إسلام ويب

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد -صفة الوجه واليدين لله تعالىللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقيدة أهل السنة والجماعة أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات أو أثبته له رسوله، ومن تلك الصفات: صفة الوجه واليدين، فهما صفتان ثابتتان لله تعالى بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، وعلينا أن نحذر من طرق أهل البدع الذين نفوهما أو أولوهما بما يخالف الكتاب والسنة

    1.   

    إثبات صفة الوجه لله تعالى والرد على المخالفين

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر بعض آيات الصفات: فمما جاء من آيات الصفات قول الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] ].

    هذه صفة من صفات الله جل في علاه، وهي صفة الوجه، والسؤال: من أين عرفنا أن هذه صفة لله؟

    الجواب: لأن هذه الصفة أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى في قوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27].

    وقال الله جل وعلا: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42] فالساق هنا صفة لله، وقد وردت آثار فيها أن المراد بقوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) أي: عن شدة يوم القيامة، وهي عن ابن عباس، لكنها ضعيفة.

    ونحن نثبت الصفة لله سبحانه إذا أضافها إليه، فمتى أضيفت الصفة إلى الموصوف فإننا نثبتها له.

    إذاً: (يوم يكشف عن ساق) ليست الساق هنا من آيات الصفات، بل هي من آيات الصفات، فكيف نجمع بين المتناقضين؟ نقول: ليست من آيات الصفات ضبطاً؛ لأنها لم تضف لله في هذه الآية، فلم يقل: يوم يكشف عن ساق ربك، فهي من هذا الجانب ليست صفة، لكنها صفة من جهة الحديث، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (إن ربكم يأتي عباده يوم القيامة فيأتيهم في الصورة التي لا يعرفونها فيقول: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: تعرفونه؟ فيقولون: نعرفه، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: لست بربنا نعوذ بالله منك، فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها) وفي هذه دلالة على أن لله صفة اسمها: الصورة كما سنبين، قال: (فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيكشف الله جل في علاه عن ساقه فيخرون سجداً) فهنا صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن لله ساقاً وسيكشف عنها يوم القيامة، وهذا موافق للآية: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] فلا يمكن أن تثبت لله صفة إلا إذا أضيفت إلى الله.

    وصفات الله: إما خبرية، وإما فعلية، وإما ذاتية، وصفة الوجه صفة خبرية لا تنفك عن الله، وضابطها: أن مسماها عندنا جزء وبعض، لكنها إذا أضيفت إلى الله إضافة الصفة للموصوف فإنها تكون على ما يليق به سبحانه وتعالى، فهذه الصفة الجليلة صفة الوجه ثبتت لله بالكتاب وبالسنة، وبإجماع أهل السنة.

    أما بالكتاب فقد قال الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] وقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] وفي السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) فهذه كلها تصريحات لوجه الله جل في علاه.

    وأما الإجماع فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن لله وجهاً يليق بجلاله وكماله وبهائه وعظمته سبحانه وتعالى.

    فأقول تأسيساً وتأصيلاً: أعتقد أن لربي وجهاً يليق بجلاله وكماله بلا تشبيه وبلا تمثيل وبلا تحريف، فلا أقول: الوجه هو الثواب، ولا أعطل الوجه، ولا أنفيه.

    فإذا سمع مبتدع ضال دعاء وأنا أقول: اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تجعلني مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، فيقول المبتدع: كيف وجه الله؟ فأقول له وقد استيقنت من عقيدتي وأتقنتها: أنت مبتدع، فإن الوجه في اللغة معلوم والكيف مجهول، فصفات الله لها كيفية لكنا لا نعلمها، فقد أخفاها الله عنا، والإيمان بصفات الله واجب، والسؤال عن كيفية الصفات بدعة.

    وإذا اعتقدت بأن لربي وجهاً فكيف أتعبد لله بهذه الصفة الجليلة؟ فلا بد أن أسأل عن صفات وجه الله، وصفات وجه الله سبحانه وتعالى قد بينها لنا النبي صلى الله عليه وسلم جلية بأن السماوات والأرض تستنير بنور وجه الله جل في علاه، ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه... حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) (سبحات وجهه) أي: أنوار وجهه، وهذا فيه دلالة على أنه لا يعلم عظم نور وجه الله إلا الله جل في علاه، -اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم- وقوله: (ما انتهى إليه بصره من خلقه) بصر الله ينتهي إلى كل خلقه سبحانه وتعالى، فقد وسع بصره كل الخلق، وكل الكائنات.

    وأعظم ما ينعم به أهل الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم.

    فإذا اعتقد المسلم أن لربه وجهاً، وأن هذا الوجه موصوف بالجلال والإكرام والبهاء والعظمة والأنوار؛ فإن نفسه تتوق إلى النظر إلى وجه الله الكريم، فإن الإنسان إذا سمع بجميل هوت نفسه إلى رؤيته، فما بالكم إذا سمع وعلم أن وجه ربه جل في علاه أشرقت به السماوات والأرض، فإن الهمة تعلو عندما يصبو الإنسان إلى أن ينظر إلى وجه الله الكريم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] قال: الحسنى الجنة، وهذه أول درجة، لكن أرقى منها مقاماً قال: والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، فإذا علمت الأخت المسلمة واعتقدت أن لربها وجهاً وله أنواراً وسبحات فإنها ستحافظ على طاعة ربها، على الفرائض، ثم تتبع الفرائض بالنوافل، ثم تحافظ على بصرها؛ لأنها تريد أن تنظر إلى وجه الله، ولا يرضى الله سبحانه لعين رأت المعاصي واستمرت في النظر إلى المحرمات أن تنظر إلى وجهه الكريم، فإن الله يغار فيحجب عن نور وجهه الكريم كل عاص وكل فاسق وكل كافر ملحد، فإن الله لا يرضى أن يرى وجهه إلا المطيع التقي الذي ارتقى بالطاعات لله جل في علاه، فالأخت المسلمة التي تتمنى أن تنظر إلى وجه ربها الكريم وتحرص على ذلك، بحفظ بصرها، وفرجها، وربها، وتحفظ زوجها بطاعة ربها، وتقدم بين يدي موتها رضى الله جل في علاه، ورضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تحظى برؤية الله.

    وإن كانت الهمة عالية للرجال والنساء فإن الله يفضل من يشاء في رؤيته، فإن الرجال الذين يرتقون إلى درجة الإحسان يرون ربهم في الجنة بكرة وعشياً، أما النساء فلا يرين ربهن في الجنة إلا كل جمعة، أو في الأعياد وهذا سياقاً واستنباطاً كما استنبطه شيخ الإسلام على أن النساء لا يخرجن إلا في الأعياد كما قالت أم عطية: (أمرنا أن نخرج الحيض وذوات الخدور حتى يشهدن الخير ودعوة المسلمين) وأيضاً الجمع، فالأصل في المرأة أن تقر في بيتها، ولها بيت في الجنة من لؤلؤة مجوفة يراها زوجها فيرى أنه ما رأى امرأة أجمل منها قط، بل يراها أفضل وأجمل وأنصع بياضاً وجمالاً من الحور العين، فهي تقر في لؤلؤتها، تتمتع برؤية زوجها ويتمتع بها، وسوق الجنة يخرج إليه المؤمنون كل جمعة، أما الذين في الفردوس الأعلى فيرون ربهم بكرة وعشياً، فإذا رجع إليها من الزيارة -اللهم ارزقنا ذلك- ازداد جمالاً وحسناً ووسامة فتقول: والله لقد ازددت جمالاً فما أرى أجمل منك في الجنة، وهذا لكل رجل مع كل امرأة.

    فالذي يعتقد أن لربه وجهاً سيحافظ على نفسه وبصره من النظر إلى الحرام، وليس منا أحد إلا وقد ارتكب المحرم، نسأل الله أن يغفر لنا معاصينا وتجرأنا على حدوده، فليس من العيب أن يقع الإنسان في الخطأ، لكن العيب كل العيب أن يصر على الخطأ، وخير الخطائين التوابون، فإذا تعدى المسلم حدود الله فعليه أن يتوب ويئوب ولسان حاله يقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84].

    وأيضاً المرأة اللبيبة الأريبة الفقيهة الرشيدة التي تعتقد أن لربها وجهاً تعلم كيف تتعبد لله بهذه الصفة، وتعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا بوجه الله إلا الجنة) فلا يمكن أن ترفع يدها وتقول: اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تنجح ولدي في المدرسة، أو تجعل زوجي يحبني ولا يتزوج علي، وإن كانت هذه من أفضل الأدعية التي تدعو بها، فلا تدعو بها هنا بل لا بد أن ترتقي في دعائها لربها وتقول: اللهم إني أسألك بوجهك الفردوس الأعلى، اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تجعل زوجي في الفردوس الأعلى مع النبي صلى الله عليه وسلم.

    فمن الأدب مع الله أن لا تسأل بوجه الله إلا الفردوس الأعلى، وأن لا تسأل بوجه الله إلا رؤية وجهه الكريم، وأن لا تذكر اسم الله إلا وأنت مبجل موقر معظم لاسم الله ولوجه الله الكريم.

    الرد على الذين نفوا صفة الوجه لله تعالى

    فهل تركنا أهل البدعة والضلالة ننعم بهذه الصفات الجميلة؟ وأنا أقول: كل مبتدع حجب عن ربه، وحجب عن هذه الصفة أنَّى له أن يتعبد بها لله، فقد جاء المعطلة وهم قسمان: قسم يعطل تعطيلاً كاملاً، وقسم يعطل تعطيلاً ناقصاً. والتعطيل الكامل هو التعطيل المحض، وهو نفي الصفة والاسم معاً، والتعطيل الناقص هو تعطيل الصفة دون الاسم.

    ويتفق المعتزلة مع الجهمية على نفي صفة الوجه لله، وهم بهذا يردون كتاب الله جل في علاه، وأما الأشاعرة فحرفوا، وهم كثير في عصرنا وفي كل العصور، فيقولون: قول الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] أي: ويبقى ثواب ربك، فحرفوا، ولا أقول: أولوا، ولكن أقول حرفوا الكلم عن مواضعه وكأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا وقال: (اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) يريد: ارزقني لذة النظر إلى ثوابك الكريم، وهذا كلام بعيد وشديد البطلان.

    فأقول: الرد على هؤلاء الذين حرفوا وجه الله إلى الثواب هو أن نقول لهم: لقد خالفتم ظاهر القرآن، فما هو ظاهر القرآن؟ وهذه قاعدة مهمة، وسنرد بها عليهم في كل آية يؤولونها إلى غير معناها الصحيح.

    فظاهر قول الله تعالى: (ويبقى وجه ربك) أن لله وجهاً، وأنتم خالفتم ظاهر القرآن، ونقول لهم: هل كلمنا الله بلغة أعجمية؟ الجواب: لا، بل كلمنا الله بلغة نعلمها ونفقهها: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195] .. إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف:2] فإذا قال الله: لي وجه؛ عقلنا أن له وجهاً يليق به، ومخالفة ظاهر القرآن قدح في حكمة الله؛ لأن الله جل وعلا ما أنزل هذا الكتاب إلا من أجل أن نعقل هذه الصفات ونتعبد بها لله، فإن كان الله سينزل علينا كتاباً لا نعقل منه حرفاً فهذا خلاف حكمة الله جل في علاه.

    وقد قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] فإذا قلت: الوجه هو الثواب فهل هذا تبيان لكل شيء؟ لا، بل هذا تعمية على كل شيء، فكأن الله يقول: ما أريد هذا اللفظ، ابحثوا عن لفظ آخر، وإذا اعتقدتم هذا الاعتقاد فهذا اعتقاد كفري وضلال مبين؛ لأنكم خالفتم ظاهر القرآن، وظاهر القرآن أن لله وجهاً فنثبت لله وجهاً.

    وخالفتم ظاهر السنة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) فهل الله جل وعلا لا يستطيع أن يقول: ويبقى ثواب ربك؟ أم أنه عيي؟ حاشا لله! بل هو الذي علمنا ذلك، وجعل اختلاف الألسن آية من الآيات، فلو كان الله يريد الثواب مكان الوجه لقال: ويبقى ثواب ربك، وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) إذا كان المراد بذلك الثواب ففيه قدح في النبوة من وجوه كثيرة:

    الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر بالبيان، وقد قال الله تعالى له: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] فلو كان الوجه في هذه الآية يراد به الثواب لكان لزاماً على رسول الله الذي أمر بالتبيين أن يبين لنا ويقول: الوجه في هذه الآية التي في سورة الرحمن المراد به الثواب، ولكنه لم يفعل؛ فدل على أن الثواب ليس المراد.

    والوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الوجه على حقيقته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصر في البلاغ، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67] وعندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم هل بلغت؟ قالوا: قد بلغت، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وأومأ بإصبعه يقول: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) فقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم البلاغ.

    والذي يقول: الوجه هو الثواب يقدح في بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه يقول: إن رسول الله قد قصر في بيان كلام الله جل في علاه.

    والأمر الثاني: نقول: قال الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27]، ولم يقل: ويبقى ثواب ربك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك لذة النظر إلى وجهك) ولم يقل: أسألك لذة النظر إلى ثوابك، فهل أنتم أيها الأشاعرة المبتدعة أعلم بالله من الله؟ فإن قالوا: نعم، كفروا، وإن قالوا: لا، لسنا أعلم من الله بالله، قلنا: الذي هو أعلم بنفسه قال: إن له وجهاً، فعليكم أن تسلموا بقوله.

    وأيضاً: نقول لهم: أأنتم أعلم بالله من رسول الله؟ فإن قالوا: لا، لسنا بأعلم بالله من رسول الله قلنا: فإن رسول الله الذي هو أعلم بالله قال: (أسألك لذة النظر إلى وجهك) ولم يقل: ثوابك، فيسعكم ما وسع رسول الله، ولا وسع الله على من لم يسعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أثبت لربه الوجه، وحينئذ تسلم لنا الأدلة.

    فصفة الوجه لله صفة خبرية ذاتية لا تنفك عن الله جل في علاه، ولا تتعلق بالمشيئة، وضابطها عندنا: أن مسماها أجزاء وأبعاض، فالوجه جزء مني، والساق جزء مني، واليد جزء مني، والعين جزء مني، لكن بالنسبة لله هي صفة خبرية، وسميناها خبرية: لأننا لا نعلمها إلا من طريق الخبر، أي: الكتاب والسنة؛ لأن العقل لا يمكن أن يثبت هذا.

    1.   

    إثبات صفة اليد لله تعالى

    الصفة الثانية التي ذكرها المصنف: قوله سبحانه وتعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فذكر صفة اليد، واليد من الصفات الفعلية لله جل في علاه.

    وهي صفة خبرية، وضابطها أن مسماها عندنا أجزاء وأبعاض، وقلنا صفة خبرية؛ لأنها ثبتت بالخبر.

    وقد ثبتت لله بالكتاب وبالسنة وإجماع أهل السنة، أما بالكتاب فقد قال الله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] وقال جل في علاه: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64] وقال جل في علاه: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71] وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمين الله ملأى سحاء الليل والنهار لا يغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى عن اليد كما في السنن بسند صحيح، : (إن الله جل وعلا لما خلق آدم قبض قبضة بيده اليمنى وقبض قبضة بيده الأخرى فقال لآدم: يا آدم! اختر، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين) فاختار أهل الجنة.

    وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينادي يوم القيامة: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك والخير كله بيديك) إثباتاً لليد.

    وأيضاً في الصحيح في حديث احتجاج آدم وموسى أن موسى يقول له: (أنت آدم خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده) وهذه كلها أدلة تثبت لله جل في علاه يداً حقيقية لا تشبه يد المخلوق، وإن حصل الاشتراك في الاسم، ولها كيفية نجهلها.

    وإذا سأل مبتدع عن كيفية يد الله قلنا له: اليد في اللغة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة.

    أما عظمة يد الله فقد قال الله تعالى منكراً على الذين لا يعظمون يده جل في علاه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] وفي الصحيحين: (دخل حبر من أحبار اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله! إن الله يحمل الجبال على ذه، والبحار على ذه، والسماوات على ذه، والأشجار على ذه) يشير إلى الأصابع (ثم قبض بيده وهز يده هكذا -ونحن نفعل ذلك كما فعل الرجل- وقال: فيهزهن هكذا ويقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أنا الملك أين المتكبرون؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) إقراراً له بذلك.

    فهذه هي عظمة يد الله جل في علاه، فلابد أن نتدبر، وأن نعلم أنه لن يصل أحد إلى الغنى إلا بالله سبحانه، فيد الله سحاء ويمين الله ملأى، خزائن السماوات والأرض في يده، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى لا تغيظها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله: يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) وقال في ثنايا الحديث: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم سألوني فأعطيت كل واحد مسألته..) فهذه يد الله المنفقة، وهذه الآيات والأحاديث ترد على اليهود الذين يقولون: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فانظروا كيف يقول الله جل في علاه: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئاً) .

    كيف نتعبد لله بصفة اليد

    فيتعبد المسلم لله بهذه الصفة، ويثبتها له سبحانه وتعالى، ويعلم أن لله بطشاً، وأن بطش الله شديد، وأن الله، يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65]، ويعلم أن الله جل في علاه عزيز ذو انتقام، فيخشى ربه ويعظمه ويوقره، ويسأل الله أن يعطيه من خيره، فإن عطاء الله حسي ومعنوي، أما العطاء الحسي: فهو المادة التي يملأ الإنسان بها بطنه، وأما العطاء المعنوي: فهو نور القلوب ونور الإيمان الذي قال فيه شيخ الإسلام : إن في الدنيا جنة من دخلها دخل جنة الآخرة ألا وهي جنة الإيمان.

    قال علماؤنا: ورزق الله رزقان: رزق حسي، وهو المادة، ورزق معنوي، وهو العلم، والفهم، والذكاء، والتعبد، والتذلل لله جل وعلا، والتدبر في أسماء الله وصفاته العلى، وهذا خاص بالقلوب، فكل ذلك رزق من الله جل في علاه، فيمين الله ملأى سحاء الليل والنهار لا يغيضها نفقة.

    ولله سبحانه وتعالى يدان تليقان بجلاله وعظمته، وقد ذكرها في القرآن إما بلفظ المفرد المضاف إليه سبحانه كما في قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] والاسم المفرد إذا أضيف فإنه يفيد العموم كما في قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ [إبراهيم:34] فلا يوجد تعارض بينها وبين قول الله تعالى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71]؛ لأنها قد شملتها وعمتها، وإما بلفظ التثنية كما في قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وإما بلفظ الجمع كما في قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71] ولا تعارض بين قول الله: (مما عملت أيدينا) وقوله: (لما خلقت بيدي)، ومن قال بوجوده فالرد عليه من وجهين:

    الوجه الأول: أصولياً، فبعض علماء الأصول يقولون: أقل الجمع اثنان، إذاً: قوله تعالى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71] يصح أن تكونا اثنتين؛ لأن أقل الجمع اثنان.

    وهذا الوجه وإن كان فيه ضعف إلا أن الأقوى منه أن نقول:

    الوجه الثاني: ثبت لله يدان بقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وأما (مما عملت أيدينا) فتؤول على التعظيم.

    فمما عملت أيدينا هنا للتعظيم، فلا منافاة بينها وبين الثنتين، ولا منافاة بينها وبين المفرد.

    ويعضد ما ذهبنا إليه قول الله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64].

    الرد على المنكرين لصفة اليد

    وأما أهل البدعة فقالوا: قول الله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وقول الله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] وقول الله تعالى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71] اليد هنا بمعنى النعمة، قالوا: وعندنا في ذلك دليل، ففي صلح الحديبية عندما قال عروة لرسول الله: ما أرى حولك إلا أوباشاً -أو أشواباً- من الناس سيفرون عنك عما قريب، فقال أبو بكر : امصص بضر اللات! نحن نفر عن رسول الله؟! فكانت هذه مسبة شديدة عليه، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر ، فقال: لولا يد لك عندي لم أكافئك بها لرددت عليك، أي: لولا نعمة أكرمتني بها لم أردها إليك.

    وقالوا: اليد معناها: القدرة، والدليل على ذلك أنك إذا قلت: ضرب على الأمة بيد من حديد، كان فيه دلالة على القدرة والقوة، فقالوا لنا: في اللغة مساغ، فيد الله فوق أيديهم، أي: قدرة الله فوق أيديهم، فنقول لهم: لقد خالفتم ظاهر القرآن، وظاهر السنة، وإجماع الصحابة، فالله يقول: يَدُ اللَّهِ [الفتح:10] وأنتم تقولون: نعمة الله، فأنتم تقدحون في بيان الله، وقد قال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا [النحل:89] وهذا تبيان يدل على أن اليد يد حقيقية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يمين الله ملأى) وقال: (كلتا يدي ربي يمين) فقد أثبت لله اليد وأنتم تنفونها، ويلزم من ذلك القدح في بلاغ رسول الله، ثم خالفتم الإجماع، ومخالف الإجماع مبتدع.

    القاعدة الرابعة التي نرد عليهم بها أن نقول: يلزم إذا أولنا أو حرفنا اليد إلى النعمة أو القدرة لوازم باطلة:

    أولها: أننا سنجزئ قدرة الله، وسنقول: (بيدي) أي: بقدرتي، وهذا لا يقوله عاقل، فإن قدرة الله عامة وشاملة لكل شيء.

    ثانيها: أنه يلزم من ذلك أن نقول: (يد الله فوق أيديهم) أي: نعمة الله فوق أيديهم، ويلزم من ذلك نقول: (لما خلقت بيدي) أي: لما خلقت بنعمتي وهل هما نعمتان فقط، أم أن نعائم الله لا تعد ولا تحصى؟ فهذه من اللوازم الباطلة.

    ومن اللوازم الباطلة: أنهم سيجعلون لإبليس على الله حجة، وكأن الأشاعرة يعلمون الشيطان كيف يتشيطن، فقد أمره الله أن يسجد لآدم فاعترض على ربه وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] فرد الله عليه بقوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وكأن الله يقول له: إن فضل آدم عليك أنني باشرت خلقه بيدي وأنت خلقتك بالقدرة وبالنعمة، قال له كن فيكون، فلو كان المراد باليد النعمة والقدرة لقال الشيطان لربه: يا رب! أنت لم تخلق آدم بيدك، ولم تشرفه بمباشرة اليد، وإذا خلقته بنعمتك أو بقدرتك فقد خلقتني بقدرتك، وخلقت الكون كله بقدرتك، فلا فضل لآدم علي.

    المخلوقات التي خلقها الله بيده مباشرة

    وأختم بالكلام على هذه الصفة: إن الله جل وعلا شرف بعض المخلوقات بالمباشرة الصريحة بيده، فقد خلق آدم بيده والدليل قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وقد غرس الله الفردوس الأعلى بيده -اللهم اجعلنا من أهل كرامتك، واجعلنا من أهل الفردوس الأعلى- والدليل: (أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي).

    الثالثة: خط التوراة بيده، والدليل حديث : (أنت موسى الذي خط الله لك التوراة بيده).

    الرابعة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقد كتب الله في الكتاب فهو عنده على العرش: أن رحمتي سبقت غضبي) فقد كتبه الله بيده، وهذا من رحمته جل في علاه، فإن رحمته سبقت غضبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755981108