إسلام ويب

العاطفة بين الإهمال والإغراقللشيخ : محمد الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العاطفة أمر فطري جبل الله تعالى الناس عليه، وقد تباينت أفعال الناس فيها تبايناً لا يحمد منه إلا نمط واحد، فبعضهم أفرط في نقدها والجرح بها متناسياً هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها بطبيعته البشرية، وبعضهم أغرق فيها إغراقاً سلبياً أورث حياته صوراً من الضرر العاطفي لا تصح معها مسيرة بناء النفس وتربية الأجيال، والوسط في ذلك هو الأمر المحمود.

    1.   

    ثناء واعتدار

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فهي فرصة طيبة كريمة أن نلتقي بكم -معشر الإخوة الكرام- في هذا المكان الطيب المبارك، وفي هذا الجامع، وفي هذه الليلة المباركة.

    وفي الواقع أني مدين لكم كثيراًمعشر الإخوة، مدين لكم بالحب والوفاء والتقدير، الذي هو عروة وثقى، وصلة وشيجة بين المسلمين جميعاً، والسالكين على طريق محمد صلى الله عليه وسلم، ومدين لكم أنتم أهل هجر، وأشكر لكم صبركم على جفائي، وعلى مطلي، ومطل الغني ظلم.

    وقد كانت الدعوة من الإخوة سابقة، وأخرتهم إلى هذا الحين، أسأل الله عز وجل أن يثيبهم، وأن يجزيهم الأجر والمثوبة على ما تسببوا به من إحياء هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم جميعاً العلم النافع، والعمل الصالح.

    وإن كنت أشعر أني حين أتحدث إليكم كجالب التمر إلى هجر، لكن الناس ألفوا أن يسمعوا الصوت الغريب، وأن يكون له وقع ليس كوقع الصوت القريب، هذا فقط هو ما أشعر أنه يؤهلني للحديث أمامكم؛ ولهذا فقد لا آتيكم بجديد حول مثل هذا الموضوع: (العاطفة بين الإهمال والإغراق)، وهو موضوع حديثنا هذه الليلة، وهو حديث ذو شقين: حديث حول الإهمال، وحديث حول الإغراق.

    1.   

    بيان معنى العاطفة في اللغة

    وقبل أن ندخل في موضوعنا لابد أن نقف وقفة سريعة عجلى حول ما قاله بعض أئمة اللغة حول معنى العاطفة.

    يقول ابن فارس : العين والطاء والفاء أصل صحيح يدل على انثناء وعياج، يقال: عطفت الشيء: إذا أملته، وانعطف الشيء إذا انعاج ... وتعطف بالرحمة تعطفاً ... والرجل يعطف الوسادة: يثنيها ... ويقال للجانبين: العطفان.

    وقال في اللسان: وتعطف عليه أي: وصله وبره، وتعطف على رحمه: رق لها، والعاطفة: الرحم، صفة غالبة، ورجل عاطف وعطوف: عائد بفضله حسن الخلق، قال الليث : العطاف: الرجل الحسن الخلق، العطوف على الناس بفضله ...، وعطفت عليه: أشفقت.

    وهكذا نرى أن المعنى اللغوي لا يبتعد كثيراً عما يطلق عليه في المصطلح المعاصر: العاطفة، وإن كانت أخذت مداً أبعد من ذلك، فحين تطلق العاطفة فإنها تطلق على تلك المشاعر المتدفقة السيالة، التي تدعو الإنسان لاتخاذ مواقف من القبول والرفض أو الحب أو الكره، تطلق على تلك الحماسة التي تتوقد في نفس صاحبها؛ لقبول هذا العمل أو رفضه.

    1.   

    لون الحديث حول العاطفة اليوم

    وصار الحديث كثيراً حول العاطفة حديث الرفض وحديث الانتقاد، مع أننا أيضاً نعاني من إغراق في العاطفة، والأولى أن توضع في موضعها الصحيح، وحيث إننا نعاني ونشتكي من الإغراق، فإن هذا لا يعني أن نلقي العاطفة في قفص الاتهام، وأن تصبح من مصطلحات الجرح لدينا، فصار يكفي أن تجرح فلاناً من الناس أن تصفه بأنه صاحب عاطفة، أو بأنه صاحب حماس، أو -كما يقال- متحمس، صارت كلمة جرح مطلقاً، وهذا يعني أن فاقد العاطفة، وفاقد الحماس هو الرجل الأولى بالتعديل.

    إننا ومع شعورنا بالإغراق، بل ومزيد من الإغراق في العاطفة، ومع شعورنا بأن ثمة مواقف تدفع إليها العواطف كثيراً، وأننا لابد من أن نحجمها ونحد منها، إننا مع ذلك ينبغي ألا نهمل دور العاطفة، وألا نقع في خطيئة الإهمال لها.

    وهنا سنبدأ في الحديث حول إهمال العاطفة.

    1.   

    الموقف من إهمال العاطفة

    فقد العواطف شذوذ

    إن الدعوة إلى إهمال العاطفة -كما قلنا- دعوة بحاجة إلى مراجعة، وإلى إعادة النظر، إن العاطفة خلقها الله في الإنسان أصلاً، خلق الله الإنسان يحمل مشاعر وعواطف من الحب والكره والقبول والرفض والحماس، فالدعوة إلى إلغائها دعوة إلى تغيير خلق الله، والدعوة إلى إلغائها تعني بكل بساطة أن هذه العاطفة لم يكن لها حكمة في خلق الإنسان، وأنها خلقت عبثاً، وحاشا لله عز وجل أن يكون في خلقه سبحانه وتعالى عبث، فالله سبحانه وتعالى ما ركب هذه العاطفة في نفس الإنسان إلا لحكمة، ولمصلحة لابد أن تتحقق من ورائها.

    ثانياً: على وصف فاقد العاطفة بأنه رجل شاذ:

    إن الرجل الذي لا تتحرك مشاعره، فلا يرق قلبه لمشهد يثير الرقة والعطف، ولا يملك مشاعر الحب تجاه الآخرين، أو مشاعر الرفض تجاه من يرفض، الرجل الذي لا يمكن أن تتوقد في قلبه حماسة أياً كان الموقف، لا شك أنه رجل شاذ فاقد للإحساس والعواطف.

    بل إن الناس يرون أن الرجل الذي لا يحس بالجمال، ولا يتذوق الجمال في هذه الدنيا، رجل شاذ، فهو وصف مخالف للفطرة السوية، ولهذا حين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه يقبل صغيراً، قال: تقبلون صغاركم؟! إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، قال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!).

    إنه رجل شاذ بعواطفه، إنه رجل -كما قال صلى الله عليه وسلم- قد نزعت من قلبه الرحمة، فصار تصرفه، وصار سلوكه سلوكاً غير مرضي، وسلوكاً مرفوضاً يستنكره النبي صلى الله عليه وسلم، يستنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الصحابي رضوان الله عليه ألا يملك في قلبه الرحمة للصبية الصغار، فصار لا يقبل أحداً منهم.

    وفي العاطفة النبوية هدي

    حين نقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد مواقف شتى تدور حول هذا المعنى، وسواء سميناها عاطفة، أو لم نسمها كذلك، فلا مشاحة في الاصطلاح، ولا يجوز أبداً أن نقيم جدلاً وحرباً حول المصطلحات والألقاب، سمها ما شئت فإنها تعني الذي نريد، وإن اصطلحنا نحن على تسميتها بالعاطفة، فإن هذا لا يعني أن وصف العاطفة لفظ تهمة أصلاً، ولفظ جرح يتردد المرء في أن يصف به محمداً صلى الله عليه وسلم.

    وإن اخترت أن تبحث له عن لفظ غير هذا، فأنت وما تريد، لكنا نحن نريد المعنى، ولسنا نقيم جدلاً حول هذا المصطلح، وحول هذا الموضوع.

    النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك هذا الشعور، يملك صلى الله عليه وسلم هذا الشعور مع زوجاته، ففي حجة الوداع تأتي زوجه عائشة رضي الله عنها وقد حاضت، ولم يتيسر لها أن تأتي بعمرة قبل الحج، فتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: يذهب الناس بحج وعمرة، وأذهب بحج؟! ثم تلح عليه صلى الله عليه وسلم، يقول جابر : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلاً ليناً إذا هوت أمراً تابعها هي، ويواعدها صلى الله عليه وسلم المحصب أو الأبطح، ثم تذهب مع أخيها، فتعتمر، فتأتي إليه صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أفرغتم؟ فتقول: نعم، فيؤذن أصحابه بالرحيل).

    وفي موقف آخر أبعد من هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزاة، ففقدت عقداً لها رضي الله عنها، وحبس النبي صلى الله عليه وسلم الناس يبحثون عن هذا العقد، ويأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حجرها، فيقول: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟! قالت: فما يمنعني أن أتحرك إلا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ويقيمون البعير فتدركهم الصلاة وليسوا على ماء، فتنزل آية التيمم، فيقول أسيد رضي الله عنه: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

    إن النبي صلى الله عليه وسلم يحبس الجيش هنا كله، ويبقيه ينتظر هذا العقد، والقضية ليست قضية رجل يتعلق بالدنيا حاشا وكلا، إنما هي مراعاة لمشاعر تلك المرأة، تلك المشاعر المرهفة عند مثل هذه المرأة، التي تقيم لهذا العقد وزناً، فيحبس النبي صلى الله عليه وسلم الجيش، ويحبس الناس، ويأتي أبو بكر الصديق رضي عنه غاضباً إلى عائشة : كيف حبست الناس؟! ويبقيهم صلى الله عليه وسلم حتى أدركتهم الصلاة وليسوا على ماء، وليس معهم ماء.

    وتأتي رضي الله عنها تنظر إلى أهل الحبشة وهم يلعبون في المسجد، ويقف صلى الله عليه وسلم يسترها، وهي جارية لا تمل اللعب، حتى تمل وتنصرف بعد ذلك، فينصرف صلى الله عليه وسلم.

    ونرى أيضاً هذا الخلق وتلك الرقة عنده صلى الله عليه وسلم مع الأولاد، فيأتي إليه الصبي فيقبله صلى الله عليه وسلم، فيعترض عليه رجل جالس عنده، فيقول: تقبلون الصبيان؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!) وفي الحديث الآخر أيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم).

    ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم وصبي يحتضر، وروحه تقعقع، فيحمله صلى الله عليه وسلم، ثم تنزل قطرات من الدمع من عينيه صلى الله عليه وسلم، ويتساءل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يرق؟! كيف لهذا القلب الكبير أن يحمل هذه العاطفة لمثل هذا الصبي؟! فيقال: ما هذا؟ فيقول: (هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من عباده).

    ويموت ولده إبراهيم ، ويبكي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).

    في حين يأتي أحد المتصوفة، ويرى أنه سيبلغ هدياً أكمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشعر أنه قد أمر بالصبر على فقد الأولاد، والرضا ، فحين يموت ولده يقوم هذا الرجل يرقص على قبره فرحاً بهذه المصيبة، ويظن أنه قد بلغ منزلة من الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره عالية، بينما هو قد فقد تلك المنزلة العالية التي سما إليها النبي صلى الله عليه وسلم حين يجمع بين الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل، ويجمع بين الرحمة والرقة والعاطفة التي لا يفتقدها إلا إنسان شاذ.

    ويأتي الحسن والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي ساجداً، فيصعد على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى النسائي من حديث عبد الله بن شداد رضي الله عنه، فيطيل النبي صلى الله عليه وسلم السجود، حتى يقوم هذا الغلام، فيسأله أصحابه، فيقول: (إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته).

    ويدخل وهو يخطب صلى الله عليه وسلم، فينزل صلى الله عليه وسلم من على منبره، ثم يحمله، ويقول: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من طوائف المسلمين).

    وتتجاوز رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وعطفه بني الإنسان إلى البهيمة والحيوان، فيروي عبد الله بن جعفر عنه صلى الله عليه وسلم: (كان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخل، فيدخل صلى الله عليه وسلم حائط رجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن، وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح ذفراه، فسكت، فقال صلى الله عليه وسلم: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله. فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكى إلي إنك تجيعه وتدئبه)، والحديث رواه أبو داود .

    وفي حديث آخر عند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما عن أبيه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها).

    أرأيتم ذلك القلب الكبير، ذلك القلب العظيم، الذي لم تقف رحمته عند حدود زوجته، أو عند حدود رعيته، أو حتى عند الأطفال، لتتجاوز إلى الحيوان، فيكلم النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه بشأن جمل له يجيعه ويدئبه، وكأن هذا الجمل يشعر ويرى الرحمة في قلبه صلى الله عليه وسلم، فتذرف عيناه، مرسلة رسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلى صاحب الرحمة صلى الله عليه وسلم، المرسل رحمة للعالمين، بكل ما تحمله هذه الكلمة، فهو رحمة للناس من عذاب جهنم، ومن فيح جهنم، وهو رحمة للناس في أمور دينهم، وهو -صلى الله عليه وسلم- رحمة حتى لهذه البهائم.

    ولهذا يصفه الله عز وجل فيقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

    ويصفه حسان رضي الله عنه بأوصاف يعجز عنها البلغاء:

    وأجمل منك لم تر قط عيني وأحسن منك لم تلد النساء

    خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء

    ويقول:

    عطوف عليهم لا يثني جناحه إلى كنف يحنو عليهم ويمهد

    رءوف بهم صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا غرو أن يقولوا حين دفنوه صلى الله عليه وسلم: ما إن نفضنا التراب عن أيدينا حتى أنكرنا قلوبنا.

    قال حسان رضي الله عنه:

    لقد غيبوا حلماً وعلماً ورحمة عشية واروه الثرى لا يوسد

    وراجوا بحزن ليس فيهم نبيهم وقد وهنت منهم ظهور وأعضد

    لقد غيبوا النبي صلى الله عليه وسلم في الثرى، فغيبوا العلم والحلم كما قال حسان رضي الله عنه، ولهذا أنكروا قلوبهم بعده صلى الله عليه وسلم.

    وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء

    وإذا خطبت فللمنابر هزة وإذا وعظت فللقلوب بكاء

    وإذا غضبت فإنما هي غضبة لله لا حقد ولا شحناء

    هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، صاحب القلب الكبير، القلب الرحيم العطوف، مع ما يحمله صلى الله عليه وسلم من عبء الرسالة، وهم حمل هذه الديانة والشريعة إلى البشرية كلها أجمع، مع ذلك كله يجد الغلام في قلبه صلى الله عليه وسلم مكاناً له، والحيوان يجد مكاناً له؛ لرأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم.

    أفبعد ذلك كله نطالب الناس أن يتجردوا عن عواطفهم، أن يتجردوا عن مشاعرهم، وعما جبلهم الله عز وجل عليه؟!

    الصياغة العاطفية في الأدب دليل أهميتها

    رابعاً: يحفل الأدب بأساليب تعبر لك عن معاناة يتيم، أو معاناة أرملة، أو معاناة من فقد فقيداً له، وتقرأ هذه الأبيات فلا تملك إلا أن تتجاوب معها، وتعيش وكأنك ترى حال صاحبها، وكأن النعي ما يقوله الشاعر في وصف تلك الأرملة:

    لقيتها ليتني ما كنت ألقاها تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها

    أثوابها رثة والرجل حافية والدمع تذرفه في الخد عيناها

    بكت من الفقر فاحمرت مدامعها واصفر كالورس من جوع محياها

    إنك حين تسمع هذه الأبيات لا تملك إلا أن تتفاعل مع مثل هذا الموقف، ويرق قلبك وفؤادك لمثل هذه الأرملة المسكينة، التي يصفها الشاعر، وربما لم يكن رآها قط، ربما كانت قضية من نسج الخيال، لكن النفس مفطورة على تذوق الرواية التي تصور لك مأساة هذا الرجل الفقير أو المسكين، أو ذاك المظلوم.

    الحاجة إلى العاطفة الحماسية في الجهاد

    خامساً: ونرى أثر العاطفة في إذكاء الحماسة، بل نرى ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله، نرى أن المسلمين يحتاجون إلى من يشعل حماسهم، لقد وقف المسلمون في غزوة مؤتة حين بلغهم جمع الروم، وقفوا يتشاورون ماذا يصنعون، أيطلبون مدداً من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم ماذا يصنعون؟

    فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وقال: أيها الناس! إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبونها الشهادة، والله إنا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة، إنما نقاتل الناس بهذا الدين، قالوا: فحمس عبد الله الناس، فمضوا إلى أمرهم.

    أرأيت كيف يصنع الحماس؟ أرأيت كيف توقظ هذه الحماسة أصحابها، فتدفعهم إلى الجهاد، تدفعهم إلى أن يلغوا ذاك الخيار الذي اجتمعوا من أجله، وحين سار رضي الله عنه وودعهم أهل المدينة، قالوا: حفظكم الله وردكم إلينا، قال: لا ردني الله إليكم.

    وسار ومعه غلام في حجره وهو زيد بن أرقم رضي الله عنه، سار وصار يتغنى ويخاطب راحلته:

    إذا أدنيتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء

    فشأنك أنعم وخلاك ذم

    ولا أرجع إلى أهلي ورائي

    وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام مشتهر الثواء

    وردك كل ذي نسب قريب إلى الرحمن منقطع الإخاء

    هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء

    فبكى زيد رضي الله عنه، فوخزه وقال: لا عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل؛ لأنه قد يكون أبقى له مكاناً.

    وكأنك ترى في حال هذا الصحابي الجليل وقد عقد العزيمة على ألا يعود، ويسأل الله عز وجل أن يخلفه المسلمون بأرض الشام، وحين قتل صاحباه، وتقدم تردد وتلكع، فقال أبياتاً يستحث فيها نفسه:

    أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلنه أو لتكرهنه

    إن أجلب الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنة

    فيخاطب نفسه بهذه الأبيات، ثم يدفعها دفعاً إلى ميدان الشهادة، فيمضي رضي الله عنه مع صاحبيه.

    وهكذا حين تقرأ في السير، قبل المعركة يجمع القائد جنده وجيشه، فيخاطبهم، ويحمسهم، ويحثهم على الاستشهاد في سبيل الله، ويبين لهم فضل الشهادة، وفضل الجهاد في سبيل الله؛ حتى يوقد حماستهم وعزيمتهم إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل.

    وما ترى معركة أو غزوة قادها المسلمون إلا وترى الشعراء والخطباء قد أوقدوا حماسة الناس لهذا الجهاد، أيسوغ بعد ذلك أن ندعو إلى إلغاء الحماس والعاطفة؟!

    العاطفة حاجة مهمة في التربية

    سادساً: العاطفة حاجة مهمة في التربية، وحين يفقد المتربي العاطفة، فإنه ينشأ شاذاً، وهي صورة نراها فيمن مات أبوه، أو ماتت أمه، وتربى عند زوجة أبيه، أو عند غيرها من النساء التي لا تشعر تجاهه بشعور الأم الحنون، كيف ينشأ هذا الشاب؟ إن الغالب من هؤلاء ينشأ شاباً شاذاً، ينشأ شاباً يعاني من الفراغ العاطفي، وكثيراً ما نرى المشكلات تتمثل عند هؤلاء، ذلك أن ثمة حاجة ملحة هم بحاجة إلى أن يعطوا إياها، ألا وهي الحنين والعاطفة، ولهذا يتربى هذا الشاب بعقل أبيه، وحجر أبيه، ويتربى أيضاً بعاطفة أمه.

    ولحكمة بليغة يخلق الله عز وجل العاطفة في الأم، عاطفة تذوب عندها المواقف، عاطفة تلتقي في نقطة اتزان مع عقل الأب وحصافته، فيعيش الشاب ويعيش الطفل بين هذين الخطين المتوازيين، فيعيش حينئذٍ متوازياً ومستقراً، وحين يشد أحد الخيطين أكثر من صاحبه، أو حين يفقد أحدهما؛ فإنه يعيش عيشة غير مستقرة.

    ومن ثم فلا غنى للصغير عمن يحوطه بالعاطفة، وعمن يحن عليه، ويشفق عليه، وحين ينشأ على خلاف ذلك، فإن الغالب فيه أن ينشأ فاقداً لهذا الإحساس، وفاقداً لهذا الشعور.

    إنكار على داعية إلغاء العواطف

    مع ذلك كله نسمع من يدعو إلى إلغاء العاطفة، بل من يدرج العاطفة ضمن مراتب الجرح، فيصف فلاناً بأنه صاحب عاطفة، أو بأنه متحمس، وكم نرى العتب واللوم على ذاك الذي أغاضه انتهاك لحرمة من حرمات الله عز وجل، فدارت حمالق عينه، وغضب غضبة لله عز وجل، حينئذٍ يوصف بأنه متحمس طائش، بأنه لا يحسب عواقب الأمور.

    أما ذاك الذي لا تثيره حرمات الله عز وجل، لا تحرك لديه ساكناً، الذي يرى المنكرات، ويرى مصائب المسلمين، ويرى جسد المسلمين يقطع إرباً إربا، ومع ذلك لا تهتز مشاعره، ولا تتحرك عواطفه، ذاك يوصف بأنه رجل حكيم حصيف لبيب، يضع الأمور في مواضعها.

    إنني أحسب أن هذه قسمة ضيزى، أحسب أن هذا جور في الحكم، إننا ومع رفضنا للإغراق في العاطفة إلا أننا نرى الغضب والحمية لدين الله من واجبات المسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً سهلاً ليناً، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه صلى الله عليه وسلم شيء.

    ويوصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا يتناشدون الشعر، فإذا أردت أحدهم على دينه دارت حمالق عينه، أليس هذا تعبيراً عن الغضب والغيرة لحرمات الله عز وجل؟! وكيف نصنع بتلك المواقف الفذة من سلف الأمة، التي وقفوا فيها غضباً وحمية لدين الله عز وجل، حمية مجلجلة، واضحة صريحة قالوها؟! ولا شك أن الذي دفعهم لذلك هو الحماس، نعم، والغضب، نعم، والعاطفة، نعم، لكنها عاطفة صادقة، وحماسة صادقة، فالمطالبة بإلغاء الحماسة والعاطفة مطالبة بتغيير خلق الله عز وجل، وتغيير سجية فطر الله سبحانه وتعالى عباده عليها.

    وكما أننا ننكر على من يكون دافعه ووقوده الحماس والعاطفة وحدها، فإننا -أيضاً- ينبغي أن ننكر -وبنفس القدر- على ذاك المتبلد الحس، الذي يرى مصائب المسلمين، ويرى دماء المسلمين تجري، ويرى حرمات الله تنتهك، ويرى دين الله عز وجل ينقض عروة عروة، ومع ذلك لا يحرك فيه ذلك ساكناً، ولا يثير فيه حمية، ولا يغضب لله عز وجل، أيهما أولى أن يعاب؟ أيهما أولى بالذم والنقص والعيب؟

    لست أحكم أيهما أكثر خطأً، لكننا حين نتحدث عن خطأ هذا، فينبغي أن نتحدث أيضاً عن خطأ ذاك، ولا يسوغ أن ننظر بعين الأعور، وأن ننظر إلى القضية بعين واحدة.

    1.   

    ضرر الإغراق في العواطف وصوره

    ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الشق الثاني: وهو الإغراق في العاطفة:

    إن الوسط سنة الله عز وجل في الحياة، هذا المسجد الذين نحن فيه حين يزداد فيه التبريد يصبح حداً مزعجاً لا نطيق الصبر عليه، وحين ينقص عن القدر المعقول يؤلم الناس الحر ويزعجهم، فلا يطيقون الصبر عليه، وهكذا، الماء حين يكون بالغ العذوبة لا يستسيغه المرء، وحين يكون بالغ الملوحة كذلك، والطعام، وفي الحياة كلها الوسط، والتطرف أمر مرفوض.

    أما دين الله عز وجل فلا شك أنه قائم على الوسط، ودين الله عز وجل وسط بين الغلو والجفاء، فكما أن إهمال العاطفة وإلغاءها أمر مرفوض، فالإغراق فيها والتحليق في التجاوب معها أيضاً هو الآخر أمر مرفوض، وينبغي أن نكون وسطاً بين هذا وذاك.

    وإن كنا أفضنا في الحديث عن الشق الأول، إلا أنني أرى أننا أحوج ما نكون إلى الحديث عن الشق الثاني وهو الإغراق في العاطفة، فنحن نعاني من إغراق في العاطفة تختلف صوره ومظاهره ومجالاته.

    سيطرة العواطف على المرء في الحكم والتقويم

    إن من هذه الصور أن تحكمنا العاطفة في الحكم والتقويم، فحين نحكم على فلان من الناس سلباً أو إيجاباً، وحين نحكم على عمل من الأعمال، أو على جهد من الجهود، وخاصة الجهود والأعمال الإصلاحية والأعمال الإسلامية، حين نحكم عليها، وحين نقوم الناس، لا يسوغ أن نندفع وراء عواطفنا، فنفرط في المدح والثناء، ونحلق في أجوائها بعيداً عن الرؤية الأخرى إلى جوانب القصور وجوانب الخلل، وحين نقوم أعمالنا وجهودنا فلا يسوغ أن تكون العاطفة هي المعيار والحكم، ومن في حكمه لابد أن يكون شخصية متطرفة، إما ثناءً أو ذماً، وإما سلباً أو إيجاباً؟

    كثيرة هي الأحكام -معشر الإخوة الكرام- التي نطلقها من وحي العاطفة فقط، ففي أحكامنا ومواقفنا من الرجال ومواقفهم ما يكون فيه الحاكم الأول والأخير والقاضي والشهود والمدعي هو العاطفة وحدها، وحينئذٍ لابد أن يكون الحكم حكماً جائراً، حكماً بعيداً عن العدل.

    إننا مع تأكيدنا على أن الثناء على من يحسن أمر مطلوب، وأن الإعجاب بمن يستحق الإعجاب أمر لا يدعى إلى إلغائه والتخلي عنه، لكننا مع ذلك لا يسوغ أن نفرط، ولا يسوغ أن تحكمنا العاطفة وحدها في ذلك، وكثيراً ما تتحكم العاطفة في تقويم مواقف كثيرة من مواقف العمل الإسلامي، فتقود إلى نتائج مؤلمة.

    أضرب لكم مثالاً: تجربة عشناها كنا أغرقنا فيها، وتجاوبنا فيها مع العاطفة أكثر مما ينبغي، تجربة الجهاد الأفغاني، لقد بدأ هذا الجهاد وقد نسيت الأمة الجهاد كله، بدأ وقد ضرب على الأمة الذل والهوان، وظنت الأمة أنها لن تعرف الجهاد، ولن ترى الجهاد، وصار الذين يدرسون الفقه يقفز بعضهم من باب الجهاد؛ لأنه لم يعد له مجال وميدان.

    فجاء أولئك وأحيوا سنة قد أميتت، وفريضة قد نسيتها الأمة، وحينئذٍ استفاقت الأمة، استفاقوا على هذا الصوت، واستفاقوا على داعي الجهاد، وصدموا بأولئك الذين خرجوا في تلك البلاد، وقاموا لله عز جل، وأحيوا الجهاد في سبيل الله، وكان جهاداً حقاً ولا شك، وقام بدور في إحياء الأمة ولا شك، لا يسوغ أبداً أن يطوى، ولا يسوغ أن يهمل.

    لكن الذي حصل أننا أغرقنا كثيراً في العاطفة، لقد بدأ الجهاد وفيه أخطاء، وذلك شأن البشر، وفيه انحرافات، وذلك شأن البشر، وفيه خلافات، وذلك شأن جهود البشر، فما بالكم بهذا الواقع التي تعيشه الأمة؟! وما الجهاد الأفغاني، وما الأعمال الإسلامية كلها إلا إفراز لواقع الأمة التي تعيشه.

    وبدأ الجهاد وفيه ما فيه من خطأ وخلل وفرقة وانحراف، وفي الصف منافقون، ومع ذلك كله كان جهاداً شرعياً، كان جهاداً يستحق الدعم من الأمة، وأن تقف في صفه، لكن الذي حصل أننا أغرقنا في العاطفة، فرفعنا منزلة أولئك إلى منزلة قريبة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة.

    وصرنا نفرط في الحديث عن الكرامات، ونستدل بها، ما كان منها صحيحاً، وما كان منها لا يقبله عقل ولا منطق، بل ما كان منها من رواية أهل الخرافة الذين اعتدنا منهم على هذه الأباطيل، وصرنا نتهم من يشكك في شيء منها، صرنا نتهم من يتحدث عن أخطاء الجهاد، وعن أخطاء المجاهدين، ومن يطالب بتنقية الصف، صرنا نتهمه بأنه مخذل.

    وصار هذا الإرهاب الفكري يمارس ضد أي صوت ناصح، يطالب مع البداية حين بدأ الجهاد بتنقية الصف، بتصحيح النية، يطالب بإذابة الخلافات، يطالب بمراجعة المنهج، فكنا دائماً نسمع التستر على الأخطاء، ودفن العوج، وكنا نتجاوب في عاطفة جياشة، ونتصور أن ذكر الأخطاء والحديث عنها لا ينفع ولا يحقق المصلحة، ويجعل الأمة لا تتجاوب مع هذا الجهاد.

    وطال عمر الجهاد، وجاء وقت قطف الثمر، وما الذي حصل؟ وماذا كان موقف الناس؟

    إن موقفنا لا يزال؛ ما زلنا غير آسفين على دينار واحد قدمناه للمجاهدين، وما زلنا غير آسفين على كلمة قلناها في دعمهم؛ لأنا نرى أنها كلمة حق، ولم نغير مواقفنا، لكننا نرى أننا نحن السبب في هذا الخطأ؛ حيث كنا نتجاوب مع العاطفة كثيراً، ونرفض الموضوعية، ولهذا أوقدت عاطفة في نفوسنا لم نستطع أن نضبطها ونحكمها فيما بعد، حتى وصلنا إلى هذه المرحلة التي يدمينا جميعاً ويؤلمنا أن نسمع فيها تصريح الزعيم الروسي السابق جورباتشوف حيث يقول: لو علمنا أن الأفغان سيصنعون ما صنعوا لسلمناهم كابل منذ زمن بعيد.

    كم يدرك قلبك المأساة؟ فالسلاح الذي كان وراءه أموال المسلمين ترى حامليه الذين صعدوا على جماجم الشهداء من كل بقاع المسلمين، ترى أحدهم يوجه السلاح والرصاص لأخيه، وأياً كان الموقف لا عذر بعد ذلك.

    إنني هنا لست بصدد تقويم هذا العمل، وهذا الجهاد، وهو مع ذلك لا يزال مفخرة من مفاخر الأمة، وإنجازاً من إنجازاتها، لكن الشاهد هنا أننا في تعاملنا مع هذا الحدث كنا نتجاوب كثيراً مع العاطفة، وكنا نمارس الإرهاب الفكري، ونمارس التثبيط ضد أي صوت ناصح يدعو إلى تنقية الصف، يدعو إلى تصحيح المسيرة.

    وأخشى أيضاً أن يتكرر الخطأ نفسه، وها نحن الآن نشهد الصحوة المباركة، مع ما فيها من إنجازات، فهي فيها أمراض بحاجة إلى علاج، بحاجة إلى مراجعة، بحاجة إلى مصارحة، بحاجة إلى أن نتحدث عن أخطائها تحت ضوء الشمس، وفي وضح النهار، فأرجو ألا تسيطر علينا العاطفة مرة أخرى، فتدعونا إلى التستر على الأخطاء، ودفن العيوب، حتى تستفحل حينئذٍ وتستعصي على العلاج والمداوي.

    إذاً: من الإغراق في العاطفة: أن تكون العاطفة وسيلة للحكم والتقويم.

    التجاوب مع العاطفة في اتخاذ القرار

    ومن إغراق العاطفة أيضاً: أن تكون هي الدافع الوحيد للعبد، أن يتجاوب المرء مع عاطفته، أو يتخذ قراراً، أو يقف موقفاً، أو يقيم مشروعاً حين يكون الدافع الأول والوحيد له هو العاطفة فحسب، فإن هذا عنوان الفشل.

    ومع عدم إهمالنا لدور العاطفة، ومع أننا نرى أنه لابد أن يدفع المرء إلى أي عمل حماس وعاطفة تتوقد في قلبه، ونرى أن من يفقد العاطفة لا يمكن أن يحمل الدافع لعمل وإنجاز، مع ذلك كله نرى أن العاطفة وحدها حين تكون الدافع للعمل ستقود إلى نتائج غير محمودة، ونرى أن التجاوب والإغراق في التفاعل مع العاطفة وحدها إهمال للطبيعة الإنسانية، فقد خلق الله الإنسان بعقل وحلم وعاطفة، خلقه الله عز وجل بمشاعر وخصائص شتى، والموقف الذي يقفه المرء ينبغي أن يكون إفرازاً لتفاعل كل هذه الخصائص التي فطر الله عز وجل الإنسان عليها، أما حين يكون إفرازاً لعامل واحد فقط فهذا إغراق في العاطفة، وغلو وتطرف.

    نشوء العلاقات العاطفية بين بعض الشباب

    ثالثاً: ومن الإغراق في العاطفة: العلاقات العاطفية التي قد تنشأ بين بعض الشباب أو بعض الفتيات:

    فقد ينشأ بين شابين أو فتاتين علاقة ومحبة يتجاوز قدرها، وتعلو حرارتها، حتى تتجاوز الموقف الذي ينبغي أن تقف عنده، فتتحول إلى علقة، وقد يكون الدافع الأول الذي دفع إليها هو الحب في الله، وهي صور ومواقف نراها جميعاً.

    وكثيراً ما ترد إلي هذه الشكوى، إما سؤال في محاضرة، وإما رسالة يحملها إلي البريد، وهي رسائل مؤثرة يحكي صاحبها معاناته مع هذا الجحيم الذي يعيشه من لأواء هذه العلاقة العاطفية.

    وكثير من هؤلاء يطلب الواحد منهم مني ألا أنشر رسالته، مع أني أعرف أنه لن يعرف من وراء ذلك، لكن ما دمت قد استؤمنت على ذلك فلا يجوز أن تخون من ائتمنك، وإلا قرأت عليكم بعض تلك الرسائل التي تصور لكم عمق المعاناة التي يعيشها مثل هذا الشاب.

    وتبدأ هذه العلاقة حباً في الله عز وجل، ثم تتطور إلى حد يتجاوز بعد ذلك هذا القدر، فتتحول إلى مشاعر عاطفية، يبديها فلان والآخر، ويحاول كل منهما أن يغلف هذه العلاقة بغلاف الحب في الله، ويحاول أن يطعم هذا اللقاء بشيء من التواصل، وشيء من التعاون على طاعة الله عز وجل، وهي مكائد وحيل نفسية وشيطانية؛ حتى يغفل عن الداء، وحين تستحكم حينئذٍ يصعب ويعز الفراق.

    فترى زيداً حين تراه وأنت تنتظر قطعاً أن يأتي عمرو، وحين يعتذر زيد عن المشاركة، فهذا يعني بالضرورة أن يعتذر عمرو، وليس ثمة سبب إلا أنه قد اعتذر، وحين يكون الأول مشغولاً مع والده، فسيكون الآخر مشغولاً مع والدته، وإن لم يكن كذلك فثمة شغل هنا أو هناك، والقضية تتحول إلى أن يربط مصيره بمصير فلان من الناس، حتى لا يصبر على فراقه، ولا على لقائه، وهكذا الشأن أيضاً عند الفتيات.

    إن في العاطفة والتجاوب معها صورة تقود إلى نتائج خطيرة، صورة تجعل هذه العاطفة تحجب عن غير هذا الشاب، فلا يحب في الله إلا هذا الرجل، ولا يبغض في الله إلا من أبغض هذا الرجل، ويصبح هذا الرجل هو مقياسه، والآخر يبادله الشعور نفسه، وأما أصحابه وخلانه وإخوانه فلم يعد لهم مكان فسيح في قلبه، حيث:

    أتاه هواه قبل أن يعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا

    فاستحكمت هذه العلاقة، واستحكمت هذه المحبة، حتى لم يعد في قلب كل واحد منهما مكان لغير صاحبه، ويكتشفان حينئذٍ الخطأ، لكن حين يفوت الأوان، وحين يكونان قد انساقا مع هذه العاطفة، وتجاوبا معها، فيصعب عليهما التراجع حينئذٍ.

    ويأتي يبث شكواه، ويطرح السؤال: كيف الخلاص؟ أشعر أني أحب فلاناً، أشعر أنها ليست محبة خالصة لله، أشعر بعمق المأساة والمعاناة، إلى غير ذلك، لكنه حينئذٍ أصبح لا يطيق الصبر والفراق، فيبحث عن العلاج حين صعب عليه الأمر.

    ولو كان منطقياً وجاداً، وكان مقتصداً في بذل المشاعر العاطفية، والعبارات التي ترق عاطفة، وكان مقتصداً فيها؛ لاعتدل فيها فيما بعد، وقد تؤدي إلى هذه النتيجة، وقد تؤدي إلى نتيجة أكبر.

    وقد تتحول هذه العلاقة وهذه المحبة إلى محبة شيطانية، وحين يدخل الشيطان ستدخل الأغراض والشهوات فيها، وحينئذٍ يأتي الداء العضال عافانا الله وإياكم، والسبب والمشكلة هي الإغراق في العاطفة ابتداءً.

    نقول ذلك ولا نرفض الطبيعة التي تجعل فلاناً من الناس يشعر بارتياح لصاحبه، ويشعر أنه يميل إليه أكثر من غيره من الناس، وهذه فطرة فطر الناس عليها، والأرواح جنود مجندة، لكن أيضاً يبقى هذا بقدر معين ومحدود إذا تجاوزه تحول إلى مرض وداء عافانا الله وإياكم، وما على من ابتلي أو ابتليت بمثل هذه المشاعر إلا أن يقطع الطريق من أوله، حيث قد يصل إلى مرحلة قد يشق عليه الرجوع بعدها.

    التربية العاطفية

    رابعاً: ومن الإغراق في العاطفة: التربية العاطفية:

    حين تسيطر العاطفة على المربي أباً أو أستاذاً، أياً كان موقعه وتربيته، حين تكون العاطفة هي المسيطرة عليه، فحينئذٍ يتعامل مع من يربيه بعاطفة جياشة، ويتجاوب مع مشاعره، وتساهم هذه العاطفة في حجب الرؤية السليمة والصحيحة لهذا المربي، الرؤية لواقع هذه العاطفة أيضاً في حجب ما يحتاج إليه، فهو مع حاجته إلى الترغيب يحتاج إلى الترهيب، ومع حاجته إلى الحب والحنان يحتاج إلى نوع من الجفاء حين ينفع الجفاء، والخشونة قد تنفع فهي كاليد تغسل أختها.

    إن إغراق المربي في العاطفة يحجب عنه الأخطاء، يحجب عنه العيوب، يحجب عنه الموضوعية، يحجب عنه الحزم الذي يحتاج إليه في مواقف الحزم، فينهار حينئذٍ تجاوباً مع هذه العاطفة الجياشة، ويتخذ مواقفه وقراراته، ويرسم برامجه استجابة لتلك العاطفة، فهو يخشى أن يمل الشباب، يخشى أن يتضايق الشباب، يخشى أن يسأم الشباب، يريد أن ينفس عن الشباب، ولا تكاد تجد عنواناً أدق لهذه الأوهام وهذه المخاوف إلا التربية العاطفية.

    وحين يكون قضاء وقدر هذا الشاب أن يتعامل مع غير صاحبه الأول، فإنه لا يطيق التعامل مع غيره، ولا يطيق الفراق، وحين ترى من تربيه لا يطيق فراقك، ويحن إليك حنيناً زائداً، فهذا عنوان إغراقك في العاطفة، فإنك أيضاً ينبغي لك أن تربي تلميذك، وينبغي أن تربي من تحتك على أنه على أتم الاستعداد لأن يتخلى -لا كرهاً- عنك، إنما حين يكون الأولى أن يتخلى، حين يكون الأولى أن يفارقك.

    نعم قد يشعر بحنين

    كم منزل في القلب يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل

    لكن حين يزداد هذا الحنين، فيتأثر القرار بهذا الحنين، حين يساوم على هذا القرار، فهذا دليل على الإغراق في التربية العاطفية، وجدلاً نقنع أنفسنا بأن هذا عنوان نجاحنا، وأن هذا عنوان إقناعنا للآخرين، وليس هذا إلا حيلة نفسية نخادع فيها أنفسنا.

    الله الله في هذه النشء، الله الله في هذا الجيل، إننا -معشر الشباب ومعشر المربين- بحاجة إلى جيل حازم، بحاجة إلى جيل يتحمل المسئولية، بحاجة إلى جيل ينتظر أن يقال له: لا، فيستجيب، بحاجة إلى جيل ينتظر أن يقال له: سر في غير هذا الطريق، فيسير في غير هذا الطريق.

    أما الجيل الذي لا يستجيب إلا مع عواطفه، إلا مع مشاعره، فهذا لا يثبت وقت المحنة، ولا وقت الفتنة، ولا يؤمل فيه خير.

    1.   

    جني الإغراق في الاستجابة للعاطفة

    ولن نجني فائدة من العاطفة في هذه الصور أو غيرها، لن نجني من الشوك العنب، إننا سنجني أولاً الغلو، ومجانبة الاعتدال، سنجني الغلو قبولاً أو رفضاً، والغلو والتطرف أمر مرفوض، ترفضه الطباع المستقيمة والسليمة، فضلاً عن المتأدب بأدب الشريعة وهديها.

    وها أنت ترى أنك بمجرد أن تصف فلاناً بأنه غالٍ تكفي في التنفير منه، ويكفي في نقد موقفه وطريقته أن تصفه بأنه غالٍ ومتطرف.

    إن المحرك الأول للغلو والتطرف والإفراط هو العاطفة، فالغلو في المدح والثناء ليس إلا تجاوباً مع العاطفة، والغلو في الحب والتعلق هو الآخر، والغلو في الرفض والرد هو الآخر كذلك.

    والإغراق في العاطفة مدعاة لمجانبة العدل والإنصاف، فحين يقبل يقبل جملة، وحين يرفض يرفض جملة، إن صاحب العاطفة الذي يتجاوب معها لا يملك أن يضع الأمور في نصابها، لا يملك أن يقول: هذا صواب، وهذا خطأ، لا يملك أن يزن الأمور بميزان العدل، فهو لا يحمل إلا حكمين لا ثالث لهما: القبول، والرفض، الحب المغرق فيه، والبغض المغرق فيه، أما طريق الوسط والعدل والإنصاف فهو لا يملكه، وهذا شأن من يشتط ويتطرف، لقد تطرف هو أولاً فاستخدم ميزاناً واحداً، وسار على طريق واحد هو طريق العاطفة، فقاده إلى هذه النتيجة والنهاية المتطرفة.

    وهو أيضاً يقودنا إلى الوصول إلى نتائج غير سليمة، وغير منضبطة، وكثيراً ما نجني من حماسة لم تضبط ولم توزن، أو نجني من عاطفة لم تحكم ولم توزن بميزان العقل والشرع، كثيراً ما نجني منها المواقف الخاطئة، والنتائج التي لا يقتصر وبالها على صاحبها.

    1.   

    علاج الإغراق في العواطف

    وبعد ذلك ما العلاج؟

    قد أكون أسهبت وأطلت في وصف المرض والداء، ولكني أشعر أن وصف الداء يتضمن في ثناياه وصف العلاج والدواء، أشعر أننا حين ندرك أن إهمال العاطفة جملة أمر مرفوض، فإن هذا يعني أن نضع عواطفنا في موضعها، وأن نعرف أن من الإيمان أن يتألم المسلم لآلام إخوانه، وأن يرحم، وأن يعطف، وأن يشفق، وأن يتحمس في مواضع الحماس، ويرحم في مواضع الرحمة، ويشفق في مواضع الشفقة، ويحب في مواضع الحب.

    ونشعر أيضاً بأن الإغراق في العاطفة أمر مرفوض، وأننا -كما قلت- نعاني من جيلنا المبارك إغراقاً في العاطفة أكثر من الإهمال، ونعاني من مواقف كثيرة هي أكثر ما تكون تجاوباً مع العاطفة، وأرى أن الحل يتمثل ببساطة في أن نزن مواقفنا، وأن نزن أعمالنا، وأن نفكر فيها، وأن نشعر أن الله عز وجل كما خلق فينا عواطف خلق فينا أيضاً عقلاً وحلماً، وأعطانا سبحانه وتعالى علماً بكتابه سبحانه وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل قد أعطانا موازين وقيماً غير هذا الميزان وحده، وحين لا نملك إلا هذه الصنجة، ولا نزن إلا بهذا الميزان، فإن هذا عنوان التطرف والغلو.

    ووزن الأمور، والتأمل فيها والمراجعة مما يعيننا كثيراً على تجاوز هذه النتائج والآثار السلبية.

    ولذا أرى أن وزن الأمور بالموازين كلها جميعاً دون ميزان واحد مما يعين على الرؤية السليمة المستقيمة، ويبعدنا عن الشطط، والإهمال غلو، والإغراق والمبالغة في التجاوب هو أيضاً غلو، والوسط بين هذين الطريقين، وبين هذين السبيلين.

    أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، إنه سميع مجيب، واعتذر لكم إن كان اعتور عرض الموضوع ما اعتوره، فقد كنا حديثي عهد بسفر الحج، وتعرفون أثر ذلك من الجهد والنصب، أسأل الله عز وجل أن يجعل ذلك في موازين حسناتنا وحسناتكم جميعاً، وأن يقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

    1.   

    الأسئلة

    طلب محاضرة توجيهية للأبناء

    السؤال: لقد دبت الحياة في نفوس بعض الآباء بمحاضرتك القيمة، ولكن نشكو نفوس الأبناء، ومما نراه أن الآباء يعانون كثيراً من غفلة أبنائهم، فهم ركيزة الأمة، فهل ستكون محاضرة أو رسالة للأبناء بعنوان: (يا بني) فكل يود ذلك؟

    الجواب: في النية أن تكون في هذه الإجازة إن يسر الله عز وجل.

    الفرق بين الرحمة والعاطفة

    السؤال: الرحمة والعاطفة كلمتان مترادفتان، فأيهما الأشمل والأعم، وهل هناك فرق بين الكلمتين؟

    الجواب: قرأنا في كلام أهل اللغة أن العطف يطلق على الرحمة والرفق، لكن في المصطلح المعاصر توسع المعنى، وصارت تدور حول الرحمة والحب، ومشاعر كثيرة، فالقضية -كما قدمت- ليست قضية مصطلحات، القضية قضية معان، مادام الناس قد اعتادوا التعبير عن مثل هذه الأمور بمثل هذا المصطلح، فتحدثنا ونحن نقصد هذا، ولست أريد الرحمة وحدها فقط، وإن كان في النية حديث حول الرحمة وما يتعلق بها، نسأل الله أن يعين عليه.

    المراد بتذوق الجمال المطلوب

    السؤال: لقد أشرتم في مقدمة حديثكم أن من لم يشعر بالجمال ويتذوقه، أنه إنسان فاقد للعاطفة، وفي نظري أن هذا الإطلاق غير مناسب، فهو يفتح باباً أمام أرباب الهوى والشذوذ ليتمتعوا بالجمال فيما حرم الله، أرجو من فضيلتكم تقييد هذا الإطلاق، فهو حقيق بالتقييد؟

    الجواب: أولاً: أرجو أن يرتفع مستوانا في الفهم، فلا نجلس لنحاكم العبارات إلى مثل هذا، وهذه من المشكلات التي كثيراً ما توصم بها أخطاء الناس، فما أحد منكم يتصور، ولا أحد حتى من أرباب الهوى -وهو يسمع كلامي- يتصور أنني أقصد أن من لم يحب فتاة رآها في الشارع، أو غير ذلك، أنه فاقد للإحساس، لا أحد يتصور هذا، وإذا تصور فالخطاب إنما هو للعقلاء وحدهم، والعقل من شروط التكليف.

    فأنا أقول: أولاً: يجب أن نهون على أنفسنا، ولا نبدأ نقيد كل عبارة نقولها وكل كلمة، فأنا أشعر بأن السياق، والشخص الذي يقول الكلام، والمناسبة، كل ذلك يدل على المراد وأنا أقصد -وكلامي واضح- أن الشخص الذي لا يتذوق الجمال يعني الشخص الذي عندما تضعه في روضة غناء، وأزهار، وقت الأصيل، أو وقت البكور، أو تضعه على سفح جبل في عاصفة هوجاء، يكون المكانان عنده سيان، يعني: لا شك أنه شخص فاقد الإحساس بالجمال، وشخص شاذ تفكيره، هذه وجهة نظري ورأيي، فإذا كنت ترى رأياً آخر فهذا من حقك.

    أما أرباب الهوى، فلهم شأن آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جميل يحب الجمال)، وأقر من أحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة على ذلك، وكان عمر رضي الله عنه أتى له بحلة يتجمل بها للوفود صلى الله عليه وسلم، فالجمال وما يتعلق به أمر فطرت النفوس عليه.

    صلة الرحمة بالعاطفة

    السؤال: أرى أن هناك خلطاً في المحاضرة بين مفهوم العاطفة ومفهوم الرحمة؛ لأنه قد مضى جزء من المحاضرة في ذكر صور هي من الرحمة؟

    الجواب: سواء هذا أو ذاك، سبق أن نبهت على القضية أنها جزء من العاطفة، لكن ذكرنا الحماس أيضاً وما يتعلق به، وأشرنا إلى الحب وما يتعلق به، كل هذه صور من صور العواطف.

    توجيه للمتأثر بعاطفته تجاه حال المسلمين إلى حد كبير

    السؤال: إن العاطفة تأخذ مني مأخذها، حتى أصل إلى حد القنوط، وذلك لأن الجرح كبير، والخطب عظيم، فأنا أحمل عاطفة تجاه المسلمين في كل مكان، ولكن هذه العاطفة قد تؤثر على تفكيري، فما هي نصيحتكم لي؟

    الجواب: هنا ندعو إلى ضبط العاطفة، وأن نحول العاطفة دائماً إلى رصيد عملي، فأنت ما دمت تتألم لمصائب المسلمين، فهذه العاطفة يجب أن تكون عند كل مسلم، بل من الإيمان، (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

    فلا شك أن من صفات الإيمان أن يحمل المسلم الحرقة والألم على مصائب إخوانه المسلمين، وهذا مما يمتدح به الرجل، ويعاب على فقده، وكذلك حين يقف عند هذا الحد، لا يصنع شيئاً، فلابد أن توقد هذه العاطفة، أقول: هذه العاطفة ينبغي أن تشعل رصيداً من العمل، تدفع إلى العمل والمبادرة والجهد والإنجاز، أما حين تبقى حزناً فقط، وبؤساً فقط، فإنها لا تصنع شيئاً.

    ومما يهون على المرء أن يشعر بأنه مع عمق الجرح، وعظم المأساة، ليست مسئوليته إصلاح واقع المسلمين كلهم، وليست مسئوليته تغيير الواقع، إنما مسئوليته أن يعمل جهداً فحين يسأل أمام الله عز وجل يجيب، وحين يضع هذا نصب عينيه، فإنه يستطيع أن يقف في نقطة يتوازن فيها بين تلك العاطفة وبين العمل؛ لأنه إذا ازدادت حدة العاطفة أخذت مساحة من الجهد الذي ينبغي أن يصرفه الإنسان إلى العمل.

    كيفية الموازنة في العاطفة

    السؤال: كيف يوازن الشاب في العاطفة بين الإفراط والتفريط، وما هو السبيل في ذلك؟

    الجواب: سبق أن أشرنا إليه، قلنا: إن الاتزان والمراجعة والاعتبار بموازين الشرع، والتفكير بالأمور بعقل، واتهام النفس، مما يعين الإنسان على أن يتوازن، ويتلافى أثر ذلك.

    الموقف من حماس الشباب الغيور

    السؤال: ألا ترى أن الشباب اليوم في حاجة ماسة لضبط عواطفهم، واستبدال حماسهم في هذه الفترة الحرجة التي يتربص فيها كثير من أعداء الإسلام لضرب الصحوة؟

    الجواب: نعم، إلى الحماس، وإلى الهمة، ليس بصحيح أنا دائماً نهبط حماس الناس، وأن نقول للناس: دعوكم من الحماس، دعوكم من العاطفة، ذلك يعني إذاً أن نرضى ونرضخ للواقع، وما هو بصحيح، وهذا كلام غير مقبول وغير سليم، وها نحن نرى الآن أن الجهود المبذولة لتغيير الواقع جهود لا تساوي شيئاً بالنسبة إلى حجم الصحوة، أليس في الصحوة من يفقد الحماس الذي نريد؟! من يفقد العاطفة؟!

    أنا متأكد أن الكثير من هؤلاء لو كان عنده الحماس الذي ينبغي، والعاطفة التي تنبغي؛ لدفعته إلى العمل، نعم حين ندعو إلى ذلك فنحن لا ندعو إلى الحماس غير المنضبط، لكن أيضاً لا يسوغ أن ندعو الناس دائماً إلى إلغاء الحماس، وإلى أن الحماس كله خطأ، والعاطفة كلها خطأ، أتصور أنه منطق غير سليم.

    وإذا ما تحمس الإنسان لدين الله، وما غار لحرمات الله عز وجل، وصارت عرى الإسلام تنقض عروة عروة، وحرمات المسلمين تنتهك، وهي لا تحرك فيه ساكناً، فإني أرى أنه بحاجة إلى أن يعيد النظر في إيمانه، وغضبه وحميته لدين الله سبحانه وتعالى.

    أثر العواطف على النصح والتوجيه

    السؤال: هناك كثير من الشباب تتحكم فيهم العاطفة بشكل كبير وخاصة شباب الصحوة، فمثلاً: إذا كان الشخص لا يحضر إلى الحلقات والدروس التي هي من أسس التربية للفرد، فإنك تجد إخوانه لا ينصحونه ولا يوجهونه؛ خوفاً من غضبه، فهل يعتبر هذا تصرفاً للعاطفة، وماذا ننصح من يفعل ذلك؟

    الجواب: نعم هذا من مراعاة العواطف والمشاعر، ونحن بحاجة إلى نربي جيلاً جاداً، بحاجة إلى أن نربي جيلاً يعتمد على معالي الأمور، لكن التربيت على الأكتاف، والخوف من أن يزعل، والخوف من أن تؤثر فيه هذه الكلمة، وأن الكلمة هذه قد تكون مؤثرة، وهذا الموقف قد يكون مؤثراً، إذا كنا نتعامل بهذه الحساسية وهذه العاطفة الجياشة، فلن نعد الرجال الذين تريدهم الأمة.

    نعم لابد أن نراعي الناس، وأن نرفق بهم، ونراعي مشاعرهم، وهذا هدي ورثناه من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن -أيضاً- مع ذلك لا يسوغ أن يكون على حساب الجد والحزم في التربية، والأخذ بمعالي الأمور.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله عز وجل فقال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159]، وقال الله فيه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، هو صلى الله عليه وسلم الذي هجر كعباً وصاحبيه، وهو الذي ظهر غضبه على أصحابه حينما خرج وهم يتمارون في القدر، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (فغضب صلى الله عليه وسلم كأنما فقئ في وجهه حب الرمان من الغضب، وقال: بهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟!).

    فهو هو صلى الله عليه وسلم، فنأخذ سيرته صلى الله عليه وسلم كلاً متكاملاً؛ لنصل منها إلى النموذج التربوي الذي ينبغي أن نسير عليه، ونصل إليه.

    الموقف من العاطفة المذهبية

    السؤال: بعض الناس -هداهم الله- تقول له: قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: قال الإمام الفلاني والفلاني، فهذه عاطفة مذهبية، فما توجيهكم لهذا الشخص؟

    الجواب: أنا أقول: إن عندنا عقدة نعاني منها معشر المسلمين، عقدة التقليد أياً كانت، الجميع يرفض التقليد، والجميع عندما تقول له: هل قول أحد من الناس حجة؟ يقول لك: لا، ليس حجة، والحجة في كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم، لكن حينما نأتي إلى الواقع لا نجد ذلك، فحينما يأتي شخص ويقرر قولاً واجتهاداً بأدلة شرعية، يضرب في وجهه أن فلاناً أكد خلاف هذا، أن فلاناً قال بخلاف هذا، ليست الحجة فقط إلا قول فلان، ورأي فلان.

    والناس والعلماء والأئمة أياً كان شأنهم، وأياً كانت مكانتهم، ليس واحد منهم أبداً حجة على الأمة، الحجة على الأمة كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، أما البشر أياً كانت إمامتهم فهم يبقون بشراً بعد ذلك، وعلى هذا تواترت وصايا الأئمة.

    يقول مالك : كل يأخذ من قوله ويرد، إلا صاحب هذا القبر. وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

    لكنك حين تعيد النظر في قول فلان من الناس على جلالته وإمامته، فحينئذٍ يضرب في وجهك أنك لا تقدر العلماء، ولا تحترم أهل العلم، وأنك لا تصدر عن رأي أهل العلم، وإلى غير ذلك، وهذا هو محض التقليد الذي كنا نعيبه على غيرنا.

    نعم نحن ندعو إلى التوازن، والانضباط، واحترام ووضع آراء الرجال في موضعها، لكن التقليد، والصدور عن رأي شخص أياً كان وحده أمر مرفوض، وهذا تعطيل لأفكار الناس، واستعباد لعقولهم، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.

    ضرر الالتزام الناشئ عن العاطفة فقط

    السؤال: ما هي نصيحتكم لمن التزم بأوامر الله تعالى عن إثر عاطفة فقط، وهذا يوجد كثيراًفي مجتمع النسوة، حيث إنهن يعتمدن على العاطفة، ولا يطلبن العلم، ولا يسمعن كلام أزواجهن، حتى في أوامر القوامة الشرعية؟

    الجواب: يبدو أن الكاتب من الرجال، على كل حال المشكلة موجودة عند الطرفين، ما هي عند النسوة وحدهن، نجد عدداً كبير من الناس يلتزم ويستقيم بعاطفة، وهذا سرعان ما يستجيب حين تأتيه عاطفة أخرى تدعوه إلى خلاف ذلك.

    وينبغي أن نحيط استقامتنا وصلاحنا والتزامنا بسياج العلم الشرعي، والوعي، وتربية الإيمان في نفوسنا؛ حتى يكون معيناً لنا بإذن الله وتوفيقه على الثبات.

    دواء الحماسة للعمل في مجالس أهل الخير وتركه في غيرها

    السؤال: إذا دخلت مجالس الخير أجد أني أكون من شباب الخير، وإذا خرجت يذهب عني الإحساس ولم أفكر فيه؟

    الجواب: هو طبيعي أن الإنسان إذا حضر مجالس الخير والإيمان ازداد إيماناً، وإذا افتقدها قل شعوره، لكن بحد معين، إذا وصل إلى حد أن الإنسان لا يعمل الخير إلا مع الناس، ولا يتحمس للخير إلا مع الناس، فهذا مرض وداء.

    ومن الأشياء التي تعين الإنسان على التخفف من هذا هو أن يجتهد في أعمال السر بينه وبين نفسه، الصلاة، وقيام الليل، وقراءة القرآن، والذكر، يجتهد فيها، فإنها تعينه على تجاوز مثل هذا الأمر.

    علاج مرض النسيان

    السؤال: أنا شاب أعاني من مرض النسيان، بحيث إذا حفظت آية أو حديثاً فسرعان ما أنساه، فذهبت إلى الصيدليات، فلم أجد عندهم الدواء لهذا المرض، والآن أتت صيدلية الدويش إلى منطقة الأحساء، فأرجو منك إعطائي دواء لهذا المرض؟

    الجواب: نحن نعرف أن الصيدلية كلها يصعب أن تأتي، على كل حال لست بالصيدلي، لكنه كما قال الشافعي في وصيته:

    شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي

    وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي

    وحين جاء الشافعي إلى الإمام مالك ليطلب العلم عنده، فتفرس في وجهه، قال: إني أرى في وجهك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية.

    وقيل للإمام مالك : هل شيء يصلح الحفظ؟

    فقال: إن كان فإنه ترك المعصية.

    فتقوى الله عز وجل، وسؤال الله عز وجل يعين الإنسان، ثم بعد ذلك لا يضجر الإنسان فهذا ما أعطاه الله عز وجل، وأنا أجزم أن الأخ ما نسي نصوصاً معينة تبقى نصوصاً لا ينساها، فمع تكراره للنصوص والآيات والأحاديث؛ سيبقى جزء منها على الأقل لا ينساه.

    حكم ما يبقى من النقود عند الشاب المهتدي لرفقائه في طريق الغواية

    السؤال: كنت شاباً مفرطاً في أوامر الله، وكنت أستعمل المخدرات، وبعدها هداني الله إلى طريق الخير، ويوجد عندي لبعض الشباب المنحرفين نقود لأشتري لهم مخدرات بها، فهل أردها إليهم، أم ماذا أفعل، علماً أنه مضى علي أكثر من خمس سنوات؟

    الجواب: إذا كان عندك حقوق للناس ينبغي أن تعيدها إليهم، لكن لا تعنهم على المعصية، فتكون وسيلة لإعانتهم على المعصية، أما حقوق الناس فينبغي أن تعاد إليهم.

    الحل لعاطفة التأثر بأيام الصبا

    السؤال: أنا شاب ربما أكون غزير العاطفة، حيث أتأثر بالمواقف التي حصلت لي أيام الصبا، ومراحل المراهقة المبكرة، فما هو الحل في مثل ذلك؟

    الجواب: الحل أنك تخفف من العاطفة، وتشغل نفسك دائماً، النفس إذا شغلتها بأمور جادة، ومعان جادة؛ انشغلت عن مراتع الصبا وتذكرها، والإنسان الذي يحمل هماً، ويحمل دعوة، ويحمل غيرة لدين الله، يشعر أن هناك أشياء تملأ اهتماماته تشغله عن الإفراط في تذكر مراتع الصبا وأيامها.

    دواء الإفراط في العلاقات العاطفية

    السؤال: بعد أن سمعنا هذه الكلمات التي شنفت أذاننا، ورطبت قلوبنا، ووجهت عواطفنا، وضبطت ما تفلت من مشاعرنا، بعد هذا كله يأتي سؤالي: إنني أعرف مجموعة من الشباب قد تشاكلوا في طباعهم وفي أشكالهم وفي أعمارهم، وقد نشأت بينهم عاطفة غير منضبطة، فقد غرق بعضهم في شخصية بعض، بل وذابوا في ذواتهم، وكل هذا باسم العاطفة الصادقة؟

    الجواب: هذا خبر ما هو بإنشاء، ويبدوا أنه يريد الحل، سبق أن أشرنا إلى القضية، ولعل الأخ كتب السؤال مبكراً، لكن هذه من الأدواء، الإفراط في العلاقات العاطفية من الأدواء، وأشرنا إلى بعض نتائجها المؤلمة.

    نصيحة ودواء لذي العاطفة الشهوانية

    السؤال: شاب يعاني من عاطفة ميالة إلى الشهوات، حيث يفتن كلما رأى شاباً جميلاً، حتى إنه يجلس يفكر فيه معظم الوقت، فما دواء هذه العاطفة؟

    الجواب: هذه لا شك أنها في الحرام، ولا يسوغ أن نلمعها بأوصاف أخرى غير هذا الوصف، إنها شهوة محرمة، بل هي شهوة شاذة، شهوة قوم لوط الذين كانوا شاذين، فعاقبهم الله عز وجل بعقوبة لم يعاقب بها غيرهم من الأمم، أن رفع قراهم ثم خسف بهم بعد ذلك.

    فالحل أن يتقي الإنسان الله عز وجل، ويغض بصره، وينصرف عما حرم الله، ويشغل نفسه بطاعة الله عز وجل، واللجوء إليه، وإدمان ذكره، وتلاوة كتابه، وكلما ازداد المرء حباً لله عز وجل شغله ذلك عن حب ما سواه.

    كيفية معالجة قوة العاطفة تجاه الآخرين

    السؤال: إن عاطفتي تجاه كل من أتعامل معهم من أهلي وأصحابي وزملائي في العمل وغيرهم كبيرة جداً جداً، حتى إنني أشعر أنها تكاد تفسدهم علي، وذلك من خلال تعاملهم معي في حياتهم الاعتيادية، وأنا أعلم بذلك، أرشدني إلى الطريق الصحيح وفقك الله؟

    الجواب: أنت أدركت الآن المشكلة، وأدركت الخطأ، حاول أن تتخفف، أنا لا أستطيع أن أقول لك حلاً غير هذا، أنك تحاول أن تتخفف، أنت أدركت أن عاطفتك زائدة جداً جداً كما وصفت أنت، فخففها جداً جداً، وحاول بقدر الإمكان أن تتخفف من ذلك، وتتوقف -مثلاً- في تبادل بعض العبارات وغيرها، التي تذوب عاطفتك، وتعود على نوع من الحزم، حتى تعتاد ذلك، والعلم بالتعلم، والحلم بالتحلم.

    هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756486650