إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خلق أفعال العباد [2]للشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الله عز وجل خالق كل شيء بما في ذلك أفعال العباد من حركات وسكنات ومعاص وسيئات، ولكن ليس معنى ذلك أن العبد مجبور على فعله، بل قد جعل الله له مشيئة واختياراً، وفي سابق علمه سبحانه أن هذا طائع وهذا عاص، وقد ضلت الجبرية لما قالوا: إن الله أجبر العبد على الفعل فنسبوا إليه الظلم، سبحانه أن يظلم أحداً من خلقه.

    1.   

    خلق الله لأفعال العباد

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    ما زلنا مع القدر خيره وشره، وأنه ركن من أركان الإيمان، بل هو الركن السادس من أركان الإيمان، ولا يقبل إيمان عبد عند الله جل وعلا حتى يقابله وهو يؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الله جل وعلا إذا قدر على العبد أمراً فلا بد وأن يقع، وأن ما شاء الله في هذا الكون الشاسع وقع، وما لم يشأ لم يكن، بقدرته وعزته جل وعلا.

    من مراتب القدر:

    الخلق، ومعناه عموم خلق الله جل وعلا لكل شيء، فالله علم فكتب فأراد فخلق سبحانه وتعالى، والله جل وعلا خلق كل شيء، ومن هذا الشيء أفعال العباد، فما من شيء في الكون إلا وهو بإرادته ومشيئته جل وعلا.

    الأدلة على خلق الله لأفعال العباد

    خلق الله لأفعال العباد أمر دل عليه الكتاب والسنة، أما الكتاب فقد قال الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، ولفظ (شيء) نكرة في سياق الإثبات يفيد الإطلاق، وكل من ألفاظ العموم، أي: أن الله جل وعلا خلق كل شيء، ومن هذا الشيء فعل العبد من طاعة أو معصية.

    وقال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وهذا تصريح بأن الله خلق أفعال العباد.

    وقال جل وعلا: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43]، فالضحك والبكاء من خلق الله جل وعلا. هذا من الكتاب.

    أما من السنة فما رواه البخاري في خلق أفعال العباد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق كل صانع وصنعته)، وفي حديث آخر قال: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس)، ولذا قال البخاري : سكنات الإنسان، وحركاته، وأصواته، وحروفه، كلها مخلوقة لله جل وعلا، حتى قال: ووضع المرء يده على خده مخلوقة لله جل وعلا. هذا الدليل الأثري.

    أما من جهة النظر والعقل؛ فإن العقل الصحيح لا يخالف النص الصريح، فالعقل يدل على أن الله قد خلق فعل العبد، ففعل العبد صفة من صفات العبد، ودائماً نقول: الصفة تتبع الموصوف، فقولنا: محمد كريم، أي: الكرم صفة من صفات محمد، فلا يأتيه أحد إلا ويكرمه ويهش ويبش عند لقائه، إما أن يكرمه بكلمة طيبة أو بما عنده من علم ومال،

    ومحمد هذا مخلوق لله، فإذا كان الموصوف مخلوقاً لله فمن باب أولى الصفة التابعة للموصوف، فهي مخلوق لله، فالكرم الذي هو صفة تابعة للموصوف الذي هو محمد مخلوقة لله جل وعلا.

    إذاً: هذا فيه إثبات أن الله خلق كل أفعال العباد، حتى الفاحشة التي يفعلها العبد ويحاسب عليها خلقها الله، ويمدح الله جل وعلا أنه خلقها؛ لأن كل فعل ناتج عن الله كمال وجلال، فالشر والقبح والسوء ليست في فعل الله، حاشا لله، فهو ذو الجلال والكمال والإجلال.

    1.   

    أثر اعتقاد العبد بأن الله خلق أفعال العباد

    إذا علم العبد واعتقد في قلبه أن الله قد خلقه وخلق فعله من طاعة أو معصية، أثر ذلك فيه بأمور:

    أولاً: أن يعتقد العبد اعتقاداً جازماً أنه أفقر ما يكون إلى الله جل وعلا؛ لأن الله هو الذي خلقه وخلق فيه الخير والشر، وهيأ له سبب الخير والشر، فالعبد فقير بذاته إلى الله جل وعلا، فقير في أمر دينه إلى الله جل وعلا، فقير في أمر دنياه إلى الله جل وعلا، فهو فقير إلى أن يهتدي إلى الله جل وعلا، وأن يهديه إلى سواء السبيل وإلى الصراط المستقيم، فقير إلى أن يهديه إلى الإسلام ثم إلى الإيمان ثم إلى الإحسان، فقير إلى أن يهديه ثم يثبت الهدى فيه ثم يزيده هدى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، فقير إلى الله جل وعلا أن يعصمه من مضلات الفتن، فقير إلى الله جل وعلا في هذه الأزمنة التي كثرت فيها الفتن أن يثبته على الحق المبين أمام فتن تجعل الحليم حيران، لا يمكن لعبد أن يثبت إلا أن يثبته الله جل وعلا.

    فإذا علم العبد أن الله هو الذي خلق التثبيت فيه، وخلق فيه الهداية، فإنه يستقم بذاته إلى الله جل وعلا، ويدعو الله متضرعاً متمسكناً خاضعاً ذليلاً له سبحانه حتى يثبته، ويعصمه من مضلات الفتن.

    إن العبد فقير إلى الله في رزقه وفي كل شئون دنياه، ففي الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فهو فقير إلى الله حتى يستجلب الرزق الذي يكون له قوتاً وكفافاً، وإن زيد له فيتصدق به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في السنن: (قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافاً أو قوتاً، وقنعه الله بما أتاه)، فهو فقير إلى ربه أن يقنعه بما آتاه، فلا ينظر إلى غيره فيحقد عليه أو يحسده، وفقير إلى الله بأن يكون رزقه مالاً حلالاً ليس فيه سحتاً؛ حتى لا يأكل حراماً فيرفع يده إلى الله فيرد خائباً، مأزوراً غير مأجور، وفي الحديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فهو فقير إلى الله في كل أحواله، فإذا علم العبد أن الله خلق فيه أفعاله فهو فقير إلى ربه أن يجعل كل فعله رضاً لربه جل وعلا، كما قيل: إذا أردت أن تعلم مكانتك عند الله جل وعلا فانظر أين أقامك؟ فهو الذي يقيمك سبحانه.

    ثانياً: إذا علمت أن الله جل وعلا هو الذي خلق فعلك فلا يمكن أن يدخل العز إلى قلبك بعمل الطاعة، ولا يمكن أن تمن على ربك بطاعتك أبداً، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، فإن كنت قائماً بالليل فالله هو الذي أقامك، وأثمر في قلبك أن تقوم خاشعاً متذللاً ذاكراً إياه، وهو الذي خلق ذلك فيك فلا تمن عليه؛ لأنك تعلم أن الطاعة التي تقيمها هو الذي خلقها فيك، وأودع في قلبك أن تهتم برضا ربك جل وعلا، فلا يمكن لك أن تمن على الله بجهاد في سبيله، لأنك -ووالله الذي لا إله إلا هو- ما وضعت نفسك في ساحة الوغى، بل إن الله جل وعلا هو الذي أوضعك، وما دمت قائماً بالليل فإن الله جل وعلا هو الذي أقامك، وما جلست في درس علم تتعلم ما ينفعك وتكون من خيرة الناس كما بين النبي صلى الله عليه وسلم (خيرة الناس هم العلماء، وطلبة العلم)، فما كنت في هذا المجلس إلا بالله جل وعلا، فهو الذي وضعك، فلا تمن على ربك إن علمت أن الخير كله بيد الله وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، فالله جل وعلا هو الذي خلق فيك هذه الطاعة فاشكر ربك ولا تمن عليه.

    ثالثاً: إذا علمت بأن الله جل وعلا هو الذي خلق فيك الخير والشر فإنك ستدعوه ليل نهار وتذكره ليل نهار، متضرعاً بأن يعصمك من مضلات الفتن.

    إن أهل البدعة لا يريدون أن يتركوا أهل السنة ينعمون بعقيدتهم، ويعتقدون في ربهم أنه هو الذي خلق فيهم هذه الطاعة، ووفقهم إلى هذا الخير حتى لا يمنون على الله بإسلامهم كما قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [الحجرات:17]؟

    1.   

    أدلة القائلين بأن الله لم يخلق أفعال العباد والرد عليهم

    جاءت المعتزلة أهل التجهم والجبرية فردوا على الله ما أثبته في كتابه، وردوا على أهل السنة والجماعة اعتقادهم بأن الله هو الذي خلق فيهم هذه الأفعال، وقالوا: العبد خلق فعل نفسه، والطائع هو الذي أطاع الله، ولولا أنه أطاع الله ما أطيع الله جل وعلا، والعبد الذي يتصدق إنما يتصدق بنفسه أما الله فلم يوفقه لذلك، ولذلك كانت الجنة لنا أجرة وثمناً على أعمالنا، وعندنا على ذلك أدلة من الكتاب والسنة فمن الكتاب قول الله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، فأثبت أن هناك خالقاً غير الله جل وعلا، وهم العباد الذين خلقوا أفعال أنفسهم، ثم قالوا -تعالى الله جل وعلا عما يقولون علواً كبيراً-: إن الله جل وعلا جعل الجنة أجرة وثمناً للعمل، كما قال الله تعالى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، فإذا صلى وصام كانت أجرته الجنة، وقال جل وعلا: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43].

    والرد عليهم أن يقال لهم: إن أدلتكم هذه أوهى من بيت العنكبوت، وسوف نثبت لكم بالأدلة على أن الله جل وعلا خلق أفعال العباد، والله إذا قال صدق وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، فقد أثبت في كتابه أنه خلق أفعال العباد، وأثبت في سنة نبيه أنه خلق أفعال العباد، وأنتم قد نسيتم ما أثبته الله جل وعلا فاجترأتم على ربكم فوقعتم في المحظور الذي قاله الله تعالى عنه: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169] أما الأدلة على أن الله خلق أفعال العباد فهي:

    قول الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، ومن هذا الشيء فعل العبد، وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].

    والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله خلق كل صانع وصنعته)، فقد أثبت الله الخلق لنفسه، وأثبته له رسوله، وأجمعت الصحابة على ذلك، وأنتم خالفتم ظاهر الكتاب والسنة، وأيضاً إجماع الصحابة.

    الرد على استدلالهم بقوله تعالى: (فتبارك الله أحسن الخالقين)

    استدلالهم بقوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، مردود لأن الخلق يأتي على ثلاثة معاني:

    المعنى الأول: التقدير، بمعنى أن كل ما خلقه الله قدره، والله جل وعلا إذا قدر خلق، ولذلك قال الله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، ثم إن من الممكن أن يكون التقدير بمعنى الدراسة، والتي يسمونها دراسة جدوى.

    فأنت تقدر الشيء، وتحسب أن هذه تكون لها كذا، والمقدمة تكون كذا، والنتيجة تكون كذا، تقدر هذا كتابة، فهذه دراسة جدوى.

    الله جل وعلا يقدر وهو أحسن المقدرين؛ لأن الله إذا قدر شيئاً أخرجه لحيز الوجود لأنه قادر إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، أما العباد فقد يقدرون ويخططون لكنهم لا يستطيعون التنفيذ، ولذلك قال: (لأنت تفري ما خلقت) يعني: تخرجه لحيز الوجود، والبعض يخلق ولا يفري، يعني: يقدر ولا يخرج ما قدره إلى حيز الوجود. هذا المعنى الأول.

    إذاً: نرد عليهم بأن معنى: أحسن الخالقين أي: أحسن المقدرين.

    والمعنى الثاني: الإيجاد من العدم، وهذا ينفرد به الله جل وعلا، ولا يشترك فيه مع الله أحد، قال الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، أي: أوجدهم من عدم هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، فالله جل وعلا هو الذي خلقه من عدم.

    المعنى الثالث: التحويل من صورة إلى صورة، بمعنى: أنه إذا كانت الصورة خشبة فتحول إلى باب، وهذه يشترك فيها البشر، فيسمى المحول خالقاً لهذا الباب، وكذلك الحديد لو حول إلى سيارة، فهل هذا الخشب أو الحديد أنزله البشر من السماء؟

    الجواب: لا.

    فالنعمة تنسب إلى مسديها، وعلى هذا نقول: خلق الله العقل الذي فكر بالتحويل ثم هيأ له سبب ذلك، فوفقه إلى تحويل الحديد إلى سيارة.

    إذاً: الرد على استدلالهم بالآية الأولى: أن المقصود بمعنى الخلق في هذه الآية: التقدير، وأن الله أحسن المقدرين؛ لأنه الذي يخرج ما قدره إلى حيز الوجود، أو التحويل من صورة إلى صورة، ونحن لا ننكر أن البشر يحولون من صورة إلى صورة، وهذا من الإنصاف والعدل، فالله سماهم بالخالقين؛ لأنهم حولوا من صورة إلى صورة.

    الرد على قولهم بأن الجنة ثمن للعمل

    أما الدليل الثاني الذي استدلوا به وأن الجنة تعتبر ثمناً لأعمالهم، وأن الذي يصلي ثمنه وأجرته الجنة، فنقول: لو أن الله عذب أهل السموات والأرض .. الطائع، والصالح، والفاسق، والفاجر، والكافر لما كان ظالماً، فهو يفعل فيهم ما يشاء لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، والجنة ليست ثمناً للعمل، ودليل ذلك قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) لكن العمل سبب في الوصول إلى رحمة الله ودخول الجنة، وليس ثمناً لها.

    الأدلة على إثبات مشيئة العبد

    إذا كان الله خلق أفعال العباد، وهو الذي خلق فيهم الطاعة، وخلق فيهم المعصية، فأين العبد، وأين فعل العبد؟ فهل للعبد أن يقول: يا رب أنا عصيت، وأنت الذي خلقت في المعصية، أو يقول: يا رب أنت قدرت عليّ المعصية والسرقة، وخلقت في وازع المعصية؟ فهل للإنسان أن يفعل ذلك ويحتج بالقدر، أو هل ينسب للإنسان فعله حقيقة فيثاب عليه أو يعاقب، أم ينسب إليه مجازاً؟

    الجواب: ليس للإنسان أن يفعل المعصية، ويحتج بالقدر، ففعله ينسب إليه حقيقة، فيثاب على الطاعة، ويعاقب على المعصية.

    والأدلة على هذا نقلية وعقلية، أما النقلية فالله جل وعلا بين أن للعبد مشيئة، وإرادة، واختياراً، وعملاً، قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]، فجعل الكسب لهم، وأيضاً قال الله تعالى: تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]، فنسب العمل لهم، وقال جل علا: أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [البقرة:277]، فهم الذين فعلوا ذلك، وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة، وأيضاً قال جل وعلا: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ [المدثر:55]، فجعل لهم مشيئة وإرادة، وقال الله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، فأثبت لهم إرادة، وقال جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، وقال جل وعلا أيضاً في المشيئة التي هي مقاربة للإرادة: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وقال تعالى: أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17] باختيارهم.

    فهذه أدلة متوافرة متواترة في كتاب الله على أن للعبد عملاً، وكسباً، وإرادة، واختياراً، ومشيئة.

    أما من السنة فقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم للعبد إرادة واختياراً وفعلاً، فقال الله صلى الله عليه وسلم (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، فأضاف التزوج للعبد، فهذا فعل من أفعال العبد، وقال أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع فليكثر من ذلك عبد أو يستقل)، فجعل الإكثار من فعل الطاعات أو الإقلال منها من فعل العبد، وأيضاً قال لمولاه الذي قال له: أسألك مرافقتك في الجنة: (أعني على نفسك بكثرة السجود) فكل هذه أدلة من السنة على أن العبد فاعل مريد مختار له مشيئة وإرادة خاصة به.

    أما الدليل النظري العقلي فإن الله قد كلف عباده بتكاليف، وجعل الثواب لمن فعل هذه التكاليف، والعقاب لمن لم يفعلها، فبالعقل نقول: الثواب والعقاب مقابل عمل، وإرادة، واختيار، وإلا فلو قلنا: إن الله جل وعلا يثيب أو يعاقب على ما لا يفعل العبد فهذا ظلم، والله جل وعلا منزه عن الظلم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً) إذا: الله جل وعلا جعل للعبد اختيار الفعل، وجعل له في النهاية ثواباً وعقاباً على فعله، ولو كان الثواب أو العقاب على غير الفعل كان ذلك ظلماً، والله منزه عن كل نقص أو ظلم.

    الجمع بين مشيئة الله ومشيئة العبد

    إذا قلنا: إن الله هو الذي خلق فعل العبد، وإن العبد له فعل خاص به، وله اختيار، فكيف نجمع بينهما؟ يعني: إذا صليت أنت الظهر فإن الله خلق فيك وازعاً وإرادة لصلاة الظهر، ثم إنك أنت الذي صليت الظهر، فالفعل ينسب إليك.

    والجمع بين هذا وذاك أن الفعل ينسب إلى الله جل وعلا خلقاً وإيجاداً، وينسب إلى العبد فعلاً واكتساباً، بمعنى: أن الله جل وعلا هو الذي خلق فيك إرادة الصلاة، ووفقك لوقت الصلاة، وهيأ لك كل أسباب الصلاة لتصلي، وأنت الذي صليت، فنسبت الصلاة إليك كفعل واكتساب، والله جل وعلا هو الذي خلق ذلك فيك من عدم، وقديماً قالوا: العبد فاعل منفعل.

    ومعنى: العبد فاعل أنه هو الذي يتدبر، ويجاهد، ويطلب العلم، ويصلي، ويتزوج، ويزني، ويسرق، ويغتاب، وينم.

    ومعنى: العبد منفعل أن الله جل وعلا هو الذي خلق فيه إرادة الصلاة، وطلب العلم، والزكاة، والجهاد، وعلم منه سابقاً عدم حب الهدى، فخلق فيه إرادة الزنا، والسرقة، وفعل الفاحشة، والغيبة، والنميمة، وفتح له هذه الأبواب، وأغلق عليه أبواب الخير كلها.

    إذاً: العبد فاعل حقيقة، ومنفعل، أي: خلق الله فيه إرادة هذا الفعل، فالفعل لا ينسب إلى الله على أنه فعله، وإنما أثر من فعله، فالزنا والسرقة مثلاً بالنسبة لله تسمى مفعولات وآثاراً، لكن بالنسبة للعبد تسمى فعلاً، فالصلاة، والصيام، والصدقة، والزنا، والسرقة، والغيبة، والنميمة، تسمى بالنسبة للعبد فعلاً، وبالنسبة لله جل وعلا مفعولات، وتنسب للعبد لأنه فاعل مكتسب، ولله جل وعلا لأنه الخالق الموجد.

    فالفعل خلق لله، والعبد فاعل، فهو أثر الله، والمفعول غير الفاعل، فإذا قلت: خلق الله الزنا، فبالنسبة له هو خلق يحمد عليه؛ لأنه كمال وجلال، ولأنه فعله لحكمة عظيمة، أما الزاني والفعل فهو مفعول وأثر لخلق الله جل وعلا وليس فعلاً له، بل فعل للعبد حقيقة، وهذا كقول الله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:78-79]، ففي الآية الأولى قال: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78]، فلم يفرق بين الحسنة والسيئة، وفي الآية الثانية أعاد التفريق فقال: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].

    وقوله: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ [النحل:53]، أي: أن أي نعمة أنت تنعم بها من طاعة أو حسنة فمن الله، وقوله: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، فهذا من مفعولات الله.

    ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ، قال: كتبها وقدرها عليك وعلمها قبل أن توجد بخمسين ألف عام، فيعلم أنك ستقترف السوء، ثم تأتيك البلية بسبب هذا السوء، ولذلك يقال: ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة.

    فكيف الجمع بين هذا وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، وحديث: (والشر ليس إليك)، فهل قضاء الله شر، وهل ينسب الشر إلى الله جل وعلا مع أنه خلقه أم لا؟

    الجواب هو أن الفرق بين الإرادة الكونية والشرعية أن الكونية فيما يحبه الله وما لا يحبه، وأنه سيقع حتماً لا محالة، والشرعية خاصة فيما يحبه الله، وقد يقع وقد لا يقع، كما في قوله تعالى: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ، فالسيئة لا تنسب إلى الله؛ لأنه لا يحبها، وقد تلتقي المحبة مع القضاء الكوني، فإيمان أبي جهل يحبه الله شرعاً، ولا يحبه كوناً.

    أثر علم العبد بأنه فاعل الطاعات والمعاصي على إيمانه وعبوديته

    إذا علم العبد أنه هو الفاعل حقيقة للطاعات أو المعاصي كان لذلك العلم آثاراً في إيمانه وعبادته وهي كالتالي:

    أولاً: إذا علم ذلك فإنه لا يمكن له أن يحتج بالقدر على المعائب، فإذا عصى الله لن يقول: قدر الله علي، أو كتبه عليّ قبل أن يخلقني بخمسين ألف عام، فالقدر لا يحتج به على المعائب ولا على المعاصي.

    ثانياً: إذا علم أنه فاعل ومريد فلا بد أن يحترز من كل معصية وخطأ وزلل، وكلما نزلت عليه فتنة قال: هذه مهلكتي حتى ينقذه الله منها، ويسارع في الخيرات، ولسان حاله يقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] فلعل الله يرضى عنه.

    1.   

    إبطال عقيدة أهل الجبر

    أما أهل البدعة من الجبرية فقد قالوا بالجبر، وقالوا: العبد فاعل مجازاً لا حقيقة، وكل هذه الآيات والأحاديث لا تدل على أن العبد فعل الفعل، بل مجبور، وإبليس لم يسجد طاعة لله، ولم يجبره الله على ذلك، وجبريل سجد طاعة لله؛ لأن الله أجبره على ذلك، فإبليس وجبريل سواء عند هؤلاء البله السفهاء.

    ثم قالوا: العبد ليس بفاعل حقيقة، وعندنا على ذلك أدلة كثيرة:

    أولاً: قال الله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، فقد نفى الله الرمي عن العبد ونسبه له.

    ثم استدلوا بحديث (لن يدخل الجنة أحدكم بعمله) على أنه لا اعتبار لفعل العبد؛ لأنه مجبور على فعله.

    فعندما يشرب أحدهم الخمر، إذا قيل له: اتقي الله، فقد لعن الرسول في الخمر عشرة فيقول: هذا ما قدره الله عليّ، وقد ذكر أن رجلاً قدرياً دخل على امرأته فوجد عليها رجلاً آخر فقال: هكذا تفعلين؟ فقالت: اسكت! قدر الله عليَّ هذا، فقال: نعم قدر الله عليك هذا! فتركها تفعل ما تشاء، وهذا فعل لا يقبله مجنون.

    ولما جاء سارق إلى عمر بن الخطاب قال: مهلاً يا أمير المؤمنين! والله! ما سرقت إلا بقدر الله.

    فقال: وأنا أقطع يدك بقدر الله.

    وهكذا فهم يحتجون بالقدر، والرد عليهم يكون كالتالي:

    أولاً: أن الله أثبت أن العبد قادر، وله مشيئة وإرادة واختيار، وذلك في الكتاب والسنة والنظر، وقد سبق ذكر ذلك تحت عنوان الأدلة على إثبات مشيئة العبد. أما آية: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، فقد نفى الله فيها الرمي وَمَا رَمَيْتَ ، ثم أثبته مرة ثانية فقال: إِذْ رَمَيْتَ ، يعني: أنت رميت وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ، فالله تعالى أثبت له الرمي ولكن هناك شيء بعد الرمي ومتعلق به، وهو الإصابة والتسديد والتوفيق، فمهما ترمي يجوز أن تقع في عينه لكن لا تفقأ عينه إلا أن يقدر الله.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ التراب ورماه، وقال: (شاهت الوجوه) وليس يمكن أن تصل إلى الوجوه، فهذه حفنة من التراب رماها في وجوه هؤلاء الكفرة ولا يمكن أن تصل إليهم بهذه الدفعة البسيطة، ولكنها بتوفيق من الله أصابتهم، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى .

    يصدق ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم (بك أصول، وبك أجول، وبك أقاتل)، أي: أنت الذي تسبب وتوفق.

    فدليلهم باطل، ولازم دليلهم أيضاً باطل، ولو قلنا بقولكم وهو نفي الفعل حقيقة فسوف نقول: وما زنيت إذ زنيت. ولكن حاشا لله، وما تركت إذ تركت. ولكن حاشا لله، وما ضربت إذ ضربت. ولكن حاشا لله، وسوف تتهموا الله جل وعلا وترموه بالعظائم حاشا لله، فلا بد أن نقول: إن المنفي هنا هو التسديد والتوفيق.

    وأما استدلالهم بحديث (لن يدخل الجنة أحد بعمله)، على أن العمل ليس له أي اعتبار عند الله، فدل هذا على أن هذا الفاعل فاعل مجازاً لا حقيقة؛ لأن العمل ليس عليه ثواب ولا عقاب، فيدخل الله من يشاء الجنة، ومن يشاء النار.

    فالجواب عليه بأن المنفي هنا هو أن يكون العمل ثمناً لدخول الجنة، فالعمل إنما هو سبب في وصول الرحمة إلى العبد، والعمل إنما هو من أجل التفاوت في الدرجات في الجنة، فهذا شهيد وهذا عالم، ولكل واحد منهم درجة معينة.

    ولذلك قال: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ ، أي: بسبب أنكم فعلتم الخير وصلت إليكم الرحمة، ودخلتم الجنة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755945778