وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فما زلنا مع كتاب التدليس في الحديث للدكتور مسفر الدميني .
العلماء وضعوا القواعد والضوابط في علم الحديث ليميزوا قول النبي صلى الله عليه وسلم من قول غيره، وكانوا يقمشون ثم ينقشون، أي: يجمعون الحديث ثم يحققون ويدققون هل هذا حديث النبي أو ليس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم, ولذلك وضعوا ضوابط وقواعد لمعرفة صحة الحديث.
وهذه الشروط وضعوها بالاستقراء وبالبحث والتنقيب، ومن أهم الشروط: اتصال السند، وهذا الكتاب برمته يتكلم عن مسألة اتصال السند والانقطاع وغير ذلك، وقد ذكرنا أن المرسل نوعان: مرسل مطلق ومرسل خفي.
واليوم إن شاء الله سوف نتكلم عن مسألة الحديث المعنعن، وصيغ التحمل والأداء.
والعلماء عندما نقحوا الأحاديث نظروا فقالوا: لابد أن نعلم هل هذا الحديث فيه اتصال أم فيه انقطاع, والاتصال معناه: أن التلميذ يروي مباشرة عن شيخه، فيقول: حدثني، أخبرني، أنبأني، حدثنا، أخبرنا، أنبأنا، فإذا قال: حدثنا فهذه دلالة على أنه جلس في مجلس التحديث مع أقرانه الذين يسمعون من الشيخ.
أما إذا قال: حدثني، فيكون المحدث ذكر لطالب الحديث هذا الحديث وهو يجلس معه وحده، فحدثني أقوى من حدثنا؛ لأنه يكون أتقن وأوعى وأضبط، وممكن أن يقول للشيخ: تمهل علي، وأعد هذه الكلمة، لكن ما يستطيع في مجلس التحديث أن يوقفه ويقول: أعد علينا هذا الحديث, لكن لو كان وحده يستطيع أن يفعل ذلك كما فعل مالك رحمه الله، ففي يوم العيد الناس ينشغلون بما ينشغلون به من اللحم وإدخال السرور على الناس, أما مالك فذهب فتوسد عتبة باب الزهري ، فرأته الخادمة فقالت لـالزهري : عبدك الأبيض بالباب، فأخذ لحماً وقال لها: أعطيه إياه, فأخذت اللحم وأعطته إياه، فقال: ما لهذا جئت؟ قالت: لم جئت؟ قال: هو يعرف لماذا جئت، فدخلت على الزهري فقال: أدخليه، فدخل مالك فجلس، فقال الزهري : ما تريد؟ قال: أريد حديث النبي، فسرد عليه حديثاً واحداً، ثم قال: زدني، فسرد عليه الحديث الثاني، ثم قال: زدني، قال: كفاك، قال: لا والله لا يكفيني، زدني فأعطاه الثالث إلى أن بلغ العشرين حديثاً, فلما بلغ العشرين حديثاً قال: الآن قم، قال مالك : والله ما اكتفيت زدني، قال: بشرط، قال: وما شرطك؟ قال: ردد علي هذه الأحاديث، وتلك الأحاديث يرويها الزهري بإسناده مثلاً يقول: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الولاء لمن أعتق) مثلاً، فهو يذكر السند سواء كان طبقتين أو ثلاثاً، فقال مالك -كأن الأحاديث بين عينيه مكتوبة-: أما حديثك الأول: فذكرته عن الشيخ الفلاني عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن سرد كل الأحاديث، فقام الزهري مدهشاً معجباً بالإمام مالك فكافأه مكافأة عظيمة فقال: إنك من أوعية العلم، ارحل وليس لك شيء, فيبين له أن هذه الأحاديث ليس لأحد أن يأخذها بهذا الكم في هذا الوقت؛ ولذلك تعلم الإمام مالك من هذه القصة فقال: ضياع العلم أن تؤتيه لغير أهله؛ ولذلك نحن نقول: طالب العلم هو أخص الناس بعلم الحديث وعلم الفقه وعلم الأصول, طالب العلم لا بد أن يستغرق أوقاته ويجهد نفسه في تحصيل علم النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أحق الناس به.
قال بعض العلماء: (عن) تحمل على الاتصال، وقال بعضهم: لا تحمل على الاتصال, بل يحمل على الاتصال حدثنا أو أخبرنا وهو لم يقل: حدثنا ولا أخبرنا.
مثال آخر للعنعنة: رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله ، هذه الروايات هي أشهر السلسة، يقول حماد : عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله ، فهنا العنعنة أيضاً ينظر ويقف أمامها المحدثون هل سمع أم لم يسمع؟ نأتي إلى سلسلة أخرى مثلاً: عبد الرزاق عن معمر بن راشد عن أنس .
مثال آخر للعنعنة: عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة ، أو معمر عن الزهري عن أنس .
إذاً: صورة الحديث المعنعن أن يروي الراوي عن شيخه المباشر له بصيغة (عن)، فيقف المحدثون أمام هذا الحديث الذي فيه العنعنة وليس فيه تصريح بالتحديث, هل هذا الحديث يكون صحيحاً أو يكون ضعيفاً؟ وهل ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟
والثمرة من معرفة المعنعن: أنك إذا علمت أن هذا الحديث متصل علمت أن شرطاً من شروط الصحة قد توافر, وإن قلت: فيه انقطاع, فيكون شرط من شروط الصحة لم يتوافر، فيكون الحديث ضعيفاً.
القول الأول: المنع من قبولها مطلقاً, قالوا: تحمل هذه الصيغة على الانقطاع, ولا يصح أن نقبل حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد إلا وفيه التصريح بالسماع، قال شعبة : كل حديث ليس فيه حدثنا ولا أخبرنا فهو خل وبقل. وهذا تشدد مرفوض؛ لأنه سيضيع علينا كثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: قول أبي المظفر السمعاني قال: تقبل العنعنة بشروط:
الشرط الأول: ألا يكون الراوي مدلساً.
الشرط الثاني: أن يثبت لقاء التلميذ مع الشيخ.
الشرط الثالث: طول الصحبة.
وهذا تشدد؛ إذ لا يمكن لكل محقق أن يثبت طول الصحبة أو ينفيها.
القول الثالث: قول البخاري جبل الحفظ أمير المؤمنين في الحديث شمس الحديث التي أشرقت على الدنيا فانهال الخير عليها بهذه الشمس, يقول: يشترط في قبول الحديث المعنعن ثلاثة شروط:
الشرط الأول: ألا يكون الراوي مدلساً.
الشرط الثاني: المعاصرة.
الشرط الثالث: ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة.
فمثلاً: حبيب بن أبي ثابت يروي عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فإذا ثبت أن حبيب بن أبي ثابت التقى مع عروة بن الزبير مرة واحدة فنقبل عنعنته، وإلا لم نقبلها؛ لأنه يحتمل أنه أرسل عنه إرسالاً خفياً ولم يسمع منه، وإمكان اللقيا تعرف بالسن وتعرف بالبلد, فينظر سنة وفاة هذا، وسنة ولادة هذا، وأيضاً: حبيب بن أبي ثابت كوفي, وقد ثبت أن عروة دخل الكوفة, فإذا دخل عروة الكوفة فلا يبعد أن يذهب إليه حبيب وهو يعلم من عروة الذي انتشر اسمه وسط كل المحدثين، وهو الذي وقف عند الكعبة يدعو الله أن يأخذ عنه الناس علم حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تثبت اللقيا بالقصة كما قال الرواي عن عمران بن حصين : رأيت عمران بن حصين يرتدي قميصاً صفته كذا.
فهذا القول الثالث هو قول فحول أهل الحديث, قول البخاري وقول شيخه علي بن المديني ، والقول الأول الذي فيه تشديد هو قول الشافعي مع شعبة ، فـالشافعي صرح بذلك في الرسالة.
القول الرابع: قول الإمام مسلم وهو الاكتفاء بالمعاصرة، فإن عنعن الراوي الذي لا يدلس عن شيخ معاصر له فإنه يقبل حديثه، وقد اشتد نكيره على البخاري في اشتراطه ثبوت اللقاء.
فإذا روى سعيد بن المسيب عن عمر ، وسعيد بن المسيب ليس مدلساً، وأتى بصيغة (عن) التي تحتمل السماع، فعلى القول الأول لا يقبل حديثه، وعلى القول الثاني: لا يقبل حديثه أيضاً؛ لأنه لم يثبت أن سعيداً أطال مصاحبة عمر ، وعلى القول الثالث: يقبل حديثه؛ لأنه ثبت أن سعيداً حضر خطبة عمر ، وعلى القول الرابع: أيضاً يقبل حديثه؛ لأنه عاصره، وإن لم يثبت أنه التقى به.
إذاً: قول الإمام مسلم أسهل الأقوال الأربعة، وهو أن الحديث المعنعن يحمل على الاتصال بشروط ثلاثة:
الأول: عدم الاتهام بالتدليس.
الثاني: أن يكون التلميذ قد عاصر شيخه.
الثالث: إمكان اللقاء في الرحلة وغيرها.
اعتذر كثير من أهل العلم لـمسلم بأنه ما قال ذلك إلا حفاظاً على السنة, وخشي أن يأخذ المحدثون بقول البخاري لجلالة قدره ولمكانته فتضيع كثير من السنن, وما اشتدت لهجته للقدح في البخاري ، بل حفاظاً على كثير من السنن من باب: شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه، ولو تهاون في الرد لقال العلماء: هذا هو البخاري فمن هو مسلم الذي يناطح هذا الجبل الشم الشامخ؟!
وبعض العلماء رجح قول الإمام مسلم حتى لا تضيع كثير من السنن، وبعضهم رجح قول البخاري ، وهذا هو القول الأقوى والأصح، وهذا هو الذي رجحه من المتأخرين ابن حجر والسخاوي ؛ ولذلك كثير من المحدثين يقدمون صحيح البخاري على صحيح مسلم ؛ لهذا الشرط الذي اشترطه البخاري وهو ثبوت اللقيا ولو مرة واحدة مع وجود المعاصرة.
مثال آخر: أن يروي حماد بن زيد أن عمرو بن دينار قال: إن جابر بن عبد لله قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كذا وكذا.
فصيغة (عن) و(أن) كلاهما تحتمل السماع وليست صريحة فيه.
وقد اختلف العلماء في حكم الحديث المؤنأن على أقوال:
القول الأول: قول جماهير المحدثين وهو قول مالك كما نقله عنه ابن عبد البر أنه يحمل على السماع، وسووا بين العنعنة والأنأنة فقبلوها مطلقاً.
القول الثاني: قول أحمد بن حنبل : أن الأصل في الأنأنة الانقطاع، وهذا صنيع البخاري في التاريخ الكبير وفي غيره، فجعلوا حكم الأنأنة حكم العنعنة لكنها أقل رتبة منها.
وقد فصل ابن رجب الحنبلي في شرح علل الترمذي هذه المسألة تفصيلاً بديعاً، مما يدل على طول باعه وسعة اطلاعه وتضلعه في علم الحديث وعلم الفقه وعلم الأصول، وهو من فحول أهل العلم ومن فحول الفقهاء المحدثين, قال في شرح علل الترمذي : الحديث المؤنأن له حالتان:
الحالة الأولى: حكاية قول, الحالة الثانية: حكاية فعل أو قصة.
مثال الأول: مالك أن نافعاً أخبره أن ابن عمر أخبره، فهذه حكاية قول، مثال آخر: عن مالك أن نافعاً قال: إن ابن عمر قال: إن رسول صلى الله عليه وسلم قال.
ومثال حكاية فعل أو قصة أن يروي محمد بن الحنفية (أن رسول الله مر بـسلمان وهو يصلي فأشار إليه أن السلام عليكم). قال ابن رجب : ننظر في الحالتين, أما حالة حكاية القول فهي والعنعنة سواء، وإن كانت أقل رتبة، وهذا قول البخاري وهو الراجح الصحيح, فتقبل بالشروط التي ذكرناها في العنعنة.
قال: وأما الثانية وهي حكاية الفعل فلا نقبلها إلا إذا ثبت السماع، ففي المثال السابق لا نقبل رواية محمد بن الحنفية لأنه لم يثبت سماعه من سلمان .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر