يقال لها: الفاتحة، أي: فاتحة الكتاب خطاً، وبها تفتح القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضاً: أم الكتاب عند الجمهور، ذكره أنس ، والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك، قال الحسن وابن سيرين : إنما ذلك اللوح المحفوظ، وقال الحسن : الآيات المحكمات هن أم الكتاب، ولذا كرها أيضاً أن يقال لها: أم القرآن.
وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله رب العالمين أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والقرآن العظيم).
ويقال لها: الحمد، ويقال لها: الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي..) الحديث ].
إن أعظم سورة في القرآن هي فاتحة الكتاب، ولم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فسميت الفاتحة صلاة؛ لأنها شرط فيها، ويقال لها: الشفاء؛ لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعاً: (فاتحة الكتاب شفاء من كل سم).
ويقال لها الرقية؛ لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنها رقية؟) ].
هذا الحديث له قصة، وهي: أن الصحابة استضافوا بعض العرب فلم يضيفوهم، فلما ذهبوا عنهم لدغ سيدهم، فالتمسوا له الأطباء فلم يفد في شيء، ثم جاءوا إلى الصحابة وقالوا: إن سيدنا لدغ، وقد عملنا له كل الأسباب فلم ينتفع بشيء، فهل عندكم من راقٍ؟ فقال بعض الصحابة: نعم أنا أرقي، ولكن لا أرقيه إلا بجعل، فقد استضفناكم فلم تضيفونا، فاتفقوا معه على ثلاثين رأساً من الغنم، فجاء رجل من الصحابة لم يكن معروفاً بحفظ القرآن، فأخذ العضو الذي فيه اللدغة وجعل يقرأ عليه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ويتفل ويرددها حتى خرج السم، فقال الصحابة: فكأنما نشط من عقال، فاستاقوا الثلاثين رأساً من الغنم، ثم تحرجوا وقالوا: كيف نأخذها ولم نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أنها رقية؟! خذوها واضربوا لي معكم منها بسهم)؛ تطييباً لخواطرهم، وسمي اللديغ سليماً تفاؤلاً له بالسلامة، كما تسمى الصحراء مفازة تفاؤلاً بالفوز بالسلامة، فالعرب تستعمل الشيء لضده من باب التفاؤل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى الشعبي عن ابن عباس : أنه سماها أساس القرآن، قال: وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم، وسماها سفيان بن عيينة : بالواقية، وسماها يحيى بن أبي كثير الكافية؛ لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة: (أم القرآن عوض من غيرها، وليس من غيرها عوض منها) ويقال لها: سورة الصلاة والكنز، ذكرهما الزمخشري في كشافه ].
وذلك لأنها ركن في الصلاة لابد منها؛ فلو اقتصر عليها في الصلاة لصحت صلاته بخلاف غيرها.
الراجح أنها نزلت بمكة، ولا يبعد أن تكون نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة؛ لعظم شأنها، فهي أعظم سورة في القرآن، ولم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها، فجميع ما في الكتب المنزلة من المعاني جمعت في القرآن، وجميع ما في القرآن جمع في الفاتحة، وجميع ما في الفاتحة جمع في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وحكى أبو الليث السمرقندي : أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة، وهو غريب جداً، نقله القرطبي عنه ].
إذاً: ففي مكان نزولها أقوال، فقيل: نزلت بمكة، وقيل: نزلت بالمدينة، وقيل: نزلت مرتين، وقيل: نزل نصفها بمكة ونزل نصفها الآخر بالمدينة، وهذا قول غريب كما ذكر المؤلف رحمه الله.
صدق رحمه الله! فهذان القولان شاذان لا يعول عليهما، والصواب أنها سبع آيات، وهذا كالإجماع من العلماء أنها سبع آيات، والصواب أنها سبع آيات بغير البسملة، فالآية الأولى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1]، والآية الثانية: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2]، والآية الثالثة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:3]، والآية الرابعة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:4]، والآية الخامسة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:5]، والآية السادسة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6]، والآية السابعة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فهذا هو الصواب من أقوال أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: إن البسملة هي الآية الأولى، وجعلوا: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] آية واحدة، أي: جعلوا الآيتين السادسة والسابعة آية واحدة، وهذا قول مرجوح، ويدل على الأول قول الله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1]) ولم يقل: فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم، بل ابتدأ بالحمد.
وهذا على خلاف ما هو موجود الآن في المصاحف، فالموجود الآن في المصاحف هو جعل البسملة الآية الأولى.
والصواب أن البسملة آية مستقلة في أول كل سورة، فليست من الفاتحة ولا من غيرها.
وقال بعضهم: إنها آية من أول كل سورة، وهذا قول مرجوح، وهي بعض آية من سورة النمل بالإجماع، وذلك قوله: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]، فالصواب أنها سبع آيات بدون البسملة، وأما القول بأنها ست أو ثمان فهو قول شاذ لا يعول عليه، قال تعالى:وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة، وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف، أو بعض آية، أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء، على ثلاثة أقوال سيأتي تقريرها في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة ].
أي: لابد من الإتيان بالكلمات والحروف، فإذا أسقط حرفاً منها لم تصح الصلاة، وفيها إحدى عشرة شدة وهي في المواضع التالية: (( لِلَّهِ ))، (( رَبِّ ))، (( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ))، (( الدِّينِ ))، (( إِيَّاكَ ))، (( وَإِيَّاكَ ))، (( الصِّرَاطَ ))، (( الَّذِينَ ))، (( وَلا الضَّالِّينَ ))، وفيها شدتان، فلابد من الإتيان بالشدات، ولابد من الإتيان بالحروف، وكذلك إذا قرأ قراءة يلحن فيها لحناً يخل بالمعنى، كما يقرأ بعضهم: إياكِ نعبد بكسر الكاف، فإن الصلاة تبطل، كذلك إذا قرأ: أهدنا الصراط من الهديّة، تغير المعنى وبطلت صلاته، وكذا إذا قرأ: أنعمتُ فأضاف الضمير إلى نفسه، وأما إذا كان اللحن لا يغير المعنى فلا تبطل الصلاة، كما يقرأ بعض العامة: الحمد لله ربَّ العالمين بفتح الباء، أو يقرأ: مالك يومَ الدين، بفتح الميم، أو يقرأ: صراط الذين أنعمتَ عليهُم بضم الهاء، فهذا لحن، لكنه لا يغير المعنى.
وأما الضاد والظاء فسيأتي كلام المؤلف رحمه الله، وفيه أنه يتساهل فيهما لقرب مخرجهما، فإذا نطق الضاد ظاءً صحت الصلاة كما سينبه المؤلف عليه.
قال ابن جرير : والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع أماً ].
يعني: أن العرب تسمي الشيء الذي له أصل وله توابع تسميه أمَّاً، وسميت الأم أماً لأن الطفل يرجع ويئول إليها، فكذلك الفاتحة تسمى أم القرآن؛ لأن معاني القرآن ترجع إليها، ومكة تسمى أم القرى؛ لأن القرى ترجع إليها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس، ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أماً، واستشهد بقول ذي الرمة :
على رأسه أم لنا نقتدي بها جماع أمور ليس نعصي لها أمرا
يعني: الرمح.
قال: وسميت مكة أم القرى؛ لتقدمها أمام جميعها، وجمعها ما سواها، وقيل: لأن الأرض دحيت منها.
ويقال لها أيضاً: الفاتحة؛ لأنها تفتتح بها القراءة، وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام، وصح تسميتها بالسبع المثاني، قالوا: لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل ركعة، وإن كان للمثاني معنى آخر غير هذا، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب، وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن: (هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم)، ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به.
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني).
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي حدثنا المعافى بن عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله رب العالمين سبع آيات، بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي أم الكتاب وفاتحة الكتاب)، وقد رواه الدارقطني أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه أو مثله، وقال: كلهم ثقات ].
وعلى هذا تكون البسملة أول آية في الفاتحة، لكن الصحيح أنها سبع آيات بدون البسملة كما سبق.
وعلى هذا من قال: إن البسملة ليست آية من الفاتحة تكون قراءتها عنده سنة وليست بواجبة، فمن تركها صحت الصلاة، وأما على القول بأنها آية من سورة الفاتحة فإنها تكون واجبة.
والمعروف عند العلماء أن الاستفتاح والتعوذ والبسملة من سنن الصلاة، والواجب هو قراءة الفاتحة فقط.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم فسروا قوله تعالى: سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر:87] بالفاتحة، وأن البسملة هي الآية السابعة منها، وسيأتي تمام هذا عند البسملة، وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لـابن مسعود : لم لم تكتب الفاتحة في مصحفك؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة، قال أبو بكر بن أبي داود : يعني: حيث يقرأ في الصلاة، قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها.
وقد قيل: إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن، كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة، ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة، وقيل يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] كما في حديث جابر في الصحيح، وقيل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، وهذا هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان ].
هذا هو الصواب كما ثبت في البخاري أن أول ما نزل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، ثم نزل بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]، فبنزول (اقرأ) صار صلى الله عليه وسلم نبياً، وبنزول (المدثر) صار رسولاً عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال العلماء: نبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر.
قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: (كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت، قال: فأتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال: قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، قال: ألم يقل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد، قلت: يا رسول الله! إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، قال: نعم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)، وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به، ورواه في موضع آخر من التفسير، وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق عن شعبة به ].
هذا صريح في أن الفاتحة أعظم سورة في القرآن، وأعظم آية هي آية الكرسي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه، فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أن أبا سعيد مولى ابن عامر بن كريز أخبرهم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى
وما بلغت هذه السورة هذه المنزلة إلا لما اشتملت عليه من الإلهيات، وإثبات النبوة، والتوحيد والمعاد، وإخلاص العبادة لله عز وجل، والرد على أهل البدع، وتقسيم الناس إلى الذين أنعم الله عليهم، والمغضوب عليهم، والضالين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكره، وعنده: (أنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته)، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح ].
المعروف في الأحاديث: (أنها السبع المثاني) ولعل (من) زائدة.
وفي الحديث السابق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:24])، ففيه دليل على إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم ولو في الصلاة، وهذا مستثنى بنص الآية.
وكذلك إذا كان في صلاة النفل ودعاه والداه أو أحدهما وكان يعلم أنهما لا يغضبان ولا يتأثران بذلك فيكمل صلاته، وأما إذا كان يعلم أنهما يتأثران فيجيبهما ويقطع الصلاة؛ لأنها صلاة نفل وإجابة الوالدين واجبة، وأما الفريضة فلا.
ومعروف قصة جريج كما في الصحيحين: (كان
وإجابة الرسول عليه الصلاة والسلام أولى من إجابة الوالد؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي الباب عن أنس بن مالك، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد عن إسماعيل بن أبي معمر عن أبي أسامة عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن أبي بن كعب رضي الله عنه فذكره مطولاً بنحوه أو قريباً منه، وقد رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن أبي عمار حسين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي نصفين)، هذا لفظ النسائي ، وقال الترمذي : حديث حسن غريب ].
ومعنى كونها نصفين أن نصفها الأول ثناء، ونصفها الأخير دعاء وسؤال، فنصفها الأول لله ونصفها الثاني للعبد.
هذا الحديث ضعيف، سببه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيء الحفظ، وفي متنه غرابة من جهة كون النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد السلام على عبد الله بن جابر من أجل أنه لم يكن على طهارة، فقد جاء في حديث آخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعبد الله بن جابر هذا الصحابي، ذكر ابن الجوزي أنه هو العبدي والله أعلم. ويقال: إنه عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي فيما ذكره الحافظ ابن عساكر.
واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم: إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن العربي وابن الحصار من المالكية ].
الصواب أن القرآن يتفاضل، فبعضه أفضل من بعض، ومما يدل على ذلك أن آية الكرسي أفضل آية في القرآن، وسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، وسورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] تعدل ربع القرآن، وسورة الزلزلة تعدل ربع القرآن، فكلام الله يتفاضل، وبعضه أفضل من بعض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك؛ لأن الجميع كلام الله، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه، وإن كان الجميع فاضلاً، نقله القرطبي عن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وأبي حاتم بن حبان البستي وأبي حيان ويحيى بن يحيى، ورواية عن الإمام مالك أيضاً ].
هذا القول ضعيف، وهو خلاف النصوص، والصواب الذي دلت عليه النصوص هو القول الأول: أنه يتفاضل.
(سليم) يعني: لديغ، وهذا من باب التفاؤل له بالسلامة.
(وإن نفرنا غيب) أي: ما عندنا أحد من الرجال، فهي تطلب منهم أن يعالجوه.
(فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية) أي: ما كان يعرف أنه قارئ، أو ما يعرفون أنه يحفظ شيئاً من القرآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وما كان يدريه أنها رقية؟! اقسموا واضربوا لي بسهم) ].
يعني: فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من باب تطييب خواطرهم نفوسهم؛ ليعلموا أنها حل وأنها مباح، فقد شكوا وتوقفوا، فبين لهم أن هذا لا بأس به.
وفيه أيضاً دليل على أنه لا بأس بأخذ الأجرة على القراءة في الرقية، وهنا أمر مهم وهو أنه لا ينبغي التوسع في هذا؛ لأن الأصل هو أن يقرأ على المريض وينفث، أو يقرأ في ماء كما جاء في سنن أبي داود، وأما ما يفعله بعض القراء من قراءته في زجاجات الصحة ويأخذ عليها أجرة كبيرة أو ما أشبه ذلك فهذا غلط، وبعضهم يقرأ في خزان وهذا توسع لا وجه له.
لكن إذا قرأ على المريض وأخذ أجرة معقولة فهذا لا بأس به إن احتاج إلى ذلك، وأما كونه يستغل حاجة الناس ويقرأ في زجاجات، أو خزان، أو يقرأ على جماعة كثيرين، أو يقرأ بمكبرات الصوت فكل هذا توسع لا أصل له.
فإن قيل: هل يشترط على القارئ ألا يأخذ أجرة على القراءة حتى يشفى المريض الذي قرأ عليه، ويستدل على ذلك بهذا الحديث؟
أقول: لا أعرف في هذا مانعاً، لكن هذا الحديث ليس فيه أنهم اشترطوا أن يشفى.
وكذلك التمائم التي تكتب في ورقة ثم يصورها من يكتبها ويبيعها، فهذا من الشرك ولو كانت من القرآن؛ لحديث: (من تعلق تميمة فلا أتم الله)، إذاً: فالصواب أن التميمة ممنوعة حتى ولو كانت من القرآن؛ لعموم النصوص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو معمر : حدثنا عبد الوارث حدثنا هشام حدثنا محمد بن سيرين حدثني معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري بهذا، وهكذا رواه مسلم وأبو داود من رواية هشام، وهو ابن حسان عن ابن سيرين به، وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث: أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم -يعني: اللديغ- يسمونه بذلك تفاؤلاً.
حديث آخر: روى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم عن عمار بن زريق عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبرائيل إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته)، وهذا لفظ النسائي ولـمسلم نحوه ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر