وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
علم الفقه هو من أشرف العلوم، قال ابن الجوزي : العمر قصير والعلم كثير، فالأولى أن يتجه المرء إلى ما ينفعه، وأنفع العلوم في هذه العصور هو علم الفقه، ويكفيك أن الله جل في علاه ذكر في كتابه الكريم: لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65]، والنبي صلى الله عليه وسلم أصل أصلاً أصيلاً في حفظ حديثه وفهمه فقال: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان:
الطريق الأول: إثبات السند.
الطريق الثاني: فهم المتن.
وفقه المتن هو رأس الأمر، لذلك على كل طالب علم أن ينشغل بعلم الفقه، وقد قال إمامنا في المذهب الذي سندرسه بإذن الله: من طلب الفقه رجح عقله، ومن طلب الحديث قويت حجته. وقد قرر علماؤنا أن فقهاء المحدثين هم أعلم الناس على الإطلاق، وهم في أشرف المراتب على الإطلاق.
وعمر بن الخطاب يبين لنا منزلة الفقه من الإسلام عندما بعث كتاباً إلى أبى موسى الأشعري يقول له فيه: الفهم الفهم فيما يأتيك، واحذ حذوا الكتاب والسنة.
والسنة مثل القرآن في الحجية، لكنها ليست مثله في المرتبة والرفعة، فالقرآن أعلى المراتب، ثم الحديث القدسي، ثم الحديث النبوي. وكان الفقيه من الصحابة يكون قارئاً للقرآن وحافظاً للحديث. وهؤلاء الصحابة العلماء ربوا على أيديهم فقهاء برعوا في علم الفقه، منهم فقهاء المدينة السبعة، وهم:
الأول: سعيد بن المسيب الذي قال فيه أحمد : أعلم التابعين. والثاني: عروة بن الزبير ، والثالث: سليمان بن يسار، والرابع: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، والخامس: خارجة بن زيد، والسادس: القاسم بن محمد ، واختلف العلماء في السابع منهم: هل هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أو سالم بن عبد الله؟ فهؤلاء فقهاء المدينة السبعة كانوا إذا اتفقوا على مسألة انتهى بحثها، ولا أحد يبحث بعد ذلك عن هذه المسألة عند غير هؤلاء السبعة.
ثم بعد ذلك نبغ الفقهاء الذين كانوا في قرون الخيرية الأولى، مثل: الحسن البصري الذي كان واعظاً فقيهاً قاضياً مفتياً، قال بعض العلماء: كلام الحسن يشبه كلام الأنبياء، وقد اندثر مذهبه لأنه لم يحمله أصحابه، وما من مذهب اندثر إلا والعلة في أصحابه، وإلا فهم ملئوا الدنيا علماً وحكمة، ومنهم عامر بن شراحيل الشعبي، فهذا الرجل كان فقيهاً أثرياً حافظاً لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اندثر مذهبه لأن أصحابه لم يحملوه، ومن طرائف ما حدث مع الشعبي: أن قصاصاً افترى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله سينفخ في صورين، فقام الشعبي وسط الحلقة فقال: اتق الله! كيف تكذب على رسول الله، من أين أتيت بهذا الحديث؟! فقال: أوترد علي يا ابن كذا! وسبه مسبة شديدة، ثم خلع نعله وضربه به فاقتدى به العامة، فما من أحد إلا وخلع نعله وضربه على وجهه، قال: فما عرفت وجهي من قفاي، فما تركوني حتى أقسمت بالله أن الله سينفخ في سبعين صوراً! ومن الفقهاء الذين اندثر مذهبهم: الأوزاعي فقيه الشام، وقد كان فقيهاً بارعاً أثرياً ينبذ الرأي، وكان قد انتشر مذهبه في الشام وفي الأندلس، ولكن لما انتشر مذهب مالك اندثر مذهب الأوزاعي ومذهب كثير من الفقهاء، مثل مذهب الليث بن سعد مفخرة المصريين الثقة الثبت الحافظ، وقد دخل الشافعي في آخر حياته مصر، فنظر في كتب وكلام الليث فقال: الليث أفقه من مالك ، وهناك مناظرات طويلة بين الليث بن سعد وبين الإمام مالك ، يراجعه في قوله بتقديم عمل أهل المدينة على أحاديث الآحاد.
ومن فقهاء السلف: داود الظاهري وهذا المذهب مذهب قوي جداً، وداود هذا ولد بعد الشافعي ، وكان ينكب على كتب الشافعي ، وينتصر لمذهب الشافعي ، إلا أنه أخذ على الشافعي القول بالقياس، وهو ينكر القياس تماماً، وهذا الذي أضعف مذهب داود الظاهري ، وهذا المذهب اندثر حتى قام من ينتصر له وهو ابن حزم فارس الميدان؛ ولذلك بقي إلى الآن مذهب الظاهرية في كتاب المحلى للإمام ابن حزم .
ومن الفقهاء الذين اندثر مذهبهم: الثوري ، وكان قريناً للإمام أبي حنيفة ، وهو ثقة ثبت حافظ للحديث فقيه دخل أبو حنيفة على الثوري وكان مجلسه يعج بطلبة الحديث، فقام الثوري من مكانه، فأجلس أبا حنيفة مكانه فاستاء أصحابه، ولأهل الحديث كلام فيه غمز في أبي حنيفة لضعف اعتنائه بالحديث، وأيضاً لمذهبه في الإيمان، فقال الثوري : إن لم أقم لعلمه، قمت لسنه، فكان يعرف له قدره، وكان أبو حنيفة يعرف لـسفيان قدره، وسفيان كان يخالف أبا حنيفة في مسألة القياس والرأي، فكان كثيراً ما يأخذ بالأثر ويعض عليه بالنواجذ، والثوري لا ترى له كلاماً في الفقه إلا في بطون كتب الفقه، وليس له مذهب مستقل. ثم بعد ذلك من الله على الأمة بأربعة فقهاء بقيت مذاهبهم، وبقي الناس يقتدون بهذه المذاهب.
وقد أضعف مذهب أبي حنيفة أنه كان يأخذ كثيراً بالقياس وبالرأي، ولذلك سميت مدرسته بمدرسة الرأي، والذي جر أبا حنيفة إلى ذلك كثرة الرفض والتشيع في بلاده العراق وبلاد فارس، فكثرت النوازل والمسائل، وقد كان يتحرى الأحاديث لأن الكذبة على رسول الله كثيرون في بلده، فهذا الذي جره لأن ينتقل من علم الأثر إلى علم النظر، فتوسع في المدارك وقياس النظير بالنظير، فأصاب في كثير من المسائل لكنه أخطأ في أكثر المسائل، ولذلك ضعف مذهبه؛ لأنه أخذ بالرأي أكثر من الحديث.
والإمام مالك وإن كان مذهبه قوياً لكن تؤخذ على مذهبه أمور من أشد ما تكون، ألا وهي: التوسع في مسألة سد الذرائع، وأيضاً مسألة المصالح المرسلة، فكثيراً ما يحتج بالمصالح المرسلة، ويأخذ بقاعدة سد الذرائع، وأيضاً مما أخذ عليه: أنه كان كثيراً ما يقدم عمل أهل المدينة على أحاديث الآحاد، مع أنه كان معظماً جداً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ووجهة نظر الإمام مالك في تقديمه عمل أهل المدينة أنهم خيرة الناس، وهم الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أجمعوا على عمل يخالف سنة آحاد، فغالب ظني أنه لا يمكن أن يكون هذا الحديث صحيحاً أو أنه منسوخ؛ فلذلك رد بعض أحاديث الآحاد ولم يأخذ بها لعمل أهل المدينة، فتراه يقول بجواز أكل القرد والأسد، وأيضاً يقول بطهارة الكلب، وهذه كلها من المفردات التي انفرد بها الإمام مالك .
قال مفخرة المصريين محقق كتاب الرسالة الشيخ أحمد شاكر : لو أمرت مجتهداً أن يقلد مجتهداً لأمرته أن يقلد الشافعي ؛ فإن الله حباه نظراً ثاقباً في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومعنى كلام الشيخ أحمد شاكر: أنه لا يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهداً، فلو جاز لي أن آمره لأمرته أن يقلد الشافعي ، والدليل على أن المجتهد لا يقلد المجتهد قول ابن مسعود: لا يكن أحدكم إمعة، والله يقول: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فالذي يستنبط يرجع إليه ولا يرجع هو لأحد، وأيضاً يحرم عليه أن يقلد من جهة النظر، فهذا ازدراء منه لنعمة الله جلا في علاه، لأن الله حباه فهماً في الكتاب وأمره أن يكون من حملة الكتاب، وأمر الناس أن يرجعوا إليه، فلا يجوز له أن يزدري نعمة الله عليه وينزل من هذه الطبقة، قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، ومفهوم الشرط من الآية: أنه لا يجوز لك أن تسأل إن كنت تعلم.
وقوة مذهب الشافعي تتجلى في تأصيله وأصول مذهبه، فقد جمع بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي، فأخذ علم الحديث من الإمام مالك وتشبع به حتى لقبه أهل العراق بناصر السنة، وذهب إلى محمد بن الحسن الشيباني وناظره وأخذ منه فقه مدرسة الرأي، فجمع بين علم الحديث وعلم الرأي، فكان فقيهاً ينزل النوازل في منازلها وكان يقدر الأمور كما سنبين في أصوله.
وهذا المذهب كتب الله له الانتشار في جميع أنحاء الأرض، أولاً: في العراق عندما كتب كتابه القديم، وهو المذهب القديم، وقد رحل إلى اليمن فانتشر مذهبه في اليمن، وقد كان أهل اليمن على مذهب مالك وبعدما ذهب الشافعي إلى اليمن صار أكثر اليمنيين شافعية، ومنهم زيدية، ومن أحسن كتب الفقه الشافعي: كتاب البيان للعمراني ، وهو شرح آخر للمهذب غير المجموع، وهذا العالم يمني، وقد ظهرت في كتابه قوة أهل اليمن في مذهب الشافعية، ولما رجع الشافعي إلى مصر انتشر المذهب الشافعي في مصر، وتوفي الشافعي في مصر وهو مدفون في القاهرة، وتشرفت مصر بهذا الإمام المطلبي الذي هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء حديث فيه كلام لكن أحمد كان يأخذ به وهو: (يخرج على الدنيا عالم من قريش يملأ الدنيا علماً) قال أحمد : ما أراه إلا الشافعي .
فهذا المذهب قوته تظهر في أنه جمع بين علمي الحديث والفقه.
وقد ولد بغزة ثم ارتحل مع أمه إلى مكة، فاشتغل بالأدب والبلاغة والشعر، وقابل مسلماً بن خالد الزنجي وهو ليس زنجياً، بل كان شديد البياض، فلقبوه بالعكس، كما هو دأب العرب، فنظر إلى الشافعي وقال له: من أين أنت؟ فقال: أنا مطلبي، فقال: بخ بخ! هلا جعلت فهمك هذا في الفقه؛ فانشغل بعلم الفقه، فأخذ الفقه على يد مفتي مكة مسلم بن خالد الزنجي، ثم ذهب بعد ذلك إلى المدينة فسمع من مالك الموطأ، وكان الإمام مالك ذو هيبة عظيمة، وكان إذا أراد أن يحدث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل أولاً ثم تطيب بأحسن طيب ثم جلس وطلبة العلم جالسون أمامه كأن على رءوسهم الطير، والإمام الشافعي حضر مجلسه وهو لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، وجلس في آخر المجلس يستمع للإمام مالك ، ولم يكن معه قلم ولا أوراق، وكان الإمام مالك يقرأ عليهم الحديث؛ لأن المحدث أما أن يملي وأما أن يُقرأ عليه فيقر، فكان يملي الأحاديث والشافعي يسمع الحديث ويضع أصبعه في فمه، فتعجب مالك منه، وكان الإمام مالك من أشد الناس تعظيماً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي عنه أنه كان لا يمشي في المدينة إلا حافياً، فلما سئل عن ذلك قال: احتراماً لصاحب القبر، فلما عظم سنة النبي صلى الله عليه وسلم عظمه الله جل في علاه، وأصبح مذهبه منتشراً في كل البلاد والأمصار والأعصار، وهذا هو الذي رفعه على كثير من الفقهاء الذين يتقدمونه فقهاً، فبعد أن انتهى المجلس قال للشافعي : تعال، فجاءه فأغلظ له مالك في القول، وقال له: مالي أراك سيئ الأدب! فقال الشافعي : وما رأيت من سوء أدبي؟ قال: ألا تراني أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تضع أصبعك في فمك؟ قال: كنت أكتب الحديث عنك، فسرد كل الأحاديث التي سردها الإمام مالك ، وكان الشافعي صاعقة في الحفظ، وكان إذا قرأ القرآن ونظر إلى صفحة وضع يده في الصفحة الأخرى حتى لا يقرأ الصفحتين، فكان صاعقة في الحفظ، فلما سرد له الأحاديث أعجب به مالك ، ودأب العلماء والفقهاء أنهم يميزون طلبة العلم الأذكياء عن غيرهم فأخذه إلى بيته، فقرأ عليه الموطأ في عشرة أيام من حفظه غيباً، فأعجب مالك به كثيراً وكان يقول له: زد في القراءة؛ لأنه كان فحلاً في اللغة، فلما قرأ على مالك الموطأ قال له الإمام مالك : إنه سيكون لك شأن، فعليك بتقوى الله واجتنب المعاصي، ثم قال: أريد أن أرحل إلى العراق، فجاءت هدية إلى الإمام مالك فقسمها بينه وبين الشافعي ، وودعه وذهب الإمام الشافعي إلى العراق، وصار يتعلم من فقهاء مدرسة الرأي، وكان يناظرهم، فعندما دخل المسجد أول مرة بدأ يبين مذهبه، وكان إذا رأى خطأ تكلم ولم يسكت، فقام القوم عليه وكادوا يقتلونه، وقالوا لـمحمد بن الحسن : هناك رجل يشوش علينا فناظره، وهو من مكة، وكان المحدثون في العراق يهابون أهل الرأي؛ لأن أهل الرأي إذا تكلم المحدث بالحديث قالوا له: هل هذا الحديث عام أم خاص؟ هل هذا الحديث مطلق أم مقيد؟ فما يعرف، فكانوا يغلبونهم مع أن الآثار معهم؛ لأنهم كانوا يحملون الأحاديث فقط: (رب حامل فقه ليس بفقيه)، فكانوا يخافون من أهل الرأي، فلما ناظروا الشافعي سألوه: كيف تدخل في الصلاة؟ فقال: بركنين وسنة، فلما سمعه محمد بن الحسن علم أن له قسطاً من العلم فأخذه إلى بيته، فلما ناظر الشافعي ما استطاع أن يغلبه، وعلم أن له مكانة في العلم، فانتشر مذهب الشافعي والتف حوله أهل الحديث لما علموا أنه ينصر سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه الوحيد الذي يستطيع أن يجابه أهل الرأي، فالتفوا جميعاً حوله، وقد كان الإمام أحمد بن حنبل ينهى عنه، ويحسب أنه من أهل الرأي، فلما علم أنه ناصر للحديث لازم الشافعي ، فكان أحمد يعرف قدر الشافعي، ولما عاتبه يحيى بن معين على مجالسته للشافعي رد عليه، وقد كان يحيى يتكلم في الشافعي .
ألف الشافعي المذهب القديم في العراق ثم بعد ذلك رحل إلى مصر فنظر في كلام الليث ونظر في الآثار، فغير كثيراً من أقواله من المذهب القديم إلى المذهب الجديد الذي كتبه في مصر، وأخرج كتاباً يخالف فيه مالكاً مع أنه شيخه، لكنه خالفه في مسائل كان الأثر والحجة بخلاف قول مالك ، وقد ورد عن الشافعي بسند صحيح أنه قال: أجمعت الأمة على أنه من استبانت له سنة رسول الله فلا يحل له أن يحيد عنها لقول قائل كائناً من كان.
الأصل الثاني: السنة، وهي قرينة للأصل الأول، فكان يأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وقد اشتهر عن الإمام الشافعي أنه كان يقول: كل قول لي رأيتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه فاضربوا بقولي عرض الحائط، وخذوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم. واشتهر عنه أيضاً أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. فأي حديث يخالف ما تبناه الشافعي فإن البيهقي يقول: وهو مذهب الشافعي ؛ لأنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
الأصل الثالث: إجماع الأمة؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلال، والإجماع فيه نظر عند الشافعي وعند الإمام أحمد ، والشيخ الألباني مجدد السنة في عصرنا ومحدث الديار الشامية عندما قال: إن الذهب المحلق لا يجوز لبسه، فعارضوه بالإجماع، فقال بقول أحمد المشهور الذي استقاه من الشافعي: وما يدريك لعل الناس قد اختلفوا؟! فالإجماع نادر جداً، لكن الإمام الشافعي يقول: إذا وجد أخذنا به، والإجماع عزيز جداً إلا في عصر الصحابة وعصر التابعين، فبعدهم تشعبت السبل وكثر الفقهاء والعلماء فصعب نقل الإجماع.
الأصل الرابع: القياس، والقياس عنده مثل أكل المضطر للميتة، فهو ليس بواسع الخطوة في القياس، والقياس لا يدخل فيه الاستحسان عند الإمام الشافعي، وبعض العلماء يدخل الاستحسان في باب القياس، فـالشافعي لا يقول بالاستحسان، وهو الاستحسان المطلق، فقد قال الشافعي : من استحسن فقد شرع.
وأيضاً: فالشافعي يقول بقول الصاحب على خلاف في اعتباره من أصول المذهب، والراجح: أن قول الصاحب حجة إن لم يخالفه أحد؛ ولذلك كان يقول الشافعي: هذا إجماع سكوتي.
فهذه أصول مذهب الشافعي ، وتظهر قوة هذا المذهب في أصوله.
المصطلح الأول: في المسألة قولان، أي: لصاحب المذهب الشافعي قولان: قول قديم وقول جديد، فالقول القديم هو: قوله في المذهب القديم الذي ألفه في العراق، والجديد هو: الذي ألفه في مصر، والمحققون في المذهب الشافعي يرون أن المذهب الجديد المتأخر ينسخ المتقدم، فعندهم الفتوى على المذهب الجديد إلا في عشرين مسألة فقط يفتون فيها على المذهب القديم.
المصطلح الثاني: في المسألة وجهان، فالمراد بالوجه: تخريج الأصحاب على أصول الشافعي ، وأبرع الناس الذين يخرجون على أصل الشافعي: القفال وطبقته، فكيف يخرجون على أصل الشافعي ؟
مثلاً: توجد مسألة لم يرد فيها قول عن الشافعي ، فيأتي القفال فينظر في أصول الشافعي التي أصلها في كتابه الرسالة مثلاً، والتي كان الشافعي يمشي عليها، فيخرج له قولاً في هذه المسألة على أصول الشافعي، فيسمى هذا في المذهب: وجهاً ولا يسمى قولاً، فالقول هو ما ينسب للشافعي بلسانه، والوجه هو: ما ينسبه المخرج المجتهد في المذهب، ويعتبر وجهاً معتمداً للشافعي ولو لم يقله الشافعي .
المصطلح الثالث: الصحيح، أي: هذا هو قول الشافعي، وغيره ليس بقول الشافعي ، فإذا وجدت النووي مثلاً يقول في المجموع: الصحيح، فالمقصود أن هذا هو قول الشافعي ، وغيره ليس بقول الشافعي .
المصطلح الرابع: الأظهر، معناه: أن في المسألة خلافاً قوياً، فدليل القول الأول قوي، ودليل القول الثاني قوي، فهما على درجة قوية لكن الأول أقوى بشيء ظهر عند مجتهد الفتوى، ومجتهد الفتوى مثل: الرافعي والنووي، أما القفال وطبقته فهم مجتهدون في التخريج، فـالقفال أقوى مكانة من النووي .
وقولهم: الأظهر هو: ترجيح الأصحاب، وليس ترجيح الشافعي ؛ لأنه ورد عنه قولان، فيرى المجتهد أن القول الأظهر في المذهب كذا، فيقول: هذا هو الأظهر الذي يدل عليه الدليل، وهو أشبه بقول الشافعي .
المصطلح الخامس: المشهور، وهذا المصطلح فيه دلالة على أن في المسألة خلافاً ضعيفاً، ففي المسألة قولان ولكن القول الثاني مهجور، وما يهجره أحد إلا لضعفه.
المصطلح السادس: الأصح، وهذه الكلمة تدل على أن هذا هو الأصح من أقوال الشافعي، فتكون قد وردت له أقوال، لكن الأصح هو هذا القول الذي رجحه مفتي المذهب، وقد يكون هذا هو الأصح من الأوجه.
المصطلح السابع: أصح الأوجه، وهذا يكون في الأصحاب، فيأتي مجتهد الفتوى فينظر في هذه التخريجات، فمثلاً أبو حامد الإسفراييني خرج قولاً، والقفال خرج قولاً، فيأتي النووي أو الرافعي فيميز بينهما فيرجح وجهاً على وجه، فيكون ما رجحه هو الأصح.
المصطلح الثامن: الأشبه، يعني: أن هذا هو الأشبه بقول الشافعي، فقد ترد أقوال مختلفة تنسب للشافعي ، فينظرون إلى تقعيد وتأصيل الشافعي فيقولون: هذا القول أشبه بقول الشافعي .
فـالمزني قد يخرج قولاً ويقول: هذا أشبه بقول الشافعي عندي، وهذا كثير في مختصره.
وينبغي لطالب العلم أن يرتقي بعد ذلك فيقرأ مغني المحتاج للشربيني أو يقرأ روضة الطالبين للنووي ، أو يقرأ شرح مختصر المزني للماوردي ، أو يقرأ المجموع للنووي .
وهذا يحيى بن سعيد القطان الذي هو نقاد فحل من أساطين أهل الحديث، الذي كان يجلس أمامه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل كالتلاميذ، وقد كان شديداً في الجرح والتعديل، قالوا: إذا وثق أحداً فعض عليه بالنواجذ، قال يحيى بن سعيد القطان: أنا أدعو الله للشافعي في صلاتي منذ أربع سنين، وقال حين عرض عليه كتاب الرسالة: ما رأيت أعقل ولا أفقه من الشافعي، وعبد الرحمن بن مهدي هو الذي طلب من الشافعي أن يكتب الرسالة، وكان من أئمة أهل الحديث، قال العلماء: إذا اتفق ابن مهدي والقطان على توثيق رجل فلا تسأل عنه أحداً بعد ذلك؛ لأنه قد مر وجاوز القنطرة، يقول ابن مهدي إمام عصره في الفقه والحديث حين جاءته رسالة الشافعي : ما أصلي صلاة إلا وأدعو للشافعي ؛ لأنه بين له العام من الخاص والمطلق من المقيد والمجمل من المفسر، وبين له كيف يجمع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض.
وقتيبة بن سعيد ثقة ثبت من رجال الصحيحين قال: مات الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن، والثوري كان بحراً في الحديث، بل كان أوسع حفظاً من الشافعي بالإجماع، وبموت أحمد بن حنبل تظهر البدع، فهو إمام أهل السنة، قال بعضهم: إن الله حفظ الدين بـأبي بكر في الردة، وبـأحمد بن حنبل في المحنة، وهي محنة خلق القرآن.
ومعنى قول قتيبة : مات الشافعي وماتت السنن، مع أن السنن برمتها عند الثوري ، أنه يوصف العالم بما غلب عليه، فمثلاً شيخ الإسلام ابن تيمية غلب عليه الفقه، والترجيح بين الأقوال، فيجعل في طبقات الفقهاء، مع أنه بارع وإمام في الحديث، ويصح أن يطلق عليه أنه الحاكم، لكن غلب عليه الفقه، وهكذا الشافعي الغالب عليه الفقه، وأحمد الغالب عليه الحديث، فيوصف العالم بالغالب عليه.
أيضاً الشافعي خص بذلك لأنه الذي ناظر أهل البدع لتثبيت السنن، فـالشافعي ناظر مدرسة الرأي ليظهر قوة مدرسة الحديث، وما أحد استطاع أن يقف أمامهم إلا هو، فـالثوري وهو من أهل الكوفة ما استطاع أن يقف هذا الموقف الذي وقفه الشافعي؛ ولذا لقبوه: ناصر السنة.
قال أحمد بن حنبل : إذا جاءت المسألة ليس فيها أثر فقل فيها بقول الشافعي، وقد جاء في الأثر: أنه يخرج عالم من قريش يملأ الدنيا علماً، قال أحمد : ما أراه إلا الشافعي .
أيضاً قال أحمد في الشافعي : ما أرى أحداً أعظم منة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي، ولا شك أن المنة لله أولاً وآخراً، فالله من عليه بالإسلام ومن عليه بالعلم، لكنه يقصد أنه أجلى روعة الإسلام وروح الشريعة بعلمه.
وقال الإمام أحمد أيضاً: كان الفقه مقفلاً على أهله حتى فتحه الله بـالشافعي .
وقال: ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بينها لهم الشافعي .
وقال لابنه: يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل ترى لهذين من عوض؟
وأبو ثور الكلبي كان من أصحاب الرأي، فلما رحل الشافعي إلى العراق جلس أبو ثور ينظر في كتبه فانتحل مذهب الشافعي ونصره، قال: كنت أنا وإسحاق بن راهويه والكرابيسي وجماعة من العراقيين لا نترك بدعتنا -يقصد التمسك بالرأي دون حديث- حتى رأينا الشافعي .
وقال الكرابيسي : ما كنا ندري ما الكتاب ولا السنة ولا الإجماع حتى سمعناه من الشافعي. وقال أيضاً: ما رأيت مجلساً قط أنبل من مجلس الشافعي ، كان يحضره أهل الحديث وأهل الفقه وأهل الشعر، فكل يأخذ وينهل من علمه، وهذا العلم الواسع ما آتاه الله إلا لـ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الخير في أمتي كالمطر لا يدري في أوله أو في آخره)، فطلب العلم كان كثيراً في الزمن الأول، لكن العلماء المقتدى بهم قلة، فقد نظر شعبة إلى مجلس أهل الحديث وهو يكتظ بطلبة الحديث، فقال: لو يخرج منهم ثلاثة. وأبو داود الطيالسي يقول: فرأيت فما خرج منهم ثلاثة! والثوري كان يقول: الذين يتعلمون العلم ثلث تشغلهم الدنيا، وثلث يتزوجون، وكان يقول: من تزوج فقد ركب البحر! قال: وثلث يكتبون ولا يعقلون، ولا يخرج منهم إلا قليل.
هذا كلام الثوري وقد كان في القرون الثلاثة الأولى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يسير على الدرب، فنسير بطاقتنا وبما نستطيع، فلا نحسب أننا من طلبة العلم، بل نتشبه بهم، ونسير خلفهم سير النمل، لكن من سار على الدرب وصل، فنسأل الله أن يجعلنا ممن يتفقه في دينه.
وقال الشافعي أيضاً: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ذهب أهل العلم بشرف الدنيا والآخرة.
وقال أيضاً: زينة العلم الورع والحلم.
وقال: من أراد أن تقوى حجته فعليه بالحديث، ومن أراد أن يرجح عقله فعليه بالفقه.
وقيل للشافعي : مالك تدمن إمساك العصا ولست بضعيف؟ فقال: لأذكر نفسي أني مسافر، يعني: من الدنيا، ففي الحديث: (كن في الدنيا كأنك غريب) ، وأخذ العصا سنة في الخطبة.
وقال الشافعي : ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته.
وقال أيضاً: للمروءة أربعة أركان: الأول: حسن الخلق، والثاني: السخاء، والثالث: التواضع، والرابع: النسك.
نسأل الله جل في علاه أن يجمعنا بكم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر