يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
قال صاحب كتاب (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) الشيخ الإمام العلامة الشوكاني المحدث الفقيه الأصولي: [ وأما التشفع بالمخلوق فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز طلب الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا ] ثم ذكر الأدلة على ذلك.
أقول: مسألة الشفاعة مسألة شائكة لابد أن نتكلم عليها من عدة وجوه:
الوجه الأول: معنى الشفاعة.
الوجه الثاني: تقسيم الشفاعة.
الوجه الثالث: منكروا الشفاعة والرد عليهم.
أولاً: الشفاعة لغة: اسم مأخوذ من شفع أو يشفع شفاعة، وهو جعل الشيء أو جعل الوتر شفعاً.
في الاصطلاح: التوسط عند الغير لجلب منفعة أو دفع مضرة.
والشفاعة شفاعتان: شفاعة عند الخالق، وشفاعة عند المخلوق.
أما الشفاعة عند المخلوق فهي من القربات وهي مستحبة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحجز الأمر عن الآخرين حتى يأتي الذين عندهم الوجاهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفعوا عنده؛ فيؤجروا بسبب هذه الشفاعة, فهي من القربات ومن المستحبات، فإذا كانت من القربات ومن المستحبات فلا يجوز أخذ الأجرة على الشفاعات، أو يأخذ على ذلك هدية, فهذا ممنوع شرعاً ولا يجوز؛ لأنه قد ورد النهي عن ذلك، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ على شفاعته هدية فقد فتح باباً من أبواب الربا، أو قال: أتى باباً من أبواب الربا)، وهذا الحديث متكلم فيه، لكن صححه الألباني ؛ لأن المعاني العامة تعضد هذا المعنى وتشد من أزره وتصحح هذا المعنى؛ ولأن الأصل في القربات من صلاة وحج وصيام وشفاعة أو أي قربة من القربات التقرب بها إلى الله جل في علاه، ولا يجوز أخذ الأجرة أو الهدية عليها.
فمن شفع شفاعة وأخذ هدية أو أجرة فقد فتح باباً من أبواب الربا, أو وقع في الإثم، وعليه أن يرد هذه الهدية أو هذه الأجرة.
وشفاعة البشر قد يعتريها من الأمور التي تدل على عجز الشافع والمشفوع عنده، ومنها:
أولاً: أن المشفوع عنده قد يجهل بأقدار الناس؛ لأن الذي يشفع عند أمير أو عند سلطان يبين له ما جهله، فيقول: أنت ما أعطيت فلاناً وهو مستحق للعطاء، وأعطيت فلاناً وهو غير مستحق للعطاء، بل يستحق المنع, فهذا فيه دلالة على أن البشر يجهلون.
ثانياً: أن الشافع يدخل على السلطان لوجاهته عنده دون استئذان، بل ويشفع دون استئذان، أما الله جل في علاه فإن الله لا يشفع عنده أحد إلا أن يأذن ويرضى للشافع والمشفوع؛ لأن الشفاعة كلها بيد الله وملك لله، والله هو العليم، وهو الخبير، وهو الذي ينزل الناس منازلهم، وهو الذي يعطي ويمنع لحكمة عنده.
الشرط الأول: الإذن للشافع، قال الله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] أي: لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، وهذا عند أهل البلاغة يسمى أسلوب حصر: (من) و(إلا)، أي: لا يشفع أبداً (نفي)، إلا من أذن له الرحمن سبحانه جل في علاه (إثبات).
الشرط الثاني: الرضا، أي: لابد أن يرضى عن الشافع والمشفوع له, فرضاه سبحانه عن الشافع تأتي ضمناً للإذن.
والرضا عن المشفوع له؛ لقول الله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] أي: ارتضى عن المشفوع له وعن الشافع.
فهذه هي شروط وقيود وضوابط للشفاعة التي أباحها الله جل في علاه؛ لأن الله نفى نفياً تاماً أن تكون هناك شفاعة، قال الله تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:123] وأيضاً قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، فنفى الشفاعة، ثم استثنى من هذا النفي العام شفاعة يرضاها الله جل في علاه، ويأذن للشافع أن يشفع فيها.
شفاعة خاصة، وشفاعة عامة.
فالشفاعة الخاصة عند الله جل في علاه: هي التي أكرم الله بها أفضل الخلق عليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الغضب الذي غضبه الله جل وعلا يوم القيامة هو غضب قد اتصف به في هذا الوقت، وسينفك عنه بعد عرصات يوم القيامة، بعدما يدخل أهل الجنة الجنة ويدخل أهل النار النار.
ثم يقول: (يقول آدم: نفسي نفسي، ويذكر ذنباً فيقول: قد أكلت من الشجرة، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى أول رسول أرسل إلى البشر، فيذهبون إلى نوح، فيقول: لست لها لست لها، نفسي نفسي، ثم يذكر ذنباً، ثم يقول: إن الله قد غضب غضباً لم يغضب مثله قبله ولا بعده، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام, فيذهبون إلى إبراهيم فيقول: نفسي نفسي، ويذكر الكذبات الثلاث، ثم يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى كليم الرحمن، فيذهبون إلى موسى فيقول: نفسي نفسي، إن الله غضب غضباً لم يغضب مثله قبله ولا بعده، ويذكر ذنباً وهو القتل، فيقول: اذهبوا إلى عيسى عليه السلام، فيذهبون إلى عيسى، فلا يذكر عيسى ذنباً، ويقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهو عبد قد غفر له تقدم من ذنبه وما تأخر، فيذهبون إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيسألونه أن يشفع لهم في فصل القضاء، فيقول: أنا لها أنا لها، فيذهب إلى تحت العرش فيسجد تحت العرش، يقول: فأحمد الله بمحامد علمنيها في تلك اللحظة، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع، فيشفع حتى يقضي الله بين العباد), هذه الشفاعة العظمى خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يشاركه فيها أحد أبداً، وهذا فيه بيان لفضل وعظمة ومكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه جل في علاه، ويتجلى معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت بالذات، قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) وذكر يوم القيامة مع أنه سيدهم في الدنيا؛ لأن السيادة يوم القيامة لا منازعة فيها، والكل سيقر بسيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكشف الكربات برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم.
فهذه الشفاعات الثلاث خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد بحال من الأحوال، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
أولاً: صلاة الجنازة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الميت: (ما صلى عليه من أهل التوحيد إلا شفعهم الله فيه).
وهذا الحديث يدل على الشفاعة الأخروية التي تكون لمن يستحق النار، فيشفع له النبي والمؤمنون ألا يدخل النار، بل يدخل الجنة من أول وهلة.
ووجه الدلالة من هذا الحديث عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيشفعهم) أي: إذا كان من أهل الجنة فسيشفعهم فيه، بأن يرتفع بالدرجات، وإن كان من أهل النار واستحق النار فسيقبل شفاعتهم ألا يدخل النار ويدخل الجنة.
إذاً وجه الدلالة: أنهم يشفعون فيه، وقد يكون من الفسق بمكان، من ارتكاب الزنا وشرب الخمر، لكن قدر الله أنه قبل أن يموت قال: لا إله إلا الله، وقال: اللهم إنك تعلم أن هؤلاء الذين يحجرون رحمتك يقولون: إنك لا تغفر لي، اللهم خالفهم واغفر لي، فمات على التوحيد، فيقدر الله له أن يصلي عليه أربعون من أهل التوحيد الخلص، فإذا صلوا عليه ودعوا له وشفعوا له يقبل الله شفاعتهم فيه، سواء كان فاسقاً أو فاجراً؛ وسواء استحق النار من أول وهلة، أو كان مؤمناً تقياً, فالعموم يدل على أن هذه الشفاعة مقررة؛ لأنه يمكن أن يكون من أهل النيران فيشفع فيه الأربعون فيشفعهم الله ويجعله من أهل الجنان.
ومن الأدلة على ذلك: حديث مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قدم له الوضوء، فقال له: (تمن، قال: أتمنى مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: فأعني على نفسك بكثرة السجود), وأيضاً في حديث أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه فقال: (اللهم اغفر لـ
أما الخوارج فقالوا: صاحب الكبيرة كافر في الدنيا والآخرة، وهو مخلد في النار، ولما ناظرهم ابن عباس رجع بثلثي الخوارج.
إذاً: فالمعتزلة كانوا أجبن عند اللقاء من الخوارج، قالوا: لا نقول كافراً؛ لأنه يقول: لا إله إلا الله، لكن هو في منزلة بين المنزلتين، ويسمى فاسقاً في الدنيا، لكن حكمه في الآخرة حكم الكفرة، ولا يمكن أن يكون من أهل الجنان، ولا يمكن أن يشفع له أحد؛ لأن الله نفى الشفاعة عن الكافرين، وهم قد استحقوا الخلود في النار.
فإذاً قول المعتزلة وقول الخوارج ينبثق عن قولهم واعتقادهم بأن أهل الكبائر من الكفار وليسوا من المسلمين، وهذا منهج فيه العطب، فقد ضيع كثيراً من الشباب في مصر والجزائر والسعودية؛ لعدم انضباطهم الفكري، وعدم تعلمهم علم الدين الصحيح على أصله وأسسه.
إذاً: نقول: إن الشفاعة التي أنكرها المعتزلة ثابتة بالسنة الناصعة، وقد أجمع عليها أهل السنة والجماعة، وأهل الاعتزال وأهل الخوارج من المبتدعة لا يخرمون ولا يخرقون هذا الإجماع بحال من الأحوال.
ويبقى لنا فقط ما قاله المؤلف حيث أتى بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يختم به جواز شفاعة المخلوق للمخلوق بما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له: (إنا نستشفع بك على الله، وإنا نستشفع بالله عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحكم! شأن الله أعظم من ذلك، أو قال: إنه لا يستشفع بالله على أحد) أي: لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، فهم عندما قالوا: (يا رسول الله! إنا نستشفع بك على الله) أقرهم، ولما قالوا: (إنا نستشفع بالله عليك، قال: شأن الله أعظم، إنه لا يستشفع بالله على أحد) فوجه الدلالة كأنهم يقولون: إنا نستشفع بدعائك في حياتك، وبشفاعتك في عرصات يوم القيامة عند البعث، وهذا فيه رد على الذين يستشفعون بالنبي وهو ميت.
إذاً: وجه الدلالة أنهم يستشفعون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك آية تثبت ذلك، وهي قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ [النساء:64] أي: يستشفعون بدعائك؛ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيماً [النساء:64]، فاستشفعوا باستغفار ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
أما إنكار النبي صلى الله عليه وسلم قولهم: (وإنا نستشفع بالله عليك) فلعظم حق الله جل في علاه؛ لأنهم بذلك كأنهم أنزلوا الخالق منزلة المخلوق، وأما المخلوق فممكن أن يذهب زيد ليشفع لمحمد عند عمرو، وقد يقبل عمرو شفاعة زيد أو يردها، لكن لا يمكن أن يشفع الله عند أحد، ثم هذا المشفوع عنده يقبل كلام الله أو يرده، هذا لا يمكن؛ لأن هذا سوء أدب مع الله؛ ولأن الله هو الحاكم والكل محكوم، والله هو الرب والكل مربوب، والله هو الخالق والكل مخلوق، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
إذاً: الشفاعة كلها يملكها الله جل في علاه، وعباد الله ملك لله جل في علاه، وإذا قضى أمراً فلا أحد يستطيع أن يرد قضاء الله جل في علاه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر