إسلام ويب

لا تخونوا الله والرسولللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للأمانة شأن عظيم، وقد أخبر الله عز وجل أن السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملنها، وحملها الإنسان لظلمه وجهله، فيجب على كل مسلم أداء الأمانة، واجتناب الخيانة، والخيانة أنواع، وأشدها تحريماً وإثماً خيانة الله ورسوله؛ وذلك بترك أوامرهما، وانتهاك نواهيهما.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيهاالذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول...)

    بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة. فاللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا الجمع المهيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (لا تخونوا الله والرسول) هذا هو عنوان لقاءنا في هذا اليوم المبارك، وسوف أركز الحديث في هذا الموضوع في العناصر التالية: أولاً: في رحاب آية. ثانياً: خيانة على المستوى العالمي. ثالثاً: خيانة على مستوى الأمة. رابعاً: خيانة على مستوى الأفراد. فأعيروني القلوب والأسماع؛ فإن هذا الموضوع الآن من الأهمية بمكان، وأرجئ الحديث في الطريق إلى القدس إلى محاضرة أخرى إن شاء الله تعالى، أسأل الله أن ييسر ويذلل هذا الطريق.

    سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله .. .)

    أولاً: في رحاب آية: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]. ذكر المفسرون أن هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال نزلت في حق أبي لبابة بن عبد المنذر ، وهو صحابي جليل رضي الله عنه، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني قريظة لما نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحرج الأوقات، فلقد حاصر الأحزاب من المشركين المدينة من كل جانب، وكان بين رسول الله وبين اليهود عهد، فترك داخل المدينة مع اليهود النساء والأطفال والأموال، ولكن اليهود متخصصون في نقض العهود كما ذكرنا ذلك مراراً، فلقد نقض اليهود العهد مع الله جل وعلا، ومع جميع الأنبياء والمرسلين، وأسأل بمرارة وأقول: أفينقض اليهود العهود مع الأنبياء والمرسلين بل ومع رب العالمين ثم بعد ذلك يفي اليهود بالعهود للزعماء والحكام؟! لقد نقض اليهود العهد في أحرج الأوقات، حتى بلغت القلوب الحناجر، فالمشركون يحاصرون المدينة من كل جانب، ونقض اليهود داخل المدينة العهد؛ فشكلوا تحدياً داخلياً خطيراً مروعاً، حتى قال المنافقون يومها قولتهم الخبيثة: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]. بل لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم يتضرع إلى الله جل وعلا -كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى - ويقول: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم) واستجاب الله لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، فأرسل جندياً من عنده، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، فأرسل الله الريح فكفأت قدور الأحزاب، واختلعت خيامهم، وقذف الله الرعب في قلوبهم، وتبعثروا في أرض الصحراء كتبعثر الفئران، وهزم الله الأحزاب وحده، ونصر عبده، وأعز جنده جل جلاله، ومنَّ الله على النبي والمؤمنين بهذا النصر الذلول، ودخل النبي بيت عائشة ووضع سلاحه، وخلع لباس الحرب؛ وإذ به يرى جبريل عليه السلام ما زال يلبس لباس الحرب، ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (أوقد وضعت سلاحك يا رسول الله؟! فإن الملائكة لم تضع أسلحتها بعد، فقم بمن معك إلى يهود بني قريظة، فإني سائر أمامك؛ لأقذف الرعب في قلوبهم، ولأزلزل حصونهم) ، والحديث في الصحيحين من حديث عائشة ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر منادياً أن ينادي في أصحابه: (من كان طائعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة) ، فخرج الأطهار الأبرار، وخرج أمامهم النبي المختار، وكان جبريل قد انطلق بمجموعة من الكتائب الملائكية؛ ليقذف الرعب في قلوب يهود بني قريظة، وليزلزل بهم حصونهم. وهنالك حاصر المسلمون يهود بني قريظة خمساً وعشرين ليلة على الراجح من أقوال المحققين من أهل العلم، حتى نزل اليهود على حكم سعد بن معاذ، لكنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر ؛ ليستشيروه في هذا الأمر، ولماذا أبو لبابة ؟ لأنه كان حليفاً لليهود، وكان ماله وعياله عندهم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة إلى يهود بني قريظة، فاستشاروه -فتدبروا معي أيها الأفاضل!- فأشار عليهم أبو لبابة إشارة بيده دون أن ينطق، أشار بيده إلى حلقه، يعني: إنه الذبح، فإن نزلتم على حكم سعد بن معاذ فسيقتل رجالكم، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال، وقد صرحت رواية الإمام أحمد بسند حسنه العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى بأن أبا لبابة قد قال بالفعل: إنه الذبح، يعني: ستذبحون، فتصوروا وتدبروا ماذا فعل أبو لبابة، أشار إلى حلقه فقط أو قال: إنه الذبح. قال أبو لبابة : (فوالله! ما تحركت قدماي إلا وقد علمت أني قد خنت الله ورسوله) فعاد إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظروا إلى هذه الضمائر التي رباها القرآن، انظروا إلى هذه القلوب والمشاعر التي ربها النبي عليه الصلاة والسلام، أشار أو قال كلمة فعلم أنه قد وقع في الخيانة، فعاد إلى المسجد النبوي وربط نفسه في سارية، أي: في عمود من أعمدة المسجد، وأقسم بالله ألا يأكل طعاماً أو شراباً حتى يموت أو يتوب الله عليه، ومكث في هذا الموطن تسعة أيام لا يذوق طعاماً حتى أشرف على الهلاك والموت بالفعل إلى أن أنزل الله عز وجل توبته على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، فلم يخرجه بهذا الذنب من الإيمان، ولا من صفوف المسلمين، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:27]. وجاء بعض الصحابة وهم يتهللون فرحاً إلى أبي لبابة بن عبد المنذر في المسجد النبوي، وأرادوا أن يفكوا قيده فأبى وقال: (والله! لا يفك قيدي إلا رسول الله بنفسه!) فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم ففك قيده بيده، وقرأ عليه الآية، وبشره بتوبة الله عليه، فقال أبو لبابة: (يا رسول الله! إني كنت قد نذرت لله أن أخرج من كل مالي إن تاب الله عليّ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يجزيك الثلث) أي: تصدق بالثلث فحسب، هذا هو سبب من أسباب نزول هذه الآية. وقد ذكر بعض المفسرين أن الآية نزلت في حق حاطب بن أبي بلتعة، وقصة حاطب بغير سبب النزول ثابتة في الصحيحين، فلقد أمر النبي الصحابة أن يكتموا خبر خروجه إلى مكة فاتحاً؛ حتى يفتح مكة على غرة دون أن تسفك دماء في بلد الله الحرام، ولكن حاطب بن أبي بلتعة في لحظة ضعف أراد أن تكون له مكانة عند المشركين في مكة، فكتب كتاباً، ووضعه في شعر امرأة، وانطلقت المرأة بهذا الكتاب لتخبر المشركين في مكة بغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. ولكن الله أطلع نبيه على خبر هذا الكتاب، فأرسل النبي علياً رضي الله عنه مع نفر من أصحابه، فأحضر هذا الكتاب من شعر هذه المرأة، ودفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة، فاعترف حاطب وأقر بذنبه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (دعني أضرب عنقه يا رسول الله! فلقد خان الله ورسوله والمؤمنين) فماذا قال من هو بالمؤمنين رءوف رحيم؟ ماذا قال الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، الذي يعلم طبائع البشر، ويعلم أن الإنسان مهما علا كعبه ومهما بلغت منه الطاعة، فمن الجائز جداً أن يزل في أي لحظة من اللحظات، في لحظة ضعف بشري لا ينفك عنها إنسان إلا إن كان نبياً أو رسولاً معصوماً من الله جل وعلا. قال النبي لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا -يا عمر- إنه ممن شهد بدراً، ولعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وفي رواية في الصحيح: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: أعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة). أيها الأخيار! نجاه سابق عمله وصدق عطائه للإسلام من هذه التهمة النكراء، من أن يكون خائناً لله ولرسله وللمؤمنين، ولابد أن ينتبه شباب الصحوة لهذا الدرس. قال الإمام القرطبي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن الكريم): الناس صنفان: صنف قد اشتهر بين الناس بالصلاح والدين، فهذا إن زل وجب على أهل الإيمان أن يصبروا عليه. والصنف الآخر صنف يجاهر بمعصيته وذنوبه، فهذا لا غيبة له، يجب على أهل الفضل -إن نصحوه وذكروه وما زال مصراً على معصيته- أن يبكتوه بما فيه؛ كي يحذر الناس شره وفسقه. أما أهل الصلاح فإن زل أحدهم أو إن أخطأ أحدهم فواجب على أهل الإيمان أن يستروا عليه، وألا يكونوا للشيطان عوناً على أخيهم إن زلت قدمه في بؤرة من بؤر المعاصي أو حفرة من حفر الذنوب في لحظة ضعف بشري لا ينفك عنها إلا نبي أو رسول معصوم من قبل الله جل وعلا. وقال الحافظ ابن كثير : والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية عامة في التحذير من الوقوع في خيانة الله ورسوله والمؤمنين في كل زمان ومكان. وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:27]، هذا نداء لمن حقق الإيمان، والإيمان ليس كلمة ترددها الألسنة دخاناً يطير في الهواء فحسب، ولكن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.

    1.   

    خيانة على المستوى العالمي

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، أستطع أن أقسم الخيانة إلى ثلاثة أقسام: الأول: خيانة على المستوى العالمي. الثاني: خيانة على مستوى الأمة. الثالث: خيانة على مستوى الأفراد. وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء بإيجاز. أما الخيانة على المستوى العالمي فإنها الخيانة التي فاح عفنها ونتنها في كل البقاع والأصقاع، إنها خيانة عالمية، خيانة يخطط لها في البيت الأبيض، وفي البيت الأحمر في الكرملن، مروراً بمنظمة هيئة الأمم المتحدة، ومروراً بحلف الأطلسي، ومروراً بالنظام والاتحاد الأوروبي، كل هذه الهيئات وكل هذه المنظمات وكل هذه الأحلاف الدولية تؤصل الآن للخيانة تأصيلاً، إنها خيانة أزكمت الأنوف بعفنها ونتنها، فأي قانون وأي عرف وأي جيل يقر هذه الخيانة العفنة التي تجري الآن منذ أشهر وسنوات على أرض فلسطين؟! وأي عرف وأي ميثاق يقر هذه الخيانة العفنة النتنة التي تمارس على خشبة المسرح العالمي؟ لقد جلس النظام الغربي على مقاعد هذا المسرح العالمي ليصفق بقوة وحرارة وجدارة للجندي اليهودي الجبان الغشوم الظالم، وقف النظام الغربي الخائن كله ليصفق لهؤلاء المجرمين، بل ليمنحهم السلاح لا من وراء ستار، بل على مرأى ومسمع من العالم كله، فبسلاح أمريكي خائن يقتل المسلمون في فلسطين، وبسلاح أمريكي خائن يقتل المسلمون في العراق، وبسلاح أمريكي خائن ضرب جنوب السودان، وضربت أفغانستان، وفي كل موقع من المواقع الآن، لا من وراء ستار، بل على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي الهزيل المريض، وعلى مرأى ومسمع من العالم الغربي الخائن الذي تفوح منه الخيانة بعفنها ونتنها. إن البشرية الآن تشهد من صنوف الخيانة وألوان الوحشية والبربرية والهمجية ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات، واسمحوا لي أن أكرر هذه الكلمات: أقول: والله! إن البشرية الآن تشهد في ظل قيادة الرجل الغربي الخائن من صنوف الوحشية والبربرية والخيانة ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعلها ببعضها البعض في عالم الغابات. آه يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الد نيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق آه يا مسلمون القدس تباد والعالم كله خسة وخيانة ونفاق القدس من دولة المجد عثما ن أبوها والفاتح العملاق القدس من قلب مكة بالتوحيـ د يعلو لواؤها الخفاق تركوها وحولها من كلاب الـ يهود طوق من خلفه أطواق قدمتها الصلبان لليهود قربا ناً ولليهود كلهم عشاق ووالله لو فعلنا باليهود ما فعلو ه لرأينا مثل الذي رآه العراق إنها الخيانة التي يفوح عفنها ونتنها على المستوى العالمي، فزعماء العالم من الطواغيت المجرمين الكلاب يرون كل يوم دماء المسلمين تسفك، ولحومهم تمزق، وبيوتهم على رءوسهم تدمر، وصار الحس متبلداً، وصار الزعيم من هؤلاء يخرج في مؤتمر صحفي بارداً كبرود الثلج ليقول: يجب على الفلسطينيين أن يوقفوا العمليات الإرهابية ليوقف اليهود ضرباتهم للفلسطينيين! بكل خيانة، وبكل جرأة وتبجح صارت الكلمات -ورب الكعبة- لا تجد لها سبيلاً إلى الحناجر. ووالله! ثم والله! لولا أن الله أخذ على أهل العلم الميثاق أن يتكلموا ويبينوا ما تكلمت كلمة، ولا بينت شيئاً؛ لأن زمن التنظير قد مضى، وزمن الكلام قد انتهى؛ فقد صرخت الطائرة في كبد السماء، وصرخ الرشاش في يد اليهودي الخائن، وتكلم الرصاص، فلماذا تنتظر الأمة؟! وأي شيء تنتظر هذه الأمة؟! إنه عالم لا يعرف إلا الخيانة، وعالم لا يقر إلا لغة الحرب ولغة الرصاص، فما هو الذي تنتظره الأمة بعد كل ذلك؟ وزعماء العالم في أمريكا ، وفي بريطانيا، وفي روسيا، وفي فرنسا، وفي كل العالم؛ يرى هذه الخيانة كل يوم ويقرها، ويقر الخيانة التي تمارس كل ساعة -بل كل دقيقة- على خشبة المسرح العالمي، ثم بعد ذلك يتغنى هؤلاء المجرمون الخونة بالنظام العالمي الجديد، بأكذوبة السلام العالمي، فأين النظام العالمي الذي يتكلمون عنه؟!

    وقفة مع نظرة الغرب إلى المسلمين ونظرتهم إلى الحيوانات

    والله! إن القلب ليتفطر، والله! إن القلب ليتمزق، أين النظام العالمي؟! لقد رأيت بعيني أمريكية كذابة كسائر الأمريكان الكذابين، رأيتها بعيني في ولاية (نيويورك) في وقت شديد البرد، بل يكاد البرد أن يجمد الدماء داخل العروق، رأيت هذه الأمريكية تمسك قطة وتبكي، فقلت للأخ الذي يقود السيارة: قف وسل هذه المرأة لماذا خرجت في هذا الجو؟ وكنا قد خرجنا من المركز الإسلامي بعد صلاة الفجر، فسألها لماذا خرجت في هذا الجو؟ ولماذا تمسك القطة هكذا وتبكي؟ فأخبرته بأن قطتها مريضة، وأنها في طريقها لتجري لها جراحة عاجلة، قلت: كم ستتكلف هذه الجراحة؟ فقالت: ستكلف ما يقرب من ألفي دولار!! فقلت: أيها الكذابون المجرمون! تبكي المرأة منهم أو الرجل بكاء الكذابين وبكاء الأفاعي لقطة أو لكلب، وأنتم ترون دماء إخواننا وأخواتنا تسفك، وترون أشلاء أطفالنا تمزق، بل رأيتم بأعينكم على شاشات إعلامكم الخائن الصربي ينتزع الطفل من أحشاء المسلمة في البوسنة، ورأيتم الأمريكي يعذب المسلمة الصومالية، ويجرها على التراب! ثم يبكي أحدكم لكلب أو لقطة، صار الدم الإسلامي أرخص دم على وجه الأرض!! وهذا كما قال الشاعر: ففي كل بلد على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وتهلان ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعوان فهل هذه غيرة أم هذه طعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الخوف الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق أوما يحركك الذي يجري لنا أوما يثيرك جرحنا الدفاق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق إنها خيانة على المستوى العالمي.

    1.   

    خيانة على مستوى الأمة

    ثالثاً: خيانة على مستوى الأمة: أقول بملء الفم وبأعلى الصوت: ما خان الغربي إلا يوم أن تخلت أمة الأمانة عن الأمانة، وما تولى الرجل الغربي قيادة العالم وقيادة الأمة إلا يوم أن وقعت الأمة في الخيانة؛ فلقد خانت الأمة ربها ورسولها، وأنا أعي كل لفظة أرددها، لقد خانت الأمة ربها ورسولها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تخونوا الله بترك فرائضه، ولا تخونوا الرسول بترك سنته، ولا تخونوا أماناتكم بتضييعها). وقال ابن عباس في موطن آخر: (الأمانة هي: الفرائض التي افترضها الله على عباده). وقال أبو العالية : (الأمانة هي: ما أمروا به، وما نهوا عنه). وقال الحسن : (الأمانة هي: الدين، فالدين كله أمانة). فهذه الأمانة حمل ثقيل، وقد أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها، وخافت من عواقب التفريط في حمل هذه الأمانة، قال عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] قال العلامة القرآني الشنقيطي في (أضواء البيان): والعرض والإباء والإشفاق كله حق، وليس على سبيل المجاز، وإنما على الحقيقة؛ فلقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكاً لا يعرف حقيقته إلا الله، أدركت المخلوقات بهذا الإدراك ثقل هذه الأمانة، فأبت وأشفقت من حملها، والأدلة على ذلك في القرآن كثيرة، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18]. فالأمانة حمل ثقيل، فالدين كله أمانة، وأشفقت هذه المخلوقات من حمل هذه الأمانة، وتقدم الإنسان الضعيف القصير العمر الذي تتحكم فيه الأهواء والشهوات والشبهات لحمل هذه الأمانة، فمن أدى فرائض الله، وأدى سنة رسول الله، وأدى الأمانة التي عنده؛ فهو الأمين الذي عرف قدر الأمانة، ومن فرط فهو الخائن الذي خان الأمانة. فلا تخونوا الله بترك فرائضه، ولا تخونوا الرسول بترك سنته، ولا تخونوا أماناتكم بتضييعها فيما بينكم، وكم ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام قد ضيعوا الفروض من أجل مباراة في إستاد كرة، بل قد تضيع الجمعة، وربما تضيع صلاة الفجر إن كانت المباراة منقولة في آخر الليل، فتضيع الفرائض من أجل هزل!! لقد خانت الأمة ربها فضيعت الفرض إلا من رحم ربك من أفراد، وخانت الأمة رسولها فهجرت السنة، فالأمة تتغنى وترقص لرسول الله في الثاني عشر من كل ربيع في قصائد منسقة منمقة، وفي كلمات رنانة، في الوقت الذي هجرت فيه السنة، ونحت فيه الشريعة، بل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي على هذه الأمة: هلموا إلينا، هلموا إلى القرآن والسنة، لكن من أفراد الأمة من يرد الآن بلسان الحال، بل بلسان المقال على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: لم يعد شرعك صالحاً لمدنية القرن الحادي والعشرين، ولم تعد شريعتك صالحة لعصر الإنترنت! وأتوبيس الفضاء دسكفري! وصارت الأمة تنظر إلى السنة والشريعة على أنها لم تعد صالحة. خانت الأمة ربها ونبيها، وضيعت الأمانة يوم أن وسدت الأمر إلى غير أهله، وهذا هو تفسير نبينا لتضييع الأمانة كما في صحيح البخاري أنه كان صلى الله عليه وسلم يحدث الناس يوماً، فجاء أعرابي فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فمضى النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه ولم يجب الأعرابي، فلما قضى النبي حديثه سأل عن الأعرابي وقال: أين السائل عن الساعة آنفاً؟ فقال الأعرابي: ها أنا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الأعرابي الفقيه: فكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله) ووالله! لقد وسد الأمر إلى غير أهله، فمن الذي يشكل العقول الآن؟! ومن الذي يدير دفة التوجيه والحكم في الأمة؟ لقد صرنا كما قال الشاعر: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب وفي مستدرك الحاكم ومسند أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة). لقد صار المثل الأعلى لأولادنا لاعب كرة، أو فناناً من الفنانين، صار المثل الأعلى لكثير من أولادنا هم هؤلاء، وقدم هؤلاء على أنهم المثل، وعلى أنهم القدوات، حتى لا يخرج الولد ليفكر في الجهاد أو ليفكر في العلم، ووسد الأمر إلى غير أهله، فمن الذي تصفق لهم الجماهير المخدوعة؟! ومن الذي تذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم جميع الأبواب؟! هذا، وكثير منهم يجب أن يقام عليه حد الله جل جلاله، ولكن الأمة الآن قلبت الموازين، ووسدت الأمر إلى غير أهله، ووقعت في الخيانة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله). إنها خيانة بتضييع الفرائض، وخيانة بالتفريط في السنة، وتغييب الشريعة، وخيانة بتضييع الأمانة وتوسيد الأمر إلى غير أهله، فأمة لا تقدم الأكفاء أمة خائنة، وأمة تؤخر الأكفاء وتقدم صنفاً للمحسوبية أو للعنصرية البغيضة أو للعصيبة الجاهلة؛ أمة خائنة لا تستحق السيادة ولا العزة ولا الكرامة.

    أداء السلف للأمانة

    أذكر موقف الصديق رضي الله عنه يوم أن عزل أبا عبيدة بن الجراح ، وأنتم تعرفون من هو أبو عبيدة ؟ إنه أمين هذه الأمة، القائد الفارس البطل المغوار، ومع ذلك رأى الصديق أن الموقف يحتاج إلى خالد بن الوليد ؛ فعزل الصديق أبا عبيدة ، وولى القيادة في جبهة الشام خالد بن الوليد ، وأرسل رسالة إلى أبي عبيدة بن الجراح فقال: (من أبي بكر إلى أبي عبيدة، سلام الله عليك. وبعد: فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، ووالله! ما وليته إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي خير منه!) هذه هي الأمة، أمة تقدم الأكفاء في الساعة المحددة، وكلنا يعرف قدر أبي عبيدة ، لكن الصديق رأى أن رجل الساعة هو خالد ، فليتقدم خالد، وتقدم خالد لا ينقص أبداً من قدر أبي عبيدة؛ لأن الموقف يتطلب أن يتقدم خالد بن الوليد، هذا هي الأمانة. ومن أجل ذلك أذلوا كسرى، وأهانوا قيصر ، وأتى هؤلاء بتاج كسرى بن هرمز فوضعوه في حجر فاروق الأمة عمر رضي الله عنه وأرضاه. إنها أمة قدمت الأكفاء لكل موقع وفي كل وقت، وأخرت من ينبغي أن يؤخر مع عظيم فضله، ومع سبقه في الإسلام ودين الله تبارك وتعالى، فتأخيره لا يقلل من قدره، ولا يقلل من إيمانه، المهم أن يظل في الصف ليعمل لله جل وعلا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع) والحديث في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة ، فهذا رجل لا يريد أن يكون في الصدارة مع القادة، المهم أن يكون في الجند المخلصين ممن يعملون لدين الله تبارك وتعالى؛ لأنه لا يريد عهراً سياسياً ولا طبلاً ولا زمراً إعلامياً، إنما يريد أن يرضي ربه تبارك وتعالى من منطلق قول الله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل يا أرحم الراحمين! فأمة تقدم الأكفاء هي أمة أمينة، وأمة تؤخر الأكفاء وتقدم صنفاً معيناً لمحسوبية أو لعنصرية بغيضة أو لرشوة أو لهوىً أو لدنيا فهي أمة خائنة، خانت الله ورسوله، وضيعت الأمانة، كما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. والله تبارك وتعالى يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، ويقول تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، ويقول تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]، وقال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:51-52]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:60-61]. فأهل النفاق هم الذين يصدون عن الله ورسوله، ويخونون الله ورسوله، وأهل الإيمان هم الذين يمتثلون أمر الله، ويؤدون فرائض الله، ويمتثلون سنة رسول الله، ويؤدون الأمانة فيما بينهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]. أما الخيانة على مستوى الأفراد فأرجئ الحديث عنها إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    خيانة على مستوى الأفراد

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: وأخيراً: خيانة على مستوى الأفراد، والحديث عن هذا العنصر حديث يؤلم القلب بألم الخيانة، فالكلمة أمانة، وكم من هذه الأمانة من الكتاب والأدباء والمفكرين والعلماء والمسلمين، فبكلمة تنال رضوان الله، وبكلمة تنال سخط الله، وبكلمة تدخل جنة الله، وبكلمة تدخل نار الله، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، وقال عز وجل: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]. وقد ذكرت من قبل لو أن المسئولين الآن أعلنوا على شاشات التلفاز وفي كل وسائل الإعلام أنه يجب على كل مواطن من رجل وامرأة أن يسرع إلى أقرب قسم شرطة ليركب جهازاً ليسجل عليه كل كلمة من الكلمات، وسيمنح جنيهاً على كل كلمة ذكر وتسبيح وتهليل، وسيعاقب عقوبة يراها المسئولون على كل كلمة ليست طيبة، وانطلق الناس وركبوا هذه الأجهزة، فكيف يكون حالنا؟ والله! لن نتكلم إلا بالتسبيح، ولن نأكل إلا التسبيح، ولن نشرب إلا التسبيح، ولن ننام إلا على التسبيح؛ لأننا سنأخذ على كل كلمة جنيهاً!! ولو قلت لأحد: كيف حالك يا فلان؟! لقال: سبحان الله! ولو قلت: ماذا فعل ولدك في الثانوية؟ لقال: ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولو قلت: هل قبضت العلاوة؟ لقال: الله أكبر، ولله الحمد!! والله جل وعلا يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، فهل صدقنا الله؟ وهل صدقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! الجواب يؤكده الواقع المر الأليم: فقد يتورع الصائم عن أكل الحلال ولا يتورع عن الفري في أعراض الأحياء والأموات، أي: في الوقوع في الحرام، فالكلمة أمانة، ولو عرف الكتاب والأدباء والمفكرون والعلماء والمتكلمون قدر هذه الأمانة ما رأينا هذا الواقع المر الأليم: فبدعوى الإبداع الفكري سبوا الله ورسوله! وبدعوى الحرية الشخصية أصلوا للرذيلة والتبرج والعري! وبدعوى التخلص من عقدة القديم تمردوا على سلطان الدين بكلمات خائنة! فالكلمة أمانة، والعلم أمانة، فإن اتقى العالم ربه وأدى ما يدين به لله بحكمة بالغة فهو أمين، وإن زور بهذا العلم الفتاوى لذوي السلطان فهو خائن، قال صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار، ومن تعلم العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار). والمجالس أمانة، فقد يجلس المسلم مع أخيه ويخرج بعد ذلك لينقل كل ما دار بينهما في المجلس، من فعل هذا فهو خائن؛ إنما المجالس بالأمانة، فكم من الناس من قد خان هذه الأمانة! وكم من زوج قد خان زوجته! وكم من زوجة قد خانت زوجها! وأقصد: الخيانة العفنة المعروفة بالزنا، وكذلك خيانة الكلمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد -: (إن من أشر الناس يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) لاسيما إذا كان السر متعلقاً بأسرار الفراش، فيجلس على المقهى أو بين زملائه في الوظيفة ليحدث بكل ما دار بينه وبين امرأته في الفراش، أو تجلس المرأة الموظفة لتحدث زميلاتها في العمل بما دار بينها وبين زوجها في الفراش، وهذه خيانة عفنة. والأولاد أمانة، فكم من الآباء من قد خان هذه الأمانة! وكم أم قد ضيعت هذه الأمانة! فترك الوالد أولاده، وظن أن وظيفته أنه ممثل لوزارة المالية فحسب! فإن وجد عنده رمق من الوقت قتله قتلاً بالجلوس أمام التلفاز، مع أنه لو جلس بين أولاده ولو كان صامتاً لا يتكلم ففي جلوسه من عمق التربية ما فيه، فكيف إن تكلم فذكّر بالله ورسوله؟! وكيف إن تكلم فأخذ أولاده إلى بيت من بيوت الله، أو إلى مشهد من هذه المشاهد التي تملأ القلب بالاستعلاء وبالإيمان وبالعزة التي افتقدتها الأمة منذ أمد بعيد؟! وكم من أم خانت الأمانة فضيعت أولادها؛ وذهبت إلى الوظيفة، وهي ليست في حاجة إلى الوظيفة، وخرجت إلى الأسواق لتضيع الوقت، وهي ليست في حاجة إلى هذا، كل همها أن تبحث عن الموضات والموديلات! وضيعت الأولاد، وأصبح الأولاد كما قال الشاعر: فليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه في همّ الحياة ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا والوظيفة أمانة، فكم من الموظفين من قد خان الأمانة بدعوى أن الراتب لا يتلاءم ولا يتواءم مع الجهد الذي يبذله! فيخون الأمانة بأخذ الرشاوى، أو بتضييع العمل مع حاجة العمل إليه، أو بالتعسير على المسلمين وتعطيل مصالحهم. والدَين أمانة، فكم من الناس من قد أخذ أموالاً ثم تفنن بعد ذلك في أكل هذه الأموال، وفي خيانة هذه الأمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس ينوي أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله). وكم عدد هؤلاء الذين نصبوا على المسلمين فأخذوا أموالهم وهربوا بجوازات سفر مزورة! وقد خانوا الأمانة، وضيعوا حقوق الناس. وكم عدد هؤلاء الذين نهبوا البنوك بل ونهبوا الدولة، بل ونهبوا الأمة، وخانوا الأمانة، وأكلوا أموال الناس بالباطل! ولو وقفنا مع جزءيات الخيانة على مستوى الأفراد لطال الوقت جداً، وحسبنا قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]. اللهم اجعلنا من أهل الأمانة، اللهم اجعلنا أهلاً للأمانة، اللهم رد الأمة إلى الأمانة رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الأمانة رداً جميلاً. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756377879