يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فكنت قد وعدتكم بترجمة وجيزة للشيخ محمد بن صالح رحمة الله عليه، والأمة قد بليت بلاءً شديداً بموت الجبلين: الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، ثم بموت الشيخ الألباني رحمة الله عليه، ثم بموت هذا الجبل الثالث أسكنهم الله فسيح جناته، فالأمة لم تعوض هؤلاء الثلاثة، فموت هؤلاء نذير شؤم، ونذير خراب، وسنة الله جل وعلا في العباد أنه إذا أراد أن يهلك أمة قبض خيارها أولاً، ثم بعد ذلك نزل الهلاك والبلاء الشديد العميم على هذه الأمة التي قبض الله خيارها.
ومن ذلك: أن الله جل وعلا قبل يوم القيامة يبعث ريحاً باردة تقبض أرواح المؤمنين، حتى لا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله، ولا يبقى على وجه الأرض إلا شرار الخلق، فينزل بهم العذاب، فالله جل وعلا إذا أراد أن يهلك قوماً قبض خيارها أولاً، فنعوذ بالله من أن ينزل علينا البلاء! ووفاءً لهذا الشيخ العظيم الجليل رحمة الله عليه لا بد أن نترجم له.
هذا الرجل له كرامات يبينها الله للعباد قبل موت الصالحين من العباد، قال في آخر درس له: وهذا آخر درس لي، أسأل الله أن يتوفني مسلماً، وأن يلحقني بالصالحين. وكان هذا فعلاً آخر درس له، وأسأل الله أن يعطيه الثانية والثالثة، فيكون قد توفاه مسلماً، وألحقه بالصالحين.
وكان هذا الدرس في يوم ثلاثين من رمضان، قال هذا البحر الذي لا ساحل له بعد أن دب السرطان في كل جسده، ومع هذا فقد أتى إلى العمرة، وما كان يجلس على كرسيه كما كان يفعل كل سنة، بل كان رحمه الله تعالى يلقي الدرس وهو على سرير في غرفة في الحرم، وتعلق له المحاليل، حتى يشهد الله جل وعلا أنه ينفق هذا العلم في سبيله, ولا يتوانى بحال من الأحوال: هذا آخر درس لي، أسأل الله أن يتوفني مسلماً، وأن يلحقني بالصالحين!
تتلمذ على جده من جهة أمه الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ رحمه الله، فقد قرأ عليه القرآن فحفظه، ثم اتجه إلى طلب العلم فتعلم الخط والحساب وبعض فنون الأدب.
وكان الشيخ قد رزقه الله ذكاءً وطهارة ونقاءً في القلب، وهذه الذي أورثته قوة وذكاءً في العقل وهمة عالية، والله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، والله يحب عالي الهمة ويكره خسيس الهمة.
وحرصاً منه على التحصيل العلمي ومزاحمة العلماء بالركب تتلمذ على كثير من المشايخ، وكان في مقدمة شيوخه: الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المفسر الفقيه، القوي في الفقه الحنبلي، المتحرر عن المذهب، وقبل ذلك قرأ الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين على بعض تلامذة الشيخ السعدي قبل أن يرتقي إلى الشيخ السعدي: مختصر العقيدة الواسطية للسعدي ، ومنهاج السالكين في الفقه له أيضاً، والأجرومية ثم الألفية.
فالعلم صعب، وليس لكل أحد أن يسلك هذا الطريق، فهذا الطريق لا بد له من مصابرة وصبر، ولن يصل لهذا العلم غني، إلا من أضجعه الفقر: فقر الحاجة وفقر الطلب، قال بعضهم:
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
الشيخ متزوج من امرأة واحدة، وله من الأولاد الذكور: عبد الله وعبد الرحمن وإبراهيم وعبد العزيز وعبد الرحيم .
وله من الإخوة: الدكتور عبد الله رئيس قسم التاريخ بجامعة الملك سعود.
لم يرحل الشيخ لطلب العلم إلا إلى الرياض.
قال الشيخ: كنا طلاباً في المعهد العلمي في الرياض، وكنا جلوساً في الفصل، فإذا بشيخ يدخل علينا فقلت: هذا بدوي من الأعراب، لا عنده ثياب طيبة ولا هيئة ولا هيبة، وليس عنده بضاعة من العلم، قال: فسقط من أعيننا، وتذكرت الشيخ السعدي وقلت في نفسي: أترك الشيخ السعدي وأجلس عند هذا البدوي الذي ليس عنده هيبة ولا علم، وكان هذا هو الشيخ الشنقيطي، العلم الفرد الذي قال عنه الشيخ الألباني : ما رأيت شيخ الإسلام يمشي على الأرض مثل الشنقيطي ، كان موسوعة علمية تتحرك على الأرض، فذ في التفسير، أستاذ في الحديث، نحرير في الأصول، عالم باللغة والنحو والصرف، ابن باز جبل العلم جلس تحت يديه وتعلم منه اللغة والأدب، قال: فلما ابتدأ الشنقيطي درسه انهالت علينا الدرر من الفوائد العلمية من بحر علمه الزاخر، فعلمنا أننا أمام جهبذ من العلماء، وفحل من فحول العلم، فاستفدنا من علمه وسمته وخلقه وزهده وورعه، رحمة الله على الشيوخ أجمعين.
أيضاً: من مشايخ الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه الشيخ ابن باز ، قال: تأثرت كثيراً بالشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله من جهة عنايته بالحديث. فالشيخ ابن باز معلم الشيخ ابن عثيمين في علم الحديث؛ لأن الشيخ ابن باز خلط بين الحديث والفقه، فكان هو شيخ ابن عثيمين في الحديث، وكان يدرسه علم المصطلح، ويدرسه البخاري ومسلم .
قال: وتأثرت به من جهة الأخلاق والزهد والورع.
أيضاً: من شيوخه الشيخ السعدي الذي كان من جهابذة علماء القصيم، وكان هذا الشيخ علم في القصيم، وكان كل علماء القصيم على مذهب السادة الحنابلة، ما يحيدون عنه قيد أنملة، أما هذا الشيخ فقد أعلن التحرر من المذهب، والاجتهاد المطلق؛ ولذلك تأثر به الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين وتحرر من المذهب، وكان يفتي كثيراً بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية التي يخرج بها عن مذهب الحنابلة، ويرجح مذهب الشافعية أو مذهب المالكية.
أيضاً من شيوخه: الشيخ علي بن حمد الصالحي ، والشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان ، والشيخ عبد الرحمن سلمان آل دامغ الذي هو جده من جهة أمه كما ذكرنا.
فصدق الشيخ في الطلب، والإخلاص في طلب العلم والتعليم، وبذل النفس في ذلك؛ أوصله لهذه المكانة.
ومن الأسباب أيضاً: تدريس الشيخ وتأصيله لطلبة العلم، وكان الشيخ قد أنشأ بيتاً في القصيم كاملاً لطلبة العلم، وينفق من ماله على طلبة العلم، ويقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينفق على طلاب العلم وعلى زوجته وعلى أولاده، فالشيخ كان يستقبل طالب العلم الذي يزكى بأنه صادق الطلب ومخلص، فيعطيه شقة، ويجري عليه راتباً شهرياً له ولزوجته وأولاده، فكان البيت مليئاً بطلبة العلم.
ومن الأسباب كذلك: سلامة المنهج والعقيدة.
ومن زهد الشيخ أنه كان بعد الدرس يرجع إلى البيت حافياً، وهو يعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإرفاه وكان يحتفي أحياناً).
نسأل الله جل وعلا أن يتغمده برحمته، وأن يجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ويرحمه ويرحم الجبلين الأصيلين في العلم الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ الألباني ، فهؤلاء الثلاثة لا يضاهون في هذا العصر، وأسأل الله جل وعلا أن يأجرنا في مصيبتنا، ويخلف علينا خيراً منها، وأن يسكن هؤلاء المشايخ جميعاً فسيح جناته في الفردوس الأعلى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر