وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
إن الله جل في علاه أناط الشرف والقيادة والسيادة والريادة لهذه الأمة بهذا الكتاب، حيث قال جل في علاه: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10] أي: إن شرفكم وعلوكم وسيادتكم وقيادتكم وريادتكم لا تكون إلا بالكتاب.
ووافقت هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي) ألا وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والسنة لا يمكن أن تفترق عن الكتاب، فكتاب الله هو عز هذه الأمة، والتمسك بكتاب الله شرف هذه الأمة، والقيادة والسيادة والريادة لا تكون إلا بهذا الكتاب، ولذلك قال عمر بن الخطاب عندما أرسل باعثه إلى مكة وجاء له بالوالي فقال له: من تركت أو من خلفت في مكة؟ قال: فلاناً من الموالي، قال: أتركته يتسيد عليهم؟ قال: إنه يحفظ كتاب الله ويعلم الفرائض، فقال له عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويخفض به آخرين).
فالناس يرتفعون لفهمهم كلام الله جل في علاه ومراد الله في كتابه، وهذا لا يكون إلا باللغة العربية، ولذلك فإن عمر بن الخطاب كان يضرب بالدرة على ذلك، ويقول: تعلموا العربية فإنها لغة القرآن.
ونحن أعاجم لسنا بعرب، فكثير من كلمات المصنفين لا نستطيع أن نعرف معانيها إلا بالرجوع إلى المعاجم اللغوية، فاللغة العربية لها أهمية قصوى؛ لأنها من علوم الآلة التي بها استقامة اللسان، واستقامة اللسان ممدحة في الشرع، وكذلك العقل عن الله جل في علاه وفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واللغة العربية فيها التقديم والتأخير، فيتقدم المفعول على الفاعل والخبر على المبتدأ، وهذا يجعلك تتوسع في فهم كلام الله جل في علاه، فعندما يقرأ القارئ قول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فإن لم يعرف المفعول من الفاعل ولم يعرف سهولة هذه اللغة التي فيها التقديم والتأخير، وأن هذا التقديم فيه أسلوب الحصر، فإنه لا يعرف مراد الله جل في علاه، فيتعجب العامي من سماع هذه الآية ويقول: إن الله يخشى منهم؟ فهذا من الفحش؛ لأنه أخطأ ولم يتعلم العربية، فلو علم أن المفعول يتقدم على الفاعل علم معنى الآية، فـ(الله) لفظ الجلالة مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، والعلماء: فاعل، فهم الذين يخشون الله جل في علاه.
ومن ذلك قول الله تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا [الحج:37].
فالتقديم والتأخير عندما يعرفه المسلم فإنه يفهم ويعقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مراده، ولذلك كان من الأهمية تعلم اللغة العربية، وكانت العرب قبل الإسلام أصحاب سليقة وفصاحة وبلاغة وشعر، فكان لهم علو كعب في اللغة العربية، وجاء الإسلام بفضل الله وبهذا الكتاب العظيم الذي ينظم ويرتب هذه اللغة ويجعلها في زيها الجميل الذي نراه الآن، والدين كله كان في الجزيرة العربية.
من هنا قال العلماء: إن عمر بن الخطاب أمر أبا الأسود الدؤلي أن يبدأ في وضع قواعد النحو والصرف.
وبعض العلماء قال بأن علي بن أبي طالب هو أول من أشار على أبي الأسود أن يضع القواعد في اللغة، ولا مشاحة في ذلك، فاللغة قد وضعت لها القواعد سواء بأمر عمر أو علي أو بسبب أبي الأسود الدؤلي.
ومهبط وضع قواعد اللغة كان في البصرة، وأهل العراق عندنا فرسان الميدان في اللغة وفي غيرها، فاللغة أصالة مهبطها البصرة، ولذلك ترى كثيراً من المتمكنين يقولون: واختلف في هذه المسألة البصريون والكوفيون فأول علماء اللغة برعوا في البصرة، ثم تتلمذ على أيديهم أهل الكوفة، وأصبح الخلاف بين أهل الكوفة وأهل البصرة.
فالأولى: (القرآن كلام)، القرآن مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
والثانية قال الله تعالى عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن:2] فالقرآن: مفعول به منصوب وعلامة النصب الفتحة الظاهرة على آخره.
والثالثة: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ [الإسراء:82] فالقرآن اسم مخفوض وعلامة خفضه الكسرة الظاهرة على آخره.
أيضًا نقول: يشرب محمد اللبن، ولن يشربَ محمد اللبن، ولم يشربْ محمد اللبن.
فيشربُ الأولى: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره؛ لأنه لم يسبقه ناصب ولا جازم.
ولن يشرب: فعل مضارع منصوب؛ لأنه سبقه ناصب وهو لن.
ولم يشرب: فعل مضارع مجزوم بالسكون؛ لأنه سبقه جازم وهو لم من أدوات الجزم.
فعلم النحو يبين لنا هذا التغيير ويفسره التدريب العملي، قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29]، وقول المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً)، فالأولى محمدٌ والثانية محمداً، والثالثة محمدٍ، فالأولى مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، والثانية اسم أن منصوب وعلامة نصبه الفتحة، وأن حرف نصب، والثالثة اسم مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره، والعامل هو الباء حرف الجر.
أي: الكلام في اللغة له قيود وشروط، حتى إذا أتتك الكلمات مضمومة مع بعضها تقول هذا كلام، فالكلام له معادلة رياضية، وهي لفظ + مركب + مفيد + بالوضع.
فشروط الكلام: أن يكون لفظاً مركباً مفيداً بالوضع، أي وضع اللغة العربية، فالشرط الأول أن يكون لفظاً: فاللفظ لا بد له من صوت يسمع وحرف، فخرج بذلك الإشارة والكتابة، فإشارة السيد إلى عبده، أو المدير إلى الفراش، أو إلى عامله أو إلى ساعيه، فإنها معروفة ومفهومة عند الناس، يستفاد منها أمره بالمجيء أو بالجلوس، لكنها ليست بكلام، لأنها ليست بلفظ.
الكتابة كأن يكتب رجل في ورقة: أريد طعاماً أو أريد من الماء، ويبعثها إلى عبده أو ساعيه، فإذا قرأها العبد أو الساعي فإنهما يفهمان من الكتابة فهماً جيداً، وهو أن سيدهما يريد منهما طعاماً أو شراباً، لكن الكتابة لا تدخل أيضًا في الكلام؛ لأنها ليست بلفظ.
والشرط الثاني: أن يكون مركباً، والتركيب: أن يتركب الكلام من كلمتين فأكثر، كأن تقول مثلاً: محمد كريم، زيد أسد، عمر شجاع، محمد رسول الله، الإسلام ديننا، فهذه الجمل مركبة من كلمتين فأكثر.
والتركيب له حالتان: إظهار وإضمار، فالإظهار مثل: محمد رسول الله، زيد كريم، عمر شجاع، محمد أسد، فالكلمة الثانية ظهرت.
والإضمار هو الذي لا تظهر فيه الكلمة الثانية، مثلاً: ننجح، فهذه كلمة واحدة فيها إضمار، والتقدير: نحن ننجح.
وكذلك يأتي اللاعب الذي يرى فارس الميدان ومعه الكرة، فيقول له: العب، والتقدير: العب أنت.
فالكلام إن كان من كلمتين أو أكثر فهو مركب، مثل: محمد رسول الله، زيد شجاع، أحمد أسد، فالكلمة الأولى انضمت إلى الثانية، فأصبح تركيباً، أما الكلمات محمد وأحمد، وزيد، وعمر، والكرة، واللبن، والتفاح، فهذا ليس بكلام لأن الكلمات ليست مركبة.
والتركيب إما ظاهر وإما مضمر، أي: مستتر، والمستتر يوجد فيه الفعل ويضمر الفاعل، مثل: آكل، والتقدير آكل أنا، فأشرب اللبن، والتقدير: أشرب أنا اللبن.
والشرط الثالث: الإفادة: وهو الذي تستفيد منه جملة مفيدة، فلا تتطلع لشيء ثان، كأن يتكلم معك بجملة مكونة من مبتدأ وخبر، نحو: محمد كريم، أما لو قال: محمد ابن عمك، وسكت، فهذا ليس مفيداً؛ لأن السامع ينتظر الخبر.
ومعنى أن يفيد: أن يحسن السكوت عنده، فلا يبقى السامع منتظراً لشيء آخر، والإفادة تكون بشيء يعرف ويحسن السكوت عليه، كقول الله تعالى مثلاً: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً [البينة:2] فنفهم من هذه الجمل أن محمداً رسول الله يتلو الصحف التي أوحيت إليه من الله جل في علاه، ومثل قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4] فنفهم من هذه الجملة بأن الله الواحد الذي له صفات الجمال والكمال ونعوت الجلال لا يساميه أحد، ولا يمكن أن يكون أحد كفؤاً لله جل في علاه، فالكلام المفيد: هو الذي إذا وقفت عنده لا يطلب السامع منك أن تزيده كلاماً، فيحسن السكوت عنده بالوضع.
والوضع له معنيان: المعنى الأول: القصد، وهو أن القائل يقصد هذا الكلام، كأن يكون معه العصا؛ فقال: سأضرب زيداً أو طالب العلم الكسول، أو الفاسق، أو العاصي، أي: فهو يقصد ذلك، فخرج من هذا القصد كلام السكران والمجنون والطفل.
فقصد الكلام هو فهمه وتعقله.
والمعنى الثاني: الوضع العربي أي: عند أهل اللغة الفصحاء البلغاء الأعراب، فإذا قيل لك يحرم عليك أن تقول: ضربت محمد، فهذا حرام لغة أي: لا يجوز في عرف أهل اللغة.
إذاً الكلام هو: اللفظ المركب المفيد بالوضع، والوضع له معنيان: المعنى الأول: القصد، فخرج منه كلام المجنون فلا يعتبر كلامه. وكذلك السكران أو من ذهب عقله.
والمعنى الثاني: وضع أهل اللغة الفصحاء البلغاء الذين كانت لغتهم سليقة، فيؤخذ الكلام العربي منهم، أما إذا لم يكن في لغتهم ولا معروفاً عندهم فلا يؤخذ منهم، وأشهر ما يقال في ذلك قول القائل:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق
فالأشاعرة قالوا: الاستواء بمعنى الاستيلاء، فإن اللغة الأصيلة تدل على ذلك لقول الشاعر في البيت السابق.
فرد عليهم العلماء بأن هذا البيت ليس بعربي أصيل، فلا تعرفه العرب إنما هو لنصراني غير معروف عند أهل اللغة الفصحاء البلغاء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر