قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هذه القصة مذكورة هاهنا، وفي سورة الصافات، وفي سورة ن، وذلك أن يونس بن متى عليه السلام بعثه الله إلى أهل قرية نينوى، وهي قرية من أرض الموصل ].
وأرض الموصل في العراق، يعني: أرسل الله ذا النون إلى أهل نينوى في العراق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فدعاهم إلى الله فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا إليه، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98] ].
وهذه القرية استثناهم الله فهم مستثنون من العذاب، فإذا تحقق نزول العذاب وجاء العذاب لا تقبل التوبة إلا أهل نينوى استثناهم الله فقال: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس:98]، قبل الله توبتهم، قال الله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:84-85].
فمن شروط التوبة: أن تكون قبل نزول العذاب، وهنا تحقق نزول العذاب، وأخبرهم نبيهم بذلك، لكن الله استثناهم فقال: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس:98]، فإنهم لما تحققوا نزول العذاب وعلموا أن نبيهم لا يكذب خرجوا يجأرون فقبل الله توبتهم، وذا النون عليه الصلاة والسلام ذهب مغاضباً فركب البحر في السفينة، فلما ثقلت السفينة قالوا: لابد أن يلقى منا واحد لكي لا تغرق، فوقع السهم على ذي النون فألقي، وهذا تأديب من الله سبحانه وتعالى لنبيه وامتحان له، ولهذا بعض غلاة نفاة العلو الذين ينفون علو الله على خلقه، ومنهم الجويني امتنع أن يفسر كون يونس بن متى ومحمد في درجة واحدة، حتى أعطي مالاً جزيلاً فقال: إن يونس وهو في لجة البحار ومحمد في القرب سواء من الله، هذا القصد منه إنكار العلو، فتكلم العلماء على هذا وبينوا أنه هناك فرق بين يونس وهو في بطن الحوت ومحمد ليلة المعراج وهو في السبع الطباق فليس قربهم من الله سواء، فالله فوق السموات وفوق العرش، فالقول أنهما في القرب سواء وفي المكانة سواء غير صحيح، ولا شك أن يونس نبي كريم، لكن هناك فرقاً بينه وبين محمد، فمحمد عليه الصلاة والسلام فوق السبع الطباق مكرم مبجل معظم، وذا النون في قعر البحار مؤدب ممتحن، فلا مساواة بينهما، ولكن مع ذلك فيونس نبي كريم فلا ينبغي لإنسان أن يتنقصه.
ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)، وذلك في الصحيح.
وفي لفظ آخر: (لا يقول الناس أنا خير من يونس بن متى، ومن قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) يعني: هذا لا يمكن أن يقوله نبي، وإذا قاله إنسان فهو كافر؛ لأنه لا يمكن أن يكون خيراً من نبي، ولا يمكن أن يقول نبي من الأنبياء: أنا خير من يونس بن متى، وغير النبي إذا قال: أنا خير من يونس بن متى فهو كذاب؛ لأن يونس خير منه، وذلك أنه قد يتوهم بعض الناس أن يونس لما ألقي في البحر أن درجته ناقصة وأنه أكمل من يونس، فإذا توهم هذا التوهم فهو كاذب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم سفينة فلججت بهم، وخافوا أن تغرق بهم، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس عليه السلام، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً فأبوا، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضاً، قال الله تعالى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141] أي: وقعت عليه القرعة، فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه وتعالى من البحر الأخضر، فيما قاله ابن مسعود رضي الله عنه حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا يأكل له لحماً، ولا يهشم له عظماً، فإن يونس ليس لك رزقاً وإنما بطنك تكون له سجناً ].
وهذا من حكمة الله البالغة، فيونس عليه السلام أخبر الله عنه فقال: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا [الأنبياء:87] يعني: غضب عليهم ولم يصفح عليه الصلاة والسلام، وهو نبي كريم، لكن كما قال الله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]، وهو ذا النون، صاحب الحوت ما صبر، ويخاطب نبيه قائلاً: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، فلما دعاهم يونس ردوا عليه دعوته وكذبوه فغضب عليهم وقال: أنا ذاهب والعذاب سيأتيكم بعد ثلاثة أيام فذهب وتركهم وركب السفينة، فلججت بهم السفينة فقالوا: لابد أن يلقى واحد منا يخفف الحمل؛ لئلا تغرق السفينة، وكون واحد يلقى ويهلك أحسن من أن تهلك السفينة بمن فيها، فلجئوا إلى القرعة، فوقعت على يونس، فقالوا: لا يمكن أن يلقى هذا الرجل الصالح، نعيد القرعة مرة أخرى، ثم أعادوا فوقعت عليه القرعة مرة ثانية، فقالوا: نعيدها، فأعادوها في المرة الثالثة فوقعت عليه، فلما رأى ذلك تجرد من ثيابه وألقى نفسه في البحر، فقالوا: لعله عبد أبق من سيده، فأرسل الله الحوت وابتلعه فما هشم له عظماً، ولا أصابه بأسنانه بلعه فنزل من فمه إلى بطنه في الحال، فصار سجناً فيه تأديب له، والأنبياء لهم مكانة عند الله، فجعل يسبح في بطن الحوت، قال الله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144]، ثم بعد ذلك أنبت الله له شجرة من يقطين على الساحل، فلفظه الحوت إليها، وهذه الشجرة من حكمة الله أنها لا يقع عليها شيء من النواميس والحشرات؛ لأنه حين مكث هذه المدة في بطنه أصبح جلده رقيقاً جداً يؤثر عليه أي شيء حتى الريح، فلو وقعت عليه حشرة لجرحته؛ لأنه أصبح لين الجسم بسبب المدة التي مكثها في بطن الحوت، فأنبت الله هذه الشجرة كي لا يقع عليه شيء من الدواب حتى يتعود ويتقوى جسمه وجلده ويصلب ويأتيه الهواء شيئاً فشيئاً، ثم بعد ذلك أمره الله أن يرجع إلى قومه؛ لأنهم أسفوا عليه، وتمنوا رجوعه، فلما رجع إليهم آمنوا كلهم وكانوا كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:147-148].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَذَا النُّونِ [الأنبياء:87] يعني: الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة ].
ذا النون صاحب الحوت، وسمي صاحب الحوت؛ لأنه سقط في بطنه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا [الأنبياء:87]، قال الضحاك لقومه: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ [الأنبياء:87] ].
قال الضحاك معنى قوله: مُغَاضِبًا [الأنبياء:87] أي: مغاضباً لقومه ليس مغاضباً لله، فالقوم غضب عليهم لما ردوا دعوته فتركهم وركب البحر، قال الضحاك تفسيراً لقوله: مُغَاضِبًا [الأنبياء:87] أي: مغاضباً لقومه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] أي: نضيق عليه في بطن الحوت يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم، واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7] ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عطية العوفي : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] أي: نقضي عليه، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير فإن العرب تقول: قدر وقدر بمعنى واحد وقال الشاعر:
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يكن فلك الأمر ].
ما تقدر يعني: ما تقضي، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87]، قال عطية العوفي : أن نقضي عليه.
كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، فإن العرب تجعل قدَر وقدَّر بمعنى واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومنه قوله تعالى: فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12] أي: قدر ] والأقرب المعنى الأول: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] أي: أن لن نضيق عليه، في بطن الحوت، وهذا ما جاء في الآية، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16] يعني: ضيق عليه رزقه، والمقصود من قوله: (فظن) يطلق الظن على العلم، يعني: تيقن أن الله لا يضيق عليه؛ لكمال علمه بربه، وكمال ثقته به.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] ].
هذه الظلمات هي ظلمات متعددة: ظلمة بطن الحوت وظلمة الليل وظلمة البحر والله تعالى يسمع دعاءه من فوق سبع سماوات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن مسعود رضي الله عنه: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة وقال سالم بن أبي الجعد : ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر ].
وهذا يحتاج إلى دليل، يعني: على هذا يكون الحوت أكله حوت آخر وهذا ليس بظاهر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره فعند ذلك وهنالك قال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. وقال عوف الأعرابي : لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس وقال سعيد بن أبي الحسن البصري : مكث في بطن الحوت أربعين يوماً رواهما ابن جرير .
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة رضي الله عنها: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش لحماً، ولا تكسر عظماً، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر، قال: فسبح وهو في بطن الحوت، فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا! إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة، قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم، قال: فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال الله تعالى: وَهُوَ سَقِيمٌ [الصافات:145]).
رواه ابن جرير ورواه البزار في مسنده من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة فذكره بنحوه، ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد ].
إذاً: يكون الحديث منقطعاً، وذكر هذه التفصيلات أنه كان كذا.. وأنه فعل كذا.. وأنه سبح.. فيه غرابة، فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه نظر.
وروى ابن عبد من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي مرفوعاً: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى سبح لله في الظلمات)، وفي الحاشية: بعد كلمة (عبد) بياض في الأصل بمقدار كلمة، وفي مخطوطة الأزهر: وروى ابن عبد الحق .
قال في الحاشية: كذا في مخطوطة الأزهر، ولم أجد ابن عبد الحق هذا، وهذا الحديث بتمامه إلى قوله: في سورة نون مما انفردت به مخطوطة الأزهر ونفى الله عنهم الصواب.. وروى عبد بن حميد .
من حديث شعبة .
وقد ذكر الحديث المنذري في كنز العمال وعزاه لـابن أبي شيبة وعبد بن حميد . والظاهر أنه عبد بن حميد .
وقد روي هذا الحديث بدون هذه الزيادة من حديث ابن عباس وابن مسعود وعبد الله بن جعفر ، وسيأتي أسانيدها في سورة نون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي قال: سمعت أنس بن مالك ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش، فقالت الملائكة: يا رب! صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة، فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا يا ربنا ومن هو؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة، قالوا: يا رب! أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال: بلى، فأمر الحوت فطرحه في العراء) ].
وهذا الحديث ضعيف فيه يزيد الرقاشي ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ [الأنبياء:88] أي: أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات، وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88] أي: إذا كانوا في الشدائد، ودعونا منيبين إلينا، ولاسيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد الأنبياء.
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن عمر حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني ].
إذا كانت بالدال الهمداني نسبة إلى قبيلة همدان، وإذا كانت بالذال فهو همذاني نسبة إلى قرية في الشرق تسمى همذان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن عمر حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد حدثني والدي محمد عن أبيه سعد هو ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (مررت بـ
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سيعد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب قال أبو خالد : أحسبه عن مصعب يعني: ابن سعد عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دعا بدعاء يونس استجيب له).
قال أبو سعيد : يريد به وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88].
وقال ابن جرير : حدثني عمران بن بكار الكلاعي حدثنا يحيى بن صالح حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن حدثني بشر بن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى، قال: قلت: يا رسول الله! هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس بن متى خاصة، ولجماعة المؤمنين عامة، إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله عز وجل: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88]، فهو شرط من الله لمن دعاه به).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي سريج حدثنا داود بن المحبر بن محذم المقدسي عن كثير بن معبد قال: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد ! اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى؟ قال: ابن أخي! أما تقرأ القرآن قول الله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا [الأنبياء:87] إلى قوله: وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88] ابن أخي! هذا اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى ].
كثير بن معبد ذكره الذهبي في (ميزان الاعتدال) و(المغني في الضعفاء) وقال: ضعفه الأزدي لا يكاد يعرف.
والحديث الأول -حديث سعد- فيه علي بن زيد بن جدعان، والذي قبله الذي فيه: (مررت بـ
أقول: الآية كافية، قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، استجاب له ونجاه من الغم، ووعد سبحانه بأنه ينجي المؤمنين، وأما أن هذا الدعاء اسم الله الأعظم فالله أعلم بذلك ويحتاج هذا إلى نظر، وبعضهم قال اسم الله الأعظم هو قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، وقد جاءت في ثلاث آيات من القرآن الأولى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] آية الكرسي، وفي أول سورة آل عمران، وفي طه قال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولداً يكون من بعده نبياً، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم، وفي سورة آل عمران أيضاً، وههنا أخصر منها: إِذْ نَادَى رَبَّهُ [الأنبياء:89] أي: خفية عن قومه، رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا [الأنبياء:89] أي: لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس، وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89] دعاء وثناء مناسب للمسألة، قال الله تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90] أي: امرأته.
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير : كانت عاقراً لا تلد فولدت، وقال عبد الرحمن بن مهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء : كان في لسانها طول فأصلحها الله، وفي رواية: كان في خلقها شيء فأصلحها الله، وهكذا قال محمد بن كعب والسدي ، والأظهر من السياق الأول ].
يعني: يظهر من السياق أنها كانت عقيماً لا تلد فأصلحها الله فصارت تلد؛ لأن هذا هو المناسب للسياق، وقيل: إنه كان فيها عيب في لسانها فأصلحها الله، وهذا الدعاء ينبغي للمسلم أن يدعو به ربه، وألا ييأس؛ لأن الدعاء عبادة، والله تعالى يحب الملحين في الدعاء، قال الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وقال سبحانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، والأنبياء قدوة الناس في هذا فيدعون ربهم، فزكريا دعا ربه خفية، والدعاء خفية أفضل، وإذا دعت الحاجة إلى الإعلان فلا بأس، فقوله: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89]، هذا ختام مناسب فهو سبحانه خير الوارثين، وهو سبحانه وتعالى يرث الأرض ومن عليها، فزكريا عليه الصلاة والسلام دعا ربه بألا يتركه فرداً ليس له ولد يرثه في العلم والنبوة ودعوة الناس، ثم ختم هذا الباب بقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89] وهذا توسل إلى الله، فهو يقول: فأنت يا ألله خير الوارثين ارزقني ولداً يرثني.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90] أي: في عمل القربات وفعل الطاعات، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90] قال الثوري : رغباً فيما عندنا، ورهباً مما عندنا.
وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي: مصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد : مؤمنين حقاً، وقال أبو العالية : خائفين، وقال أبو سنان : الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبداً وعن مجاهد أيضاً: خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] أي: متواضعين، وقال الحسن وقتادة والضحاك : خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] أي: متذللين لله عز وجل، وكل هذه الأقوال متقاربة ].
نعم، كلها متقاربة خاشعين أي: متذللين، خاضعين لله، خائفين الخوف الملازم للقلب، وكلها متقاربة، وفي هذه الآية بيان فضل الخوف والرجاء، وأنهما من أنواع العبادة العظيمة، وخوف الله ورجاؤه من أجل القربات وأفضل الطاعات، ولهذا وصف الله الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام بالرغب والرهب فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]، رغباً: الطمع والرجاء، ورهباً: الخوف والخشية، وفيه رد على الصوفية الذين يقولون: لا حاجة إلى الدعاء، ولا حاجة إلى الخوف والرجاء، ويزعم أحدهم أنه يتعبد لله محبة لذاته لا خوفاً ولا طمعاً ولا رغبة ولا رهبة، فهذا من أبطل الباطل، وهذه زندقة،؛ لأن من عبد الله بالحب وحده فقد تزندق، لابد في العبادة من الحب والخوف والرجاء، ومن ذلك ما يذكر في كتب الوعظ أن رابعة العدوية قالت: ما عبدت الله خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، فأكون كأجير السوء، ولكن عبدته حباً لذاته والشوق إليه، فهذا من أبطل الباطل، العبادة لا تكون إلا بثلاثة أركان: المحبة والخوف والرجاء، فمن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، وهذه طريقة الصوفية، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري من الخوارج، وهذه طريقة الخوارج، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو من المرجئة، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، كيف يقول الصوفية: إنا لا نعبده خوفاً وطمعاً، وإنما نعبده حباً لذاته، والله تعالى وصف أنبياءه الكرام بالرغبة والرهبة وهو الخوف والطمع، فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]؟ فبعد أن ذكر الأنبياء عليهم السلام ومنهم: موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وزكريا قال بعد ذلك: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90].
وقال عن عباده المتقين: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، وقال سبحانه في وصف عباده: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57]، فكيف يقول الصوفية بعد هذا لا حاجة إلى الخوف والرجاء وإنا نعبد الله حباً لذاته؟!
والله تعالى ذكر أقسام العبادة في الفاتحة فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] هذه المحبة، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] فيها صفات الرجاء، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] فيها صفات الخوف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا محمد بن فضيل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه ثم قال: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليه السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام فيذكر أولاً: قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم؛ لأن تلك موطئة لهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن ومن امرأة عجوز عاقر لم تلد في حال شبابها، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر، وهكذا وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم، وههنا ذكر قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [الأنبياء:91] يعني: مريم عليها السلام كما قال في سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم:12].
وقوله: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:91] أي: دلالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وهذا كقوله: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم:21].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمر بن علي حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن شبيب -يعني: ابن بشر- عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:91] قال: العالمين الجن والإنس إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] ].
وهذا من آيات الله العظيمة الدالة على عظيم قدرته، وأنه سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فهو سبحانه وتعالى خلق عيسى من أنثى بلا ذكر، فتمت بذلك القسمة الرباعية، فالله سبحانه وتعالى خلق آدم بلا ذكر ولا أثنى، خلقه من طين، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى فخلقها من ضلع آدم، وخلق سائر الناس من ذكر وأنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، فتمت بذلك القسمة الرباعية، والله سبحانه وتعالى ذكر قبل هذه القصة قصة أسهل منها توطئة لها، وهي قصة زكريا وامرأته، فإن زكريا عليه الصلاة والسلام كان عقيماً لا يولد له، ومضت السنون في شبابه ولم يولد له، وكذلك امرأته كانت عاقراً لا تلد ومضى شبابها فلما كانا في زمن الكبر رزقهم الله الولد.
ثم ذكر الله بعد ذلك قصة وهي أعجب منها، فذكر القصة الأولى؛ لأنها أسهل وأخف على النفوس، ثم ذكر قصة أعظم وأشد، وهي: إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر، والله على كل شيء قدير، والمؤمن مصدق لأخبار الله ليس عنده ارتياب ولا شك، هكذا شأن المؤمن، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، قال سبحانه: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57].
فالذي خلق آدم وأوجده من تراب قادر على أن يوجد ذكراً مولوداً من أنثى بلا ذكر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر