأمر لحكمة، وينهى لحكمة، وهو الحكيم الخبير سبحانه وتعالى، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يوسف:6]، وهذا خلاف لأهل البدع من الأشاعرة وغيرهم الذين أنكروا الحكمة، وقالوا: إنه يفعل لمجرد المشيئة، فالجبرية من الأشاعرة يقولون: لا توجد حكمة، فهو يفعل لمجرد الإرادة فقط، وقالوا: إن المشيئة لله تخبط خبط عشواء، فهي تجمع بين المختلفات وتفرق بين المتماثلات، فلا توجد حكمة، بل يفعل بالإرادة، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى أفعاله مبنية على الحكمة، وأوامره مبنية على الحكمة، وخلقه مبني على الحكمة، فهو يخلق لحكمة، ويؤمر لحكمة، وينهى لحكمة.
قال ابن جرير الطبري : وأولى القراءات في قوله: (أو ننسها) بالصواب من قرأ (أو ننسها) بمعنى (نتركها)؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكماً أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره فهو آتيه بخير منه أو بمثله، فالذي هو أولى بالآية -إذا كان ذلك معناها- أن يكون إذا قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعضد ذلك بالخبر عما هو صانع إذ هو لم يبدل ذلك ولم يغير، فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: (ما ننسخ من آية) قوله: أو نترك نسخها؛ إذ كان ذلك المعروف لجعله كلام الناس، مع أن ذلك إذا قرء كذلك بالمعنى الذي وصفت فهو يشتمل على معنى الإنشاء الذي هو بمعنى الترك، ومعنى النساء الذي هو بمعنى التأخير ].
قراءة حفص : (أو ننسها)؛ فيها معنى (ننسيها) وفيها معنى النسيئة، أي: (نؤخرها) فتشمل الأمرين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره، واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم، وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً ].
فالشرائع من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم تختلف، فقد كان في شريعة آدم أن الأخ يتزوج أخته، لكن من البطن الآخر، فكانت حواء تأتي بذكر وأنثى في كل حمل، فهذان الذكر والأنثى اللذان يكونان في بطن واحد أخوان يحرم عليهما أن يتزوج أحدهما الآخر، لكن يجوز له أن يتزوج من بطن آخر؛ حتى يكثر الناس، ثم حرم الله الزواج بالأخت، وفي شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يجوز الجمع بين الأختين، وفي شريعة التوراة: يجب على القاتل القصاص، وفي شريعة الإنجيل تجب الدية، ولهذا جاء في شريعة الإنجيل: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، وفي شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم -التي هي أكمل الشرائع- يخير أولياء القتيل بين القصاص وبين العفو إلى الدية وبين العفو مجاناً، فأحوال الناس تختلف من عصر إلى عصر، فالله تعالى يشرع لعباده ما يناسب حالهم ثم ينسخ ذلك؛ لما يعلمه من المصلحة لهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الآية: ألم تعلم -يا محمد- أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء.
ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة السلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل؛ كيلا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه، وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى؛ إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهوراً من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته، وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مغياة إلى بعثته عليه الصلاة والسلام، فلا يسمى ذلك نسخاً لقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] ].
قوله: [مغياة]، أي: غايتها ونهايتها أن يعمل بها إلى بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين؛ لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهداً بالله تبارك وتعالى، ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ رداً على اليهود -عليهم لعنة الله- حيث قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:106-107]، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].
وقرر في سورة آل عمران التي نزل صدرها خطاباً مع أهل الكتاب وقوع النسخ في قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِه [آل عمران:93] الآية، كما سيأتي تفسيره ]. وهذا مثال للنسخ إلى الأثقل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [المائدة:101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه، فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة، ولهذا جاء في الصحيح: (إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته) ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، ثم أنزل الله حكم الملاعنة، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)، وفي صحيح مسلم : (ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).
وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج، فقال رجل: (أكل عام يا رسول الله؟! فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: لا، ولو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم) الحديث، ولهذا قال أنس بن مالك : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع ].
الأسئلة التي نهي عنها هي الأسئلة عن الأمور التي لم تقع، فتحرم من أجل المسألة، أو أن يسأل عن أشياء فيها تعنت، أو فيها تفصيلات ليست مطلوبة وقد كان الناس في عافية منها، مثل سؤال هذا الرجل عندما قال: أكلَّ عام يا رسول الله؟ وهذا تفصيل مسكوت عنه.
ومثلما سأل بنو إسرائيل موسى في قصة البقرة، فإنهم تعنتوا وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، وذلك لأنهم سألوا عن البقرة: ما هي؟ ثم سألوا عن لونها، ثم قالوا: (إن البقر تشابه علينا). وفي كل مرة تذكر لهم أوصاف ويشدد عليهم.
أما إذا سأل الإنسان عن شيء يحتاج إليه في دينه -مثل الصلاة، أو الزكاة أو الصوم أو الحج- ولم يكن السؤال عن شيء لم يقع، ولا سأل عن تفاصيل غير مشروعة، ولا سأل سؤال إعنات المسئول من أجل إيقاعه في العنت والعجز، وإنما سأل للاسترشاد في شيء مشروع؛ فهذا لا بأس به.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: أخبرنا أبو كريب أخبرنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب ].
كان الصحابة عندهم هيبة عظيمة من النبي صلى الله عليه وسلم، أما الأعراب فهم بعيدون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم جفاء، ولا يبالون بما يقولون، فكانوا يسألون والصحابة يستفيدون، فكان الصحابة يتمنون أن يأتي البدوي يسأل وهم يسمعون جواب النبي صلى الله عليه وسلم له فيستفيدون منه.
ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المواقف: (سلوني سلوني) فهابوه، أرسل الله جبرائيل فجاء في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، فسأل عن الإسلام، ثم سأل عن الإيمان، ثم سأل عن الإحسان، ثم سأل عن الساعة وعن أماراتها، والصحابة يسمعون، فكان هذا الحديث حديثاً عظيماً في بيان الإسلام والإيمان والإحسان، بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين مبني على ثلاث مراتب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال البزار : أخبرنا محمد بن المثنى أخبرنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، و: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة:217]، و: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة:220]، يعني هذا وأشباهه ].
وقوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة:108] أي: بل تريدون، أو هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعم المؤمنين والكافرين؛ فإنه عليه الصلاة والسلام رسول الله إلى الجميع، كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء:153] قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد : (يا محمد! ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله من قولهم: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:108] ) ].
معنى قوله تعالى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ أي: اختار الكفر على الإيمان، وليس المراد أنه ينتقل، بل المراد أنه يتبدل بما لا يعتاض عنه، فاختار الكفر بدل الإيمان، وهذا واقع المشركين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) قال: (قال رجل: يا رسول الله! لو كانت كفارتنا ككفارات بني إسرائيل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا نبغيها -ثلاثاً-، ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة، فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، قال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110])، وقال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن)، وقال: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك)، فأنزل الله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة:108] وقال مجاهد: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) أي: يريهم الله جهرة، قال: سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً قال: نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا ورجعوا.
وعن السدي وقتادة نحو هذا، والله أعلم.
والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء على وجه التعنت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتاً وتكذيباً وعناداً، قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَان [البقرة:108] أي: من يشتر الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:108]، أي: فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال، وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [إبراهيم:28-29]، وقال أبو العالية : يتبدلوا الشدة بالرخاء ].
(يشتري) بمعنى: (يعتاض)، أي: يأخذ هذا عوضاً عن هذا، كما يأخذ المشتري السلعة، ويأخذ البائع الثمن، وسؤال قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجعل لهم الصفا ذهباً من قبيل التعنت والاقتراح.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر