إسلام ويب

فقه المعاملات المعاصرة - مسألة ضع وتعجلللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلف السلف والخلف في جواز مسألة (ضع وتعجل) على قولين: مبيح ومانع، واستدل كل فريق بما يعضد قوله من الأثر والنظر، والراجح هو جوازها لما فيها من إرفاق بالدائن والمدين، وإصلاح بين المسلمين، كما دلت على ذلك الأدلة.

    1.   

    صورة مسألة ضع وتعجل

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    كثير من التجار والباعة يعملون بمسألة مهمة، وهي مفيدة جداً لهم، وهذا بحث مشترك بين الحديث والفقه، وهي مسألة الحطيطة أو ضع وتعجل، وهي أيضًا من المعاملات المعاصرة، وقد اختلف فيها كثير من العلماء، وسنبينها تيسيراً على الناس.

    مسألة الحطيطة، أو الإبراء، أو ضع وتعجل صورتها كالتالي:

    رجل له دين عشرة آلاف على رجل إلى أجل معلوم، فضاقت السبل بهذا الدائن وأراد ماله، فذهب للمدين وقال له: احتجت المال، فقال: الأجل لم يحل، فقال: عجل لي المال وأطرح عنك بعضه، فبدلاً من عشرة آلاف سآخذ منك ثمانية آلاف، فهل تصح هذه الصورة أم لا؟

    فهذا رجل أراد ماله، ووقت السداد لم يحن، فقال له المدين: لم يحن الأجل بعد، فقال المقرض: أعطني المال وسأسقط عنك بعض المال الذي عليك. هذه صورة مسألة ضع وتعجل.

    أو: رجل يبيع بالتقسيط، فباع سيارة بمائة ألف بالتقسيط منجمة، فلما احتاج بائع السيارة المال ذهب للمشتري فقال له: إني أحتاج المال الذي عندك. هي بالتقسيط بمائة ألف، وسوف آخذ منك ثمانين ألفاً دون تقسيط، وسأسقط عنك العشرين.

    فهل تصح هذه الصورة أم لا؟

    1.   

    القول بعدم جواز مسألة ضع وتعجل وأدلته

    هذه المسألة اختلف فيها الرعيل الأول على قولين: القول الأول: قول جماهير أهل العلم الشافعية والمالكية والأحناف، وهو قول ابن عمر وزيد بن ثابت والشعبي وسعيد بن المسيب ، وهو المشهور عن أحمد بن حنبل ، وكأن الأئمة الأربعة اتفقوا على ذلك وقالوا بعدم الجواز، وقالوا: من فعل ذلك فقد وقع في الربا.

    وقد استدلوا على حرمة هذه المعاملة بالأثر وبالنظر.

    أدلة الأثر

    أما الأثر فقد استدلوا بأحاديث منها:

    الحديث الأول: ما رواه البيهقي عن علي بن أحمد بن عبدان أنبأنا أحمد بن عبيد حدثنا محمد بن يونس حدثنا غانم بن الحسن بن صالح السعدي حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي عن عبد الله بن عباس -وليس هو عبد الله بن عباس الصحابي فهذا تحته بطبقتين- عن أبي النضر عن بشر بن سعيد عن المقداد بن الأسود قال: أسلفت رجلاً مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: عجل لي تسعين ديناراً وأحط عنك عشرة دنانير. فالصورة: أنه كان مائة وهي لأجل، فأراد التعجيل، فقال: عجل لي تسعين وأسقط عنك عشرة، فقال: نعم أفعل ذلك، فذكر المقداد لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المعاملة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أكلت ربا يا مقداد ! وأطعمته) فسمى هذه المعاملة ربا، وما وجه تسمية هذه المعاملة ربا؟

    الربا هنا ربا النسيئة، ووجه التحريم لربا النسيئة هو الزيادة نظير جعله مالاً أمام الأجل، وهم قالوا: أصل الربا: وضع المال أمام الأجل، سواء بالزيادة أو بالنقصان، وبالزيادة هو ربا النسيئة الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي هذه)، فقالوا: العلة أن يوضع مال مقابل الأجل سواء زيادة أو نقصاناً، وفي هذه المسألة نقصان مقابل الأجل، فقاسوا قياس الشبه، وقالوا بأن المال وضع نظير الأجل سواء بالزيادة أو بالنقصان، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أكلت ربا يا مقداد ! وأطعمته).

    الحديث الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع آجل بعاجل، وقال: الآجل بالعاجل أن يكون لك على رجل ألف دينار أو ألف درهم، فيقول: عجل لي خمسمائة ودع البقية)، وهذا عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم.

    الحديث الثالث: روى البيهقي عن الزهري عن سالم بن عبد الله : أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه سئل عن رجل يكون له الدين على الرجل إلى أجل، فيضع عن صاحبه ويعجل له الآخر؟ قال: فكرهه ابن عمر ونهى عنه. والكراهة هنا قد تكون كراهة تحريم أو كراهة تنزيه، والأصل في كلام هؤلاء -كما في قول أحمد والشافعي - التحريم، ويعضده قوله: فكرهه ونهى عنه، ونهى يعني: حرمه. وهذا السند صحيح، وهو من أصح الأدلة التي استدلوا بها على أن الزهري ينقل عن سالم بن عبد الله ، وهي من أصح الأسانيد.

    الحديث الرابع: عن سالم بن عبد الله عن أبيه ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنه نهى عن هذه المعاملة وقال: هي ربا.

    الحديث الخامس: روى البيهقي عن أبي صالح في غزوة من الغزوات أنه تعامل معاملة بنفس معاملة المقداد بأن أخذ مالاً وعجله فأسقط منه، فسأل زيد بن ثابت عن هذه المسألة، فقال زيد : وقعت في الربا، وقعت في الربا، أو قال: لا تأكل ذلك، لا تأكل ذلك.

    إذاً: عندهم قولان لصاحبيين جليلين هما زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قالا بأن هذه المعاملة ربا ولا تجوز.

    هذه الأدلة من الأثر عند الجمهور من الشافعية، والمشهور عند أحمد والمالكية والأحناف وأيضًا جماهير التابعين.

    أدلة النظر

    النظر هو القياس، قالوا: إن ربا الجاهلية كان قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة، وكانت الزيادة بدلاً عن الأجل، فأبطله الله تعالى، يقول له: إذا أخرت لا بد أن تزيد عليها مائة أو خمسيناً، فإذا كان عليه ضرائب مؤجلة فوضع عنه من هذه الضرائب على أن يعجل له السداد، فإن الحق كان مقابل الأجل كما أن الزيادة كانت مقابل الأجل، وهذا يكون قياساً على ربا الجاهلية، فيحرم كما حرم الشرع ربا الجاهلية.

    1.   

    القول بجواز مسألة ضع وتعجل وأدلته

    القول الثاني: هو قول الحنابلة، وهو قول للشافعي ، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم، وهو قول ابن عباس وابن سيرين ، قالوا بجواز هذه المعاملة، ولا ربا عندهم في هذه المعاملة، ولهم أدلة أثرية ونظرية.

    أدلة الأثر

    من أدلة الأثر التي استدلوا بها ما يلي:

    الحديث الأول: روى الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير من المدينة جاءه أناس منهم، فقالوا: يا رسول الله! إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لم يحن وقتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مرهم فيضعوا وليتعجلوا)، يعني: إن أردتم تعجيل أخذ المال فأسقطوا من هذا المال بعضاً منه.

    الحديث الثاني: روى البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه سئل عن الحطيطة أو ضع وتعجل فقال بجوازها، وقال لا شيء فيها.

    أدلة النظر

    أما الأدلة النظرية فقالوا: إن الحطيطة تكييفها الشرعي أنها من أبواب الصلح، والشرع ومقاصد الشريعة تحث الناس على المصالحة، قال الله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، والمصالحة إن لم تحل حراماً أو تحرم حلالاً فالشرع يحث عليها، وعلى المعاملة بها، فالإسقاط من باب الصلح، وفيه الإرفاق بالدائن والمدين.

    1.   

    مناقشة أدلة المانعين والمبيحين

    قبل أن نبين الترجيح لا بد من مناقشة أدلة الفريق الأول وأدلة الفريق الثاني.

    مناقشة أدلة المانعين

    أما مناقشة أدلة الفريق الأول الأثرية، فالدليل الأول هو ما رواه البيهقي عن المقداد وهو حديث ضعيف، وعلته يحيى بن يعلى الأسلمي القطواني أبو زكريا الكوفي، وهو ضعيف، قال عبد الله عن يحيى بن معين : ليس بشيء، وقال ابن معين : ليس بشيء، فهو دليل على شدته في التضعيف، وقال البخاري : مضطرب الحديث، وهذه أشد منها؛ لأن البخاري كان لطيف العبارة في الجرح، وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث، ليس بالقوي، وقال ابن عدي في الكامل: كوفي شيعي، كأنه يغمزه بهذا، وهذا ليس بجرح كما سنبين، وقال ابن حبان في الضعفاء: يروي عن الثقات المنكرات، وهذا أيضًا تضعيف قوي، وقال الحافظ : شيعي ضعيف، ولو أنه قال: شيعي وسكت لقلنا: فيه نظر، لكن لما قال: ضعيف، فهذا خلاصة ما وصل إليه.

    إذاً: الإسناد يضعف بضعف يحيى بن يعلى الأسلمي القطواني ، وعليه فالحديث ضعيف، والقاعدة عند العلماء: أن الأحكام فرع عن التصحيح، وهذا الحديث ضعيف فلا حجة فيه.

    الحديث الثاني: وهو حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: قال الهيثمي في المجمع: رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف. إذاً: العلة في حديث ابن عمر هو موسى بن عبيدة ، قال محمد بن إسحاق الصائغ عن أحمد : لا تحل الرواية عنه، وهذه شدة في الجرح، قال البخاري : قال أحمد : منكر الحديث، ففيه روايتان عن أحمد الأولى: لا تحل الرواية، والثانية: منكر الحديث. وهذا حديثه لا بد أن يقال فيه على الأقل: ضعيف جداً، قال عباس الدوري عن ابن معين : لا يحتج بحديثه، وقال الذهبي في الضعفاء والمتروكين: ضعفوه، وأجمل ما قيل في ذلك جملة ما قاله الحافظ : موسى بن عبيدة ضعيف.

    إذاً: الحديث الثاني الذي استدلوا به أيضًا حديث ضعيف.

    أما بالنسبة للأثر عن زيد بن ثابت وابن عمر، فالصحيح أنه قد صح الإسناد إلى ابن عمر أنه نهى عن هذه المعاملة -معاملة الحطيطة- وقال بأنها حرام وربا، وأيضاً قال ذلك زيد بن ثابت كما رواه البيهقي في السنن الكبرى بسند صحيح عن ابن عمر وزيد بن ثابت .

    لكن لنا وقفة؛ لأن الذي ورد الآن ليس بحديث مرفوع صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كل الأحاديث التي وردت صحيحة هي موقوفة عن ابن عمر وزيد بن ثابت ، وقول الصحابي عند الأصوليين ليس بحجة إن خالفه قول صحابي آخر، فالحجة في القرائن المحتفة التي تثبت أي القولين أقوى، وقد قلنا بأن السند صحيح إلى ابن عمر وزيد بن ثابت لا نقول بأن هذا القول الذي نقل عن ابن عمر وزيد بن ثابت يرجح المسألة؛ لأن المجيزين من العلماء جاء عندهم بسند صحيح عن ابن عباس إجازتها، فلا حجة لـابن عمر على ابن عباس ، ولا حجة لـابن عباس على ابن عمر إلا بالقرائن المحتفة كما قال علماء الأصول: إذا اختلف الصحابة فالقرائن هي التي ترجح بين القولين، وإلا فلا قول لأحدهما على الآخر.

    أما بالنسبة لمناقشة القياس: فالذي حدث أنهم قاسوا زيادة المال من أجل الأجل على نقصان المال من أجل الأجل، وهذا قياس مع الفارق، فالربا زيادة وتأخير، والحطيطة نقصان مع تعجيل، وهذا فارق جلي جوهري يؤثر في المسألة، الربا زيادة مع تأخير ويقع بذلك الظلم، والحطيطة نقصان مع تعجيل وسيحدث بذلك الفائدة للدائن والمدين، فلا ظلم في هذه المسألة، والعائد للدائن في الربا زيادة عن حقه، فهو المنتفع، وأما المدين فهو المظلوم، أما في مسألة الحطيطة فالعائد للدائن نقص، والمنفعة تعود عليه بأن يقبض المال مرة واحدة، وأيضًا النفع يعود على المقترض بأن يزيح عن كتفه وعن كاهله بعض المال الذي كبله. هذا بالنسبة لمناقشة الذين قالوا بعدم الجواز.

    مناقشة أدلة المبيحين

    أما الذين قالوا بالجواز فأدلتهم هي: حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ضعوا وتعجلوا)، وهو حديث ضعيف أيضاً، وفيه علتان:

    العلة الأولى: أن الحديث يدور على مسلم بن خالد الزنجي، وقد وثقه الشافعي لكنه ضعيف، وهو شيخ الشافعي، وفيه اختلاف، والراجح أنه ضعيف وإن وثقه الشافعي ، قال ابن المديني : ليس بشيخ، وقال البخاري : منكر الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به، يعني: يعتبر به، وقال ابن عدي : حسن الحديث وأرجو أنه لا بأس به، وكأن ابن عدي وافق توثيق الشافعي ، لكن لا يفرح به؛ لأن المحققين من أهل الجرح والتعديل قد ضعفوا مسلم بن خالد ، قال ابن سعد : كان كثير الغلط في حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان يخطئ كثيراً، وهذه دلالة على غمزه بذلك، قال الدارمي عن ابن معين : ثقة وكان الشافعي حسن القول فيه، والصحيح الراجح أنه ضعيف، وقال الساجي : صدوق كثير الغلط، وقال الذهبي : ضعيف لكثرة خطئه، ورجح الحافظ أنه يخطئ كثيراً، أو قال: صدوق كثير الأوهام، وحال هذا يضعف حديثه، لكن حديثه يعتبر به، فلو جاء واحد في درجته يمكن أن يرتقي الحديث إلى أن يكون حسناً لغيره، فالراجح في هذا الرجل أنه صالح لكنه كثير الخطأ والوهم، فيضعف حديثه من أجل كثرة خطئه.

    العلة الثانية في حديث ابن عباس : هو داود بن الحصين، وهو ثقة ثبت، فكيف يكون علة في ذلك السند؟ لأن داود بن الحصين يروي الحديث عن عكرمة عن ابن عباس ، وداود بن الحصين ثقة إلا في حديثه عن عكرمة ففيه شيء، قال ابن معين : ثقة، وقال ابن المديني : ما روى عن عكرمة منكر، وقال أبو زرعة : لين، وقال أبو حاتم : ليس بالقوي، والصحيح الراجح أن قول أبي حاتم : ليس بالقوي في عكرمة ، وأيضًا يؤول قول أبي زرعة فيه أنه لين إذا حدث عن عكرمة ، وهذا الحديث عن عكرمة ، ولذلك قال أبو داود فيه: أحاديثه عن شيوخه مستقيمة، وأحاديثه عن عكرمة مناكير. فحديثه عن شيوخه الذين لازمهم مستقيمة، وحديثه عن عكرمة مناكير، قال الحافظ : ثقة إلا عن عكرمة ، وهذا الحديث قد رواه عن عكرمة فيضعف بذلك.

    إذاً: فيه علتان: العلة الأولى: مسلم بن خالد ، والعلة الثانية: داود فيما رواه عن عكرمة ، والقاعدة عند العلماء: الأحكام فرع عن التصحيح.

    الدليل الثاني: ما صح سنده عن ابن عباس ، فالصحيح أن ابن عباس كان يقول بذلك، وقد خالفه ابن عمر وزيد بن ثابت ، والحجة ليست لـابن عباس عليهم، ولا لهم على ابن عباس ، وإنما القرائن المحتفة هي الحجة.

    أما الدليل الثالث النظري فقد قالوا: إنه من باب الصلح، والصلح مرغب به في الشرع، وهذا من أقوى ما استدلوا به، ولا رد على هذا الدليل، أن هذا من باب الصلح والصلح خير، وفيه تخفيف على المدين.

    1.   

    الراجح في حكم مسألة ضع وتعجل

    الترجيح في هذه المسألة: أنه تجوز مسألة ضع وتعجل، كما قال ابن تيمية وابن القيم : يجوز وضع المال عن امرئ عليه مال لم يحن وقته، على أن يأخذه نقداً ولا يفرقه.

    والدلالة على أن هذا هو الراجح: أولاً: أن الأصل في المعاملات الحل إلا أن يأتي ناقل أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فالأصل في المعاملات الحل ما لم يدل الدليل على التحريم، ولم يرد دليل صحيح صريح يحرم لنا هذه المعاملة.

    ثانياً: أن حديث ابن عباس الذي ورد في المسألة نص في النزاع لولا أن في السند ضعفاً، وهذا الضعف يمكن أن يجبر بشاهد رواه البخاري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنه تقاضى بعض الصحابة ديناً، وعلت الأصوات في المسجد، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم: (أن ضع من دينك هذا، فأومأ إليه أن قد فعلت يا رسول الله، فأقر بما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم)، هذا يقول أعطني مالي، والثاني يقول: حان الأجل وليس عندي مال فأنا معسر، وقال له يقول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار بيده أن ضع الشطر، فقال: يا رسول الله! قد قبلت، فقبل أن يضع الشطر، فبعدما قبل ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه، أي: أعطه المال، فهذا يشهد لحديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

    لكن يمكن أن يرد على حديث ابن عباس إيراد قوي جداً وهو: أن هذا يخالف ظاهر المسألة، إذ حديث ابن عباس فيه أن الأجل لم يحن، لكن هنا قد حان الأجل، فليس بشاهد. لكن رد هذا بأن الأجل قد حان لكن يجب عليه إن كان معسراً أن ينظره إلى أجل آخر وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فأسقط ما عليه للإعسار، وينظره إلى وقت آخر.

    إذاً: هذا الإيراد مردود؛ لأنه كان يجب على كعب أن ينظره إلى وقت آخر، ويضرب له أجلاً آخر، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسقط شطر مالك)، لم ينظر هذا الرجل، وقال له: قم فاقضه، إذاً: هنا إسقاط الإنظار، وكان محل حديث ابن عباس أنه لم يحن الأجل، فـابن عباس في حديثه الأجل لم يحن، فقال: ضعوا المال وتعجلوا الأجل، لكن هذا الحديث لا يشهد لـابن عباس بأن الأجل قد حان وهو يستحق أن يأخذ المال، لكن الرجل كان معسراً فيجب إنظاره لوقت آخر، فكأنه نزل منزله أن الأجل لم يحن، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أسقط الأجل للآخر الذي سيضرب من أجل الإنظار قال: أسقط من مالك واجعله يعجل لك ولا تنظره، فهذا الإيراد مربوط بهذا التأويل، على أن الأجل الذي لا بد أن ينظر فيه فقط، فيجب على الآخر أن يقضيه في نفس الوقت، ويكون شاهداً صحيحاً لـابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

    وإن لم نقل بذلك قلنا: الأصل في المعاملات الحل، ولم يرد أي دليل على الحرمة غير قول ابن عمر وزيد، وقد عارضه قول ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

    ثالثاً: أن هذا من باب الصلح، والصلح بين المسلمين جائز مندوب، إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً؛ لقول الله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128].

    رابعاً: أن هذه المعاملة توافق مقاصد الشريعة؛ لأن الشرع جاء بالإرفاق: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه)، ففيه إرفاق بالمدين لإسقاط بعض المال عنه، وفيه إرفاق بالدائن بتعجيل المال له لينتفع بعد ذلك بالتجارة في هذا المال؛ لأن الربا يتضمن الزيادة مع التأخير، وهذا فيه ظلم، والتعجيل أو الحطيطة فيها النقصان مع التعجيل.

    فهذه أدلة توضح جواز هذه المعاملة، وهذه تكثر عندنا مع الذين يبيعون السلع بالتقسيط.

    وعلى ترك الخلاف في التقسيط جانباً -لأن الجمهور قالوا بالجواز وخالفهم في ذلك بعض الشافعية وبعض المالكية- لو باع رجل سلعة بالتقسيط وله المال منجماً، واحتاج هذا التاجر مالاً كثيراً ليستورد به بضاعة حتى يستفيد منها، وليس عنده مال، فأراد أن يأخذ هذا المال من الذين اشتروا منه هذه السلعة بالتقسيط، فقال أعرض عليكم عرضاً: عجلوا لي بالمال، وأنا أضع عنكم الشطر أو بعض المال، فهذه المعاملة تفيد المسلمين جداً، وفيها إرفاق بالدائن وبالمدين، وهي من باب الصلح والإبراء وإسقاط بعض الحق ليستوفي الرجل الحق الذي له، وفيها تيسير على المسلمين، فهي جائزة على ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، وهو قول للشافعي نقله عنه ابن عبد البر في الاستذكار، وأيضًا هو رواية عن أحمد رحمه الله، والخلاف بين الجمهور لا دليل عليه صريح للتحريم، والأصل في المعاملات الحل.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755953962