يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما زلنا في الكلام على المرجئة، وقد ذيل الإمام العلامة اللالكائي الكلام على منهج المرجئة وأصول اعتقادهم، وبما روي في تضليل المرجئة، ثم بعد ذلك نوه بنسقه العجيب على معتقد الخوارج والمعتزلة في الكلام على الكبائر وتقسيمها.
كما سنبين أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، واختلاف العلماء في ذلك، وبيان أكبر الكبائر والتقسيم التأصيلي في ذلك بما يمس العقيدة.
لقد روى اللالكائي بسنده -وإن كان هذا السند الذي رواه فيه ضعف- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: القدرية والمرجئة)، والقدرية هم عكس الجبرية.
فالقدرية ينفون القدر ويقولون: إن الأمر أنف، يعني: أنه لم يسبق به القلم، بل إن الله جل وعلا لا يعلم الأمر مما يعمله العباد إلا بعد عملهم له.
وأيضاً روى في هذا الكتاب العظيم حديث: (صنفان من أمتي كلاهما في النار: قوم يقولون: إنما الإيمان كلام وإن زنى وإن سرق، وآخرون يقولون: إن أولينا كانوا ضلالاً، يقولون: خمس صلوات في اليوم والليلة وإنما هما صلاتان).
الإيمان عند المرجئة هو الكلام، فإذا قال المرء: لا إله إلا الله أصبح مؤمناً كامل الإيمان.
وفي رواية عن سفيان الثوري عن ابن عباس قال: اتقوا الإرجاء فإنه شعبة من النصرانية.
لكن هناك خلاف حقيقي، فمثلاً: أهل السنة والجماعة يقولون: الإيمان يزيد وينقص، والمرجئة يقولون: الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يتبعض فلا يزيد ولا ينقص، لكن في الحقيقة هم يقرون بالتفاوت بين أهل الإسلام، فمنهم من يكون في الفردوس الأعلى، ومنهم من يكون في أنزل درجة، ولا شك أن الذين في الفردوس الأعلى هم أعلى إيماناً من الذين هم في أنزل درجة، فتكون النتيجة واحدة، وهي أن الإيمان يتفاوت بين الناس.
كذلك المرجئة يقولون: مرتكب الكبيرة، مستحق للوعيد، وأهل السنة والجماعة يقولون: هو فاسق بكبيرته، وهو داخل تحت مشيئة الله جل وعلا إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فالخلاف هنا حقيقي؛ لأن المرجئة يجعلون أصل الإيمان واحد، وليس هذا بصحيح، بل هناك تفاوت في أصل الإيمان، فأصل الإيمان عند إبراهيم عليه السلام غير آحاد آمته.
أيضاً: المرجئة حصروا الكفر في التكذيب والاستحلال، فعندهم إذا أتى إنسان بمكفر، فإنه لا يكفر إلا إذا استحل بقلبه؛ لأن التكذيب والاعتقاد محله القلب، فقالوا: لو سجد لصنم، أو سب الله، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس بكافر حتى يستحل بقلبه.
وقد قلنا: إن هذه الأعمال كفر مستقل، لكن المرجئة لا يقولون بأن الأعمال فيها كفر مستقل، وإنما يقولون: إن الأعمال علامة على الكفر القلبي، فأداروا مسألة الإيمان والكفر وقالوا: محلها القلب، ويقول: أهل السنة والجماعة محل الإيمان والكفر القلب واللسان والجوارح، فالإيمان في القلب الإقرار والتصديق، وهو قول القلب، وعمل القلب من توكل وخوف ورجاء، أيضاً الكفر فيه محله القلب، كالاستكبار، والإيذاء، والإعراض، وعدم الانقياد، والخوف من غير الله جل وعلا كالخوف منه سبحانه إلى آخر هذه.
والإيمان محله الجوارح، كالصلاة والصيام والحج والصدقة، كذلك الكفر محله الجوارح، فمن صلى لغير الله جل وعلا فقد كفر، وكذا من سجد لصنم.
أيضاً اللسان، فمحل الإيمان فيه بالنطق بكلمه بالتوحيد: لا إله إلا الله، والكفر بالنطق بكلمة الكفر، إلا المكره، كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].
أما سعيد بن جبير فقد أغلظ فيهم القول وقال: المرجئة يهود القبلة.
ويقول الإمام مالك في أبي حنيفة في مجلس التحديث في المدينة: لو ناظرني أبو حنيفة على أن هذا الجدار، ذهب لأقنعني به، وهذا من رجاحة عقل أبي حنيفة وقوته، فكانت الأئمة تثني الثناء الحسن على أبي حنيفة، لكن أخذ عليه كثيراً في مذهبه أنه لم يكن يتبع الأثر ويقدم الرأي عليه، وقلنا: إن العلة في ذلك: أنه لم يكن يأخذ أحاديث العراقيين، وأيضاً أبو حنيفة لم يكن محدثاً ولا راوياً، فضعفه بعض العلماء في مسألة النقل والرواية، أما الكلام الذي نقل عنه في هذا الكتاب فضربت عنه صفحاً؛ لأن فيه أن أبا حنيفة استتيب، وفيه أن أبا حنيفة كان مرجئاً؛ وكان يقول للزاني: أنت مؤمن، فإن قال له الزاني: أنت الذي تقول أني مؤمن، قال أبو حنيفة ؛ أنا أخطأت حين قلت لك: إنك مؤمن، إلى آخر هذه الحكايات التي رويت في كتاب تاريخ بغداد للخطيب وغيره.
لكن نقول: هذه الحكايات كلها لم تثبت عنه ولم نر سنداًً صحيحاً بذلك، بل لو ثبتت لقام هؤلاء الأعلام المشاهير كـالشافعي ومالك وأحمد بذم أبي حنيفة ولبينوا عواره.
وهناك دلالة بينة واضحة على براءة أبي حنيفة من مثل هذه الحكايات وذلك أن الله جل وعلا كتب لمذهبه القبول، فكل الأعاجم يأخذون بمذهب أبي حنيفة ، وسمعت أن أهل أفغانستان يكادون يقتتلون لو أن واحداً خالف مذهب أبي حنيفة ، ومعلوم أن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: (أن يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبونه، ثم يكتب له القبول في الأرض)، وقد كتب الله القبول لهذا العلم العالم الجهبذ في الأرض، فنضرب صفحاً عن هذا الكلام الذي نقل عنه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر