وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: باب جماع توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه، وأنه حي قادر عالم سميع بصير متكلم مريد باقي.
التوحيد هو أشرف العلوم، وشرف العلم من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا.
وقد ضلت فرق كثيرة في باب توحيد الله جل وعلا، فمن الفرق الضالة الذين قالوا: إن التوحيد هو الإقرار بوجود الله فقط، فمعنى توحيد الله جل وعلا عندهم: هو أن تقر أن الله جل وعلا موجود، أو أن الله هو رب الكون وخالق الكون ورازق الكون، وهذا تفريط في باب التوحيد.
ومن هذه الفرق الذين قالوا: إن التوحيد هو وحدة الوجود، وهؤلاء هم غلاة الصوفية الحلولية كـابن سبعين وابن عربي ، حيث قالوا: ما في الجبة إلا الله، ولا فرق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق هو الخالق، والخالق هو المخلوق!!
القسم الأول: توحيد المعرفة والإثبات أو التوحيد العلمي الخبري عن طريق السمع والتوقيف، وهو توحيد الله جل وعلا بأفعاله أو فعل الرب تجاه العبد وهو أن تعتقد أن لربك جل وعلا أسماء حسنى وصفات علا كلها جلال وكمال، وأن تعتقد أن خالق الكون ورازقه ومدبره هو الله جل وعلا، وهو السيد المطاع الآمر الناهي الذي له حق التشريع وحق الأخذ والإعطاء، وأنه يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
القسم الثاني من أقسام التوحيد: توحيد القصد أو توحيد الله بأفعال العباد، وهو توحيد الإلهية، وهو أن تفرد الله جل وعلا بالذبح والنذر والقسم والتذلل والخضوع والدعاء والتضرع، فهذا لا يكون إلا لله جل وعلا.
إذاً الفرق بين الصفة والاسم: أن الصفة علم يدل على معنى قائم بذات الله، سواء كانت هذه الصفة متعلقة بالمشيئة أو كانت أزلية أبدية، أما الاسم فهو علم يدل على ذات الله جل وعلا.
والصفات نوعان: صفات ثبوتية وصفات سلبية، فالصفات الثبوتية هي ما أثبتها الله لنفسه في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فأسماء الله وصفاته لا يمكن أن تكون إلا من الكتاب أو من السنة ولا مدخل لاجتهاد الصحابة أو غيرهم فيها، فهي توقيفية من الوحي سواء كان الكتاب أو السنة.
وتنقسم الصفات الثبوتية إلى ثلاثة أقسام:
الأول: صفات فعلية، وضابطها أنها تتعلق بالمشيئة، كالضحك والرضا والغضب والمجيء والاستواء، فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل.
الثاني: صفات ذاتية أزلية أبدية، لا تنفك عن الله فهي منذ الأزل وإلى الأبد، مثل الحياة والقدرة والعزة والكبرياء.
القسم الثالث من الصفات الثبوتية: صفات خبرية، وهي بالنسبة لنا أجزاء وأبعاض، كالعين فهي جزء، ولكنها بالنسبة إلى الله صفة من صفات الكمال والجلال يتصف بها الله جل وعلا، واليد كذلك، قال الله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10].
وأما الصفات السلبية فهي: الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه في كتابه أو نفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهذه الصفات ننفيها مع إثبات كمال الضد؛ لأن صفات الله كلها كمال وجلال ومدح، والنفي المحض لا يليق بالله، وليس من الأدب معه سبحانه، فلو دخل رجل من عامة الناس إلى الملك أو إلى الحاكم فقال له: أنت لست بسارق ولست بزان ولست بكافر ولست بكذا... لكان هذا تنقيصاً وليس بمدح له؛ لأن المدح: هو أن تنفي الصفة مع ثبوت كمال الضد، كقول الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] واللغوب: التعب، وما مسه من لغوب لكمال قوته وقدرته وعزته، ولا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميته جل وعلا.
وحتى نفرق بين الاسم والصفة والخبر نقول: ما معنى حسنى؟ يعني أن هذا الاسم يتضمن صفات كمال أخرى، قال الله تعالى مثلاً: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] فالحي اسم من أسماء الله جل وعلا، وهو علم يدل على ذات الله جل وعلا، ويتضمن صفة كمال وهي صفة الحياة، والحي يستلزم أن يكون قادراً مريداً متكلماً قوياً قاهراً، فهذه صفة تستلزم صفات أخرى.
وإذا قلنا بأن أسماء الله حسنى فلا بد أن نفرق بينها وبين الخبر عن الله جل وعلا بما ليس فيه حسن أو كمال كالوجود مثلاً، قال الله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام:19] فـ(الله) هنا بدل عن شيء، ولذلك قال البيهقي : الله اسمه شيء، وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك من باب الخبر كمن يقول عن الله جل وعلا: موجود، وليس صحيحاً أن يسمي الإنسان نفسه عبد الموجود أو عبد الشيء، وليس معنى موجود أن هناك من أوجده، بل هو خبر وليس اسماً من أسمائه.
والفرق بين الاسم والخبر: أن الخبر لا يدعى به الله عز وجل والاسم يدعى به، تقول: يا حي، يا رازق ارزقني، يا كريم اكرمني، لكن لا تقل: يا موجود أوجدني أو أعطني أو يا شيء ارحمني، فالأخبار لا يدعى بها، وبابها أوسع بكثير من باب الأسماء.
والفرق الثاني بين الاسم والخبر: أن الأسماء كلها حسنى، أما الأخبار فلا تصل إلى الحسن الذي بلغته الأسماء، ولكنها لا تنزل إلى السوء، وهذا الضابط ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وفرق به بين الخبر وبين الاسم.
وهناك من الجهلة من يقول في قول الله تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87]: الروح جزء من الله جل وعلا، ولو قلتم رحمة فهذا تأويل، وهذا جهل مركب، ومنهم من يقول: إن من أسماء الله الصاحب والخليفة، واستدل على ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل)، وهذا ليس صحيحاً فالخليفة يمكن أن يكون خليفة سيئاً ويمكن أن يكون خليفة حسناً، ولا يوجد في الدنيا من يسمي ابنه عبد الصاحب، فالأخبار عن الله بابه أوسع، أما الأسماء فكلها أسماء حسنى.
ومن الفوارق بين الأسماء والأخبار أن الأسماء توقيفية من الكتاب أو من السنة فقط، أما الأخبار فمن الممكن ألا تكون توقيفية فتخبر عن الله بما في نفسك.
قال المصنف رحمه الله: حي قادر، القدرة صفة ذاتية أزلية أبدية، لا تنفك عن الله، وقدرة الله أحاطت بكل شيء، فما يشاؤه الله فهو قادر عليه، وما لم يشأه فهو أيضًا قادر عليه، وهذا يبين لنا خطأ من يقول: إن الله على ما يشاء قدير، فهذه كلمة خاطئة ترد على صاحبها، بل الله جل وعلا قادر على ما شاء وما لم يشأ، فكلمة: إن الله على ما يشاء قدير كلمة خاطئة لا بد أن يجتنبها طالب العلم، فالله أحاطت قدرته بكل شيء: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. فالقول بأن الله على ما يشاء قدير مفهوم المخالفة أن ما لم يشأه لا يقدر عليه، وأما قول الله: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29] فهي مرتبطة بالسياق، كقوله: أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
كذلك علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون بالمستحيل وبالممكن، قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:27-28] ثم بين الله جل وعلا أنه من المستحيل أن يرجعوا إلى الدنيا، وإن رجعوا إلى الدنيا وهذا مستحيل فقد علم الله أنهم سيعودون إلى ما نهوا عنه: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28] وهذا في المستحيل، وفي الممكن أيضًا علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، قال الله تعالى عن المنافقين: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ التوبة:47] فليس من المستحيل أن يخرجوا، والله جل وعلا يقول: ولو خرجوا فيكم لأوهنوكم ضعفاً، وقال الله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23] فعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون.
جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سبحان الذي وسع سمعه كل الأصوات! والله إن خولة بنت ثعلبة جاءت تشتكي إلى الله وإلى رسوله من زوجها وأنا في ناحية البيت بجانبها يخفى عني بعض حديثها، والله جل وعلا أنزل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] وهو فوق عرشه فوق السماوات السبع سبحانه وتعالى. فسمع الله أحاط بكل شيء. وهو بصير، وبصره نفذ في كل شيء كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: (حجابه من نور لو كشفه لأحرقت سبحات -يعني أنوار- وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وبصر الله ينتهي إلى كل خلقه؛ لأن الله تبارك وتعالى أحاط بكل شيء رؤية جل وعلا.
وهو متكلم، وهذه صفة فعلية، والصحيح الراجح ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية : هي ذاتية النوع، أي: الأصل، لكنها فعلية الآحاد، أي: أن الله جل وعلا في الأصل متكلم، لكن يتكلم إذا شاء بما شاء وكيفما شاء.
قال الله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] هذه إرادة كونية فقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فيه شيء يحبه الله، وهذه إرادة كونية، والله جل وعلا إذا شرح صدر عبد لا مرد له، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وإذا أضل الله عبداً لن تجد له هادياً.
والقاعدة: كل اسم صفة ولا عكس، فهناك صفات لا يمكن أن تشتق من الأسماء كقول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فصفة الاستواء لا يشتق منها اسم المستوي.
وفي الصحيح: (عن
وأمرهم أن يتدبروا بالعقل في الملكوت العلوي والسفلي فقال: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق:6-8]، وقال: وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الحجر:19]، فالعقل محترم يتدبر في آلاء الله جل وعلا وآياته، ولا بد أن يكون موافقاً لشرع الله جل وعلا. وقد بين الله جل وعلا قيمة العقل والتدبر وذلك بالحجج العقلية التي رماها للمشركين حتى يتدبروا فيها، قال الله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:35] أي: انظروا وتدبروا هل خلقتم من غير شيء؟ وهل العدم يخلق شيئاً؟ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] فلا يمكن أن يقول عاقل: إنه خلق نفسه أو خلق غيره، ثم ارتقى إلى أعلى من ذلك فقال: أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الطور:36]، وقال الله تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].
ومن الأدلة على احترام العقل والحجج العقلية: دليل التمانع، قال الله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] أي: لو تدبروا فإما أن يكون للكون إله واحد أو آلهة كثر، ولو كان آلهة كثر فكل إله سوف يخاصم الإله الآخر ويأخذ خلقه ويذهب، أو يصارع، قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء:42]، فصاحب الشمس أو القمر سوف يتخاصم مع صاحب السماء حتى يتملك الكل، كما يتنازع ملوك الأرض، فإن غلب أحدهما على الآخر فالمغلوب لا يكون رباً، لأن الرب لا يكون ضعيفاً، فإن لم يظهر أحد يبتغي إلى ذي العرش سبيلاً فلابد أن يكون واحد هو المدبر وهو الخالق لهذا الكون، وهذا دليل عقلي، وهو دليل على احترام العقل؛ لكن العقل لا يمكن أن يقدم على النقل ولا على الشرع، فمرتبته الثانية بعد الشرع، وإذا قلنا: إن الله يعرف بالعقل، أو إن العقل يقدم على النقل، فسيلزم من ذلك لوازم باطلة، وأول شيء منها إهمال مهمة الرسل، والله جل وعلا ما أرسل الرسل إلا ليدللوا عليه، فإذا قلنا: عرفنا الله بالعقل فلا نحتاج إلى رسول، وهذا مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وقال: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [النساء:165] فأرسلهم الله ليدلوا الناس عليه، وكما أن القول بأن الله يعرف بالعقل يفضي إلى إلغاء مهمة الرسل، فإنه يفضي إلى القول بأنه لا معنى لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
ومن لوازم تقديم العقل على الشرع وأن الله يعرف بالعقل: تقديم العقل على الشرع في أحكام الفروع الفقهية وتكذيب بعض الأحاديث كحديث المسح على أعلى الخفين، فإن الأسفل هو الأولى بالمسح.
وقد رد البعض حديث الذبابة الذي فيه أن في أحد الجناحين داء وفي الآخر دواء، وكل ذلك من لوازم تقديم العقل على النقل، حيث قالوا: قد عرفنا الله بالعقل، وبقية الأحكام كذلك نعرفها من باب أولى بالعقل.
واللازم الثالث من تقديم العقل على الشرع: التجاوز فيما يجوز لله وما لا يجوز كقولهم: إن الله لا يصح أن يكون له يد لأن اليد جارحة، وإذا قلنا: إن الله له جارحة فقد ضاهيناه بالمخلوق وشبهنا الخالق بالمخلوق، وكقولهم كذلك: لا يصلح أن يكون لله عين لأنها جارحة، وإذا قلنا بذلك فقد شبهنا الخالق بالمخلوق، وقالوا بأن هذه تجاوزات عقلية وإبطال لهذا العقل، وليس ذلك صحيحاً بل إن العقل له رتبته بعد الشرع.
فهذا الباب من أهم الأبواب في هذا الكتاب، وهو باب سياق ما يدل على وجوب معرفة الله وصفاته وأسمائه بالشرع لا بالعقل، والعقل يوافق الشرع، كما قال شيخ الإسلام : العقل الصحيح لا يخالف نصاً صريحاً صحيحاً مفهوماً.
القول الأول في هذه المسألة قول اللالكائي وتبعه على ذلك البغوي والقرطبي فقالوا: إن الاسم هو المسمى وعندهم أدلة قوية، منها قول الله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] فإذا قلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] فأنت تسبح الذات المقدسة ذات الله جل وعلا، وقال الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] أي: اعبد ذات الله المقدسة.
القول الثاني: قول ابن حزم وابن حجر وقول المعتزلة وهو أن أسماء الله غير الله، وهي أسماء مخلوقة، واستدلوا على ذلك بلغة العرب وهو أنك إذا قلت: يا محمد (م ح م د) فهذه الحروف عربية، وكذلك قولك: الله (ألف لام هاء) أو الرحمن (ألف لام راء حاء ميم نون) فهذا لفظ عربي، فاللفظ غير المسمى، وهذا كلام المعتزلة، والحافظ ابن حجر وابن حزم .
أما أهل الوسطية المدققون المحققون من أهل السنة والجماعة فقالوا: كلمة الاسم هو المسمى تحتمل حق أو تحتمل باطل، فالاسم هو علم على ذات الله جل وعلا، تارة يراد به الذات الإلهية المقدسة، وتارة يراد به الحروف واللفظ العربي، فيراد به الذات المقدسة إذا أمرنا كقول الله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] أي: سبح باسم ذات الله جل وعلا، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] أي: اسجد واركع واستغفر وتضرع وتذلل للذات الإلهية المقدسة لا للفظ والاسم، أما إذا قلت: الرحمن اسم عربي فهذا يراد به الحروف واللفظ، وإذا قلت: الكريم اسم من الأسماء العربية، فيقصد به الحروف واللفظ كذلك.
فالمحققون من أهل السنة والجماعة قالوا: يراد بالاسم الذات العلية وتارة يراد به اللفظ، وكل شيء يوضع في موقعه، فإذا أريد به الذات العلية يكون بالذات العلية المقدسة، وإذا أريد به الألفاظ والحروف يكون باللفظ.
فاللفظ العربي (الرحمن) هو بالحروف العربية: (الألف واللام والراء والحاء والميم والنون)، لا يقصد بها الذات العلية، فقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ [الإسراء:110] أي: الذات الإلهية، ولو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم، فالمقصود بذلك الذات الإلهية، وإذا أطلق الاسم فإنه يدل على الذات العلية المقدسة.
وقوله تعالى: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن:1-2] أي: أن الذات الإلهية علمت القرآن.
إذاً: قول اللالكائي بأن الاسم هو المسمى فيه شيء من الحق ولكنه ليس صحيحاً؛ لأنه قد يراد بالاسم غير المسمى، وإذا قلنا بقول الحافظ ابن حجر وهو أن أسماء الله غير الله أو أنها أسماء مخلوقة على الإطلاق فيلزم من ذلك لوازم باطلة، وهي أن الله أمرنا أن لا نشرك به شيئاً فقال سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، فيكون قد أمرنا أن نعبد غيره وهو الاسم المخلوق، وقد أمرنا الله إذا ذبحنا ذبيحة ألا نأكل منها إلا بعد أن نسمي الله فقال سبحانه: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَِ [الأنعام:121] فإذا قلت: بسم الله الرحمن الرحيم كأنك سميت غير الله، وهو اللفظ المخلوق، وأكلت ذبيحة مسمى عليها غير الله جل وعلا.
ومن اللوازم الباطلة: أن الله جل وعلا أمرنا أن لا نقسم بغيره، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن القسم بغير الله شرك، فقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، فإذا قلنا: إن أسماء الله غير الله يلزم منه أن من يقسم بالكريم أو العليم أو الرحمن فقد أشرك؛ لأنه أقسم بغير الله جل وعلا!
وقولنا: إن الحافظ أخطأ ليس فيه ضير، فمن الذي له الحسنات ولا يخطئ قط، والمعصوم هو من عصمه الله، والحافظ من أساطين العلم ومن أهل السنة والجماعة ولكن أبى الله أن يعصم أحداً إلا رسوله، وما من أحد إلا ويصيب ويخطئ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا هو صلى الله عليه وسلم، وقد أخطأ مالك والشافعي وأبو حنيفة وهم جبال بالنسبة للحافظ ابن حجر ، فأخطئوا ورد عليهم خطؤهم، ونحن لا ننتقص من قدر الرجل لكن نقول: لا معصوم إلا من عصمه الله جل وعلا وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر