ما زلنا مع الشموع المضيئة ومع الأقمار المستنيرة مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ملكهم الله رقاب الدنيا بأسرها في مدة وجيزة من عمر الزمن، الذين اختارهم الله على علم عنده، الذين نظر في قلوبهم فوجدهم أبر الناس قلوباً، وأعمق الناس علماً، وأفضل الناس خلقاً، نحن اليوم مع فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
قال سهل بن سعد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين
فقال علي : (يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام)، وهذا واجب على كل مجاهد ألا يقاتل الكافر حتى يدعوه إلى الإسلام، فإن أبى الإسلام يدعوه إلى الجزية وإلا فالقتال، قال: (ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وهذه فيها دلالة على فضل الدعاة وفضل العلماء الذين يهتدي بهم الأمم.
والطريف في هذه القصة أن عمر بن الخطاب اشربت عنقه للولاية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، والنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه حديث عجيب جداً، وهو قوله: (الخائن عندنا من طلب العمل) يعني: من طلب إمارة أو إمامة أو طلب مسئولية أو طلب ولاية فهذا من أخون الناس، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا له تفسير، إما أنه سيكون من أخون الناس؛ لأنه سيوكل إلى نفسه، وإما أن يكون هناك وحي من الله أن الذي يطلب الإمارة لا يعان عليها فيصبح من أخون الناس؛ لأنه سيضيع هذه الإمارة؛ والأحاديث الأخرى تفسر هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي ذر : (لا تطلبن الإمارة)، وفي الحديث الآخر قال: (من لم يطلبها أو جاءته من غير طلب أعين عليها، ومن طلبها وكل إلى نفسه) فهنا عمر بن الخطاب يقول: أنا ما طلبتها من أجل أنها إمارة، بل طلبتها لأنها شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بما وقر في القلب وهو حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث المتفق عليه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي : (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)، وهذا فضل كبير لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم أنزله بمنزلة هارون من موسى، وهارون كان نبياً، وفي بعض الروايات: (ولكنه لا نبي بعدي)، ولا غرو فإن علي بن أبي طالب هو أول الذين أسلموا لله رب العالمين، لم يشرب خمراً، ولم يعبد صنماً، ولم يفعل فاحشة قط، فهو مسلم منذ الصغر، وقد اختلف العلماء هل أسلم علي قبل الصديق أم الصديق هو الذي أسلم أولاً؟ فجمع بعض العلماء بين القولين وقال: أول الرجال إسلاماً هو أبو بكر ، وأول النساء إسلاماً خديجة ، وأول الأطفال إسلاماً علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
وقال رجل لـسهل بن سعد : هذا أمير المدينة يذكر علياً عند المنبر، يعني: يسب علياً في هذه المعضلة التي حدثت بينه وبين معاوية ، وخاب وخسر من فعل ذلك، وقد قدح في دينه من يتجرأ على علي بن أبي طالب أو يتجرأ على معاوية أو يتجرأ على أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فكان يقول على المنبر: أبو تراب فضحك سهل فقال: والله ما سماه بذلك إلا النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: كأنه كان يسخر من هذه الكنية، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه بـأبي تراب ، فضحك سهل وقال: والله ما سماه إلا النبي، وما كان له اسم أحب إليه منه، دخل علي على فاطمة رضي الله عنها ثم خرج مغضباً، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على فاطمة وقال: (أين ابن عمك؟) انظروا إلى فقه التعامل! النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على ابنته وهو يعلم أن هناك مغاضبة حصلت بين علي وفاطمة ، فيقول لها: (أين ابن عمك؟) يعني: هذا دمك هذا لحمك هذا قريب منك، حتى ولو حدث بينك وبينه شيء فلا يكونن في قلبك منه شيء، فقال: (أين ابن عمك؟ فقالت: في المسجد، فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره والتراب في ظهره، فجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول: اجلس
وفي البخاري عن عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب أنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة فأموت كما مات أصحابي، فكان يرى أن عامة ما يروى عن علي كذب. فالرافضة أشاعوا الكذب، قال الشافعي : أكذب أهل الأرض هم الرافضة، وقال: ما رأيت أحداً أكذب من الرافضة، وأشهر الأحاديث التي وضعوها على علي هي: (خلقت أنا و
دخل ضرار بن ضمرة صاحب لواء علي بن أبي طالب على معاوية بن أبي سفيان فقال: يا ضرار ! صف لي علي بن أبي طالب ، وهذه منها دلالة على أن معاوية رضي الله عنه وأرضاه كان يعرف قدر علي ، ويعظم قدر علي ، ويوقر ويحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، لا كما يظن الجاهلون، فقال ضرار : تعفيني يا أمير المؤمنين، فقال: لابد من وصفه، فقال: إن كان لابد فقد كان بعيد الندى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته.
كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا دعوناه، ويعطينا إذا سألناه، ويأتينا إذا أتيناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه لهيبته، يعني لما خاف من ربه خوف الله منه البشر، ولما عظم الله في قلبه عظمه البشر جزاء وفاقاً، ولما وقر ربه جل في علاه أصبح أصحابه يوقرونه جزاء وفاقاً.
قال: ولا نبتدؤه لعظمته، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطيع القوي في باطله، ولا ييئس الضعيف من عدله، وبالله أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى عليه الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل بمحرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ الكليل، ويبكي بكاء الحزين، يقول: يا دنيا إليك عني، غري غيري، لا حاجة لي بك، أبي تعرضت أم إلى تشوفت؟ أإلي أئلي تعرضتي أم إلي تشاورتي؟! هيهات هيهات! قد بتتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وخطرك حقير، وزادك يسير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق. فنسأل الله أن يرحم علياً ، ويجعله مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.
فهملت عينا معاوية بالدموع وقال: رحم الله أبا الحسن ! فلقد كان كذلك. والله إنه قد كان كذلك وفوق ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مدحه مدحة ليس بعدها مدحة، حيث قال: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، ولقد أعمل سيفه في سبيل الله، ورفع راية الله، وباع نفسه صدقاً لربه جل في علاه، ففي غزوة بدر هو الذي افتتح القتل والقتال عندما طلب أكفاء المبارزة، فقام علي بن أبي طالب وحمزة أسد الله ورسوله، ثم ابتدأ القتال بعدما قتل علي من قاتله وقتل حمزة من قاتله، وأتيا على الثالث فقتلاه جميعاً.
علي بن أبي طالب أبى الله إلا أن يقبضه شهيداً، قتله الفاسق الخارجي الذي خرج على علي وكفره وكفر المسلمين، وكان علي بن أبي طالب قد ساره النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا
والمقصود أن الحق كان مع علي، وعندما تفرق عنه الناس، وخرج عليه الخوارج، قام يوقظ الناس لصلاة الفجر، انظروا إلى أمير المؤمنين ماذا يفعل! كان يمشي في الليل يتعسس ويذهب إلى بيت كل مسلم يوقظه للصلاة، ثم قبض على لحيته وقال: اللهم ابعث أشقاها، اللهم ابعث أشقاها! يعني: صاحب الضربة، فقام الفاسق فضرب علياً رضي الله عنه وأرضاه بالسيف المسموم وقتله رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان علي بن أبي طالب نبراساً لكل شجاع، وكان أسداً من أسد الله في ساحة الوغى، فرفع الله به الراية.
هؤلاء الثلاثة خرجوا متأولين يطلبون دم عثمان ، وجاء في حديث أن النبي قال لأزواجه: (من منكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟)، فلما نبحت عليها الكلاب قالت: أرجعوني فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، وبعض العلماء تكلم في إسناد هذا الحديث، لكن مضى قدر الله، ووقف الصفان، فلما وقف الصفان وقف علي بن أبي طالب ينظر إلى عائشة وإلى طلحة وإلى الزبير وهو لا يريد إراقة دم مسلم واحد في هذه المعركة، وهو الحريص على هذه الأمة، فذهب إلى الزبير بن العوام فقال للزبير : أما تذكر أنني جلست معك في جلسة فمر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا
وعندما قتل الجمل وأنزلت عائشة قال لها علي : يا أمي؛ لأنها أم المؤمنين، هل تريدين شيئاً؟ فقالت: لا، فأعطاها ما يكفيها، ثم أمر جنداً ليرجعوها سالمة إلى المدينة، وانفضت هذه الفتنة، وعلم الناس أن الحق مع علي .
وفي وقعة الجمل سمع عمار بن ياسر رجلاً من جيش علي من الذين أشعلوا نار الفتنة يسب عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فلطمه عمار أو نهره وقال: اسكت والله إنها لزوجة نبينا في الجنة، ولكن الله اختبركم وابتلاكم بها، أتسمعون له أو تسمعون لها، فهي اختبار وفتنة من الله جل في علاه.
ولما قتل رجل من جيش معاوية عمار بن ياسر دخل متهللاً فرحاً مسروراً على معاوية فقال: قد قتلت ابن سمية ، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أبشرك بما يسوءك، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر