إسلام ويب

ميزان الرجولةللشيخ : محمد الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الرجولة معنى يفرق بين الذكور والإناث، كما أنه يحمل معنى يميز بعض الرجال عن غيرهم بالصفات النبيلة التي تتحقق بها مقاصد الدين ومصالح الدنيا، وهي أمر ينبغي أن نتربى عليه وننشئ عليه أبناءنا باتباع الأساليب المعينة على ذلك.

    1.   

    أهمية الحديث عن الرجولة

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.

    أيها الإخوة الكرام! لم يكن أحد يحسب أن نكون بحاجة إلى أن نحدث الناس عن الرجولة وأن نذكر بصفات الرجال وسماتهم.

    فالرجولة وصف اتفق العقلاء على مدحه والثناء عليه، ويكفي حين تمدح إنساناً أن تصفه بالرجولة، وحين تذمه وتعيبه أن تنفي عنه الرجولة، أليس الأب والمعلم يعاتب ولده بنفي الرجولة قائلاً: ألست رجلاً؟ أليس يذكره بالرجولة قائلاً له: لقد أصبحت الآن رجلاً؟ أليس يعيبه ويذمه حين يقول: إنك طفل ولست من الرجال؟

    يتطلع الصغير والصبي إلى ذلك اليوم الذي يوصف فيه بالرجولة ويحدث من حوله من الصغار والكبار عما سيفعل حين يكون رجلاً، إنه يتشبه بالرجال في حديثهم وفي مشيتهم وفي لباسهم، وحين تعود إلى دنيا الناس ترى العجب من أخلاقهم وطباعهم وترى ما لا يخطر لك على بال لكنك مع ذلك كله لا ترى فيهم من يرضى بأن تنفى عنه الرجولة، إنه أمر يتفق عليه الجميع مؤمنهم وكافرهم.. برهم وفاجرهم.. عاقلهم وسفيههم.. بل أنت ترى كثيراً من الحمقى والسفهاء يبررون حماقتهم بأنها مقتضى الرجولة، ومع هذا كله فالمسافة بين واقع الناس وبين الرجولة ليست مسافة قريبة فالبون بين الواقع والدعوى شاسع، وواقع الناس يكذب ادعاءهم.

    فيما مضى في عصر العرب الأوائل كانت الرجولة إرثاً.. كانت مفخرة وممدحة، وبغض النظر عما انحط فيه أولئك من السفاسف والرذائل فقد كان لديهم سمو في الأخلاق ونبل في المعدن، ولذا فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه بعث في خير الناس.

    لقد خلق الله عز وجل الخلق عرباً وعجماً وجعل المصطفى صلى الله عليه وسلم من العرب فهم خير فرقة من الناس، وهو صلى الله عليه وسلم خيرهم وأبرهم وأتقاهم وأكملهم رجولة.

    وفي عصر الحضارة والمدنية المعاصرة.. في عصر غزو الفضاء وحرب النجوم.. في عصر التقنية والاتصال؛ تحول العالم إلى قرية صغيرة فارتقى الناس في عالم المادة وانحطوا في عالم الأخلاق والقيم.. صعدوا إلى الفضاء وأقدامهم في الحضيض.. تطلعوا إلى الإنجاز المادي وهمهم شهواتهم وأهوائهم: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44] وورث المسلمون وذرية العرب الأوائل.. ورثوا من هؤلاء العفن والفساد.. ورثوا منهم مساوئ الأخلاق، وساروا وراءهم في لهث وسعار، فلا المدينة والحضارة أدركوا ولا أخلاقهم ورجولتهم أبقوا، فاندثرت الأخلاق والشيم مع عالم المادة.

    وصرت بحاجة إلى أن تذكر الرجال بسمات الرجولة وتطالب الشباب بأن يكونوا رجالاً لا صغاراً.

    إن هذا يدعونا إلى أن نتحدث عن الرجولة.. إن هذا يدعونا إلى أن نذكر الرجال بسمات الرجولة وصفات أهلها.

    وذكر هذا الحديث ليس عيباً لهؤلاء الذين تحلقوا في هذا المكان، فهم من خير الرجال وأبرهم، لكننا جزء من هذا المجتمع والكيان المتكامل نتأثر بما فيه ونؤثر فيه، ونحن الذين ينتظر منا أن نحمل لواء الإصلاح والتغيير والبناء في المجتمع، فنحن بحاجة إلى أن نذكر أنفسنا بسمات الرجال وصفاتهم؛ لأن من مهمتنا جمعياً أن نسعى في بناء الرجولة في مجتمعاتنا، ولئن كان أمراً استفدناه وتربينا عليه فهذا لا يعني بالضرورة أننا لا نحتاج إلى أن نذكر به خاصة حين نريد أن نحمله إلى الآخرين، وحين يراد أن نربي أبنائنا وجيلنا على هذا المعنى.

    1.   

    تعريف الرجولة

    الرجل في اللغة: يطلق على الذكر من بني الإنسان، وهو ضد المرأة.

    قال في اللسان: الرجل معروف، الذكر من نوع الإنسان خلاف المرأة.

    وعلى هذا المعنى فكل من لم يكن امرأة من بني البشر فهو رجل، لكن الرجولة في عرف الناس اليوم تعني معنىً زائداً عن مجرد الذكورة، فهل لهذا العرف أصل في لغة العرب أم أنه أمر تعارف الناس عليه، ولا حرج في ذلك حيث لا مشاحة في الاصطلاح.

    حديثنا ليس عن المصطلح لكن عن المضمون، حديثنا عن المعنى الذي يتحدث الناس حوله ويطالب به الآباء أبناءهم والمعلمون تلامذتهم.. يطالبونهم أن يكونوا رجالاً وأن يعيشوا في مصاف الرجال.

    فحديثنا عن المعنى والمضمون، والأمر لا يعني بقليل أو كثير مدى صحة هذا المعنى في استعمال العرب الأوائل، لكننا حين نفتش في معادن اللغة ونبحث فيها فإننا نجد ما يوحي بذلك.. نجد أن العرب وإن أطلقوا الرجولة على الذكورة فإنها قد تأتي ويراد بها معنىً زائد قد يتحقق في بعض الرجال دون غيرهم.

    وها هي بعض الأمثلة مما ذكره أهل اللسان في ذلك: قال في لسان العرب: قال ابن سيده : وقد يكون الرجل صفة -أي: تكون صفة وليست لمجرد الذكورة فقط- يعني بذلك الشدة والكمال، وعلى ذلك أجاز سيبويه الجر في قولهم: مررت برجل رجل أبوه. وقال في موضع آخر: إذا قلت: هذا الرجل فقد يجوز أن تعني كماله وأن تريد كل رجل تكلم ومشى على رجلين فهو رجل لا تريد غير ذلك، وفي معنىً تقول: هذا رجل كامل، وهذا رجل أي: فوق الغلام، ويقال: رجل به بالرجلة ورجل بين الرجولة والرجلة والرجلية والرجولية، وهذا أرجل الرجلين، أي: أشدهما، أو فيه رجلية ليست في الآخر، والرجيل: القوي على المشي الصبور، والرجيل أيضاً من الرجال: الصلب.

    إن هذه المعاني توحي بأن لهذا الاستخدام العرفي لدى الناس أصلاً، فكما أن الرجل يراد به الذكر من بني الإنسان فهو يعني وصفاً زائداً، ومن ثم فقد تنفى الرجولة عن طائفة من الناس وإن كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وينجبون البنين والأحفاد.

    ويطلق الرجل على البالغ فيقال: هذا غلام وذاك رجل، فالبلوغ يتأهل به المرء للمسئولية ويدرك منزلة الرجال، وينزل منازلهم، كيف لا وقد أمره من خلقه تبارك وتعالى وهو أعلم به من نفسه ومن الناس؛ أمره عز وجل ونهاه وحمله أعظم مسئولة.

    إذاً: فالرجولة: هي اتصاف المرء بما يتصف به الرجال عادةً؛ ولهذا فالجلد والصبر والقوة والتحمل هي من معاني الرجولة، وفي القرآن الكريم جاء وصف الرجولة في مواضع ومنها: تحمل الرسل عليهم صلوات الله وسلامه لأعباء الرسالة، قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109].

    ومما جاء في التنزيل: صدق الرجل فيما عاهد الله عليه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

    ومن صفات الرجال في كتاب الله عز وجل: عدم الانشغال بالعوارض عن الذكر والآخرة: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:37-38].

    ومن سمات الرجال في كتاب الله: حب التطهر: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].

    ومع ذلك جاء في القرآن الكريم استخدام الرجال في مقابل النساء: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7] .. وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ [النساء:12].

    وجاء وصف طائفة ممن سيق خبرهم في سياق الذم أنهم رجال، قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا [الكهف:32] لكن هذا لا يعني نفي أن يكون للرجولة إطلاقان:

    إطلاق عام، وإطلاق خاص وهو موضوع حديثنا.

    أيها الإخوة والأخوات! يدرك المسلمون جميعاً صغيرهم وكبيرهم.. جاهلهم ومتعلمهم يدركون مهما كان علمهم ومهما كانت ثقافتهم؛ أن الله عز وجل لم يخلق الناس ويوجدهم إلا لعبادته تبارك وتعالى، قال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ومن ثم فمنزلتهم وقيمتهم تقاس بمدى تحقيقهم لهذه الغاية، فهم يوزنون بالتقوى والصلاح: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

    وكما أن كمال رجولة المرء بكمال تقواه وطاعته فالتقوى والطاعة تهذب الأخلاق وتسمو بالنفوس وتعلو بصاحبها إلى مصاف الرجال، وها هو صلى الله عليه وسلم يعبر عن مقصد من مقاصد رسالته قائلاً: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) ويخبر أن خيار الناس أحاسنهم أخلاقاً الذي يألفون ويؤلفون.

    فرجولة المرء تقاس بمدى تحقيقه لتلك الغاية التي خلق من أجلها وهي العبودية لله تبارك وتعالى.. فأكرم الناس عند خالقهم أتقاهم له عز وجل وأعبدهم له، والتقوى والعبادة والطاعة تهذب الإنسان وتربيه.. وتعلي فيه سمات الرجولة، وحين ترى رجلاً من الصالحين وتعيب عليه شيئاً مما يفتقده الرجال فإنه لو اتقى الله عز وجل حقاً لما كان كذلك.

    الناس معادن: إن الرجال الذين تتحقق فيهم سمات الرجولة الحقة حين يستضيئون بنور الإيمان يغدو لهم أثر ليس لغيرهم من الناس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم لله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألونني! الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، وفي رواية: (تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه).

    إن معادن الناس يسودون في الجاهلية ويسودون في الإسلام وأثرهم في نصر الدين والقيام به ليس كأثر غيرهم من سائر الناس.

    1.   

    الرجولة بين المظهر والمضمون

    الناس تأسرهم المظاهر ويسحرهم بريقها فمن يجلونه ويقدرونه ليس بالضرورة هو أهل الإجلال والتوقير، ومن يحتقرونه ويزدرونه قد يكون من أولياء الله الصالحين المقربين وماذا يضيره حين يرضى عنه الله عز وجل ويسخط عنه الناس؟! لذا يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن لا يهتموا بالمظاهر، فالرجولة مضمون قبل أن تكون مظهراً، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رب أشعث مدفوع في الأبواب لو أقسم على الله لأبره).

    وهاهو نموذج من الرجال الذين بلغوا هذه المنزلة وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، عن أنس رضي الله عنه قال: (غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس : فوجدنا فيه بضعاً وثمانين ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس : كنا نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23] إلى آخر الآية، وقال: إن أخته وهي تسمى الربيع كسرت ثنية امرأة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس : يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فرضوا بالأرش وتركوا القصاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) رواه البخاري .

    إنهم ضعفاء يستضعفهم الناس لكن ذلك لا يضيرهم فعند الله هم أهل المنزلة العالية، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟! كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟! كل عتل جواظ مستكبر) رواه البخاري .

    وهاهو نموذج آخر يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح والتقى وإجابة الدعاء، وهو مع ذلك يعيش في دهماء الناس فلا يقيم له من تأسرهم المظاهر وزناً؛ عن أسير بن جابر قال: (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سأل: أفيكم أويس بن عامر ؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر ؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي فاستغفر له، فقال له عمر : أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس قال: تركته رث البيت قليل المتاع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فأتى أويساً فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر ؟ قال: نعم، فاستغفر له ففطن الناس، فانطلق على وجهه قال أسير : وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لـأويس هذه البردة؟) رواه مسلم .

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع).

    هؤلاء هم الرجال حقاً، وإن كان الناس لا يرون في مظاهرهم ما يرفع هؤلاء إلى مصاف أولئك الذين يعليهم من تأسرهم المظاهر ويخدعهم بريقها وتقف الموازين عندهم من خلال ما تدركه أبصارهم، ومن خلال ما ينطبق على تلك القيم التي يجعلونها هي المقياس الذي يقيسون به الناس، فمن حازها علت مكانته وارتفعت منزلته، ومن قصر دونها احتقروه وأهانوه.

    وهاهم أصحاب النار عافانا الله وإياكم يتنادون يوم القيامة: مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ [ص:62] نعم، لقد اتخذوهم سخرياً أم يعتقدون أن أبصارهم قد زاغت عنهم؟ لا، لكن موازينهم كانت غير الموازين الصحيحة، فسخروا منهم وكتب الله عز وجل لهم أنهم هم الفائزون المفلحون.

    يوم القيامة تطيش المظاهر بأصحابها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]) والحديث في الصحيحين، وفي رواية: (الرجل العظيم السمين الطويل الأكول الشهو).

    1.   

    الرجولة روح أكثر منها جسد

    وكما أن الرجولة في المضمون لا المظهر فهي في الروح لا الجسد، فرب من أوتي بسطة في الجسم وصحة في البدن يطيش عقله فيغدو كالهباء، ورب من كان معوق البدن وهو مع ذلك يعيش بهمة الرجال، ولهؤلاء سلف في عمرو بن الجموح رضي الله عنه الذي أصر على أن يطأ بعرجته الجنة.

    وفي العصر الحديث يوقد شرر الجهاد في الأرض المباركة رجل لا تحمله قدماه، ويقاضى بأن يغيب عن الناس مدى الحياة، لولا أن كانت مصالح لأعدائه تقتضي المساومة على أن يسمح له بأن يتنفس الهواء النقي.

    1.   

    مفاهيم خاطئة حول الرجولة

    إثبات الذات بطرق خاطئة

    يسعى الناس لتحقيق الرجولة والامتداح بها، ويحذرون من أن يوصموا بنقصها، لذا فأولئك الذين لا يسعفهم رصيدهم من الرجولة يلجئون إلى أساليب ترفع لهم هذا النقص وتسد لهم هذا الخلل، ومن ذلك إثبات الذات، وكثيراً ما يلجأ الشاب المراهق لذلك فيصر على رأيه ويركب رأسه وتغدو مخالفة رأي معلمه أو والده مطلباً بحد ذاته، فلسانه دوماً يردد: ألست رجلاً؟ ألست أدرك مصالح نفسي؟ كيف يكون مصيري بيد الآخرين؟ ويسهم رفاقه وأقرانه في دفعه إلى هذا التصلب مشيدين برجولته ونجاحه معيرين من لا يحالفهم الحظ في الانتصار على السلطة الغاشمة في نظرهم.

    وربما يكون جهل بعض المربين بحاجات هذا الشاب وسماته مدعاة لهذا التصلب، لكن هذا الشاب لو أدرك أن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بخفض الجناح للوالدين فقال: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24] ولو أدرك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لشاب جاء يريد أن يصحبه قال له صلى الله عليه وسلم آمراً أن يعود إلى والديه: (اذهب إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)؛ لو أدرك ذلك لكان له شأن آخر.

    إن الشاب الذي يملك مقومات الرجولة ليس بحاجة إلى تصنعها وإقناع الآخرين بها، فما لم تنطق حاله بذلك وما لم تشهد أفعاله برجولته فالتصنع لن يقوده إلا إلى مزيد من الفشل والإحباط، وبدلاً من ذلك فالأولى به أن يقنع من حوله برجولته من خلال اتزانه وهدوئه وأنه لم يعد يستفز كالأطفال، ومن خلال قدرته على إدارة الخلاف مع الآخرين، ومن خلال قدرته على إبداء رأيه لمن يكبره سناً وقدراً وأن يقدم هذا الرأي بلغة تليق بمقام المخاطرة، ومن خلال نضج رأيه وانطلاقه من أسس موضوعية تقنع الآخرين.

    التصلب في غير موطنه

    ومن المفاهيم الخاطئة للرجولة: التصلب في غير موطنه.

    يعد كثير من الناس الثبات على الكلمة التي تقال مظهراً من مظاهر الرجولة لذا توصف الكلمة بأنها كلمة رجل، ويعيره الناس حين يتراجع عن كلمة قالها بانتفاء الرجولة، لا شك أن من الرجولة الحقة أن يقر الرجل على كلمة حق قالها يريد بها وجه الله وأن يستعد لدفع الثمن من أجلها ولو كان غالياً، وأن يأبى التراجع مهما كلفه من ثمن.

    ومن الرجولة الحقة أن يصر المرء على الوفاء بوعد كريم نبيل قطعه على نفسه، ولو كلفه ذلك ثمناً باهظاً، لكن حين يقول كلمة يدرك أن الحق بخلافها أو حين يزل بكلمة لا يريد بها وجه الله، أو حين يفسح له من حوله الطريق فيستبين له بعض ما كان يجهل، أو يذكر بعض ما كان ينسى، فالرجولة حينها أن يعود إلى الحق، والرجولة الحقة أن يقول بشجاعة: إنني أخطأت وبالباطل نطقت.

    من السهل أن يتشبث المرء بباطله أو يصر على كلمته، لكن الشجاعة أن ينتصر على نفسه.. أن لا يسيره إلا الحق.. أن يتجرأ على الموقف الذي يضعف الكثير عن التجرؤ عليه فيتراجع عن قول الباطل ويخضع للحق.

    القسوة على الأهل

    ومن المفاهيم الخاطئة للرجولة: القسوة على الأهل.

    الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] كما جاء في كتاب الله تعالى، والرجل هو الآمر الناهي، والسيد المطاع في بيته، وهي سنة للحياة الزوجية لا تستقيم بدونها.. سنة يدركها العقلاء ويتعبد باتباعها المسلمون الأتقياء.

    وثمة فئة من الأزواج يدير بيت الزوجية كما تدار المعركة ويبني صوراً من الأوهام حوله.

    إن معالم الرجولة لدى هؤلاء استقرت في أن يقول: لا، وأن يرفض إعادة النظر في رأي رآه أو موقف اتخذه.. أو يوصد الأبواب أمام الحوار أو الاستماع لشريكة عمره وحياته، إن البيوت لا تبنى إلا على التأني والطمأنينة، ولا تشاد أسوارها إلا بالرحمة الشفقة، لذا امتن الله تبارك وتعالى على عباده بهذه المنة: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].

    إن حال أولئك الذين يتصنعون الرجولة في بيوتهم حال من فقد الرحمة والمودة، وأين هم من صاحب الرجولة الحقة الذي آتاه الله كمالها وجمالها.. حين كان حاجاً للبيت العتيق أصاب زوجته ما يصيب بنات آدم فلم تعتمر معه قبل حجه، وأعلمها صلى الله عليه وسلم أن حجها حج وعمرة لكنها رضي الله عنها سألته أن يأذن لها في العمرة، فما كان من الحبيب صلى الله عليه وسلم إلا أن لبى رغبتها، وصفه جابر رضي الله عنه بقوله: (وكان رسول صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً إذا هوت الشيء تابعها عليه).

    أين هذا الحال وهذا الواقع من أولئك الذين يفتخرون ويعتزون بأن رجولتهم تتحقق في مخالفتهم لما تريد نساؤهم ولو كانت تريد حقاً مشروعاً.. ولو كان ما تريده هو الحق، فالسيد والمطاع والرجل الحق عند هؤلاء هو الذي يقول: لا، وهو الذي لا يرضخ لطلبات أهله وزوجته.

    وحين سأل النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه عن أحب الناس إليه قال: عائشة ، وها هو صلى الله عليه وسلم يعطيها حظها من اللعب واللهو فتقول: (والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة على اللعب).

    لكن لينه صلى الله عليه وسلم وحبه لزوجه لم يكن دافعاً له أن يقرها على أمر يسخط الله، فرضا الله أولى من رضا المخلوق، وطاعة الله أولى ما تؤسس عليه البيوت، فها هي تحكي ما رآه صلى الله عليه وسلم وما فعله حين رأى أمراً منكراً تقول رضي الله عنها: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: عائشة ! أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، قالت عائشة : فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين).

    تلك مجالات للرجولة يحسب أصحابها أنهم يكونون رجالاً بذلك، وما أتي هؤلاء إلا من جهلهم أو فشلهم في تحقيق الرجولة الحقة، ولو وعوا الرجولة وفهموها لعلموا أنهم ليسوا بحاجة إلى أن يتصنعوها، إنها سلوك يفرض صاحبه.. إنها روح يبدو أثرها على الناس دون أن يتصنعها صاحبها، أما أولئك الذين يتصلبون أو يركبون الباطل محتجين بأن هذا من شيم الرجال وشأنهم فإن هؤلاء من أبعد عن الرجولة الحقة.

    1.   

    مجالات الرجولة

    ما دامت تلك مجالات خاطئة فما المجالات الحقة للرجولة؟ إنها مجالات وميادين كثيرة منها، بل أهمها:

    الإرادة وضبط النفس

    المجال الأول: الإرادة وضبط النفس، كثير هم أولئك الذين تبدو عنترياتهم وصلفهم أمام الآخرين لكنهم ينهارون مع من هو دون الآخرين وأقرب إليهم من غيرهم.

    إن أول ميدان تتجلى فيه الرجولة أن ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء.. إن الرجل هو الذي تدعوه نفسه للمعصية فيأبى، وتتحرك فيه الشهوة فيكبح جماحها، وتبدو أمامه الفتنة فلا يستجيب لها، وأولى الناس بالثناء شاب نشأ في طاعة حيث تدعو الصبوة أترابه وأقرانه إلى مقارفة السوء والبحث عن الرذيلة، ورجل تهيأت له أبواب المعصية التي يتسابق الناس إلى فتحها أو كسرها.. حيث تدعوه امرأة ذات منصب وجمال فيقول: إني أخاف الله.

    معشر الشباب! إن ميادين الانتصار على دواعي الرذيلة وشهوات النفس، وأول ميادين الهزيمة أن يدرك المرء خطأ الطريق ووعورة المسلك لأنه لم يطق أن يقول لنفسه: لا، فأين الرجال هنا لينتصروا على أنفسهم.. أين الرجال الذين يقودون أنفسهم ولا تقودهم ويأمرونها ولا تأمرهم؟ إن أولئك الذين يهزمون في المعركة مع النفس أحرى بأن يهزموا في المعركة الكبرى مع العدو الغاشم، ولن تنتصر أمة يقودها نحو الميدان مهزومون.

    وهاهم قادة المسلمين الذي سطروا الملاحم كان حاديهم نحو النصر على العدو الانتصار على الذات والاستعلاء على الشهوات، فهاهو عبد الرحمن الداخل لما نزل من البحر إلى بر الأندلس وقد قدم إليه خمر ليشرب فأبى وقال: إني محتاج لما يزيد عقلي لا إلى ما ينقصه، فعرف الناس من ذلك قدره، ثم أهديت له جارية جميلة فنظر إليها وقال: إن هذه لمن القلب والعين بمكان، وإن أنا لهوت عنها بمهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت مهمتي، فلا حاجة لي بها الآن.

    وكما أن الرجال ينتصرون على أنفسهم حين تدعوهم للهوى والصبابة، فهم ينتصرون عليها حين تدعوهم للغضب والحمية في غير ما يرضي الرحمن.

    عن رجل شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قال: (تدرون ما الرقوب؟ قالوا: الذي لا ولد له، قال: الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً، قال: تدرون ما الصعلوك؟ قالوا: الذي ليس له مال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الصرعة؟ قالوا: الصريع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصرعة كل الصرعة الرجل يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه) رواه أحمد .

    وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

    إن الاستجابة للاستفزاز والزمجرة والانفعال عند الغضب ورمي الشتائم كالصاعقة على القريب والبعيد أمر يجيده الكثير، لكن الذي لا يجيده إلا الرجال الحلم حين تطيش عقول السفهاء والعفو حين ينتقم الأشداء، ولذا أثنى القرآن على طائفة من المتقين ووعدهم بالمغفرة والجنان الواسعة فقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].

    والإحسان إلى من يسيء منزلة لا يطيقها كل الناس إنما يطيقها الرجال: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].

    وقد يسوغ للإنسان أن يأخذ حقه وينتصر ممن يظلمه لكن العفو والتنازل عن الحق من شيم الذي كملت رجولتهم ولا يطيقه إلا أهل العزائم: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:40-43] .

    السخاء والجود

    المجال الثاني: السخاء والجود: وهي صفة سادت عند العرب حتى صارت من أروع ميادين الفخر والثناء لديهم، وسارت بذلك أشعارهم وأمثالهم، يقول أحدهم:

    ذريني فإن البخل يا أم هيثم لصالح أخلاق الرجال شروق

    ذريني وحطي من هواي فإنني على الحسب الزاكي الرفيع شفيق

    ومستنبح بعد الهدوء دعوته وقد حل من نجم الشتاء خفوق

    فقلت له: أهلا وسهلاً ومرحباً فهذا صبوح راهن وصديق

    وكل كريم يتقي الذم بالقرى وللخير بين الصالحين طريق

    لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق

    ويأبى أن يأكل طعامه لوحده فلا يطيب له الطعام إلا مع الضيف:

    فيا ابنة عبد الله وابنة مالك وابنة ذي البردين والفرس الورد

    إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فلست بآكله وحدي

    أخا طارق أو جار بيت فإنني أخاف مذمات الأحاديث من بعدي

    وحين يحل الضيف عليهم يحل بالترحاب واليمن والسعة:

    فراشي فراش الضيف والبيت بيته ولم يلهني عنه غزال مقنع

    أحادثه إن الحديث من القرى وتعلم نفسي أنه سوف يهجع

    بل الرقيق حين يجلب ضيفاً لسيده يكافئه بأعظم مكافأة ينتظرها مثله:

    أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا غلام ريح صر

    عسى يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفاً فأنت حر

    فجاء الإسلام وأبقى مكارم الأخلاق وهذبها، فقد أثنى على الكرم ودعا إليه لكنه هذبه، فبعد أن كان دافعه خوف المذمة أو الفخر على الناس صار الدافع رجاء الثواب: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) وكان أكرم الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ورث الكرم من خليل الرحمن الذي تلقى الملائكة بعجل سمين، جاء الإسلام فاتسع مفهوم السخاء والجود لتكون قمته الجود بالنفس في ميدان الوغى في سبيل الله، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.

    وليربي المسلم على أن يجود بجهده ووقته وعلمه نصرة للدين ورفعة لكلمة الله ونفعاً لعباده.

    الهمم العالية

    المجال الثالث: الهمم العالية: تسمو همم الرجال وتعلو وتتعلق بالمثل العليا فيضعون الأمور في مواضعها ونصابها، فاللهو لدى الرجال ترفيه واستجمام، وإزهاق للسآمة والملل، واستعادة للنشاط والهمة لتنطلق النفس محلقة في ميادين العطاء، لكنه عند غير الرجال أمنية وحياة يعيشون لأجلها وينفقون الأموال في سبيلها، ويفنون أعمارهم وشبابهم في الانشغال بها، ليس يعنيهم كم ضاع من العمر والوقت ما داموا في اللهو والعبث فقد ودعوا حياة الجد وطلقوها طلاقاً باتاً، بل سخروا من الجادين واستعذبوا ما هم فيه من بطالة وعبث.

    النموذج الحي أمامهم والمثل الذي يتطلعون إليه هو من يجيد فنون اللهو واللعب فاسمه يتردد دوماً على مسامع صغيرهم وكبيرهم، واللون الذي يعشقون هو الذي يذكرهم بفريقهم ومحبوبهم، إنها صور مخزية في دنو الهمة وأشد منها خزياً أن تعنى الأمم باللهو وتنفقه عليه الملايين، وأن تشغل أبناءها به.

    إن رسالة الأمة أسمى من العبث واللهو وهي حاملة الهداية والخير للبشرية أجمع، فكيف يكون اللهو واللعب ميدان افتخارها وهي تنحر وتذبح وتهان كرامتها وتمرغ في التراب، إن بناء النفوس وبذل الخير والهدى للناس وإعادة العز لأمة ذاقت الهوان؛ إن ذلك كله من أسمى همم الرجال وأولى ما ينشأ عليه الجيل، وحين تعلو همم الناشئة وتسمو وتتجاوز التوافه يعلو صوت الأمة وتنهض من كبوتها.

    النخوة والعزة والإباء

    المجال الرابع: النخوة والعزوة والإباء.. الرجال هم أهل الشجاعة والنخوة والإباء وهم الذي تتسامى نفوسهم عن الذل والهوان، وقد كان للعرب الأوائل اعتناء بالشجاعة والنخوة، وكانت من مفاخرهم وأمجادهم، جاء في بلوغ الأرب: والعرب لم تزل رماحهم متشابكة وأعمارهم في الحروب متهالكة وسيوفهم متقارعة قد رغبوا عن الحياة وطيب اللذات، كانوا يتمادحون بالموت ويتحاجون به على الفراش ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه.

    يقول أحدهم:

    إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

    وإن أدع للجلى أكن من حماتها وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد

    ويقول قائلهم:

    إني لمن معشر أفنى أوائلهم قول الكماة ألا أين المحامونا

    لو كان في الألف منا واحد فدعوا من فارس خالهم إياه يعنونا

    ولا تراه وإن جلت مصيبتهم مع البكاة على من مات يبكونا

    فجاء الإسلام فربى أبناءه على الشجاعة والعزة والحمية، وجعل الجبن والهوان من شر ما ينقص الرجال، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع) رواه أبو داود .

    وكان القدوة للأمة في الشجاعة رسولها صلى الله عليه وسلم، أخرج الشيخان واللفظ لـمسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لـأبي طلحة رضي الله عنه وفي عنقه السيف وهو يقول: لن تراعوا.. لن تراعوا) .

    وفي حنين حينما انكشف المسلمون ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: (ولقد كنا إذا حمى الوطيس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الشجاع الذي يحاذي به).

    وهذب الإسلام العزة والشجاعة فلم تعد عند أتباعه ميداناً للفخر والخيلاء، بل هي ميدان للنصح في الدين والذب عن حياضه، والخوف من أهل الضلال تلبيس من الشيطان، والمؤمن الذي يمتلئ قلبه بمخافة الجبار لا يخاف سواه: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] .. فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة:150] ومن ثم فلن يأتي المرء الخوف إلا من قبل نقص الإيمان، قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه.

    الغيرة

    المجال الخامس: الغيرة، الرجال يغارون على الحرمات، فالأعراض لديهم أسمى من المال وأسمى من كل ما يملكون، وقد كان العرب الأوائل أمة غيرة وحمية، فمع ما هم فيه من شرك وضلال، ومع جرأتهم على الفواحش فلأعراض لديهم منزلة، وللحرمات مكانة، قال عروة :

    وإن جارتي ألوت رياح ببيتها تغافلت حتى يستر البيت جانبه

    قال عنترة :

    وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها

    فأين هؤلاء؟ أين هؤلاء من الكتاب الذين يفاخر بهم وتسود الصحف بمقالاتهم، كتب أنيس منصور في إحدى مقالاته في أخبار اليوم: إنه زار إحدى الجامعات الألمانية ورأى هناك الأولاد والبنات أزواجاً أزواجاً مستلقين على الحشائش في فناء الجامعة، قال: فقلت في نفسي: متى أرى ذلك المنظر في جامعة أسيوط لكي تراه عيون أهل الصعيد وتتعود عليه. ولم بنات الصعيد؟ ألأجل أنه لا تزال لديهن الحشمة والغيرة؟! ألأجل أن المدنية المعاصرة لم تلوث نقاء النفوس ولم تمح أثر تربية الدين ....

    أيها الشباب! إن الرجل يغار على محارمه ويأبى أن تبدو أمام الناس بلباس فاضح أو غير لائق، يأبى أن تنساق وراء دعوة الموضة والتطور على حساب الستر والعفاف وغيرته تدعوه إلى تربيتها على العفة والفضيلة والإيمان والتقوى.. وغيرته لا تقف عند محارمه بل تمتد إلى بنات المسلمين فيكف بصره عن الحرام، وعن تتبع الفتن فضلاً عن أن يهم بالمضايقة والبحث عن العلاقة المحرمة، وهو يغار على حرمات الأمة فينكر المنكر ويقف في وجه من يريدون تغريب الأمة وجرها إلى مهاوي الرذيلة ومستنقعات الغفلة.

    الوفاء

    المجال السادس: الوفاء، الوفاء من شيم الرجال التي يمدحون بها، كيف لا وقد كان أهل الشرك يفتخرون به قبل أن يستضيئوا بنور الإسلام، يقول أحدهم:

    أسمي ويحك هل سمعت بغدرة رفع اللواء لنا بها في مجمع

    إنا نعف فلا نريب حليفنا ونكف شح نفوسنا في المصنع

    ويعدون الغدر مسبة ومذمة، قال امرؤ القيس :

    إذا قلت هذا صاحب قد رضيته وقرت به العينان بدلت آخرا

    كذلك جدي ما أصاحب صاحباً من الناس إلا خانني وتغيرا

    وخير نموذج للوفاء لدى أهل الجاهلية ما فعله عبد الله بن جدعان في حرب الفجار التي دارت بين كنانة وهوازن، إذ جاء حرب بن أمية إليه وقال له: احتبس قبلك سلاح هوازن، فقال له عبد الله : أبالغدر تأمرني يا حرب ؟! والله لو أعلم أنه لا يبقى منها إلا سيف إلا ضربت به ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئاً.

    وكان من وفائه أن العرب إذا قدمت عكاظ دفعت أسلحتها إلى عبد الله بن جدعان حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم ثم يردها عليهم إذا ظعنوا من مكة إلى مضارب قومهم.

    وحين جاء النبي صلى الله عليه وسلم أنسى بخلقه ووفائه مكارم أهل الجاهلية، ومن أمثلة وفائه عليه الصلاة والسلام وهي كثيرة: موقفه يوم الفتح من عثمان بن طلحة حاجب الكعبة في الجاهلية عندما طلب منه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية، فقال صلى الله عليه وسلم: (أين عثمان ؟ فدعي له فقال: هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء) .

    وحين تخلت الأمة عن خلق الرجال وساد فيها التهارج هوت وانهارت قواها حتى رثاها أعداؤها، يقول أحد كتاب النصارى: العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات.

    وقال أحد شعراء الأندلس راثياً ما آلت إليه:

    حثوا رواحلكم يا أهل أندلس فما المقام بها إلا من الغلط

    السلك ينثر من أطرافه وأرى سلك الجزيرة منثوراً من الوسط

    من جاور الشر لا يأمن عواقبه كيف الحياة مع الحيات في سفط

    كيف نبني الرجولة

    كيف نبني الرجولة؟ وكيف نعيد الاعتبار لها؟ لقد كانت الرجولة إرثاً يتوارثه الناس لا تعدو أن تكون بحاجة إلى التهذيب والتوجيه، أما اليوم فقد فتنت المدنية الناس وقضت على معالم الرجولة في حياتهم فصرنا بحاجة إلى التذكير بالشيم التي توارثها العرب قبل الإسلام فلم يزدها الإسلام إلا شدة وتهذيباً.

    ضبط العادات

    من أساليب بناء الرجولة: ضبط العادات، فالعادات تسيطر على صاحبها حتى لا يقوى على منعها، إن اعتياد المرء عادة قبيحة يحوله إلى أسير لها، لا يملك فكاكها، إنها تقعد به عن مصالح دينه وتعوقه عن مصالح دنياه، وكم رأينا من الشباب الذي يؤمل عليهم أهلهم وتؤمل عليهم مجتمعاتهم.. كم رأينا من هؤلاء من قعد به كسله أو اعتياده على نمط في الحياة فعاقه ذلك عن أن يحصل علماً ينفعه في دينه ودنياه أو يكسب قوتاً يحميه من تكفف الناس والتطلع إلى ما في أيديهم، وحري بالمربين الغيورين على أولادهم أن ينشئوهم منذ الصغر وطراوة النفوس على التخلي عن العادة والبعد عن الاستسلام لها حتى لا تتحول إلى سيد يسترق صاحبه.

    ومن ذلك: الاعتناء بمعادن الناس، (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) والذين يسودون في حياة الضلال يسودون حين يمن الله عليهم بالهداية، فحري بالمصلحين أن يعنوا بدعوة من تعلو لديه صفات الرجولة وتسود عنده سمات الأكارم، فحين يهتدي هؤلاء يؤدون ما لا يؤديه غيرهم.

    ومن ذلك: ترشيد الرجولة.. من الرجال من يملك مواهب وطاقات لكنها صرفت في السوء والفساد، فحري ببناة الرجولة في المجتمع أن يسعوا إلى ترشيد رجولة هؤلاء، وقد كان للسلف رضوان الله عليهم جهد في ذلك، فهاهو زاذان أبو عمر الكندي الضرير أحد العلماء الكبار ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم روى عن عمر وعلي وغيره من الصحابة وكان ثقة صادقاً روى جماعة أحاديث، قال ابن عدي : تاب على يد ابن مسعود ، قال حاكياً عن توبته رحمه الله: كنت غلاماً حسن الصوت.. جيد الضرب بالطنبور فكنت مع صاحب لي وعندنا نبيذ وأنا أغنيهم فمر ابن مسعود فدخل فضرب الباطية فبددها وكسر الطنبور ثم قال: لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت، ثم مضى، فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود . فألقى في نفسي التوبة، فسعيت أبكي وأخذت بثوبه فأقبل علي فاعتنقني وبكى وقال: مرحباً بمن أحبه الله، اجلس ثم دخل وأخرج لي تمراً، قال زبيد : رأيت زاذان يصلي كأنه جذع.

    وكان أحدهم قاطع طريق يشغل الناس بالنهب والسلب، وكان بطلاً شجاعاً يقول لمن سيتولون دفنه:

    وخطّا بأطراف الأسنة مضجعي وردا على عيني فضل ردائيا

    خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا

    وقد كنت عطافاً إذا الخيل أقبلت سريعاً إلى الهيجا إلى من دعانيا

    ولا تحسداني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا

    وبينما هو في غيه وعدوانه لقيه أحد قادة المسلمين فدعاه إلى التوبة وأن يصحبه إلى الجهاد فأعلن الرجل توبته وسار إلى الجهاد ولدغ في الطريق وقال مرثيته البليغة وفيها:

    ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا

    إنه مالك بن الريب رحمه الله وتقبله في الشهداء.

    إن أولئك الذين يسعون إلى تحويل طائفة من أئمة الطيش والسفه وممن أقلقوا البلاد والعباد إلى جند للرحمن وهداة لطريق الإيمان سيقدمون خيراً للمسلمين ويكفون عنهم شراً مستطيراً.

    إنها جهود تقود الأمة إلى الخير وتلحقهم بقافلته قبل أن يهووا إلى الحضيض.

    بناء الرجال وتربيتهم معرفياً وعملياً

    ومن ذلك بناء الرجال وتربيتهم.. جدير بمن يرعى الشباب ويربيهم أن يعنى ببناء سمات الرجولة وأن لا يقتصر الأمر على خطاب الوجدان وحده، إن جيل الصحوة اليوم جدير به أن يكون قدوة للناس، وأن يتسم بما يتسم به الرجال الأكارم، وأن يثبت للمجتمع أنه أهل لأن يعتمد عليه وتعلق عليه الآمال بعد الله، وبناء الرجال المنتظر من المربين يبدو على مستويين:

    الأول: المستوى المعرفي من خلال إبراز مفاهيم الرجولة وتقديمها نموذجاً للجيل يسعى إليها ويتطلع لها ويسير إلى تحقيقها في نفسه وتحقيقها في دنيا الناس، ومن خلال تصحيح النظرة الخاطئة والمفاهيم السلبية عن الرجولة.

    الشباب لديهم حاجة يسعون إلى تلبيتها.. لديهم حاجة يريدون أن يصبحوا رجالاً.. يريدون أن يعدهم الناس رجالاً، إن هذه الحاجة قد تلتبس لديهم بمفاهيم خاطئة فيعتقدون أن سبيل تحقيق الرجولة هو في تصلبهم في مواقفهم.. هو في وقوفهم ضد من يصفونه بأنه سلطة غاشمة من أب أو أم أو معلم أو أستاذ.. إن تصحيح هذه المفاهيم وفتح آفاق للرجولة الحقة مما يعين على بناء الرجولة عند هؤلاء.

    وهي أيضاً تحتاج أن تبنى على مستوىً عملي يتمثل في بناء سمات الرجولة وتحقيقها في النفوس واستثمار كافة الوسائل والميادين التربوية وتحقيق ذلك، وهذا الأمر يتطلب من المربين وبناة الرجال أن يسعوا إلى إعطاء الشباب الثقة بأنفسهم..

    إن الشباب الذين يشعرون أنهم ليسوا أهلاً للثقة.. الذين لا يولون المسئوليات.. الذين يشعرون أن المجتمع ومن حولهم لا يزال يعدهم أطفالاً فيسعون إلى إثبات رجولتهم، ومن حقهم أن يسعوا إلى إثبات رجولتهم، لكنهم حين يسعون في غياب توجيه أولئك الذين شعروا أنهم لا يثقون بهم فسوق يضلون الطريق ويسعون إلى إفساده بوسائل تقصيهم عن الرجولة وتبعدهم عنها.

    إن الشباب بحاجة إلى أن تفتح لهم المجالات العملية والميادين التي يعملون من خلالها.. التي ينتجون من خلالها.. التي يتحولون من خلالها.. يتحولون من أن يكونوا قوة مزعجة للآخرين.. أن يكونوا أمة مثيرة للقلق والخوف إلى أمة منتجة.. أمة تسر آباءهم وتسر أمهاتهم وتسر المجتمع، نعم، إن من واجب المصلحين وبناة الرجولة أن يفتحوا المجالات العملية فالرجولة لا يمكن أن تبنى من خلال التوجيه والحديث، ولا يمكن أن تبنى من خلال اللوم والتأنيب، ولا يمكن أن تبنى من خلال خطوات نعدها أمام الناس ونقول لهم: هذه هي خطوات الرجولة فعليكم أن تسلكوها.. إنهم بحاجة إلى ثقة داخلية.. بحاجة إلى أن يشعروا أنهم أهل للثقة.. بحاجة إلى أن يشعروا أن المجتمع يعدهم رجالاً.. يعدهم حقاً وليس في مقام المخاصمة ....

    إننا حين نخاصم الشباب نحدثهم بأنهم رجال، لا نحدثهم شهادة وتزكية وثناءً إنما نحدثهم لوماً لهم على موقف خالفناهم فيه، وهذا لا يكفي في إشعارهم بالثقة ولا يعطيهم الثقة، إنهم بحاجة إلى ذاك الحديث الذي ينبع ابتداءً دون أي مؤثر آخر.. الذي يشعرون أنه يقال لهم دون أي دافع.. يقال لهم دون تمهيد للمطالبة بمطالب لم يلتزموا بها فيشهر في وجههم سلاح الرجولة، وهم بحاجة إلى أن تفتح لهم مجالات عملية.. في الأسرة.. في المنزل.. في المدرسة.. في المجتمع هنا وهناك، مجالات تدعوهم إلى أن يثبتوا رجولتهم.. مجالات تحولهم إلى أمة عاملة منتجة.

    أيها الرجال الكرام! أيها الشباب! كما قلت في بداية حديثي: لست أتحدث في هذا المقام المبارك مع الرجال لأطالبهم بأن يكونوا رجالاً وحاشا لله، ولست أذكر الرجال بسمات الرجولة ومعالم الرجولة لأعيبهم لأنهم لم يتمثلوها، إنما هو حديث أملاه هذا الواقع الذي نعيشه اليوم والذي غابت فيه كثير من معاني الرجولة فصرنا بحاجة إلى أن نحدث عنها لنسعى إلى تحقيقها في ديننا ولدى أبنائنا.

    أسال الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأن يجعلنا وإياكم من الرجال الذين يحبون أن يتطهروا والرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.

    فأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    الأسئلة

    نصيحة لمن يتشبهون بالنساء

    السؤال: كما هو ملاحظ اليوم انتشار ظاهرة التشبه بالنساء عند شبابنا من حيث المظهر والملبس وأسلوب الكلام، فما نصيحتكم لهم؟

    الجواب: هذا نوع من غياب الرجولة فالرجل يعتز برجولته، وحين يتشبه بالنساء فإنه يهين نفسه وينقص رجولته، ثم هو يعرض نفسه للعنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.

    الرجولة والشجاعة

    السؤال: يظن بعض الناس أن الرجولة هي الشجاعة، فهل هذا مفهوم صحيح؟

    الجواب: نعم، الشجاعة هي ميدان من ميادين الرجولة، وتحدثنا عن ذلك، لكن الإسلام كما قلنا هذب الشجاعة وجعلها في ميدان الحق، فالرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة ليس في سبيل الله، إنما الذي يكون شهيداً في سبيل الله هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، والشجاعة هي في مواقف الحق التي تتطلب ذلك.

    الجهل بالعادات القبلية وأثره على الرجولة

    السؤال: يعتقد كثير من الناس أن من أهم صفات الرجولة المعرفة بما يسمى سلوم الرجل، فهل إذا كان الإنسان جاهلاً بها تنقص رجولته أو تنعدم؟

    الجواب: كثير من أهل القبائل البدوية وغيرهم يقدسون هذه العادات ويعظمونها وكأن الخلل بها كبيرة من الكبائر ومن الموبقات، لأن هناك عادات لها قيمة ووزن مثل إكرام الضيف والوفاء وغيره، لكن هناك أمور اعتادها الناس لا تعدو أن تكون أمراً عادياً لا قيمة له، وعدم مخالفة الإنسان لها ما لم تكن معصية أمر محمود لكن جهله بها لن يضيره، بل جهله بأحكام الدين والخلل به أشد عليه خطراً في دينه ودنياه من جهله بهذه العادات.

    منع الأهل من التسوق والملاهي

    السؤال: هل إذا منعت أهلي ورفضت الذهاب معهم إلى الأسواق والمنتزهات والملاهي المختلطة أصبح ممن يتصنع الرجولة، ما هو توجيهكم؟

    الجواب: الرجل يمنع أهله عن الذهاب إلى ما حرم الله عز وجل أو عن الوقوع في الحرام، فإذا فعل ذلك استجابة لأمر الله عز وجل فلا شك أن هذا امتثال أمر الله عز وجل وهو من تمام الرجولة.

    ترجل النساء

    السؤال: يقول: ما تقول في أشباه الرجال والذين ترجلت نساؤهم؟

    الجواب: هذا من هوان الرجال وضعفهم، وأنت اليوم ترى في واقعنا عجباً.. ترى فئات من الرجال كأنهم قد غدوا أشباه الرجال كما قال الشاعر.

    كيفية اكتساب قوة الشخصية

    السؤال: من صفات الرجل قوة الشخصية في الحق، فكيف تضعف الشخصية وخاصة ذلك الذي يدخل في دائرة الرجال بعد مجال الطفولة، كيف يقوي شخصيته بالطريقة الصحيحة والبعيدة عن الصلف والتعدي والتهور؟

    الجواب: بيئتنا لا تربي الرجال بطريقة صحيحة؛ بيئتنا في المنزل وفي المدرسة للأسف تقضي على الكثير من سمات الرجولة فالشاب يهان وتهان كرامته ولا يشعر بكرامة ومنزلة ودوماً يعاتب ويلام على الخطأ وعلى غير الخطأ، وفي ظل هذه التربية القاسية أو التربية التي لا تقيم له قدراً لن يخرج لنا رجال يبنون الأمة ويقودونها.

    التدخين والرجولة

    السؤال: ما نصيحتك للمدخن ويظن ذلك من الرجولة؟

    الجواب: بعض الشباب يعتقد أن التدخين ينقله إلى عالم الرجال، والواقع أنه ينقله على عالم الحمقى والجهلة.

    الإصرار على الخطأ

    السؤال: قلتم: من الرجولة تراجع المرء عن الخطأ، فما رأيكم في بعض المربين والمشرفين والموجهين الذين يخطئون في عمل أو قول أمام التلاميذ، ثم إذا شعر بخطئه لم يعتذر، وإذا أشهر من قبل أحد تلاميذه يصر على فعله أو قوله خشية من سقوطه في أعين تلاميذه، أليس النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى قول حباب بن المنذر في بدر إلى غير ذلك، أليس في هذه الطريقة تربية الجيل على الإصرار على الخطأ.. أليس في ذلك تربية الجيل على الخوف والوجل من إنكار المنكر وتصحيح الخطأ، فهل لنا بتوجيه منكم لهؤلاء المربين حفظهم الله.

    الجواب: أولاً: الناس ليسوا حمقى وليسوا مغفلين.. الناس يدركون أنك أخطأت، فإذا وقعت في الخطأ فسيدركون أنك وقعت في الخطأ، والدليل على ذلك أنهم قد نبهوك، وحين تصر على الباطل وعدم الرجوع عن الخطأ فغاية ما تقرره عند الناس أنك إنسان مشاكس فتسقط قيمتك لديهم.

    ثانياً: أنت مرب فأولى بك أن تربي على الرجوع إلى الحق وعلى الرجوع عن الباطل، ومن الطبيعي أن يتحدث الإنسان فيقع في الخطأ، قد يسبق لسانه.. قد يخطئ في نص.. قد يزل في كلمة لم يحسب لها حساباً فيقع في هذا الخطأ، ورجوعه حينئذ لا ينقصه بل يزيده قيمة ومنزلة.

    الجمع بين الرجولة واللين مع الأهل

    السؤال: كيف يكون الرجل قواماً في بيته ذا شخصية قوية ومطيعاً لأهل بيته ويداعب أولاده؟

    الجواب: يكون قواماً في بيته؛ لأن يكون هو صاحب القرار وصاحب الأمر.. أن يكون مطاعاً إذا أمر بأمر، وأن يأمرهم بما يرضي الله وينهاهم عما يسخط الله عز وجل، وينهاهم عما يكون فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم، ومع ذلك فهو يجالسهم ويداعبهم ويفرحون بقدومه، والرجل الذي يفر أطفاله وينزوون حين يقدم إلى البيت وحش وليس رجلاً، الرجل هو الذي يستبشر أطفاله وأهله بقدومه إلى المنزل.

    دور النساء في بناء الرجولة

    السؤال: هل لمن أتت معي إلى هذا المسجد المبارك كلمة توجيهية لكي يكون لها حظ ونصيب من هذه المحاضرة، وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: المرأة هي بانية الرجال وهي أم الرجال وأعتقد أن الحديث لا يعني الرجال وحدهم، بل ويعنيها فهي أم الرجال، ونحن بحاجة إلى أن تسهم نساؤنا في تربية الرجال.

    خطاب الكفار في القرآن بالرجولة

    السؤال: لم يرد في الكتاب والسنة مناداة أو خطاب فيه رجولة أو كلمة رجل تجاه المشركين والكفار، هل معنى ذلك ألا ننادي الكفار من النصارى وغيرهم برجل؟

    الجواب: بلى يا أخي! أنا قرأت آيات في كتاب الله عز وجل، قال الله عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا [الكهف:32] ثم ذكر حال الرجل الكافر، وقال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] وغيرها من الآيات، والرجولة لها إطلاقان:

    إطلاق عام في أصل اللغة وهو خلاف المرأة، والإطلاق الآخر هو الوصف الأخص وهو الذي كان موضوع الحديث.

    وضع الأمة

    السؤال: إن وضع الأمة الإسلامية وضع يرثى له، ومن أهم أسباب هذا الوضع عندما تشبع رجال الأمة الإسلامية بأهل الغرب، ما تعليقك؟

    الجواب: وضع الأمة كما قال الأخ وضع يرثى له، وهذا سبب من الأسباب وليس كل الأسباب.

    كيفية بر الوالدين وعدم مغاضبتهما

    السؤال: أنا كنت لا أطيع والدي ولكني عندما ابتعد عنه أعاهد نفسي على البر بهما، ولكن أرجو منكم أن تدلوني على الطريق الصحيح، والدعاء لي بالهداية والمسلمين جزاكم الله خيراً.

    الجواب: من خلال تجربتي بما يرد علي من أسئلة كثيرة من الشباب أن أكثر ما يقع فيه الشاب من خطأ مع والديه حينما يغضب، والموقف الثاني حينما يكون له حاجة يصر عليها ويريدها ولا تتفق رغبته فيها مع رغبة والديه، والأمر يحتاج إلى ترويض وتعويد.. أن يعود نفسه إذا غضب أن يهدأ.. أن يعود نفسه إذا غضب أن لا يتكلم ويتفوه أمام الآخرين.. إذا كان أمام أمه أو أمام والده فغضب أن ينصرف عنهما حتى لا يقول كلمة تسخطهما، وبعد ذلك يهدأ غضبه ويعود نفسه، ومن الطبيعي أن الشاب يكون أكثر حدة وأكثر انفعالاً.. وأن يغضب أسرع من غيره من الرجال، وأن يكون غضبه أشد، لكنه حينما يعود نفسه على الهدوء يكتفي بالحلم، والحلم بالتحلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

    مشكلة في الرجولة بين الأمهات والأولاد

    السؤال: شباب بلغوا منزلة الرجولة ولكنهم ما زالوا صغاراً في نظر أمهاتهم، فما الحل لهذه المشكلة؟

    الجواب: نحن الذين نربي أولادنا، ونحن الذين نجعلهم رجالاً، وكثير من الآباء والأمهات لديهم حرص على أن يكون أولادهم رجالاً، لكنهم قد يخطئون الطريق، فقد يسطون عليهم.. قد يهملونهم.. قد تكون المطالبة بالرجولة هي ردة فعل لمواقف.

    وحتى نبني الرجولة عند أولادنا فإنهم يحتاجون إلى أن يشعروا أنا نثق بهم.. أننا نقدرهم.. أن نوليهم المسئوليات.. أن نتجاوز عن الهفوات اليسيرة.. أن لا يشعروا أننا في صف وهم في صف آخر.. ومن خلال التربية يمكن أن نعدهم رجالاً.

    ونحن نلحظ أن أبناء بعض القبائل الذين يعيشون في البادية يملكون من صفات الرجال ما يملكه غيرهم بغض النظر عن أن لا يكون لديهم نقص في الديانة لكنك تراهم أكثر رجولة من غيرهم، لأنهم نشئوا في بيئة تنشئهم على الرجولة.

    العزة والرجولة

    السؤال: ثمة تصرفات يراها أصحابها رجولة أو عزة وشهامة كأن يخطئ شخص على آخر فيكتم الآخر ذلك في نفسه وإذا قلت له: كلم ذلك الشخص قال: لا، أتريدني أن أهين نفسي.. إني لم أعد طفلاً.. إني عزيز عن نفسي..

    الجواب: العزة هي أن ينتصر الإنسان على نفسه، والله عز وجل يقول: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35] .

    أكتفي بهذا القدر من الأسئلة، وأسأل الله عز وجل أن يثيب الإخوة على حضورهم ..

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755976471