إسلام ويب

شرح الأصول الثلاثة - الأصل الثاني [1]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الأصول التي يجب على العبد معرفتها والعلم بها معرفة دين الإسلام بالأدلة، وأن له مراتب، وكل مرتبة لها أركان، ومن أركان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بالأدلة الواردة فيها وفي وجوب تعلمها.

    1.   

    الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين.

    وبعد:

    قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه الأصول الثلاثة:

    [الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، وهو ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان، وكل مرتبة لها أركان.

    فأركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.

    فدليل الشهادة قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله وحده.

    (لا إله) نافياً جميع ما يعبد من دون الله، (إلا الله) مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه.

    وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28]، وقوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]].

    هذا هو الأصل الثاني من الأصول التي تضمنتها هذه الرسالة المباركة، وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة، والأدلة الدالة على هذا الدين القويم أدلةٌ متنوعة، أدلة خلقية وأدلة سمعية، أي: أدلة مشاهدة وأدلة متلوّة، فأما الأدلة المشاهدة فهي ما لفت الله عز وجل إليه الأنظار من الآيات السماوية والأرضية، العلوية والسفلية الدالة على صدق ما جاءت به الرسل، وصحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، وأما الأدلة المتلوّة السمعية فهو هذا الكتاب المبين القرآن الحكيم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على خاتم النبيين.

    والإسلام يتوصل إلى صحته عن الطريقين جميعاً: عن طريق النظر في الأدلة الخلقية، ولذلك أمر الله بالنظر إليها، وعن طريق النظر بالأدلة السمعية -الأدلة المتلوة- الدالة على صحة هذا الدين القويم، وأنه من لدن حكيم خبير، فقوله: [بالأدلة] يشمل هذين النوعين.

    ثم بين المؤلف رحمه الله الدين بقوله: [وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك] عندي: (والخلوص من الشرك).

    وهذه الأمور الثلاثة بها يستقيم إسلام المرء، والمراد به: الاستسلام لله بالتوحيد، وهذا هو الأصل الذي اتفقت عليه الرسل، ولتأكيد هذا قال: [والبراءة من الشرك]؛ فإنه لا يحصل تمام الاستسلام لله بالتوحيد إلا بالبراءة من الشرك، قال الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، فجعل الاستمساك بالعروة الوثقى مرتبًا على أمرين: على الكفر بالطاغوت، وعلى الإيمان بالله تعالى، فلا يحصل لأحد الاستمساك بالعروة الوثقى والقرار على الإسلام إلا بهذين الأمرين، وهما اللذان عرّف بهما الشيخ رحمه الله الإسلام بقوله: [وهو الاستسلام لله بالتوحيد والبراءة من الشرك].

    أما الانقياد له بالطاعة فلا إشكال أنه من الإسلام، وأنه لا يكون المرء مسلماً إلا بانقياده لله جل وعلا بالطاعة فيما أمر، وبالطاعة في اجتناب ما نهى عنه وزجر، وهو من لوازم الاستسلام لله تعالى، وإنما أفرده بذكر مستقل لأنه أراد أن يحصل في هذا التعريف الإحاطة بالإسلام الظاهري والباطني، أي: بإسلام القلب والجوارح. وإلا فلو قال: (الإسلام: هو الاستسلام لله وحده) لكفى في بيان ماهية الإسلام، ولذلك عرّف شيخ الإسلام ابن تيمية الإسلام بقوله: (الإسلام: هو الاستسلام لله وحده)، وأصله في القلب بالخضوع، والمحبة، والخوف، والرجاء، وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، وبالجوارح، في باب العمل بالانقياد له سبحانه وتعالى، فلا يقر الإسلام في قلب أحد إلا بهذين.

    التفصيل في بيان مراتب الدين

    ثم بعد أن ذكر البيان المجمل لهذا الدين أراد ذكره على وجه التفصيل، فقال رحمه الله: [وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان]، وبه نعرف أن التعريف السابق يشمل جميع هذه المراتب، فالإسلام الذي تقدم تعريفه هو الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم المتضمن لجميع ما أمر به ونهى عنه ودعا إليه، وهذا الذي أمر به أو نهى عنه أو دعا إليه يندرج تحت ثلاثة أمور، وهي المراتب التي أشار إليها بقوله: [وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان]، فهذه هي مراتب الدين، والدليل على هذه المراتب الثلاث، وأنها تشمل الدين، ويندرج تحتها جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حديث جبريل؛ فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، وفي رواية: (أمر دينكم)، فجعل ما تقدم ذكره من بيان الإسلام والإيمان والإحسان تعليماً لأمر الدين، ولذلك كان هذا الحديث أصل الدين الذي يجب على كل أحد، فمن أنكر شيئاً مما تضمنه هذا الحديث في الإسلام والإيمان والإحسان فإنه لم يقر بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تثبت قدمه في دين الإسلام، وهذه المراتب الثلاث يدخل بعضها في بعض، فالإسلام أوسعها دائرة، فهو ينتظم الإيمان والإحسان، وأخص منه الإيمان، وأخص منه الإحسان، وسيأتي تفصيلها في كلام المؤلف رحمه الله.

    ودليل هذه المراتب من كتاب الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، فهذه المراتب الثلاث تقابل المراتب المذكورة في كلام الشيخ رحمه الله، وهي المضمنة في حديث جبريل.

    واعلم أن هذه الأسماء الثلاثة إذا افترقت دل كل واحد منها على مضمون الآخر، وإذا اجتمعت كما هو الحال في حديث جبريل اختص كل اسمٍ بمعنى مستقل، والجامع لهذه المعاني أن الإسلام يتعلق بالعمل الظاهر, والإيمان يتعلق بعمل القلب، والإحسان هو الغاية في عمل القلب وعمل الظاهر، فالإحسان هو المنتهى في أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فمن حقق الإحسان يكون قد حقق الإيمان والإسلام، ومن حقق الإيمان فإنه قد حقق الإسلام، ومن أتى بالإسلام لا يكون قد حصل على مرتبة الإيمان ولا الإحسان، والدليل على ذلك قوله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، فدل ذلك على أن المتصف بالإسلام قد لا يتحقق به وصف الإيمان.

    فنبدأ في بيان ما ذكره المؤلف رحمه الله في كل مرتبة.

    1.   

    أركان الإسلام

    قال: [وكل مرتبةٍ لها أركان، فأركان الإسلام خمسة].

    دليل ذلك حديث جبريل الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسلام فأجاب بقوله: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، فذكر الأركان الخمسة، ويدل عليه أيضاً حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس..) إلخ، فهذا هو الدليل لهذه الأركان، قال المؤلف رحمه الله: [فأركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام].

    الأدلة الواردة في شهادة أن لا إله إلا الله

    ثم انتقل من الإجمال إلى التفصيل في دليل كل ركن من هذه الأركان، فقال رحمه الله: [فدليل الشهادة]، ومراده الشهادة لله تعالى وحده بالألوهية، وهي قوله: (لا إله إلا الله)، واستدل عليها بقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، ووجه الدلالة على هذه الشهادة لله تعالى أن الله سبحانه وتعالى شهد على انفراده بالإلهية، وشهادة الله سبحانه وتعالى تتضمن الحكم والقضاء والإلزام، ولذلك فسّر جماعة من السلف قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ) بـ(قضى الله)، وهذا لا غرابة فيه، فإن شهادة الله قضاء وحكم وفصل وإلزام، ودليل ذلك قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، فالشهادة قضاء، كما أن الشهادة إعلان وإخبار وإظهار وبيان، وهي لا تكون إلاّ عن علم، فكذلك هي في حق الله تعالى تكون حكماً وقضاءً: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وهذه شهادته سبحانه وتعالى لنفسه بالإلهية، وأنه لا إله غيره، واستشهد على هذا الأمر طائفتين من الخلق هما أشرف الخلق فيما نعلم: الملائكة وهم عالم غيبي خلقوا من نور، وهم من أشرف خلق الله عز وجل، وأولو العلم، والمقصود بأولي العلم النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون،كل هؤلاء يدخلون في قوله تعالى: (وَأُولُو الْعِلْمِ)، ووصفهم بالعلم لأن هذه الشهادة لا تكون إلاّ من عالم.

    ثم قال سبحانه وتعالى: (قَائِماً بِالْقِسْطِ) هذه من حيث الإعراب حال من الضمير في قوله: (إِلَّا هُوَ)، فيكون قد شهد الله سبحانه وتعالى لنفسه في هذه الآية بأمرين: شهد لنفسه بالإلهية، وشهد لنفسه بأنه سبحانه وتعالى قائمٌ بالقسط، وقيامه بالقسط أي: بالعدل. فهو سبحانه وتعالى القائم على كل نفس بما كسبت، القائم بنفسه المقيم لغيره جل وعلا، وهذا الإعراب أحسن من قولنا في قوله: (قَائِماً بِالْقِسْطِ): إنه حال من لفظ الجلالة (الله)؛ لأن هذا الإعراب الذي قدمناه أشمل في المعنى، فيكون: شهد الله، وشهدت الملائكة، وشهد أولو العلم لله بأمرين: بالإلهية، وأنه سبحانه وتعالى قائمٌ بالقسط. ثم كرر إفراده بالإلهية بقوله: (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، والتكرار لتأكيد الشهادة المتقدمة، وليتلفظ بها القارئ انفراداً، فيكون من الشاهدين؛ لأن مقدم الآية خبر عن شهادة غيره: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]، وهل قراءة هذه الشهادة تحصل بها الشهادة من القارئ؟ الجواب أنها لا تحصل ولذلك كررت كلمة التوحيد ليتلفظ بها القارئ حتى يدخل في زمرة أولي العلم، فقال: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ سبحانه وتعالى، هو (عزيز) فيمتنع من أن يكون له شريك، و(حكيم) فلا يمكن أن يسوى غيره به سبحانه وتعالى في شيء مما يختص به.

    ثم قال رحمه الله: [ومعناها -أي: ومعنى هذه الشهادة- لا معبود بحق إلاّ الله وحده]، وأتى بـ(معبود) من الشهادة التي يفسرها (لا إله إلا الله)، ففسّر كلمة (إله) بـ(معبود)، وهذا تفسير مطابق، فالإله في كلام العرب هو المعبود، والإله: مأخوذ من (مألوه)، وهو الذي تألهه القلوب محبةً وتعظيماً، وخضوعاً وذلاً، وخوفاً ورجاءً. والأصل في تعريف الإله في كلام العرب أنه اسم لمن قُصِدَ بشيءٍ من العبادة وهذا أصح ما قيل في معنى كلمة (إله)، أما في هذا السياق فالمراد به: لا معبود حقٌ إلاّ الله.

    فمن أين أتى المؤلف رحمه الله بكلمة (حق)، هل هي موجودة في الشهادة؟ ليست موجودةً في لفظ الشهادة، ولا أحد يقول: (لا إله حق) لفظاً، ولكنّ هذه الجملة لابد فيها من خبر لـ(لا)، فإعراب (لا إله إلا الله) هو

    أن (لا) نافية للجنس، و(إله) اسمها مبني على الفتح، و(إلا) أداة استثناء، و(الله) لفظ الجلالة ليس خبراً لـ(لا)؛ لأنه لا يصلح أن يكون خبراً لها لفظاً ولا معنى، أما كونه لا يصلح لفظاً فلأن (لا) لا تعمل إلا في النكرات.

    كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى:

    عمل إن اجعل لـ(لا) في نكرة مفردة جاءتك أو مكررة

    فهي تعمل فقط في النكرات، ولفظ الجلالة (الله) معرفة، بل هو أعرف المعارف، فلا يمكن أن تعمل فيه (لا) من حيث اللفظ واللغة.

    وأما من حيث المعنى فكذلك؛ لأنا إن جَعْلنَا لفظ الجلالة خبراً اقتضى إقراراً لمعبوداتٍ من دون الله، لأن المعنى يكون: لا معبود إلا الله وهذا ليس بصحيح، فهناك معبودات كثيرة غير الله عز وجل، ولهذا احتاج العلماء إلى تقدير خبر لهذه الجملة، واختلفوا في تقدير الخبر، فمنهم من قال: (لا إله) أي: لا معبود في الوجود ومنهم من قال: (لا إله حق) وهذا التقدير هو الأصوب؛ لأن تقدير (في الوجود) يلزم منه أن يكون كل من قصد بعبادة حقاً، وهذا ليس بصحيح، إنما الذي يراد من هذه العبارة ومن هذه الجملة هو إثبات أن الله هو الإله الحق، ولذلك قال سبحانه وتعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32]، وهذا التقدير أصوب ما قيل في التقديرات، وقد سبق ذكر الدليل على ذلك، فيكون المعنى: لا معبود بحق إلاّ الله تعالى. يعني: لا إله يقصد بشيء من العبادة وهو مستحق لها وأهل لتلك العبادة إلا الله، فإنه هو المستحق للعبادة دون غيره: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62].

    قال المؤلف رحمه الله: [ (لا إله) نافياً جميع ما يعبد من دون الله (إلا الله) مثبتاً العبادة لله وحده]، وهذا يفيدنا أن التوحيد لا يحصل ولا يتم إلا بركنين: إثبات ونفي. فالنفي هو في (لا إله)، نفي لجميع ما يعبد من دون الله تعالى، والإثبات في (إلا الله)، إثبات لإلهيته وحده لا شريك له، وتأمل وانظر فيما ذكره الله عز وجل في كتابه من آيات التوحيد، تجد أنها سائرة على هذا النسق، فلابد من ذكر نفي وإثبات؛ لأنه بذلك يحصل كمال التوحيد.

    قال المؤلف رحمه الله: [لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه].

    وهذا كالدليل لما تقدم ذكره من تقدير في قوله: (لا معبود بحق إلا الله)، فالشيخ رحمه الله يقول: وجه هذا التقدير أنه لا يستحق العبادة إلاّ الله، كما أنه ليس له شريك في ملكه، وهذا استدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية.

    قال المؤلف رحمه الله: [وتفسيرها] -الضمير يعود إلى شهادة ألا إله إلا الله- الذي يوضحها -أي: يبينها ويجليها- قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27]، فـ(إِذْ) ظرف لما مضى من الزمان، ولابد له من متعلق، ومتعلقه في مثل هذا السياق (اذكر)، يعني: اذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: (إِنَّنِي بَرَاءٌ) و(براء): مصدر يستوي فيه المفرد والجمع، والمراد من ذلك: إنني بريء. فهو تبرؤ إبراهيم من عبادة قومه للأصنام، وهو معنى قوله تعالى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، فالبراءة اجتناب لما كان عليه قومه، ولذلك قال: (مِمَّا تَعْبُدُونَ) يعني: من الذي تعبدونه فـ(ما) موصولة بمعنى الذي، فتبرأ مما يعبدون، ثم قال: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)، وهذا استثناء، إما أن يكون استثناء متصلاً، أو استثناء منقطعاً على قولين لأهل العلم، فالاستثناء المتصل يلزم منه أن يكون قومه يعبدون الله وغيره، يعبدون الأصنام ويعبدون الله معها، فهذا هو المعنى بناءً على جعل الاستثناء متصلاً، أما المعنى على كون الاستثناء منقطعاً فإن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا لا يعبدون إلاّ الأصنام فقط، ولا يعبدون الله مع الأصنام، ويكون تقدير الكلام: إنني براء مما تعبدون، لكن الذي فطرني فهو الذي أعبده وأفرده بالعبادة وحده.

    ومعنى (الذي فطرني) أي: الذي خلقني (فإنه سيهدين)، وهذا فيه التعليل لإفراده بالعبادة، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يملك الهداية، وأن هذه البراءة من هداية الله له، وأن كل من خالف هذه البراءة لفظاً أو معنىً فإنه بعيد عن هداية الله سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا في نبأ إبراهيم: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28]، و(جَعَلَهَا) الضمير هنا يعود إلى الكلمة، وهي البراءة من الشرك المتمثل بعبادة قومه للأصنام، والكلمة الباقية في عقبه هي الشهادة ، (فِي عَقِبِهِ) يعني: في ذريته وخلَفِهِ في أولاده وأولاد أولاده، وذلك بما تعاهد به إبراهيم أبناءه من الوصية كما ذكر الله عز وجل في سورة البقرة من وصيته لأولاده بأن يلزموا هذا الدين، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي: لعلهم يرجعون إلى هذه الكلمة ويلتزمونها.

    ووجه الدلالة من الآية -وفق مراد المؤلف- أن شهادة أن لا إله إلا الله تستلزم البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وأنه لا يستقيم التوحيد إلاّ بإفراد الله عز وجل بالعبادة والخلوص من الشرك والبراءة من أهله، وهو معنى قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256]، فجعل الاستمساك بالعروة الوثقى مرتباً على هذين الأمرين، وانظر إلى حسن تأليف المؤلف رحمه الله وقوة تصنيفه؛ حيث لم يفسر هذه الكلمة أو لم يوضحها ويشرحها بكلام من عنده، وإنما وضحها بكلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبهذا يلقم خصومه حجراً؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يعارض كلام الله عز وجل إلا من كان في قلبه زيغ.

    ثم قال رحمه الله: [وقوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ -وهم اليهود والنصارى- تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] (سواءً) أي: مستوٍ أمرها بيننا وبينكم. وقيل: كلمة سواء أي: كلمة عدل. وهذه الكلمة هي: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران:64]، فهذه هي الكلمة العدل، وهي الكلمة التي استوى فيها أهل الإسلام مع أهل الكتاب؛ لأن دعوة المرسلين على اختلافهم واختلاف أزمانهم وأماكنهم وأقوامهم واحدة، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله.

    وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ))[آل عمران:64] هذا تأكيد لإفراد الله عز وجل بالعبادة، وأن من لوازم العبادة ألاّ يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، و(أَرْبَاباً): جمع رب. والرب: هو الذي يملك ويرزق ويدبر ويخلق، والمقصود من اتخاذهم أرباباً هنا -كما بينته السنة- اتباعهم في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، فمن اتبع أحداً وأطاعه في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فإنه قد اتخذه ربًّا من دون الله.

    قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: لم يقبلوا هذه الدعوة ولم يستجيبوا إلى ما دعوتموهم إليه من الاجتماع على كلمة سواء - وهي إفراد الله بالعبادة - فموقف أهل الإسلام هو ما أجابنا به آمراً لنا بقوله تعالى : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ، وهذا فيه أنه يجب على المؤمن الثبات على هذه الكلمة ولو خالفه من خالفه، وأنه لا يجوز له أن يتنازل عنها، أو أن يعرض عنها، أو أن يتخلى عنها بسبب كثرة المعرضين المتولين عنها، فإن تولوا فاثبتوا أنتم على أمركم، بل وأعلنوا ثباتكم بالتصريح في قوله: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ، وهذه الشهادة لا يستقيم لها ساق، ولا يثبت لها عود، ولا تقرّ في قلب إلا بهذين الركنين العظيمين، وهما إثبات العبادة لله عز وجل، ونفيها عن غيره كائناً من كان.

    الدليل على شهادة أن محمداً رسول الله

    ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى ذكر دليل الشهادة الثانية فقال:

    [ودليل شهادة أن محمداً رسول الله قوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، ومعنى شهادة (أن محمداً رسول الله): طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع].

    هذا هو الركن الثاني من أركان شهادة ألا إله إلاّ الله، أو هذه أركان الشهادة التي يدخل بها الإنسان إلى الإسلام، وهو الشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وسيأتي تفصيل من هو النبي في الأصل الثالث من الأصول التي ذكرها المؤلف رحمه الله، ودليل شهادة أن محمداً رسول الله قوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيمٌ ، فقوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: من جنسكم. وقيل: إن الخطاب لقريش. فيكون معناها: من العرب، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ، و(عزيز) إذا عدّيت بـ(على) كان معناها: الثقل والشدة. أي: يثقل عليه ويشق عليه ويشتد عليه (مَا عَنِتُّمْ) يعني: الذي يتعبكم ويلحقكم فيه مشقة. فهذا وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه عزيز عليه مشقة أمته وتعبهم. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) والحرص: هو شدة الرغبة في الشيء. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً غاية الحرص على هداية قومه ودلالتهم على الحق والهدى، حتى إنه أدمي وجهه، وكسرت رباعيته، وشجّ رأسه، وكان يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وهذا من غاية حرصه وشفقته على الناس صلى الله عليه وسلم، بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيمٌ)، وهذا خاص بأهل الإيمان تميزوا به عن غيرهم، فهو صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم، والرأفة: هي رقة تنشأ عن الخوف على المرؤوف به. والرحمة تقتضي الإحسان بالمرحوم، فالرأفة تقتضي دفع المكروهات، والرحمة تقتضي جلب المحمودات والمحاسن والمحبوبات، والشاهد من هذه الآية قوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، والذي جاءنا من أنفسنا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا بهذه الآية، فهذا دليل من القرآن على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، فأثبت علمه سبحانه وتعالى برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لما طولب النبي صلى الله عليه وسلم بدليل على رسالته قال له: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الإسراء:96]، فاكتفى بشهادة الله عز وجل على إثبات رسالته، كما تقدم بيان ذلك فيما تقدم من دروس.

    والله تعالى أعلم، وبالله التوفيق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755998427