إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [8]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من معتقد أهل السنة والجماعة إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل في الآخرة كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وقد خالف في ذلك من أضله الله من المعطلة فظنوا أن إثبات الرؤية يلزم منه التشبيه، وهؤلاء قوم ابتعوا أهواءهم وحكموا عقولهم على نصوص الكتاب والسنة، وقد رد عليهم أهل السنة بما يدحض شبهاتهم.

    1.   

    الاعتقاد في رؤية الله جل وعلا

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    قال الإمام الطحاوي رحمه الله:

    [ والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه.

    وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا ، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه.

    ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حُظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه؛ حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً شاكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً.

    ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأوَّلها بفهم، إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنىً يضاف إلى الربوبية ترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين.

    ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه ].

    فهذا المقطع قرر فيه المؤلف رحمه الله عقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق برؤية الرب جل وعلا.

    فقال رحمه الله: (والرؤية حق لأهل الجنة).

    حق أي: ثابتة حقيقة لا مجازاً، فالحق هو: الشيء الثابت الذي لا شبهة فيه ولا افتراء.

    وقوله رحمه الله: (لأهل الجنة) هذا فيه بيان أعلى ما يكون من الرؤية ، فإن الرؤية التي يحصل بها التنعيم وهي فضل الله جل وعلا ومنته وإحسانه وكرمه وهي أعظم ما ينعم به أهل الجنة هي ما يكون من رؤية أهل الجنة لربهم سبحانه وتعالى.

    فقوله رحمه الله: (والرؤية حق لأهل الجنة) يخرج به أهل النار، فإن أهل النار لا يرونه، ويخرج أيضاً أهل الدنيا، فإن أهل الدنيا لا يرونه، ويبقى رؤية الناس للرب جل وعلا قبل دخول الجنة في أرض المحشر، فإنها ثابتة كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    رؤية الكفار لربهم في أرض المحشر

    واختلف أهل العلم: هل يرى الربَّ سبحانه وتعالى الكفارُ في الموقف أو لا يرونه؟ على أقوال:

    فمنهم من نفى الرؤية مطلقاً، ومنهم من قال: إنهم يرونه، ومنهم من قال: لا يراه إلا المنافقون، أما الكفار فلا يرونه.

    وعلى كل حال فإن الرؤية التي تكون لأهل الموقف هي لأهل الإيمان رؤية تعريف، وأما أهل الكفر والنفاق فإنها رؤية حسرة وعذاب وليست رؤية تنعيم، ولا ينبغي ولا يسوغ أن يقال على وجه الإطلاق: إن الكفار يرون ربهم، بل لابد من تقييد ذلك، وهذا على القول بأنهم يرونه، فإن إطلاق الرؤية لا يكون إلا على وجه التنعيم، وهذا لا يكون إلا لأهل النعيم وهم أهل الجنة، أما الرؤية في النار فلا تكون لأهل النار، كما قال سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].

    رؤية الله في الدنيا

    وأما في الدنيا فإنه لا يرى جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى لموسى لما طلب رؤيته : لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه قبل أن يموت) ، فدل ذلك على أن الرؤية بالعين ممتنعة في الدنيا، أما رؤية الفؤاد فإنها حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الرؤية في المنام فقد حصلت له صلى الله عليه وعلى آله سلم.

    وأما ما نقل عن الإمام أحمد وابن عباس رضي الله عنهما من إثبات الرؤية في الدنيا فإن المنقول عنهما مطلق، يعني: الرؤية مطلقاً فلم يقيداها برؤية العين، وفي بعض الروايات وردت مقيدة، فالمطلق يحمل على المقيد، ولم ينقل عنهما أنهما قالا: إنه رأى ربه سبحانه وتعالى بعينه في الدنيا.

    موقف أهل السنة وبعض الطوائف الأخرى من الرؤية

    فقول المؤلف رحمه الله: (والرؤية حق لأهل الجنة) أي: ثابتة لا مرية فيها ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة وسلف الأمة.

    وقد أنكر الرؤية بعض الطوائف، كالجهمية وهم أول من أحدث إنكار الرؤية، حيث أنكروا أن يُرى الرب سبحانه وتعالى، فقالوا: لا يرى.

    وتبعهم على ذلك المعتزلة، ووافقهم الخوارج، ووافقهم كذلك متأخرو الإمامية، أما متقدمو الإمامية الرافضة فإنهم يثبتون الرؤية، لكن المتأخرين منهم هم الذين أنكروها؛ لأن متأخري الإمامية على مذهب الاعتزال فهم معتزلة في الاعتقاد.

    كذلك ممن ضل في الرؤية: بعض مثبتة الصفات كالأشاعرة والكلابية والماتريدية فإنهم أثبتوا الرؤية لكن على غير طريقة أهل السنة والجماعة، وحقيقة قولهم عند المحققين: أنه لا رؤية؛ لأنهم يقولون: يُرى من غير معاينة ولا في جهة، وهذا قول في غاية السقوط؛ لأنه لا يمكن أن يُرى الشيء إلا في جهة، فقولهم: يُرى من غير معاينة ولا في جهة؛ حقيقته كما قال محققوهم: أنه لا يُرى، فهم من حيث حقيقة القول وافقوا نفاة الرؤية.

    أما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون الرؤية، وحجتهم في ذلك كتاب الله جل وعلا فإنه قد جاء إثبات الرؤية في الكتاب تصريحاً وتعريضاً، وأما السنة فقد ورد ذلك متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث رواه أكثر من ثلاثين من الصحابة رضي الله عنهم، وأما الأقوال الواردة عن السلف في إثبات رؤية المؤمنين لرب العالمين، فهي أكثر من أن تحصى، نسأل الله من فضله.

    رؤية الله عز وجل تلزم الإحاطة

    يقول رحمه الله في الرؤية التي يثبتها أهل السنة والجماعة: (بغير إحاطة ولا كيفية) بغير إحاطة لقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] فإن إثبات أهل السنة والجماعة لرؤية الرب سبحانه وتعالى لا إحاطة فيه؛ لأنه سبحانه وتعالى الكبير الواسع العظيم الذي جل عن أن يحيط به عباده، وعلا قدره عن أن تدركه أبصار خلقه.

    قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] (لو أن الملائكة والأنس والجن والشياطين منذ خلق الله الخلق إلى آخر واحد منهم صفوا صفاً واحداً ونظروا إلى الرب لما أحاطوا به)، فكيف يحيط به نظر واحد من خلقه؟

    وهذا كله يدلك على أن معنى الآية نفي الإحاطة لا نفي الرؤية، فإن الآية ليس فيها أنه لا يُرى، بل فيها نفي إدراكه، وأنه لا تدركه الأبصار، ونفي الإدراك أمر زائد على نفي الرؤية، بل هو غير نفي الرؤية، فإن الإنسان ينظر إلى أشياء كثيرة لا يدركها إما لعظم خلقها أو لشدة فيها، فمثلاً: الشمس يراها كل أحد ممن له بصر ونظر، ولكن هل يدركها الناظر إليها؟ الجواب: لا.

    وإذا أقبلت على مدينة من بُعد ورأيتها فهل تدركها؟ فإذا قلت: لا أدرك هذه المدينة لسعة أطرافها فهل هذا نفي لرويتها؟ الجواب: لا، فلا تلازم بين نفي الرؤية ونفي الإدراك، فإن نفي الإدراك هو نفي للإحاطة، وأما نفي الرؤية فإنه لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، بل على العكس الأدلة في الكتاب والسنة دالة على ثبوت الرؤية لأهل الإيمان.

    وجوب إثبات الرؤية من غير تكييف

    وقوله رحمه الله: (ولا كيفية) هذا كسائر الصفات أي: أننا نثبت الرؤية من غير تكييف كسائر ما نثبته لله عز وجل من الصفات، وهذا فيه الرد على من يقول: إنه يلزم من أنه يُرى أنه جسم، ويلزم من أنه جسم أن يكون متحيزاً، ويلزم من هذا أن يكون له مكان يحيط به، وما أشبه ذلك من اللوازم الباطلة، ونحن نقول: نثبت ما أثبته الله لنفسه من غير هذه اللوازم، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.

    بعض الأدلة من القرآن على رؤية الله عز وجل

    قال رحمه الله: (كما نطق به كتاب ربنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]).

    قوله: (كما نطق به) أي: تكلم به، وبعض الناس يتحاشى من أن يقول: نطق الكتاب بكذا. والظاهر أنه لا بأس بهذا اللفظ، وقد استعمله شيخ الإسلام رحمه الله في كثير من كلامه وكذلك ابن القيم وهو مستفاد من قوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] فلعله مأخوذ من هذا، مع أن النطق في الآية مضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    يقول: (كما نطق به كتاب ربنا) أي: القرآن العظيم، ثم ذكر أعظم ما يستدل به على إثبات الرؤية من القرآن وهو قوله وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] وهذه الآية هي أقوى ما في كتاب الله جل وعلا من إثبات رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، حيث قال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] فأضاف النظر إلى الوجوه ومعلوم أن النظر يكون من الوجوه؛ لأن العينين محلهما الوجه، ولذلك أضاف النظر إلى الوجه.

    ثم إنه عدى النظر بإلى ولا يكون ذلك إلا في نظر العين، فلا يستعمل نظر معدى بإلى إلا فيما ينظر بالعين، ثم قال سبحانه وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] وهذا لنظرها إلى الرب سبحانه وتعالى فاكتسبت من نظرها إلى الله جل وعلا نضارة، وكل هذا من الدلائل في هذه الآية على أن النظر هو النظر إلى الله سبحانه وتعالى.

    أما أهل التحريف الذين يحرفون الكلم عن مواضعه فقالوا: إن قوله تعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] أي: مننتظرة لفضل الله ورحمته، وقالوا: إن هذه المادة تستعمل في الانتظار، ومن ذلك قول المنافقين لأهل الإيمان: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، فالجواب على هذا التحريف: أن في الآية ما ينفي تفسير النظر بالانتظار فإن الله جل وعلا ساق هذه الآية في التنعيم، ومعلوم أنه ليس من تنعيم أهل الجنة الانتظار؛ لأن الانتظار فيه إيلام، وإنما هو النظر إلى الرب سبحانه وتعالى الذي هو غاية نعيم أهل الجنة.

    ثم إنه لا يمكن أن يكون قوله تعالى: (ناظرة) بمعنى: منتظرة وقد عُدي بإلى الدالة على أن النظر بالعين.

    ثم إن النظر هنا أضيف إلى الوجه، ومعلوم أن الانتظار لا يضاف إلى الوجه، فدل ذلك على أن قوله تعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] ما فهمه سلف الأمة مما دل عليه الكتاب والسنة، أي: من أن النظر هنا هو النظر إلى الرب جل وعلا، كقوله تعالى في نعيم أهل الجنة: عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:23] فإن السلف فسروها بالنظر إلى الرب سبحانه وتعالى.

    وكقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] فالزيادة فسرها صديق الأمة بالنظر إلى الرب جل وعلا، بل قد ورد ذلك في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث صهيب ، والمزيد فسره أبو بكر وغيره بالنظر في قوله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].

    قال رحمه الله: (وتفسيره) -أي: تفسير النظر في قوله تعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]- على ما أراده الرب وعلمه) وهذا فيه الرد على تأويل وتحريف المحرفين لهذه الآية، فإن تفسير النظر هنا على ما أراد الله تعالى وعلمه، والمراد بالتفسير هنا: على الكيفية: وإلا فالتفسير في المعنى أي: إدراك معنى هذا الكلام، فهو على ما أراد الله تعالى وعلمه، وعلمناه نحن من مقتضى اللغة وما نقل من تفسير الصحابة رضي الله عنهم، فهذا أمر لا يختص الله به، لكن الذي يختص الله به من التفسير هو معرفة حقيقة ما أخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه، فحقيقة ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه هو الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى.

    الأدلة من السنة على إثبات الرؤية

    ثم قال رحمه الله: (وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال).

    قوله: (كل ما جاء في ذلك) المشار إليه هو الرؤية، (من الأحاديث الصحيحة فهو كما قال) يعني: لا نحرفه ولا نؤوله تأويلاً مذموماً، بل نفسره ونمضيه على ظاهره، وهو رحمه الله يشير بهذا إلى ما جاء من الأحاديث الدالة على إثبات الرؤية، ومنها حديث أبي هريرة في الصحيحين وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أناس: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم سترونه كما ترون هذين) أو (كما ترون ذلك) أي: كما ترون الشمس ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر في إبداره ليس دونه سحاب.

    ومعلوم أن أكمل ما يرى في الدنيا وضوحاً ويدركه كل أحد هو الشمس ليس دونها سحاب، والقمر ليلة الإبدار ليس دونه سحاب، فشبه الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤية بالرؤية، وشبهها بأعظم ما يرى في الدنيا وهو رؤية الشمس والقمر، وليس فيه تشبيه وتمثيل المرئي بالمرئي، بل الله جل وعلا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

    فنثبت ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تأويل.

    نصوص الصفات في الكتاب والسنة تمر على ظاهرها

    ثم قال: (ومعناه على ما أراد، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا) يبطل بذلك تأويلات المحرفين الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، وحملوا الكلام على غير ظاهره ليثبتوا ما اعتقدوه قبل أن ينظروا في النصوص، فوقعوا في إبطال الرؤية ونفي ما دلت عليه النصوص.

    قوله: (لا ندخل في ذلك) يعني: فيما قاله الله وفيما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن الرؤية، بل وفي غيرها، فلا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا.

    ثم قال رحمه الله في قاعدة مهمة قال: (فإنه ما سلم في دينه) والسلامة هي: النجاة من العطب.

    قوله: (ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لا إشكال أنه لا سلامة لأحد إلا بالتسليم لله ولرسوله، والتسليم يكون لله ولرسوله، ويكون بقبول ما جاء عن الله وعن رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل ينقاد ويقبل ما جاءت به النصوص دون تأويل أو تحريف.

    ثم قال: (ورد علم ما اشتبه به إلى عالمه) وهذا فيه تأديب لمن أشكل عليه شيء من النصوص فضاق عنها فهمه ولم يدركها عقله، إذ الواجب عليه في ذلك أن يرد علم ما اشتبه عليه -يعني: اختلط والتبس- إلى عالمه، فيقول: الله أعلم بمراده، ولا يدخل في ذلك بتأويل فاسد، ولا بوهم باطل، بل يسلِّم لله ولرسوله، فإذا قصر فهمه عن شيء مما أخبر به الله عن نفسه وجب عليه أن يرد علم ذلك إلى عالمه، كما قال جل وعلا: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] فنهى الله سبحانه وتعالى عن اتباع ما ليس للإنسان به علم.

    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله مثالاً لهذا في تفسير أسماء الله؛ الظاهر والباطن، والأول والآخر، فإنه أطال في الكلام عن هذه الأسماء وبيانها، ثم بعد أن بيّن المعاني في هذه الأسماء قال: فإن ضاق عن ذلك فهمك فجاوزه، على حد قول القائل:

    إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع

    يعني: إذا قصر فهمك ولم يتسع ذهنك إلى فهم معاني كلام الله عز وجل فليس هذا مسوغاً لردها، ولا التكذيب بها، ولا تحريفها، بل الواجب عليك أن تسلم للنصوص وتقول: لم أفهم هذا، الله أعلم بمراده، ولا يجوز لك أن تقول: ليس لها معنى، بل لها معنىً ضاق عنه فهمك، والناس أفهام، فرد علم ما اشتبه عليك واختلط إلى عالمه، ولا تدخل في ذلك بتحريف أو تعطيل.

    قال: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام) وهذا لا إشكال فيه، فإنه من دخل فيما أخبر الله به عن نفسه على وجه المنازعة والمعارضة فإنه لا تثبت قدمه على الحق، بل يزيغ عن الصراط المستقيم، ويقع في مهاوي الضلال، فخير ما يثبِّت القدم على الإسلام أن يسلّم لله عز وجل، ولذلك قال: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام) والتسليم بمعنى: الاستسلام، ودليل ذلك قول الله جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وأكد التسليم بالمصدر تحقيقاً له، وأنه لا يحصل تمام الإيمان إلا بالتسليم التام لما جاء عن الله وعن رسوله، وكل من عارض كلام الله وكلام رسوله بالشبه والعقول الفاسدة والآراء الباطلة لم يحصل له الثبات على الإسلام.

    طلب العلم المحظور يورث الشك والحيرة

    يقول رحمه الله: (فمن رام علم ما حُظر عنه علمه) والذي حظر عنا علمه هو: علم الكيفيات، وعلم ما لم يخبر به الله ورسوله من الصفات، (فكل من رام -أي: طلب- علم ما حُظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه) أي: فيما جاء الخبر عنه؛ لأن هناك ما مُنعنا من النظر فيه وهو ما يتعلق بكيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وهناك ما أُخبرنا به وهو الصفات التي جاء الخبر عنها في الكتاب والسنة، فما أخبرنا به فالواجب فيه التسليم، وما منعنا من النظر فيه وهو الكيفيات فالواجب فيه عدم النظر وعدم الطلب.

    (فمن رام علم ما حظر عنه علمه) وهو في الكيفيات، (ولم يقنع بالتسليم فهمه) فيما أخبرنا عنه، وما جاء الخبر فيه عن كتاب الله وسنة رسوله (حجبه مرامه -أي: مطلوبه- عن خالص التوحيد)، ولا إشكال أنه يحجب عن خالص التوحيد، ويقع في أنواع من الاشتباه والشرك، ولا يكون صافي المعرفة وصحيح الإيمان.

    فلا يصح إيمانه ولا تتم معرفته بربه ولا يحصل صافي التوحيد عنده؛ لأن كمال التوحيد فرع عن كمال الإيمان بالأسماء والصفات، وهذا مما يدلك على أن التوحيد مرتبط بعضه ببعض، فالخلل في توحيد الأسماء والصفات يؤثر وينجر على توحيد الإلهية فيفضي إلى نقص فيه ونقص في توحيد الربوبية، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات الدالة على كماله وعظيم قدره جل وعلا فإنه ينقص من توحيده بربه سبحانه وتعالى بقدر ذلك، ولذلك لا يُعد الخلل في نوع من أنواع التوحيد مقصوراً عليه، بل في الغالب إذا تأملت وجدت أن الخلل في توحيد الإلهية ناشئ عن خلل في توحيد الأسماء والصفات أو في توحيد الربوبية ولابد.

    يقول رحمه الله: (فيتذبذب) هذا بيان الثمرة في ذلك، فالفاء هنا للتفريع، أي: لبيان ما الذي يثمره طلب علم ما حظر عنه، وعدم القناعة والتسليم بما جاءت به النصوص، فثمرة ذلك هي كما قال المؤلف: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار) فهو في أمر مريج، وهذا من الذين قال الله جل وعلا فيهم: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] أي: أمر مضطرب، وهذا شأن كل من كذب بالحق قليلاً أو كثيراً، فإن شأن المكذبين بالحق الذين لا ينقادون له ولا يقبلونه أن يكونوا في اضطراب عظيم فيتذبذبون بين الكفر والإيمان، وبين التصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار.

    قال رحمه الله: (موسوساً تائهاً شاكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً) وهذا مطابق لحال من لم يسلموا للنصوص القياد فإنهم لم يحصلوا علماً، ولم يدركوا مطلوباً ولا معرفة بالرب سبحانه وتعالى، بل هم تائهون شاكون لم يتحقق لهم تمام الإيمان والتصديق، ولم يسلموا من اعتراضات الجاحدين المكذبين، ومن قرأ كلامهم ورأى مقال من سلك طريق التشبيه علم صدق ذلك، فإذا نظرت إلى ما ذكره الرازي على سبيل المثال وما ذكره الغزالي صاحب إحياء علوم الدين مما وجدوه في هذا الطريق من العطب والضلال، وأنهم لم يسلموا ولم يطمئنوا إلا بالنظر والتسليم للنصوص علمت أن ما قاله المؤلف رحمه الله مطابق للواقع، ويكفي في هذا ما أنشده الرازي حيث قال:

    نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال

    والعالمين المراد بهم: من ترك طريق أهل السنة والجماعة ودخل في علم الأسماء والصفات وما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى بعقله متأولاً، ولذلك قال:

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

    يعني: طوال هذا الكد والسعي والبذل والتأليف والكتابة لم نستفد سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا، والعجيب أن الواحد منهم يثبت في أول المؤلَّف ما ينفيه في آخره، بل بعضهم يقول: ونفي هذا كفر. ثم تجده في آخر المؤلَّف يقول بنقيض ذلك، فيثبت ما جعل نفيه كفراً أو ينفي ما جعل إثباته كفراً، وهذا غاية الاضطراب نسأل الله السلامة والعافية، وهذا حال كل من كذب بالحق كما دلت عليه الآية.

    تحريم تأويل الرؤية

    ثم قال المؤلف رحمه الله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام -جعلنا الله وإياكم من أهلها- لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم).

    قوله رحمه الله: (لا يصح الإيمان بالرؤية) أي: لا يتم الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم، يعني: من مثلها أو أولها، فإن من مثل وقع في الضلال؛ لأن الله جل وعلا يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ومن أول -بمعنى: حرف- فإنه قد ضل في إثبات ما أثبته الله لنفسه؛ لأن التحريف لا يفضي إلا إلى ضلال ولا يوصل إلا إلى عطب، فلا يصح الإيمان بالرؤية إلا بالتسليم للنصوص وإثبات الرؤية على ما أثبته الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

    يقول: (إذ كان تأويل الرؤية) التأويل المراد به هنا: التحريف، واعلم أن التأويل في الأصل معناه: التفسير لكن المشبهين استعملوا هذا اللفظ في طريقة سلكوها وحقيقتها التحريف، فسموا تحريف النصوص تأويلاً وهم كاذبون، فإن النصوص التي عطلوها بما يسمى التأويل حقيقة فعلهم فيها أنهم حرفوها وعطلوها عن معانيها.

    يقول رحمه الله: (إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل ولزوم التسليم) فالتأويل الذي ينبغي أن تفسر به النصوص هو ما جاء عن السلف، وأما غير ذلك من التأويل الذي يسميه أصحابه تأويلاً فإن حقيقته تحريف وضلال وباطل.

    يقول رحمه الله: (وعليه دين المسلمين) أي: ترك التأويل الباطل المنحرف هو ما عليه دين المسلمين، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يدخلوا في النصوص مؤولين تأويلاً يعطلها عن معانيها أو يحرفها عما دلت عليه.

    لا يكون تنزيه الله عز وجل إلا بتوقي النفي والتشبيه

    ثم قال رحمه الله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه). ذكر المؤلف رحمه الله في هذا المقطع البدعتين الرئيستين فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وهما بدعة التمثيل وبدعة التأويل والتحريف الباطل.

    يقول رحمه الله: (ومن لم يتوق النفي) والنفي هو طريق المؤولة أهل التحريف والتعطيل، سواء كان تعطيلاً كلياً كقول الجهمية، أو جزئياً كقول المعتزلة وبعض مثبتة الصفات.

    يقول: (والتشبيه) المراد به: التمثيل، فمن لم يتوق هاتين البدعتين:

    - بدعة التعطيل.

    - وبدعة التمثيل.

    زل، ولا إشكال أنه زل، والزلل هو: الخروج عن الطريق المستقيم.

    قال: (ولم يصب التنزيه) يعني: لم يصب ما قصده من تنزيه رب العالمين، فإن تنزيه الله جل وعلا لا يكون إلا من طريق الكتاب والسنة، وكل من اقترح طريقاً ينزه فيه الرب جل وعلا خارجاً عن الكتاب والسنة فإنه لم يصب التنزيه، بل التنزيه الكامل التام هو في إثبات كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكلام عن الله عز وجل كلام عن غيب، والغيب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالوحي، ولا يكون تمام التنزيه إلا في إثبات قول الله وقول رسوله والتزام ما جاء في الكتاب والسنة.

    وقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه -أي: والتعطيل والتمثيل- زل ولم يصب التنزيه) وهذا فيه الرد عليهم؛ لأنهم قالوا: إنما نؤول لكي ننزه الله جل وعلا، فيقال لهم: ليس في تأويلكم تنزيه للرب جل وعلا، بل في تأويلكم إثبات النقص له سبحانه وتعالى عما تقولون علواً كبيراً.

    ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: (كل من أول النصوص بشبهة يروم بها تنزيه الرب جل وعلا لزم على قوله أعظم مما فر منه).

    فالذين يؤولون الرؤية ويقولون: إن قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] يعني: لا يرى تنزيهاً له عن أن يكون في جهة أو عن أن يكون جسماً؛ لأن لازم الرؤية عندهم أن يكون جسماً كما يزعمون، قلنا لهم: أنتم فررتم من التجسيم وفررتم من أن يكون في جهة فوقعتم في أعظم من ذلك وهو أنكم شبهتموه بالعدم، لأن الذي لا يُرى هو العدم، والعدم هو أقل شأناً من الموجودات، فالموجودات أكمل من العدم، فإنهم ما فروا من باطل ألا ووقعوا في باطل أعظم منه وهلم جراً.

    1.   

    إثبات صفة الوحدانية والفردانية لله جل وعلا

    ثم قال رحمه الله في التعليل للجملة السابقة: [ فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفة الوحدانية ] (الوحدانية) مأخوذة من اسم الله الواحد، والواحد اسم من أسماء الله عز وجل، كما قال تعالى: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل:22] فالله سبحانه وتعالى واحد في صفاته واحد في أفعاله واحد في أسمائه واحد فيما يجب له، فهو سبحانه وتعالى واحد لا شريك له.

    وبعض العلماء يقول الوحدانية مأخوذة من اسم الله عز وجل الأحد، والأحد اسم من أسماء الله عز وجل، كما في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] لكن الظاهر أن هذا القول ليس بصواب؛ لأن الأحد ينسب إليه صفة الأحدية، وأما هنا فالمؤلف قال: (الوحدانية) فتكون مأخوذة من اسمه عز وجل الواحد.

    قال رحمه الله: [ منعوت بنعوت الفر دانية ] (منعوت) أي: موصوف، والنعت والوصف بمعنىً واحد، وبعضهم يفرق بين النعت والوصف، لكن الذي جرى عليه أكثر العلماء على أن النعت والوصف لفظان مترادفان معناهما واحد، فقوله رحمه الله: (منعوت بنعوت الفردانية) أي: موصوف جل وعلا بصفات الفردانية، وصفة الفردانية مأخوذة من الفرد، والفرد ليس اسماً لله عز وجل فإنه لم يثبت ثبوتاً يعتد به ويلحق هذا الوصف بأسمائه، لكنهم قالوا: إنه مأخوذ من قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2] فإن من معاني اسمه الصمد (الذي لم يلد ولم يولد) فهو فرد سبحانه وتعالى.

    1.   

    سبب تعطيل المعطلة لصفات الله عز وجل وقوعهم في التمثيل ابتداءً

    قال رحمه الله: [ ليس في معناه أحد من البرية ] (ليس في معناه) أي: لا يثبت لأحد من البرية معنى من معانيه، ولا يثبت له سبحانه وتعالى ما يثبت للمخلوق، فلا يثبت لله جل وعلا معنىً من معاني الخلق، كما أن الخلق لا يثبت لهم شيء من صفات الرب، فقوله: (ليس في معناه) أي: في معنى الله جل وعلا وما ثبت له من الصفات العظيمة الجليلة أحد من البرية، وهذا فيه نفي التمثيل.

    والمؤلف رحمه الله يبدئ ويعيد في تقرير نفي التمثيل لكون هذا من أعظم ما يسلم به الإنسان من التعطيل، فإن المعطل إنما عطل لما مَثَّلَ صفات الرب جل وعلا بصفات العبد، وعظم في صدره أن يكون الرب كالعبد فعطل ما أخبر الله به عن نفسه لشبهة التمثيل، ولذلك أبدأ المؤلف رحمه الله وأعاد في نفي هذه البدعة؛ لأنها أصل الضلالات في باب الأسماء والصفات، فإن المعطلة إنما عطلوا بعدما مثلوا، وكذلك الممثلة وقعوا في هذه البدعة بعدما توهموا تمثيل الخالق بخلقه وأن له جل وعلا مثيلاً. والله تعالى أعلم.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755951697