يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الأمر لغة: يجمع على أوامر، ويأتي على معان في اللغة، فيأتي بمعنى: الشأن، وبمعنى: القضاء، وبمعنى: طلب الشيء، يقال: أمره كذا، أي: شأنه كذا، وحاله كذا.
وفي الاصطلاح: هو طلب الفاعل -أي: الله جل وعلا- من العبد أن يفعل ما أمر به على وجه اللزوم، أي: إلزاماً ليس مخيراً أن يفعل أو لا يفعل، فالتخيير كقول الله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184]، أي: إما أن تفدي وإما أن تصوم، فهذا تخيير، وأما بالنسبة للأمر مكفولة: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] فهذا على اللزوم لا على التخيير.
أولاً: فعل الأمر، وهو أصل صيغ الأمر، تقول: قم واتل ما عليك، وأقول لك: كل ما أمامك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (كل بيمينك وكل مما يليك) فهذا أمر، أيضاً قال الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [هود:114]، (أقم الصلاة: فعل أمر، أي: يجب عليك إقامة الصلاة، وقول الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ [المزمل:1-2] فعل أمر، ثم يقولون: إنه كان واجب على النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:2-4].
ومن صيغ الأمر أيضاً: اسم فعل الأمر، كقول الله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] أي: الزموا أنفسكم، فلن تضروا طالما أنتم اعتنيتم بأنفسكم، فهذا عند ربكم، ولا حساب عليكم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذه الآية لها فقه، فقد يظن قارئها أن فيها تقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغرض المقصود: أن (عليكم) اسم فعل، أمر يدل على الوجوب.
أيضاً قول المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح، اسم فعل أمر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في غزوة أحد واجتمع له عشرة من أصحابة من الأنصار، وكان معه طلحة بن عبيد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يدفع عنا هؤلاء وهو معي في الجنة، فيقوم
التأويل الأول: (ما أنصفنا إخواننا)، أي: أهل مكة هم إخوان لنا، ما أنصفونا ونحن ندعوهم إلى الإسلام.
التأويل الثاني: (ما أنصفنا إخواننا)، أي: الأنصار، ما استطاعوا رد هؤلاء، فقام طلحة يقاتل وينافح عن رسول الله، حتى إن السيف انكسر في يده، فصد السيوف بيده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طرح أرضاً وشلت يده، فما كان من أبي بكر وعمر إلا أن أسرعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) أي: أوجب الجنة بما فعل، (فدونكم) أيضاً من نفس هذه الصيغ.
ومن صيغ الأمر أيضاً: الفعل المضارع المقترن بلام الأمر، قال تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، وقال الله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الفتح:9]، (فاللام) هنا لام الأمر، أي: آمنوا بالله ورسوله، واطوفوا بالبيت العتيق، وأوفوا بنذوركم.
ومن صيغ الأمر أيضاً: المصدر النائب عن فعل الأمر، كقول الله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4].
(فضرب): مصدر نائب عن فعل أمر، أي: اضربوا الرقاب، وقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]، فهذه أيضاً من صيغ الأمر التي تدل على الوجوب كما سنبين.
أيضاً هناك ألفاظ وصيغ تدل على الأمر منها: كتب، وفرض، أو الجمل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:278]، وكقول ابن عمر في الحديث: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان كذا وكذا وكذا)، ففرض أيضاً من صيغ الأمر، وكتب من صيغ الأمر، كقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، وقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] فهذه جمل، وأيضاً قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216].
أيضاً: إذا كانت الجملة لابتداء وخبر فهي تدل على الوجوب، وإن كانت ليست كثيرة، كقول الله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89]، أي: كفروا عن أيمانكم بإطعام عشرة مساكين، وقوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة [النساء:92]، مصدر نائب عنها، وأيضاً قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].
أما من السنة: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم للناس بالحج: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ [آل عمران:97]، فقام رجل: قال يا رسول الله! أفي كل عام؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لو قلت: نعم لوجبت)، معنى هذا: أن أصل وضعه ليس على التكرار، إلا أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: هو في كل عام، وقال: (دعوني ما تركتم)، وذم الأسئلة، فدل على أن أصل الأمر في اللغة: أنه لا يفيد التكرار إلا بقرينة، والدليل أيضاً أنه لا يفيد التكرار إلا بقرينة، قول الله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]
إذاً: علق الله الصلاة بقوله: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78] وذلك كلما دلكت الشمس فعليك أن تقيم صلاة الظهر، وبين المواقيت كما في السنة التي فصلت مواقيت الصلوات، فهذه قد تعلقت بقرينة تثبت التكرار.
وفي رواية عن ابن عمر يعضد لنا ما رجحناه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين)، وهذا من أصل وضعه أنه إذا صلاها مرة فلا يصلي فيها مرة ثانية، وكل ذلك في الأمر المطلق، فالأمر المطلق لا يفيد التكرار، أما الأمر المقترن بشرط أو بقرينة تثبت التكرار فهو يفيد التكرار، كقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، إذاً: كلما قمتم إلى الصلاة تتوضئون، وهذا على التكرار، لكن جاءت قرينة بينت أن هذا في حق المحدث، فهو الذي إذا قام للصلاة فلابد أن يتوضأ لكل صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ورد أنه صلى خمس صلوات أو أربع صلوات بوضوء واحد.
أيضاً الأمر المتعلق بعلة يفيد التكرار إذا ظهرت هذه العلة، كما قلنا: إن الحكم يدور مع العلة حيث دارت، وتطبيقها أيضاً في مسألة الأمر، قال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2] رجل زنى بامرأة فجلدناه مائة جلدة، ثم تاب وآب واستغفر ربه جل وعلا، وبعد شهر تلاعبت به الشياطين واشتدت عليه شهواته فزنى مرة ثانية، فنجلده مرة ثانية؛ للقرينة التي أثبتت التكرار وهي العلة، ارتباط الحكم بعلته؛ لأنه يدور مع العلة حيث دارت.
أما من السنة فأدلة ناصعة وواضحة جلية، ففي صحيح مسلم : (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على
أولاً: وجه الشاهد في قوله: (أمرت الناس)، فوجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مغضباً، ولو كان الأمر على التراخي ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يغضب؛ لأنه إذا لم يفعلوا اليوم سيفعلون غداً، أو سيفعلون بعد غد، لكن غضب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمرهم أمراً فلم ينفذوا هذا الأمر، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه دلالة على الفور، أي: لابد أن يفعلوا هذا الأمر، ثم جاءت عائشة فقالت: أدخله الله النار، والله لا يدخل أحداً النار إلا على ترك واجب، وهنا ترك الفورية هو الذي أغضب النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه فيها دلالة على أنه على الفور.
أيضاً: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً في صلح الحديبية على أم سلمة عندما تقاعسوا عن الحلق لما أمرهم بالحلق فدخل مغضباً، فقالت: (يا رسول الله! اخرج عليهم دون أن تتحدث مع أحد، وادع الحلاق واحلق رأسك، ففعل ففعلوا كلهم ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم), الغرض المقصود: أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم دخل مغضباً أيضاً؛ لأنهم لم يمتثلوا للأمر على الفور، مع قرينة قول الله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وقول الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران:133]، ولا يكون إلا بفعل الأوامر وترك النواهي.
وأدلة ذلك من الكتاب: قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، ولو لم يكن للوجوب ما كان هذا الوعيد الشديد الأكيد، والفتنة: الشرك والزيغ عن الطريق المستقيم والإلحاد؛ لأنه خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه دلالة شديدة جداً وواضحة على الوجوب.
أيضاً: قول الله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ [الجن:23]، ونار جهنم لا تكون إلا على معصية واجب، ولا يمكن ترك المستحب يستوجب النار، حاشا لله، قال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع، قال: والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دخل الجنة إن صدق)، فهذا رجل ترك المستحبات بأسرها، فالنار لا تكون إلا لمن خالف الواجبات؛ ولذلك قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الجن:23].
وأما من السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وفي رواية: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)، فوجه الشاهد: (لأمرتهم)، ووجه الدلالة: أنه لو كان واجباً لشق عليهم وأمرهم، أي: لو كان هذا من الواجبات التي أوجبها الله جل وعلا لأمرهم به وشق عليهم، ففيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال: أمرتكم، لوجب أن يفعلوا، لكنه خشي أن يشق على أمته فلم يأمرهم، فبالمفهوم أنه لو أمرهم لوجب عليهم أن يستعملوا السواك في كل صلاة وعند كل وضوء، لكن هذا شاق على الأمة، فهذا الحديث يدل على أن الأصل في الأمر الوجوب، وهذا هو الصحيح.
والمسألة فيها خلاف بين العلماء، منهم الواقفة، ومنهم الذين يقولون: الأصل فيه الندب إلا أن تأتي قرينة، والجمهور على أن الأصل في الأمر الوجوب، وهذا الأخير هو الراجح.
قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، إذاً: يجب على كل مقرض ومقترض أن يكتبا القرض والدين، وأن يشهدا عليه، وهذا للوجوب؛ لقوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ لكن جاءت قرينة صرفت هذا الواجب إلى الاستحباب، هذه القرينة من الآيات التي تلتها، قال تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283]، بمعنى: إذا حدث الأمان بين المقرض والمقترض فليس عليهم الوجوب بالكتابة، وإن كانت الكتابة مستحبة.
وأيضاً قول الله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، فقوله: وَأَشْهِدُوا فعل أمر يدل الوجوب، أي: يجب إذا بعت وإذا جاءك مشتر أن تأتي بشاهدي عدل تشهدهم على البائع، لكنه مصروف إلى الاستحباب، والصارف: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرساً ولم يشهد عليه، فهذه فيها دلالة على أن الإشهاد ليس بواجب بفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صرف الوجوب إلى الاستحباب.
أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب)، إذاً: الصلاة قبل المغرب واجبة بفعل الأمر: (صلوا)، إلا أن تأتي قرينة تصرفه، وقد جاءت القرينة بالتخيير، وهي قوله: (لمن شاء)، فهذا صارف من الوجوب إلى الاستحباب، (صلوا قبل المغرب صلوا المغرب، ثم قال: لمن شاء)، فخير، والتخيير هذا صارف من الوجوب إلى الاستحباب.
وممكن أن الوجوب أيضاً يخرج إلى الإباحة، كقول الله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، والاصطياد مباح، فهذا خرج من الوجوب إلى الإباحة بالقرائن المحتفة.
ويمكن أن يخرج الأمر أيضاً على الوجوب فيكون تهديداً ولا يكون أمراً معروفاً بالاصطلاحي، الذي هو: استدعاء الفعل أو طلب الفعل على وجه اللزوم وعلى وجه الاستعلاء، كقول الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، هل الله جل وعلا يأمر عباده أن يكفروا؟! لا، فهو القائل سبحانه: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، لكن هذا من باب الوعيد الأكيد والتهديد الشديد، فهذا خرج به من الأمر للوجوب إلى التهديد.
أيضاً: يمكن أن يخرج من الوجوب إلى الإرشاد فقط، كالآداب، وهناك قاعدة عند جمهور الفقهاء وبعض الأصوليين يقولون في الأمر: إذا كان من الآداب فهو للإرشاد، وهذه القاعدة تحتاج إلى نظر، لكن ممكن أن يخرج الأمر الذي هو للوجوب إلى الإرشاد، كقول الله تعالى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، هذا إرشاد، وإن كان الاستدلال بهذه الآية فيها نظر، إذ أنه على الوجوب، فيجب أن يقي المرء نفسه وأهله النار.
ويمكن أن يخرج إلى التعجيز بدلاً من أن يكون للوجوب، ويسمى أسلوب تعجيز، كقول الله تعالى: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا [الإسراء:50]، فخرج به من الوجوب إلى التعجيز، وقول الله تعالى: فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمران:168]، أيضاً: هذا للتعجيز، فمن يستطيع أن يرد على الله قدره بالموت؟! فقوله: (فادرءوا) هل معنى ذلك الوجوب؟ المسألة فيها تفصيل: فإن كان المراد بها للتعجيز، وإن كان المراد أن تأخذ بأسباب النجاة فيجب عليك أن تأخذ بأسباب النجاة؛ لقول الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].
أيضاً: يخرج الأمر عن الوجوب ويقصد به التهكم والسخرية، كقول الله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، (ذق) هذا فعل أمر للوجوب، وهو تهكم وسخرية، وقول الله تعالى: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48].
ويمكن أن يخرج إلى الإكرام؛ كقول الله تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، إكرام لأهل الجنة.
القول الأول: أنه على الوجوب؛ لأن هذه هي الصيغة الصحيحة للأمر، والأصل في الأمر الوجوب فنرجع للأصل، فكل أمر جاء بعد حظر فهو على أصله الذي هو الوجوب إن لم تأت قرينة تخرجه، قال تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، يقولون: هذا على بابه، أي: على الوجوب، لكن القرينة جاءت فصرفته إلى الاستحباب، وقول الله تعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، هذا أيضاً على بابه على الوجوب، إلا أن تأتي قرينة تصرفه.
القول الثاني: أنه على الاستحباب، وهذا قول الجمهور، ويستدلون أيضاً بقول الله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، والاصطياد على الإباحة لا على الاستحباب أي: أن الأمر بعد الحظر على الإباحة؛ فهم قالوا: الاصطياد مباح، والأمر به هنا على الإباحة، والصحيح الذي عليه المحققون من أهل الأصول من الحنابلة وبعض الشافعية وبعض الأحناف أن الأمر بعد الحظر يرجع ويعود إلى ما كان عليه أولاً، أي: إن كان مباحاً فهو مباح على الإباحة، وإن كان واجباً فهو على الوجوب، وإن كان مستحباً فهو على الاستحباب، وهذا الذي رجحه ابن كثير من الشافعية ومن المتأخرين.
والأمثلة على ذلك:
المثال الأول: على الإباحة، كقول الله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]؛ لأنه قال: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، ثم قال: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، فأصل الاصطياد مباح ليس بواجب ولا مستحب، فرجع إلى أصله وهو الإباحة، وقول الله تعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، وأصل إتيان المرأة على الإباحة، لكن ممكن أن يرتقي إلى الوجوب، وممكن أن ينزل إلى الاستحباب، فهو على أصله، أي: على الإباحة.
المثال الثاني: أنه يرجع كما كان لو كان على الوجوب، كقول الله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5]، وقال: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191]، فقد حرم الله قتال المشركين في الأشهر الحرم، ثم أمر بعد انسلاخ الشهر الحرام بالقتال، أي: اقتلوهم حيث ثقفتموهم، فالأمر هنا جاء بعد حظر، وقتال المشركين واجب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، قال تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191]، ولذلك قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:217]، وقال: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5].
ودليل ذلك من السنة أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يكون معه سواك، وأن يمس من طيب أهله)، وغسل الجمعة كما بينا فقهياً أنه على خلاف بين أهل العلم، فقد من يقول بالوجوب سيقول: غسل الجمعة واجب على كل محتلم، فهو واجب وعطفنا عليه مس الطيب، ومس الطيب مستحب، والسواك كذلك مستحب، فاقترن مس الطيب واقترن السواك بغسل يوم الجمعة، وغسل يوم الجمعة واجب عند من يقول بوجوب غسل يوم الجمعة، ومس الطيب والسواك على الاستحباب، هذا يدل دلالة واضحة على أن دلالة الاقتران ضعيفة.
ومن الأمثلة على دلالة الاقتران: (أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم ألا ننزع خفافنا من بول أو غائط أو نوم إلا من جنابة)، إذاً: قرن البول والغائط بالنوم، فاستدل به من يقول: بأن النوم على الإطلاق ناقض للوضوء، بدلالة اقترانه ببول وغائط، والبول ينقض الوضوء، والغائط ينقض الوضوء، والنوم مقترن بما ينقض، فدلالة الاقتران هنا: أن النوم ناقض، وهذا عند من يقول: بأن النوم على الإطلاق ينقض، والصحيح الراجح: أن النوم على الإطلاق لا ينقض كما فصلناه فقهياً، إما انفراداً أو جماعات.
فالنوم فيه أقوال كثيرة لأهل العلم، ففي قوله: النوم بالإطلاق ينقض، والنوم بإطلاق لا ينقض، ثم التفصيل، والصحيح: هذا التفريق الذي فرقه الشافعية، وهو: أنه إذا نام وهو ممكن مقعدته لا ينتقض وضوؤه؛ لحديث أنس في الصحيح: (كان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم تخفق رءوسهم من النوم فيخرج عليهم في العشاء الآخرة فيصلون ولا يتوضئون).
وإن أشكل ابن عبد البر على ذلك بأن رجلاً كان جالساً ممكن المقعدة، وبجانبه آخر فأخرج ريحاً، فقال له: إني أسمع منك هذا الريح، قال: لم أخرج ريحاً، فيقول: هو لا يستشعر، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (العين وكاء السه)، أي: لابد أن يتوضأ، لكن الصحيح الراجح: لحديث أنس أن هذا فصل في النزاع: (كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون فتخفق رءوسهم من النوم فيخرج عليهم في العشاء الآخرة، فيصلون ولا يتوضئون)، فخفض الرأس هذا لا يكون إلا من الجلوس، ففيها تمكين المقعدة، وهذا هو الراجح.
أيضاً: رجل كان يصلي مأموماً، فلما سلم الإمام أصبح حكمه منفرداً، وهو بعيد عن السترة، ونحن نقول: بوجوب السترة، وقد بينت ذلك بالأدلة القاطعة الدالة على وجوب السترة، وأرد على من يقول بالاستحباب، وإن كان هذا قول الجمهور، فإذا قام المأموم بعد سلام إمامه فهو منفرد، فإن كان بعيداً عن الاسطوانة يجب عليه أن يمشي، فالمشي في حقه هو أقل من ثلاث خطوات، أو ثلاث خطوات فقط، فالمشي في حقه إلى الاسطوانة، أي: إلى السترة واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
أما ما لا يتم الوجوب إلا به فهو ليس بواجب، مثل: وجوب إخراج الزكاة، لابد له من أن يتوافر شرطان: الشرط الأول: النصاب، والشرط الثاني: لا يجب على كل امرئ أن يذهب ليعمل ليل نهار، حتى يكتمل النصاب، إذاً: ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب، أي: ليس بواجب عليه أن يحصل أموالاً كثيرة ويسندها حتى تبلغ النصاب، هذا الفارق بين ما لا يتم الوجوب إلا به فهو ليس بواجب، وبين ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
أيضاً: رجل رأى ماء، ومعه مال ويريد أن يتوضأ، ولا يجد حتى التراب الذي يتيمم به، فيقول له: وجب عليك أن تشتري الماء بمالك هذا حتى تتوضأ للصلاة، فإنه لا يمكن أن تكون صلاتك صحيحة إلا بالوضوء، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيجب عليه أن يشتري الماء حتى يتوضأ به، وهذا على خلاف فقهي عريض، فإن كان أصلاً سيبيع الماء بسعر مثله أو بأغلى من سعر مثله، فبعضهم يقول: لا يجب عليه شراء الماء، لكن هذا محل القصد الذي نريده في هذا الباب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر