إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - أهل الكبائرللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من فضل الله على العباد ورحمته بهم أن جعل الإيمان يتفاضل زيادة ونقصاناً، وذلك لأن العباد ليسوا معصومين من الخطأ إلا من عصمه الله، فلو كان كل من وقع في كبيرة كفر -كما زعمت الخوارج- ثم في الآخرة يخلد في النار كما زعموا هم والمعتزلة؛ لكان هذا تكليفاً بما لا يطاق، وحاشا الشارع الحكيم عنه، وليس الأمر كما زعمت المرجئة أن الإنسان له أن يفعل ما يحلو له من الفجور ثم يكون مؤمناً كامل الإيمان، كجبريل والصديق، ما دام أن أصل الإيمان في قلبه، وهذا تنافيه الحكمة الإلهية والعدل الرباني بين العباد، وإنما من فعل معصية دون المكفرات فهو فاسق بمعصيته مؤمن بأصل إيمانه، وهذا قول الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة.

    1.   

    حكم أهل الكبائر عند أهل الغلو، وأهل التفريط

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فنتكلم في هذا الدرس على فساق أهل القبلة، أهل المعاصي والكبائر، وفي هذا الباب مسائل، منها:

    هل أهل الكبائر مخلدون في نار جهنم؟ وهل أهل الكبائر كفار خرجوا من الملة كما قال أهل الغلو والإسراف، كالخوارج الحرورية أم لا؟

    فإن الخوارج الحرورية قالوا: إن أهل الكبائر كفار مرتدون خارجون من الملة، وإذا ماتوا فلا يدفنون في مقابر المسلمين ولا يصلى عليهم، بل إن كانوا أحياء فإنه يفسخ عقد زواج أحدهم من امرأته وتطلق منه، ويعامل معاملة المرتد، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل.

    أما المعتزلة فقالوا: لا نقول: إنه كافر، وإنما نقول: هو بمنزلة بين المنزلتين، فلا هو كافر ولا مسلم، وإنما هو في منزلة بينهما.

    والصحيح: أن هذا الكلام تغطية لهم حتى لا يتهموا بأنهم خوارج، لكن قولهم يئول إلى قول الخوارج: إنهم -أي: أصحاب الكبائر- مخلدون في نار جهنم.

    فهذا الكلام هو كلام أهل الغلو، وهناك من يضاد هذا القول، وهو قول أهل التفريط، وهم أهل الأرجاء، فإن المرجئة قالوا: كل مسلم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً هو رسول الله، وصلى إلى هذه القبلة، وذبح ذبيحتنا، أو أكل من ذبيحتنا فهو مؤمن كامل الإيمان، يرتقي إلى إيمان أبي بكر وعمر ، بل يرتقي فوق ذلك إلى إيمان جبريل، وهو من أول وهلة يدخل الجنة، وهذه هي بدعة المرجئة.

    فأما أدلة الخوارج على ما ذهبوا إليه: فقد صنفوا أدلتهم من الكتاب ومن السنة.

    فأما من الكتاب: فاستدلوا بقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].

    فقالوا: وجه الدلالة أن قوله: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً)، فقال: (ظلماً) والظلم ليس بكفر، وإنما هو معصية وكبيرة. وقد قال الله عنهم: (وسيصلون سعيراً)، وليس لنا دليل يدل على خروجهم من هذا السعير. فقالوا: إن أهل المعاصي خالدون في نار جهنم، استدلالاً بهذه الآية.

    وأما أدلتهم من السنة فاستدلوا بما يلي:

    أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان عن أهل المعاصي، وهذا دليل على أنهم كفار. ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربهما وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة حين ينتهبها وهو مؤمن). فنفى عنه الإيمان، وإذا نفى عنه الإيمان فهو فاسق.

    وأيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له). فنفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الخائن، فأصبح كافراً؛ لأن المقابل للإيمان هو الكفر.

    فإذاً: الخائن كافر، والعاصي كافر، والزاني كافر، والسارق كافر كل هذا على قولهم.

    ثانياً: أنه أثبت الكفر لأهل المعاصي، وهذه أصرح في الدلالة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فأثبت الكفر لهم بقتال بعضهم لبعض.

    والأحاديث مثل ذلك كثيرة منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: -كما في الصحيحين-: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).

    قوله صلى الله عليه وسلم: (خصلتان في أمتي هما بهم كفر: النياحة على الميت، والفخر بالأحساب) وفي الرواية الأخرى: (الفخر بالأنساب، والاستسقاء بالنجوم).

    وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) والحلف بغير الله هو: القسم بغيره، فالذي يحلف بحياته، أو بالنبي، أو بشرفه فكل هذا معصية، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، ونزع عنه الإيمان.

    ثالثاً: البراءة من الشخص، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتبرأ من أحد إلا إذا كان عمله كفراً، ولو كان مؤمناً لانضم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى حظيرة المسلمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين) وفي رواية أخرى: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين). فهذه البراءة من الشخص دلالة على كفره.

    وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا).

    فهذه هي أدلة الخوارج الذين يقولون: إن فاعل الكبيرة كافر خالد مخلد في نار جهنم.

    أما في الجهة المقابلة لهم فهم المرجئة، الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، فالرجل عندهم وإن زنى وإن سرق طالما أنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فهو مؤمن. وقد أخذوا بأحاديث الوعد، فالخوارج أخذوا بآيات وأحاديث الوعيد، المرجئة أخذوا بأحاديث الوعد. ومن أدلتهم:

    أولاً: قول الله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى [الليل:14-15]، فهنا أسلوب حصر، أي: أن النار لا يصلاها إلا الشقي، ثم وصفه بقوله: الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:16] إذاً فيكون الأتقى هو الذي سيجنبها، وهو: الذي ليس بشقي، فلم يكذب، ولم يتول، ولم يجحد.

    فإذاً: المسلم الذي لا يكذب بآيات الله، ولا يكذب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتولى جاحداً، وإن ترك العمل، فهذا سيدخل الجنة ولا يخرج منها. ولا يمكن أن تمسه النار ولو وهلة.

    واستدلوا من السنة بأدلة كثيرة، وهي أحاديث الوعد، ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه دخل الجنة). وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأشهد أن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق دخل الجنة على ما كان من عمل)، أي: أي عمل عمله فسيدخل به الجنة.

    واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل جاءني فبشرني: أن من قال من أمتك: لا إله إلا الله، أو مات لا يشرك بالله من أمتك فسيدخل الجنة. فقال أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، فقال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، ثم قال الثالثة: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي ذر).

    فهذه دلالة واضحة على أن أهل الكبائر والمعاصي يدخلون الجنة، ولا يسمعون حسيس النار من أول وهلة. إذاً: فالخوارج والمرجئة طرفان متضادان:

    الطرف الأول: الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن أهل المعاصي مخلدون في نار جهنم.

    والطرف الثاني: المرجئة الذين يقولون: إن أهل الكبائر وإن زنوا، وإن سرقوا، وإن فعلوا كل الكبائر فهم في الجنة من أول وهلة.

    1.   

    حكم أهل الكبائر عند أهل السنة، وأدلتهم

    ودائماً القول الوسط هو الذي يزن الأمور، وهو قول أهل السنة والجماعة الذين معهم الحق فإنهم قالوا: لا نقول: إن صاحب الكبيرة يكون كافراً خارجاً من الملة، ولا نقول: إنه يكون مؤمناً كامل الإيمان، ولكن نقول: هو فاسق بكبيرته، مؤمن بأصل إيمانه. فننزع عنه الإيمان المطلق، أي: الإيمان الكامل، ونبقي له مطلق الإيمان، أي: أصل الإيمان.

    1.   

    أقسام الإيمان المطلق

    والإيمان المطلق ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: الإيمان الواجب، وهو الإيمان الذي ينجي صاحبه من النار من أول وهلة، وصاحبه هو الذي أتى بالفرائض وانتهى عن المحرمات، كما في الحديث: (والله! لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق).

    القسم الثاني: الكمال المستحب.

    القسم الثالث: الإحسان.

    1.   

    حكم العاصي عند أهل السنة والجماعة

    أهل السنة والجماعة لا ينزعون عن العاصي مطلق الإيمان فيقولون: إنه كافر، ولا يطلقون عليه الإيمان المطلق، أي: الإيمان الكامل، بل يقولون: هو فاسق بكبيرته مؤمن بإيمانه. وأدلتهم على ذلك ما يلي:

    أولاً: حكمه في الدنيا: ننظر إليه بعينين: عين الشرع وعين القدر.

    فننظر إليه بعين القدر فنقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، فعلنا لو كنا في موقفه لكنا فساقاً مثله، ولكن الله عصمنا من ذلك.

    ثم ننظر إليه بعين الشرع، فنبغضه ونبغض فعله ونهجره لعله يرجع، وننصحه في الله، ونأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر.

    فهذا هو حكمه في الدنيا.

    أما حكمه في الآخرة عند أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: هو تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه على سيئاته، ثم بعد ذلك يدخله الجنة، كما في حديث الشفاعة عنه صلى الله عليه وسلم، أنهم يصيرون حمماً بعدما يعذبون من الكبائر التي اقترفوها، أو يدخله الله الجنة من أول وهلة ويغفر له، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    قالوا: والأدلة على ذلك كثيرة، منها:

    أولاً: أن الله جل وعلا بين أن الذي لا يشرك به مآله إلى الجنة، فقال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، وفي رواية: (من قال: لا إله إلا الله، مستيقناً بها قلبه دخل الجنة).

    وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً). فالشاهد فيه: أن الذي لا يشرك بالله شيئاً لا يعذبه الله، أي: يدخله الجنة.

    ويستدلون أيضاً بالأحاديث التي يستدل بها المرجئة.

    إذاً: فالدليل الأول عند أهل السنة الجماعة: أن الله بين أن الذي لا يشرك به شيئاً مآله إلى الجنة، وإذا كان مآله إلى الجنة فهو ليس بكافر؛ لأن الكافر مخلد في النار.

    ثانياً: إن الله أطلق اسم الإيمان على الذي اقترف المعاصي، فسماه مؤمناً، كما قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]، والقتال من أشد الكبائر، ومع ذلك سماهم مؤمنين.

    ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن ابني هذا سيد -أي: الحسن - وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).

    فسماهما: مسلمين. والطائفة الأولى: هي طائفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ومن معه، والطائفة الثانية هي طائفة معاوية رضي الله عنه وأرضاه ومن معه.

    فلم ينف عنهم اسم الإيمان، وأيضاً أهل الكبائر سماهم مؤمنين، وإذا سماهم مؤمنين فقد نفى عنهم اسم الكفر.

    ثالثاً: أن كل من اقترف كبيرة فأقيم عليه الحد فإن الحد كفارة له، وذلك كما في قصة الغامدية ، فإنه لما ضربها خالد بالحجر فانتثر الدم عليه فقال: لعنة الله عليك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبها، -أي: لا تلعنها- إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه)، وفي الرواية الأخرى: (لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم)، فسمى هذا الحد توبة.

    وفي الطبراني والنسائي حديث صريح في ذلك: وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرجم كفارة لما صنعت).

    وفي حديث عبادة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً)، وقال في نهاية الحديث: (فمن اقترف ذلك فأقيم عليه الحد فمن عوقب به فهو كفارة له) .

    إذاً: فالحد كفارة، وإذا كان لهم كفارة فليس بكفر.

    وكذلك قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّه [المائدة:38]، ثم بعد ذلك بين أن الله غفور رحيم.

    ومن الأدلة أيضاً: إجماع السلف، فقد أجمعوا على أن من أقيم عليه الحد فإنه لا يسأل عنه يوم القيامة.

    رابعاً: أن بعض الأدلة جاءت وأثبتت أن أهل الكبائر يدخلون النار ثم بعد ذلك يخرجون منها، يعني: لا يخلدون في نار جهنم.

    وأصرح ما يكون من هذه الأدلة حديث الشفاعة، فعندما يشفع الله المؤمنين في إخوانهم فيقولون: ربنا إخواننا يصلون معنا، ويزكون معنا، ويحجون معنا. فالله جل وعلا يشفعهم فيهم، فيذهبون فيخرجون من النار من يعرفونهم، ثم يشفع الله الملائكة، فيعرفون أهل الإسلام بعلامة الصلاة، أي: بمواضع السجود؛ لأن الله جل وعلا حرم على النار أن تأكل مواضع السجود.

    ثم بعد ذلك يقبض الرحمن قبضة فيخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو وزن شعيرة من خردل من إيمان. ففي هذا دلالة أيضاً على أن أهل الكبائر لا يخلدون في نار جهنم.

    خامساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر، والشفاعة ممنوعة للكافرين، ولا تقبل عند الله بحال من الأحوال، فالكافر لا يُشفع فيه، إلا لـأبي طالب استثناءً واحداً؛ كرامةً للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسديداً لهذا الرجل الذي ذب عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر حتى يدخلوا الجنة، ويخرجوا من النار.

    فهذه أدلة واضحة جلية تثبت أن أهل الكبائر في مشيئة الرحمن، إن شاء عذبهم ومآلهم إلى الجنة، وإن شاء غفر لهم، فدخلوا الجنة من أول وهلة.

    فأهل السنة والجماعة يقولون: إن أهل الكبائر ليسوا مخلدين في نار جهنم، بل هم تحت المشيئة.

    1.   

    رد أهل السنة والجماعة على المرجئة

    والمرجئة يستدلون بحديث: (من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة) فعندهم كل من قال: لا إله إلا الله فسيدخل الجنة من أول وهلة، ولا يعذب في حال من الأحوال.

    والرد عليهم أن نقول: إن هناك من المسلمين من سيدخلون النار لمعاصيهم حتى يصيروا حمماً، ثم بعد ذلك يلقون في نهر الحياة، ثم يدخلون الجنة. وهؤلاء هم الجهنميون الذين يدخلون الجنة بعد عذاب.

    وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى الرجل يقاتل شجاعة وحمية وهم يقولون: هذا رجل يقاتل وينافح عن الدين والإسلام، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (هو في النار).

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة عذب بها في نار جهنم، ومن تحسا سماً فهو يتحساه في قعر جهنم).

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة).

    ففي هذا النص الصريح أنه قتل نفسه، وهذه كبيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (عذب به)، فإذاً: هو سوف يعذب به، ثم يدخل الجنة بقوله: لا إله إلا الله، إذا أتى بشروطها.

    إذاً: فحديث: (من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة)، له أدلة خصصته.

    وأما استدلالهم بقوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:14-16] فنقول: النار في هذه الآية إما أن تكون ناراً خاصة، وهي نار الكفار التي هي دركات، والدرك الأسفل فيها للمنافقين، فيكون الأشقى هو الذي يصلى النار الكبرى، والنار في قوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى [الليل:14-15] هي نار الكفار؛ لأن النار ناران: نار الموحدين، ونار الكفار، والمقصود في هذه الآية: نار الكفار، فتخرج بذلك نار الموحدين التي يعذبون فيها ثم يلقون في نهر الحياة.

    ووجه ثانٍ من الرد عليهم أن يقال: قوله تعالى: فأنذرتكم ناراً تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى الصلي صليان: صلي بخلود، وصلي حتى الموت. فالصلي بخلود يكون للكافر، والصلي حتى الموت يكون للمسلم؛ بقرينة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يصيروا حمماً، ثم يلقون في نهر الحياة) أما نار الكافر فلا يموت فيها ولا يحيا، كما قال الله تعالى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:13].

    أما أهل التوحيد فيموتون في النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى يصيروا حمماً)، إلا شيئاً واحداً لا تأكله النار، وهو أثر السجود. وهؤلاء الجهنميون يموتون، ثم يلقون في نهر الحياة بعد ذلك، ثم يدخلون الجنة.

    1.   

    رد أهل السنة والجماعة على الخوارج

    أما الخوارج فيستدلون بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]. وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت النار امرأة في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض).

    وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قتل نفسه: (هو في النار).

    ونقول لهم: إن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا على بابها، وهي محمولة على أنهم يستحلون أكل مال اليتامى، وقد حرمه الله، فيكون الاستحلال قد أخرجهم من الملة، وكفروا بهذا الاستحلال، فيمكثون في النار، وهذا له قرائن كثيرة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وأيضاً نقول: إن النار ناران: نار الموحدين ونار الكفار، فهؤلاء سيصلون سعيراً، وهي نار الموحدين، فيبقون فيها قدر الكبيرة التي اقترفوها، ثم بعد ذلك ينتقلون إلى الجنة.

    نسأل الله ربنا أن يجمعنا جميعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من أول وهلة.

    وأما الرد عليهم في استدلالهم بالأحاديث:

    فنقول: إن الكفر كفران، كفر أكبر يخرج من الملة، ويخلد صاحبه في النار، وكفر أصغر لا يخلد صاحبه في النار.

    وهذا التقسيم من استقراء الأدلة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).

    وهذه الأدلة ونحوها الأصل أنها على بابها، فتكون كفراً أكبر، إلا أن تأتي قرينة تبين أنه ليس المقصود بها الكفر الأكبر. ففي قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] سماهما مؤمنين. فإذاً هذه طائفة مؤمنة، وهذه طائفة مؤمنة، مع أنهم يتقاتلون. فيكون الكفر الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ليس المقصود به الكفر الأكبر، وإنما المقصود به كفر آخر، وهو الكفر الأصغر.

    وكذلك نقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).

    أما الدليل الآخر الذي استدلوا به: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (خصلتان هما بهم كفر: النياحة على الميت والفخر بالأحساب )، فإن النياحة على الميت كفر من هذا الباب، أي: كفر أصغر؛ لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن المرأة التي تنوح تأتي يوم القيامة وعليها سربال من قطران تعذب به في عرصات يوم القيامة، ثم ترى سبيلها إما إلى النار وإما إلى الجنة.

    والكافر مآله إلى الخلود في النار، وهذه المرأة إذا كانت ترى سبيلها إما إلى الجنة وإما إلى النار فهي ليست بكافرة.

    إذاً: ليس المراد في هذا الدليل بالكفر الكفر الأكبر.

    وأما الصنف الثالث من أدلتهم: وهو البراءة من الفاعل، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) بقوله صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين).

    فنقول: إن البراءة براءتان:

    البراءة الأولى: براءة من الشخص كليةً، وبراءة من العمل.

    فإذا كانت البراءة من الشخص كليةً فمعنى ذلك أن هذا الرجل كافر خارج من الملة، ولا بد أن نتبرأ منه، فلا نجالسه، ولا نواليه، والدليل على ذلك قول الله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِم [الممتحنة:4]، أي: الكفار إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ [الممتحنة:4].

    فهذه براءة من الشخص كلية، ومن كل أفعاله؛ لأن كل أفعاله كفر فخرج بها من الإسلام، وأحاط الكفر به من كل جانب.

    والبراءة الثانية: براءة من العمل، يعني: أن هذا العمل يشابه عمل الكفار، ففيه شبه من الكفار، ولكن الشخص كله ليس بكافر.والدليل على ذلك أولاً: قوله تعالى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء:216].

    فتبرأ من عملهم، فالبراءة من العمل لا تخرج صاحبها من الملة، لكن البراءة من الشخص كلية تخرجه من الملة.

    ثانياً: لما جاء خالد بن الوليد رضي الله عنه قوماً فقالوا: صبأنا صبأنا ولم يستطيعوا أن يقولوا: أسلمنا أسلمنا، فقتلهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد). ولم يقل: من خالداً، ولم يكفر خالد رضي الله عنه وأرضاه، بل هو سيف الله المسلول، وأسد من أسد الله.

    إذاً: تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعل خالد فتبين بهذا أن البراءة براءتان، وأن المقصود بها في حديث: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين) البراءة من العمل والفعل، لا البراءة من الدين. أو أن المقصود: البراءة مما هو عليه من كفر.

    قال الإمام الشافعي رحمه الله: الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزي واحد من الثلاثة إلا بالآخر، بمعنى: أنه لو قال دون أن يعمل فليس بمؤمن، ولو عمل دون أن يقول فليس بمؤمن، ولو لم يكن هناك نية -وهي: الاعتقاد الصحيح في القلب- فليس بمؤمن.

    يقول الإمام البخاري: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عمن قال: الإيمان قول فقط.

    1.   

    بيان أن الإيمان يزيد وينقص

    قال تعالى حاكياً عن إبراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].فهو عنده علم اليقين، ولكنه يريد أن يرى الطير المذبوح يطير أمامه، فهو يريد أن يصل إلى عين اليقين. فهذه دلالة على أن الإيمان يزيد.

    فأول المراتب: علم اليقين، ثم حق اليقين، ثم عين اليقين. فأنت الآن تعلم الجنة، وهذا علم يقين، وفي عرصات يوم القيامة ستعرف أنها حق اليقين، وبعد أن تدخلها -إن شاء الله- ستعرف أنها عين اليقين. فهذه هي الزيادة.

    وما كان دليلاً على الزيادة فهو دليل على النقصان.

    ومما يستدل به على أن الإيمان يزيد وينقص حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. فيقول الله عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية؟).

    فهذا دليل على أنه ينقص الإيمان حتى يصل إلى مثقال حبة أو ذرة أو خردلة من إيمان.

    وأيضاً روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يخرج من النار من كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة). وهذا دليل عن أن الإيمان ينقص، ويدل بالإشارة على الكمال.

    وأيضاً: روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم). وهذا دليل على زيادة الإيمان.

    وروى المؤلف أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب لله، وأبغض لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان). وهذا دليل على زيادة الإيمان.

    وأيضاً روى المؤلف بإسناده عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، إذ عرض علي عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: الدين). وهذا دليل على الزيادة والنقصان. ووجه الدلالة من الحديث: أن الدين قد يبلغ إلى الثدي، وقد ينزل إلى الحقو، وقد ينزل إلى الركبة.

    نسأل الله أن يجعلنا ممن يجر ثيابه إيماناً، كحال عمر رضي الله عنه وأرضاه.

    وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) وهذا دليل على أن الإيمان ينقص.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756246983