يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71] .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
إخوتي الكرام! ما زلنا مع ختام المسك مع هذه الكتاب الجليل العظيم (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، وذلك في الكلام على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالذات عن الخلفاء الأربعة، ونختم اليوم بالكلام على الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
جاء في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه أنه جلس مع عمر بن الخطاب فقال عمر : أيكم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسليم أحاديث الفتن، فقال: أنا يا أمير المؤمنين! قال: إنك عليه لجريء! قال حذيفة: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي) فقال عمر: ليس عن هذا أسأل، فقال حذيفة : عم تسأل يا أمير المؤمنين؟! قال: أسأل عن الفتن التي تموج كموج البحر، قال: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟! بينك وبينها باب مغلق قال: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: بل يكسر، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وارضاه بفقهه الواسع: إذاً لا يغلق أبداً.
وقد كسر الباب ولم يغلق حتى الآن، وقالوا لـحذيفة : يا حذيفة ! أعلم عمر بن الخطاب من الباب؟ قال: نعم، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، علم أنه هو الباب كما يعلم أن دون غد الليلة.
وأيضاً لما بلغ أنس بن مالك وبعض الصحابة مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه اتحدت كلمتهم وقالوا: والله لئن قتلوه حقاً فإن الأمة بعده لتحلبن لبناً، وإن قتلوه ظلماً لتحلبن الأمة بعده دماً، وقد حلبت الأمة بعده دماً عبيطاً، وما زال الدم حتى الآن يسيل ولا يتوقف.
وبعد مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه انتفضت الأمة لتؤمر عليها خليفة وهو الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ، وسنتكلم عن فضله ونسبه، ثم نتكلم عن إمامته، ثم بعد ذلك سنذكر الفتن التي ظهرت في عصره، ثم نبين مع من كان الحق.
وعلي بن أبي طالب كان يكنى بـأبي الحسن ، ويكنى بـأبي تراب ، فأما كنيته بـأبي الحسن فلئن أكبر أولاده هو الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يكنى بـأبي الحسن ، وكناه الرسول صلى الله عليه وسلم بـأبي تراب ، فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على فاطمة ذات يوم وكان بين علي وبين فاطمة ما يحصل بين الزوج وزوجه، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فقال: (أين ابن عمك؟) وكأنه قد شعر بأن هناك شيئاً بين علي وبين فاطمة فقالت: يا رسول الله! غاضبني ثم ذهب إلى المسجد، فذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد اجتمع التراب على بردة علي بن أبي طالب وهو نائم في المسجد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما أزاح التراب عن جسده: (قم يا
ولقب بالإمام، وهذا اللقب جاء عن طريق الشيعة، فالشيعة هم الذين رفعوا هذا الشعار، لكنه الخليفة الراشد الرابع.
و علي بن أبي طالب كانت له الحبوة والمكانة السامية عند رسول الله صلى، فهو ابن عمه، وهو سليل بني هاشم، وهو الذي تزوج سيدة نساء العالمين فاطمة ، ولما تقدم لها أبو بكر وتقدم لها عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي أن أزوجها لـعلي رضي الله عنه وأرضاه.
وأيضاً جاء في فضله أن سعد بن أبي وقاص كما روى مسلم عنه أنه قال: (ثلاث قالهن رسول الله لـقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ
[آل عمران:61] أتى النبي صلى الله عليه وسلم بـعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وقال: اللهم إن هؤلاء أهلي)، فتمنى سعد واحدة من هذه الثلاث.
وأيضاً في الصحيح عن علي بن أبي طالب قال: (والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لقد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي بأن علامة الإيمان حبي، وعلامة النفاق بغضي، أو قال: من أبغضني فهو منافق)، رضي الله عنه وأرضاه.
ووردت آثار كثيرة في فضل علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وربما كانت مكانته السامية عند النبي صلى الله عليه وسلم هي نفسها موجودة عند أبي بكر وعمر وعثمان ، فرضي الله عنهم أجمعين.
وكان أيضاً تقياً عالماً، وهو من أعلم الصحابة إن لم يكن أعلم الصحابة بالقضاء، كيف ولا وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (وأقضاهم
فكان علي عالماً فقيهاً، وقد قسم الناس من حيث العلم إلى ثلاث مراتب فقال: الناس على مراتب: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم.
وهو الذي أسس أصول علم النحو واللغة العربية لما وكّل بذلك أبا الأسود الدؤلي ، وكتب له تقاسيم العلم وقال: من أقسام العلم: ظاهر ومضمر، وما ليس بظاهر وما ليس بمضمر.
فكان عالماً فرضياً.
وكان قاضياً، وقد رفعت مسألة إلى عمر بن الخطاب أن امرأة زنت فاشتبهت هل هي حبلى من هذا الزنا أم لا؟ فقام عمر بن الخطاب ليجلدها الحد، فقال علي : لا تجلدها الحد؛ فقد سلطك الله على جسدها ولم يسلطك على ما في بطنها، أي: أنها تتحين حتى تتيقن هل هي حبلى أم لا، فأخذ عمر بن الخطاب بقول علي بن أبي طالب .
ولما جيء بالمخمور الذي يشرب الخمر أكثر من مرة احتار عمر أيجلده الأربعين أم يجلده فوق الأربعين، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: إن الذي يشرب الخمر إذا شرب الخمر سكر، فإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون جلدة، فأخذ بقوله وجلده ثمانين جلده، رضي الله عنه وأرضاه.
وكان زاهداً، فكان ينصح الأمة بأسرها ويقول: إن الدنيا قد تهيأت مدبرة، وإن الآخرة قد تهيئات مقبلة، ولكل بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. رضي الله عنه وأرضاه، ونسأل الله جل وعلا أن يحشرنا في ركابه مع النبي صلى الله عليه وسلم .
ونقل علي الخلافة إلى الكوفة، وأنا سأمر على هذه الفتن مرور الكرام؛ أدباً مع الصحابة، وحتى لا تشحن الصدور، ولا تغوص الأقلام في هذه الدماء، فهي دماء عصمنا الله من أن نشاهدها فنعصم ألسنتنا من الكلام فيها، فسنمر عليها مرور الكرام، ونبين أين الحق من الباطل.
فـمعاوية لم يبايع علياً رضي الله عنه وأرضاه، وقيل: إن سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وأبا موسى رضي الله عنهم وغيرهم لم يبايعوا علياً ، وهذا باطل ، فالصحيح أن الصحابة أجمعين قد بايعوا علياً وأقروا بإمامته رضي الله عنه وأرضاه، وأما معاوية فلم يبايع حتى يشترط، وهو لم ينازعه في الخلافة، ولكن اشترط أن يقتص من قتلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وسنبين أن الحق لم يكن مع معاوية ، فقد اجتهد فأخطأ فله أجر رضي الله عنه وأرضاه، وعلي بن أبي طالب اجتهد فأصاب فله أجران.
فالمقصود أن البيعة تمت لـعلي ، وأصبح خليفة للمسلمين باستحقاق وبجدارة كما قال الذهبي: ما كان على أرض البسيطة أحق بالخلافة من علي بن أبي طالب . وكذلك باتفاق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد نهج في سياسة الخلافة نهج عمر بن الخطاب ، فقد حبس الصحابة في المدينة، حتى لا يغتروا بأمر الدنيا، وأخذ الاقطاعات التي كان وزعها عثمان رضي الله عنه وأرضاه وردها إلى بيت المال، وعزل كل الولاة الذين تسببوا وأثاروا الفتنة.
فأما الفتنة الأولى فهي فتنة الجمل، والفتنة الثانية: فتنة صفين، والفتنة الثالثة: فتنة النهروان، وهذه هي أشد الفتن التي حدثت في عصر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
وقبل أن نتكلم عن هذه الفتن فقد أخذ على علي بعض الأمور في خلافته، وهي: أولاً: أخذ عليه أنه لم يولِّ طلحة والزبير أي إمارات.
ثانياً: أنه تولى الخلافة في هذا الزمن العصيب بعد مقتل عثمان والفتن قد نزلت تطغى على الناس.
ثالثاً: أخذ عليه أنه عزا معاوية ولم يداره ويجعله تحت أمرته حتى يبايعه، ثم بعد ذلك يفعل ما شاء.
رابعاً: أخذ عليه أيضاً رضي الله عنه وأرضاه أنه حبس الصحابة في المدينة كـأبي موسى وغيره.
وهذه المآخذ التي أخذت على علي كان الحق فيها مع علي ، فأما مسألة طلحة والزبير فقد نظر إلى طلحة والزبير فرآهما قرينين له، وكانا من أهل الشورى ويتطلعان إلى الخلافة، ولو أمر كل واحد منهما على مصر من الأمصار لالتف الناس حوله، وثارت الفتن مرة ثانية، وقد كان ما توقعه، فلما خرجا واستأذنا علي بن أبي طالب للعمرة قال: هذه ليست عمرة ولكنها غدرة، ولما خرجا حدث ما حدث كما سنبين.
وأما الأمر الثاني وهو قبوله للخلافة في وقت الفتن، فقد كان الحق معه أيضاً، ومن أحق من علي بالخلافة، قال يوسف عليه السلام، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
[يوسف:55] ، ولو تمناها وطلبها علي فهو أحق بها، ولا أحد أحق بها من علي رضي الله عنه وأرضاه.
ولو ترك الناس يتخبطون لضاعت الأمة، فلا بد من أمير يضبط أمور الخلافة، فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أهل لها.
وأما مسألة عدم تولية معاوية فـعلي لا يناقض نفسه، فكثيراً ما قام إلى عثمان يشاوره وينصحه أن يعزل معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فلما تولى هو الخلافة قال: أنا أتكلم مع الرجل في عزله وأبقيه على نفس المكانة! فعزله وكان الحق معه، وحتى وإن لم يكن الحق معه فحكمة الله اقتضت أن تنزل الفتن في هذا العصر.
وأما فتنة الجمل فبعدما استأذن طلحة والزبير رضي الله عنهما وأرضاهما إلى مكة للعمرة، قامت عائشة وقالت: نطلب بدم عثمان ، فالتقوا بـمروان بن الحكم الذي كان سبباً في قتل عثمان ؛ لأن علي بن أبي طالب لما تعمم بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج متقلداً بسيفه حفاظاً على عثمان رده عثمان، وكان قد أرسل الحسن والحسين لنصرته، وقيل له: لو قدم لهم مروان ما قتل، وكان ذلك اجتهاداً من عثمان أنه يبقى صابراً محتسباً، فالتقوا به في مكة، فخرجوا طلباً للثأر من قتلة عثمان ، وقتلة عثمان قد انتشروا في جيش علي بن أبي طالب وهو لا يعرفهم .
فخرجوا إلى البصرة فوقفوا عند مكان يسمى الحوأب، فنبحت الكلاب، فقالت عائشة: هل هذا الحوأب؟ فقيل: نعم، فقالت: ردوني؛ فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟).
وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء وصححه بعض العلماء، لكن يستأنس به أن عائشة كأنها وجدت نفسها ليست صائبة في الخروج في طلب دم عثمان ، وقد دلس عليها الثوار على أنها ليست في الحوأب، فذهبت مع طلحة ، فبعث إليهم علي بن أبي طالب بـالقعقاع بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، فذهب فقال: يا أمي! ما الذي أتى بك؟ قالت: أتيت للإصلاح بين الناس، فقال لـطلحة : ما الذي أتى بك؟ فقال نفس مقالة عائشة ، وقال ذلك للزبير ، فقال مثل ما قالت عائشة ، فقال القعقاع : آلإصلاح يأتي بالقتل؟! وكانوا في الطريق قد مروا ببعض قتلة عثمان فقتلوهم، فتألبت القبائل نصرة لهؤلاء الذين قتلوا، وذكر لهم القعقاع أنهم قد أفسدوا أكثر من المصلحة التي ترجى، فاقتنعوا بكلامه، فبعثوا إلى علي أن الأمر على الصلح ويرجعون من حيث أتوا، لكن الثوار أبوا ذلك، وحكمة الله اقتضت أن تثار الفتنة، فذهب ألف من الثوار فأعملوا القتل في جيش طلحة والزبير ، ثم التقى الصفان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فقام علي بن أبي طالب صاحب المروءة والشجاعة فقال: ألا يخرج طلحة ؟ ألا يخرج الزبير ؟ فخرج له طلحة ، فقال له علي بن أبي طالب مبكتاً: يا طلحة أحبست زوجك في بيتك وخرجت بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها؟! فاستحيا طلحة ، ثم قال له: أما سمعت رسول الله يقول: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) ، فأغمد سيفه واستدار، ثم قال: أين الزبير ؟ فخرج الزبير ، فقال: يا زبير ! أما تذكر أني مررتُ عليك فنضرت إلي فضحكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتحبه، فقلت: نعم، فقال لك رسول الله: تقاتله وأنت له ظالم؟) أتذكر؟ فقال الزبير: والله ما تذكرته إلا الساعة، فأغمد سيفه واستدار، فكلمه ابنه، فقال: لا رجعة، فرحل الزبير، لكن أبى الله جل وعلا إلا أن يقتتل الفريقان لحكمة سنبينها.
فاقتتلا وقتل الزبير وقتل طلحة، وقاتل الزبير دخل بسيف الزبير على علي، فنظر علي مندشهاً وقال: أسيف الزبير هذا؟ قال: نعم، وقد سلبته منه، فقال له: أبشر بالنار، من قتل ابن صفية فهو في النار ، اذهب. وقال: دلوني على طلحة ، فوجده طريح الأرض، فنحى التراب عن وجهه وقال: يعز عليَّ أن أراك في هذا الموقف، ثم بكى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
وذهب إلى أصحابه فوجد المقتلة عضيمة عند الجمل، فالتف الجنود حول جمل عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقال عمار بعدما سبها رجل منهم: مه - يعني: اسكت - والله! إنها لزوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وإن الله ابتلاكم بها أتسمعون لها أم تتبعون أمر الله جل وعلا.
ثم أمر علي بأن يعقروا هذا الجمل فعقروه، ثم أخذوا عائشة في الهودج ومكن لها مكاناً طيباً مريحاً، ثم أكرمها أيما إكرام، ثم أحسن لها الكلام، ثم رجع بها إلى المدينة، وأخمدت الفتنة، ومات طلحة ومات الزبير ، ورجع علي إلى الكوفة .
وهذه الفتنة ضيع المؤرخون والمستشرقون التاريخ فيها، ولطخوه بدماء فاسدة وبكلام مزور، حتى إنهم ذكروا أن أبا موسى الأشعري يضحك عليه وكأنه طفل غر ، وأن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه ضحك عليه وغرر به حتى قال: خلعت علي بن أبي طالب ، وقال عمرو بن العاص : أثبت معاوية ، وهذا كله باطل مختلق، والصحيح في ذلك ما عليه أهل التحقيق أن أبا موسى الأشعري لما جلس معهم في الجلسة قال: أرى أن الأمر لا يخرج عن النفر الذين توفي رسول الله وهم عنهم راضٍ، ومن هؤلاء النفر سعد لكنه رحل وباع الدنيا وزخارفها وباع الخلافة، حتى إن ابنه يقول له: إنهم يتصارعون على الخلافة وأنت هنا في الصحراء، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) ، فاعتزل الناس. وبالاتفاق أن علياً هو أولى الناس بها ممن تبقى من الستة أصحاب الشورى.
فقال أبو موسى : ولا شأن لك أنت ولا معاوية ، وإن يستعن بكما ففيكما معونة، يعني: فأنتم أمراء، وأما الخلافة فلا تكون إلا في هؤلاء النفر، فهذا الذي عليه أهل التحقيق.
فلم يسمع لـأبي موسى الأشعري، وحدثت مقتلة عظيمة بين الاثنين ولن نتكلم عنها، وإنما نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل في الذي أثار الفتنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأسأل ربي العظيم أن يجعل المخطئ منهم مأجوراً غير مأزور، ويجعل أجر المصيب منهم فوق الذي أخطأ، ويغفر لهم زلتهم.
ولما حدثت المقتلة قام علي بمروءته فقال لـمعاوية : اخرج بارزني؛ يقتل أحدنا الآخر وتبقى الخلافة لواحد منا ولا نريق دماء المسلمين، فلم يستمع له وخاف من مبارزته، فخرج عمرو بن العاص فبارزه وكاد أن يقتله حتى أظهر سوءته فاستحيا علي منه فتركه، فهرب عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، ثم رفعوا -أي: أصحاب الشام- المصاحف بعدما كانت الدائرة تدور عليهم، فرفعوا المصاحف على أسنة الرماح والسيوف، فتوقف جيش الكوفة، وكان علي صائب النظر فقال: لا تتوقفوا، فلم يستمعوا له وتألبوا عليه، فلما يرضوا بكلام علي بعد رفع المصاحف، ثم أتوا بـأبي موسى الأشعري ، وكان علي يقول: ابن عباس ، وقال ابن كثير يقول: يا ليتهم رضوا بـابن عباس ؛ لأنه كان ذا حجة يستطيع أن يقنع القوم، ولكن لم يرضوا إلا بـأبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، وأبوا على علي أن يبعث عبد الله بن عباس.
ومن حكمة الله جل وعلا أننا علمنا فقه قتال الطائفة الباغية مما حدث مع علي ، ولو لا ما حدث مع علي ما عرفنا كيف يقاتل المؤمن الطائفة الباغية، وما هو فقه التعامل مع الطائفة الباغية.
ولما قالوا لـعلي: هل كفروا؟ قال: لا، من الكفر فروا، وقال: هم إخواننا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا إلا أن يبارزونا -يعني: أن يبتدءوا القتال معنا-، فإن قاتلونا قاتلناهم، ولا نسبي نساءهم، ولا يذفف على جريح، وهذه ضوابط قتال الطائفة الباغية، وهذا الكلام مشتق من قول الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
[الحجرات:9].
ومن هذا الفقه: ألا يذفف على جريح، يعني: لو جرح رجل منهم فلا يقتل، بل يؤخذ ويداوى، وأيضاً إذا ألقى أحد سلاحه فلا يقتل.
فمن فقه قتال الطائفة الباغية ألا يذفف على جريح، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن استسلم فهو آمن؛ لأنه مسلم كالمسلمين.
فقاتلهم علي رضي الله عنه وأرضاه وقتلهم، وكانت هذه علامة من علامات أن الحق مع علي كما سنبين، وهذه الفتنة هي الأخيرة.
وأيضاً نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي ذات مرة فقال له: (أتعرف من أشقاها؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أشقاها صاحب الناقة، وأشقاها من يضرب هذه فتبتل به هذه) ، ويشير إلى رأس علي رضي الله عنه وأرضاه.
فجاء أشقاها، وكان علي بن أبي طالب قد اغتم بأهل الكوفة أيما غمّ، ورأى منهم الشقاق والخيانة، فطلب من ربه أن يقتل وأن يسارع أشقاها بقتله، فكان يمشي بين السواري ويقول: أين أشقاها؟ أما يبعث أشقاها؟ حتى جاء أشقاها فضربه رضي الله عنه وأرضاه وقتله بسيف مسموم، فذهب إلى ربه شهيداً، وكان الحق معه.
الوجه الأول: رجوع الصحابة إليه، فهذا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان أفقه الناس في عصره، وقد بكى بكاء شديداً بعدما علم بقتال علي للخوارج وأن الانتصار كان لـعلي ، فبكى وقال: يا ليتني قاتلت مع علي ، فندم ندماً كبيراً أنه لم يقاتل مع علي .
و عائشة لما بلغها مقتل الخوارج، قالت: والله! إن الحق كان مع علي ، وما كان بيني وبينه إلا ما كان بين الأحماء بعضهم وبعض، رضي الله عنهم وأرضاهم.
الوجه الثاني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويح
فهذا أيضاً دليل من الأدلة والآثار التي تثبت أن الحق مع علي.
والدليل الأخير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تمرق مارقة من الدين، قوم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، يقرءون القرآن لا يبلغ تراقيهم، فيهم رجل يده كثدي المرأة)، فلما قاتل علي الخوارج ذهب يبحث في الناس حتى وجد الرجل، فسجد لله شاكراً؛ لأنه علم أن الحق كان معه، وهذا كان جلياً واضحاً أن الحق مع علي، فنرجو الله جل وعلا ونسأله أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم وأن يأجره أجراً عظيماً وفيراً؛ لأن الحق كان معه، ونرجو الله جل وعلا أن يأجر معاوية على اجتهاده، وإن كان قد أخطأ وله في ذلك الأجر، وأن يحشره مع النبي صلى الله عليه وسلم فهو كاتب الوحي رضي الله عنه وأرضاه، وهو خال المؤمنين؛ لأنه أخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر