الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأول أحاديث المجلس: هو حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من عمر ميسرة المسجد كان له كفلان من الأجر ).
هذا الحديث رواه الطبراني في كتابه المعجم من حديث بقية بن الوليد عن ابن جريج عن عطاء عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث منكر بل واهٍ جداً، وسبب نكارته من جهتين:
الجهة الأولى: الجهة الإسنادية أنه تفرد به بقية بن الوليد عن ابن جريج عن عطاء عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفردات بقية بن الوليد على سبيل الخصوص عن ابن جريج منكرة، ثم إنه أيضاً ممن اتهم بالتدليس اتهمه غير واحد من الأئمة، نص على هذا الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك ابن حبان وابن خزيمة ، وكثير من الأئمة، وقال أبو مسفر في بقية قال: أحاديث بقية ليست نقية، وكن منها على تقية، يعني: أنه يدلس عن الضعفاء.
وإنما أعدت أحاديث بقية أنه يحدث الأحاديث عن المجاهيل وعن الضعفاء وعن المشاهير، وقد قال بعدم الاحتجاج به في حال عدم تصريحه بالسماع غير واحد من الأئمة، قال ابن خزيمة رحمه الله: لا أحتج بحديثه، وقال الإمام أحمد رحمه الله: كنت أحسب أن بقية يدلس عن المجهولين فإذا هو يدلس على المشاهير فعلمت من أين أتي.
وكذلك قد نص على تدليسه أيضاً عن المشاهير والمعروفين حتى بالضعف والنكارة ابن حبان رحمه الله, فبين أنه يحدث عن شعبة و مالك حدث عنهم شيئاً يسيراً سمعه منهم ثم دلس عليهم بعض حديثهم ممن سمعه عنهم عن الضعفاء عن أولئك الأئمة كـمالك وشعبة بن الحجاج فأسقط هؤلاء الضعفاء فحدث عن شيوخه مباشرة؛ ولهذا وقع في حديثه شيء من المناكير.
ومن وجوه النكارة في الإسناد أيضاً: أن أحاديث بقية عن ابن جريج على سبيل الخصوص فيها شيء مطروح وشديد يدل على عدم الاعتداد به, وذلك أن هذه السلسلة سلسلة ابن جريج عن عطاء عن عبد الله بن عباس سلسلة معروفة، وتفرد بقية بها مما يستنكر.
ولهذا يقول ابن حبان رحمه الله: إنها نسخة منكرة وذلك أنه له أحاديث مناكير يحدث بها عن ابن جريج عن عطاء عن عبد الله بن عباس منها: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تربوا الكتاب )، وهذا الحديث حديث منكر شديد النكارة، وله أحاديث أخر في هذه الصحيفة.
ومن وجوه النكارة أيضاً في الإسناد: أن ابن جريج من أئمة الفقهاء في مكة، وحديث بقية عنه وهو شامي يتفرد ببعض الأحاديث عنه مما لا يقبل، و ابن جريج رحمه الله إمام فقيه أصحابه كثر من الثقات، فتفرد بقية به مما يستنكر عادة؛ ولهذا ثمة قرينة من قرائن الإعلال عند العلماء: أن الراوي إذا كان مشهوراً معروفاً في بلده وله أصحاب كثر ينقلون عنه علمه ثم تفرد عنه بمسألة ظاهرة راوٍ من الثقات في بلد آخر فإن هذا من قرائن الإعلال، فهذا الحديث نكارته الإسنادية ظاهرة.
أما النكارة المتنية فهي ظاهرة أيضاً من وجوه عدة، منها: أن هذا الحديث في قول النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من عمر ميسرة المسجد )، إن هذا الحديث معارض للأحاديث التي هي أصح منه، وقد تقدم الكلام عليها بشيء من عللها بفضائل ميمنة الصف وهي أقوى منه، وتدل على نكارة هذه الأحاديث.
ثم أيضاً في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من عمر ميسرة المسجد )، مثل هذا فضل مضاعف؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فله كفلان من الأجر )، مثل هذا الأجر في التضعيف ينبغي ألا يرد بمثل هذا الطريق خاصة فيما يتعلق بأمر العامة، أمر العامة يعني: صلاة الجماعة، ومثل هذا التضعيف أن يكون لميسرة الصف كفلان من الأجر وللميمنة كفل واحد هذا لا بد أن يشتهر في الأحاديث الأخرى عن النبي عليه الصلاة والسلام من وجوه تصح، كذلك أيضاً أن يكون معروفاً من جهة العمل عن الصحابة عليهم رضوان الله، وأن يكون مشتهراً مستفيضاً.
وهذا قد جاء في حديث ابن ماجه كما تقدم من حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله وذلك أنها لما تعطلت ميسرة الصف قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من صلى في ميسرة الصف فله كفلان من الأجر )، وذاك حديث أيضاً معلول، وهذا حديث معلول أيضاً.
ومثل هذه المعاني ينبغي أن تشتهر عملاً وأن تشتهر كذلك رواية، فلما لم تشتهر من هذا الوجهين دل على نكارة هذا الحديث مع اعتراض ذلك أيضاً بهذه الغرابة الإسنادية والتفرد من هذا الوجه.
الحديث الثاني في هذا: هو حديث عبد الرحمن بن شبل : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثلاثة في الصلاة: نهى عن نقرة كنقرة الغراب، وعن إقعاء كإقعاء كلب، وعن أن يوطن الرجل موضعاً كإيطان الإبل أو كإيطان البعير ) .
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في كتابه المسند، و أبو داود ، و النسائي ، و ابن ماجه ، وغيرهم، ولم يروه الترمذي من حديث تميم بن محمود عن عبد الرحمن بن شبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حديث ضعيف، تفرد به تميم بن محمود عن عبد الرحمن بن شبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و تميم بن محمود لا يحتج بحديثه، قال البخاري رحمه الله: فيه نظر، وضعفه غير واحد من الحفاظ، وأعل حديثه هذا العقيلي في كتابه الضعفاء فقال: لا يتابع عليه.
ثم أيضاً من وجوه الإعلال: أن المنهيات في هذا الحديث في نقرة الغراب وإقعاء الكلب جاء ذلك في أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متعددة وليس فيها توطين موضع في المسجد للصلاة، وهذا يدل على النكارة أن هذه اللفظة في توطين موضع في المسجد للصلاة أن مثلها لو جاء في سياق نقرة الغراب وإقعاء الكلب لو جاءت لحفظت من الوجوه الصحيحة، وإنما الوجوه الثابتة في هذا الحديث لم تأت هذه اللفظة جاءت من طريق تميم بن محمود وغيره كما يأتي الكلام عليه، فهذا يدل على نكارتها.
وتوطين موضع في المسجد الذي ورد النهي فيه هنا هو أن الإنسان يكون له موضع في المسجد إما سارية، أو كرسي، أو سجادة يضعها في المسجد فجاء النهي في هذا، ومثل هذا ينبغي أن يستفيض النهي فيه لأنه يقع في أحوال الناس كثيراً فلما لم يرد فيه دل على عدم ثبوته.
وقد جاء في هذا حديث آخر: في مسند الإمام أحمد رحمه الله من حديث عبد الحميد بن سلمة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن هذه الثلاث المذكورة في حديث عبد الرحمن بن شبل .
هذا الحديث حديث معلول أيضاً فإنه تفرد به عبد الحميد بن سلمة عن أبيه، وهو مجهول, وأبوه مجهول لا يعرف، والحديث أخرجه الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث عثمان البتي عن عبد الحميد بن سلمة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التفرد منكر؛ لأن عبد الحميد يروي عن أبيه وهو وأبوه مجهولان.
ثم أيضاً أن أباه لم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه علة أيضاً؛ ولهذا نقول: إن هذا الحديث لا يعضد الحديث الثاني الذي تقدم معنا وهو حديث عبد الرحمن بن شبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لشدة إعلاله وذلك لتعدد العلل في طبقات متعددة منها: إسقاط الصحابي، ومنها: أن سلمة لم يدرك النبي عليه الصلاة والسلام، كذلك أيضاً فإن عبد الحميد بن سلمة مجهول لا يعرف.
ومن قرائن الإعلال أيضاً: التشديد في ذلك أن الجهالة إذا جاءت في طبقتين متتاليتين أن هذا لا يكاد يثبت، ولو كان راوٍ يروي عن أبيه، فالجهالة قد ترفع إذا كان ابن ثقة يروي عن أبيه أو راوٍ ثقة يروي عن زوجه، أو امرأة مجهولة تروي عن زوجها الثقة، فهذا الكفة قد تقبل في بعض المواضع دون بعض وقد يغتفر مسألة الجهالة، أما إذا كانت الجهالة في الطبقتين فإن هذا في الغالب مما لا يقبل.
كذلك أيضاً يطلب فيه في المتن ما يطلب في غيره مما تقدم في حديث عبد الرحمن بن شبل الاستفاضة في ذلك من وجوه متعددة، كذلك أيضاً أن الأحاديث التي جاءت في هذا الباب جاءت في النهي عن نقرة الغراب، وإقعاء الكلب من وجوه متعددة وبعضها في الصحيح إلا أن مسألة التوطين لموضع في المسجد مما لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجه، والحديث إذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام وبعض ألفاظه واردة سياقاته واردة وبعضها لم يرد فإن هذا من قرائن الإعلال، وذلك أن الرواة الذين جاءوا بهذا الحديث من وجوه أخرى وهذه اللفظة لم ترد عندهم دل على أن هذا الحديث وقع فيه وهم وزيادة، ولو كانت هذه موجودة وتعددت طرق الحديث المحفوظ ولم تذكر هذه الزيادة دل على رد الحديث وأنه فيه وهم وغلط، وربما دخل بعض الآثار أو المعاني العامة أو الفقه في بعض الحديث أو ربما توهم الإنسان حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام فجعله على هذا النحو.
الحديث الرابع: هو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من أحد توطن مكاناً في المسجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب إذا قدم غائبهم ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن سليمان بن سعيد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث قد وقع فيه علل متعددة في الإسناد, وذلك أن هذا الحديث روي من وجوه متعددة بهذا الوجه من حديث سعيد المقبري عن سليمان بن سعيد عن أبي هريرة عليه رضوان الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جاء هذا الحديث باضطراب من وجوه: جاء اختلاف فيه في رفعه ووقفه، وجاء اختلاف في إسناده بالزيادة فيه والنقصان.
أما من جهة الاختلاف فإن هذا الحديث جاء من حديث ابن أبي ذئب ، وجاء من حديث محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن سليمان بن سعيد عن أبي هريرة به، خالفهم في ذلك ليث بن سعد يرويه عن سعيد المقبري عن أبي عبيدة أو ابن عبيدة عن سليمان بن سعيد عن أبي هريرة , وجعل في هذا الإسناد أبا عبيدة أو ابن عبيدة جعله واسطة بين سعيد المقبري وشيخه جعله واسطة، و أبو عبيدة أو ابن عبيدة مجهول، و الـليث بن سعد أوثق في حديثه عن المقبري من ابن أبي ذئب و ابن عجلان وذلك لإمامته في الحفظ والرواية مع أن ابن أبي ذئب من أهل الثقة والضبط في هذا إلا أن الـليث بن سعد هو أتقن منه في هذا.
ولهذا رجح الدارقطني عليه رحمة الله في كتابه العلل أن هذا الحديث الأصح أنه من حديث سعيد المقبري عن أبي عبيدة أو ابن عبيدة به، ونقول: إن ابن عبيدة أو أبا عبيدة مجهول لا يعرف؛ ولهذا نقول: إن الأرجح في هذا الحديث أنه معلول بالجهالة.
الوجه الثاني من وجوه الاختلاف: أن هذا الحديث رواه ابن عجلان على ما تقدم محمد بن عجلان يرويه عن سعيد المقبري عن سليمان بن سعيد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا مرفوعاً، واختلف فيه على ابن عجلان ، بعضهم يرويه موقوفاً، وبعضهم يرويه مرفوعاً، يرويه يحيى بن سعيد القطان عن ابن عجلان وجعله موقوفاً ووافقه على ذلك أبو عاصم النبيل ، وجاء من وجه آخر وجعله مرفوعاً وتابعه عليه ابن أبي ذئب في روايته، وتابعه كذلك أيضاً الليث بن سعد، والمترجح في هذا الرفع لكن الرفع بالجهالة، فالصواب في هذا الحديث إذاً: الرفع بالجهالة.
ثم أيضاً إن هذا الحديث من أورده شاهداً لحديث عبد الرحمن بن شبل ولحديث عبد الحميد بن سلمة أنه لا يشهد له وفي ذلك نظر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (من توطن موضعاً للصلاة والذكر)، والمراد في هذا: أن الإنسان يعتاد المسجد لأداء الصلاة والإكثار من الإتيان إليه، وليس المراد بذلك هي بقعة من المسجد؛ ولهذا جاء في هذا الحديث الذكر والصلاة، وأنما الحديث حينما جاء في النهي السابق في الصلاة قال: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ثلاثة في الصلاة)، جاء الحديث هنا عام مما يدل على أن المراد بذلك العبادة، قال: ( توطن للذكر أو الصلاة )، يعني: أن المراد بذلك على سبيل العموم أن الإنسان ينشغل بأمر سواء انشغل بالصلاة، أو انشغل بالدعاء، فالمراد بذلك هو العبادة لله سبحانه وتعالى وهو نوع من أنواع الاعتكاف مما يدل على أن الحديث السابق معناه يختلف،
وفي مسألة النهي عن التوطن: جاء فيها أحاديث موقوفة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء فيها أحاديث مرفوعة، جاء في حديث سلمة بن الأكوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه كان يقصد الصلاة إلى موضع في مسجده عليه الصلاة والسلام، وجاء في بعض الألفاظ إلى سارية، وجاء في بعض الألفاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسطوانة مما يدل على ضعف الأحاديث الواردة في هذا الباب في حديث عبد الرحمن بن شبل وغيرها.
أما حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى في قوله: ( من توطن موضعاً في المسجد تبشبش الله عز وجل له كما يتبشبش أهل الغائب إذا قدم غائبهم )، في هذا الحديث جاء اللفظ فيه عاماً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيه موضع توطين.
موضع التوطين عند الفقهاء في عمل السلف وقد جاء فيه قولان: من السلف من قال بالكراهة، ومن السلف من قال بالجواز، فمن قال بالكراهة هل يقال: إن قوله ذلك يعضد الأحاديث المروية في هذا, أم أن المراد بذلك أن يتخذ الإنسان موضعاً يمنع غيره؟ النبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى في الأحاديث السابقة إن صحت عن اتخاذ موضع في المسجد، الاتخاذ هنا هل هو لأجل مزاحمة الناس أم لأجل هذا الموضع أن يميز عن غيره؟
نقول في هذه المسألة في أقوال السلف الصالح عليهم رحمة الله في الكراهة أو الجواز, من العلماء من حمل الأحاديث التي جاءت في مسألة الجواز على وجهها، ومنهم من حملها في حال القول بالكراهة على وجوه أخرى؛ لهذا قد يقال: إن من تكلم في هذه الأحاديث أو هذه المعاني من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله أو كالحافظ ابن رجب رحمه الله، في هذه المسألة قالوا: إن أفعال السلف عليهم رحمة الله لا تعني تعليلاً للأحاديث لا حديث التبشبش ولا حديث عبد الرحمن بن شبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حديث عبد الحميد بن سلمة ، وإنما هي أقوال فقهية جاءت تحتمل في هذا الحديث وتحتمل في غيره.
ولهذا نقول: إن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحث على توطين موضع أو كراهة موضع في المسجد على سبيل التوطين أن الأحاديث معلولة، ومن استدل بحديث التبشبش في إعلال حديث عبد الرحمن بن شبل وحديث عبد الحميد فيه نظر، ومن اتخذ حديث عبد الرحمن بن شبل لإعلال حديث أبي هريرة في التبشبش فيه كذلك نظر باعتبار اختلاف المقصد؛ ولهذا يأتي في بعض السياقات في بعض الحديث مدح العمل لا مدح اتخاذ الموضع كما في حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى في مسألة التبشبش، وهذا أيضاً من الأحاديث التي تتعلق في مسائل الاعتقاد التي يتكلم عليه العلماء في هذا الباب.
الحديث الخامس: وهو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر بعد الصلاة؟ يعني: للسبحة )، أي: للسنة.
هذا الحديث رواه الإمام أحمد ، و أبو داود من حديث ليث بن أبي سليم عن حجاج بن عبيد عن إسماعيل بن إبراهيم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث معلول بعدة علل إسنادية:
أولها: أن هذا الحديث تفرد به ليث بن أبي سليم عن حجاج بن عبيد، و ليث بن أبي سليم ضعيف الحديث بالاتفاق، وأنه لا يثبت من حديثه شيء إلا ما يرويه عن مجاهد بن جبر في التفسير، وتلك هي نسخة هي نسخة القاسم بن أبي بزة يرويه عن مجاهد بن جبر؛ ولهذا نقول: إن هذا الحديث منكر لهذه العلة.
العلة الثانية: أن هذا الحديث أيضاً تفرد به ليث عن حجاج بن عبيد ، و حجاج بن عبيد قال أبو حاتم : مجهول، و حجاج بن عبيد يروي هذا الحديث عن إسماعيل بن إبراهيم , و إسماعيل بن إبراهيم مكي يروي عنه عمرو بن دينار ، وهنا هو يروي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن لو كانت العلة بـــــــــإسماعيل بن إبراهيم لقيل باغتفار الرواية لمكيته ورواية الفقهاء عنه كــعمرو بن دينار ؛ لأن عمرو بن دينار هو من أجلة الفقهاء في مكة؛ ولهذا من قرائن قبول رواية الراوي: أنه إذا روى عنه إمام حافظ فقيه من المكيين أو المدنيين إذا روى عنه وكان مجهولاً في ذاته فإن هذا يعني رفع شيء من الجهالة؛ ولهذا أبو حاتم رحمه الله قال فيه مجهول مع رواية عمرو بن دينار عنه، ومع كونه مكياً.
ولهذا نقول: إن هذا لا يشفع لهذا الحديث بالقبول لوجود علل هي أقوى من ذلك, وذلك أن هذا الحديث هو من رواية ليث بن أبي سليم عن حجاج بن عبيد وهو مما ينكر؛ ولهذا ضعف هذا الحديث البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح قال: ويذكر عن أبي هريرة ثم ذكره قال: ولا يصح، وهذا يدل على أن البخاري رحمه الله رأى أن مثل هذا التفرد لا ينجبر بغيره مما جاء في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث السادس: حديث عبد الله بن عباس أنه قال: ( لا يصلي الإمام في مكانه الذي صلى فيه إلا إذا تكلم أو خرج ) ، يعني: خرج من موضعه.
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد ، وأخرجه أبو داود في كتابه السنن، ورواه عبد الله بن وهب أيضاً من حديث عبد الوهاب بن عطاء الخرساني عن أبيه عن عبد الله بن عباس ، وهذا الحديث حديث معلول أيضاً بعلل منها: أن عطاء الخراساني لم يسمع من عبد الله بن عباس قاله أبو داود ، ولكن هذا الحديث قد جاء عن عبد الله بن عباس موقوفاً صحيحاً من حديث عمرو بن دينار عن عبد الله بن عباس موقوفاً، وهل هذا الحديث يعضد المرفوع باعتبار أن الراوي الذي رواه عن النبي عليه الصلاة والسلام عمل به، فهل هذا يعضده أم لا؟
نقول: إن هذا لا يعضده، لماذا؟ لو كان الضعف في الراوي وكان يسيراً أيضاً لأمكن أن يعضده، ولكن هذا الحديث فيه راوٍ ساقط وهذه جهالة العين، فــــعطاء الخراساني لم يسمع من عبد الله بن عباس ، إذاً: ثمة جهالة عين، وجهالة العين مما لا ينظر إلى أبواب الشواهد والمتابعات فضلاً عن القرائن.
ولهذا نقول: إن هذا الحديث منكر والموقوف دليل على نكارته خاصة أن عطاء الخراساني لم يسمع من عبد الله بن عباس , ولعل الحديث جاءه من راوٍ ظن الحديث مرفوعاً وهو موقوف.
ثم أيضاً إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الإمام وهو إمام الناس عليه الصلاة والسلام، وتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام للأئمة قليل؛ وذلك لأن حال الإمام هو الاقتداء بما ينقل من فعله عليه الصلاة والسلام، وفعله كافٍ في بيان الحكم الشرعي، والمروي عن النبي عليه الصلاة والسلام هنا في هذه المسألة وترك ما هو أعظم منها وأولى دليل على النكارة وأن هذا من قول عبد الله بن عباس لا من قول النبي عليه الصلاة والسلام, وذلك أنه يوجد من مسائل الإمامة ما هو أولى إيراداً في هذا الباب أن تنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل على أن المسألة موقوفة على عبد الله بن عباس وليست مرفوعة, وأن الراوي إنما رواها مرفوعة على سبيل الوهم والغلط.
هنا قرينة أخرى: أن ابن وهب حينما روى هذا الحديث نقل عن الإمام مالك رحمه الله وهو من أصحابه العمل بهذا الحديث بحديث عبد الله بن عباس المرفوع، فهل هذا يعضد الحديث في صحته؟ الإمام مالك رحمه الله إمام مدني، وتقدم معنا في غير ما موضع أن الإمام مالكاً رحمه الله كثير من السنن يأخذها عملاً لا يأخذها رواية؛ ولهذا قلت الأحاديث المرفوعة عند الإمام مالك وكثرت مسائله الموافقة للسنة, كثرت الموافقة للسنة مع قلة الحديث المرفوع بالنسبة لمسائل الدين، وإن كانت في ذاتها التي يرويها الإمام مالك كثيرة لكن بالنسبة لمدرسة الفقه ككل هي قليلة لا تناسب المسائل المطروحة بالنسبة لغيره من الأئمة كالإمام أحمد وكذلك أيضاً الشافعي .
نقول: هذا لا يقبل، لماذا؟ لأن الإسناد ليس مدنياً، عبد الوهاب يروي عن عطاء .. خرسانيون، فالحديث بعيد عن المدينة، ولو كان عند الإمام مالك رحمه الله من وجه يصح لقال به، وإنما الإمام مالك رحمه الله ربما يعمل أحاديث مرفوعة فيها ضعف ولا يتعرض لها بالإعلال لأن العمل عليها, وذلك أن الإمام إذا صلى بالناس عادة فإنه لا يصلي في مكانه وهذا أمر معتاد وموروث ومعروف حتى في عمل الفقهاء والأئمة في مكة والمدينة.
ولما جاء هذا الحديث, وهذه عادة الإمام مالك أن الحديث إذا كان مرفوعاً والعمل يوافقه أنه لا يتعرض له بالإعلال، بل إنه أيضاً يتساهل في أمر إسناده فيذكره تارة بلاغاً وتارة يذكره بالانقطاع ونحو ذلك ولا يتعرض له بالإعلال، مع أدنى الأحاديث التي تأتي عن الإمام مالك رحمه الله وفيها علل يسيرة والإمام مالك يعمل بها, فإن هذا من قرائن القبول؛ لأن الإمام مالكاً رحمه الله خاصة فيما يتعلق في أمور الصلاة من أبصر الناس بها، وأيضاً ما يتعلق بأمر الإمامة؛ لأن الإمامة هي أقرب ما تكون إلى الأئمة الفقهاء، فالإمام مالك إمام, فيكون خلف الإمام إذا أراد أن يصلي وأعلم الناس به وشيوخه خلف الأئمة، وشيوخه كذلك لأنهم ليسوا من عامة الناس، فإدراكه لمثل هذه المسائل أكثر من إدراك غيره.
ولهذا نقول: إنما الإمام مالك رحمه الله اعتمد على العمل، ولو كان الإمام مالك رحمه الله في غير المدينة لقلنا أنه حينما عمل بهذا الحديث أراد بذلك تقويته، وهذا قول الإمام أحمد في احتجاجه ببعض الأحاديث الضعيفة يختلف عن قول الإمام مالك في احتجاجه في بعض الأحاديث الضعيفة، الإمام مالك لا يعني أنه يحتج بها، والإمام أحمد يعني أنه يحتج بها؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله موروث العمل لديه والاحتجاج بذلك أبعد من الإمام مالك ؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله ليس من أهل الحجاز، الإمام أحمد رجل عراقي وارتحل إلى بعض البلدان عليه رحمة الله وبقاؤه فيها كان عارضاً، والعمل في مثل ذلك لا يستقر استقراراً تاماً كما استقر لدى الإمام مالك رحمه الله الذي لقي عمل الناس ليلاً ونهاراً.
ولهذا ينبغي أن نقول: إن الأحاديث المعلولة خاصة إذا كانت علتها شديدة ينبغي ألا يلتفت إلى مقصد الإمام مالك رحمه الله بالعمل بها لأنه أراد موافقة المعنى الذي فيها لا إعلال الأحاديث.
كذلك أيضاً فإن الإمام مالكاً رحمه الله نفس إعلال المتون لديه مرتبط بعمل أهل المدينة بخلاف الأئمة الباقين، فنفس الإعلال لديهم أوسع وذلك أنهم ربما يعلون حديثاً متنه مستقيم لأنه لا يعرف عن هذا الشيخ، والإمام مالك رحمه الله لا يفرق سواء كان عن هذا الشيخ أو عن غيره ما استقام معناه.
ولهذا تجد بعض المالكيين من الفقهاء المتأخرين يخلطون في هذا الباب في عمل الإمام مالك أو نقل بعض أصحابه كـابن وهب و عبد الرحمن بن القاسم وغيرهم أن الإمام مالكاً يعمل بحديث ضعيف أن هذا يدل على صحته مرفوعاً. ويظهر أيضاً أن هذا الحديث فيه جهالة عين, وجهالة العين لا تقبل أيضاً عند جميع المدارس الحديثية، سواء كانت على طريقة الظاهرية الذي يأخذون بالظواهر، أو الذين يأخذون بالقرائن، فهذا الباب باب مغلق فلا ينظر إليه.
فنحن لم نقبل الموقوف على عبد الله بن عباس أن يعضد المرفوع عن النبي عليه الصلاة والسلام فكيف نعضده بقول الإمام مالك رحمه الله وهو بعد ذلك؛ ولهذا نقول: إن مرد هذا الحديث مرده إلى العمل.
كذلك أيضاً -وهذه من الضوابط التي ينبغي أن تقيد- أن البخاري رحمه الله إذا أورد حديثاً في كتابه الصحيح ثم أعله أراد ما في بابه، إذا قال البخاري رحمه الله في حديث أبي هريرة هذا أو في حديث مثلاً سلمة بن الأكوع في: ( إزرره ولو بشوكة ) ونحو ذلك، أو أورد حديث جرهد مثلاً في: ( الفخذ عورة )، قال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط يريد بذلك الإعلال، يريد أنما في هذا الباب كله معلول، ولا يعني هذا الحديث مجرداً.
ولهذا نقول: إنما يورده البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح من حديث واحد معلول فهو يريد أن يضرب به مثالاً لإعلال أحاديث الباب.
كما أنه أيضاً من وجه آخر أن البخاري رحمه الله إذا أورد حديثاً في باب في مسألة فمراده بذلك أن هذا الحديث هو أصح الأحاديث في الباب، وإذا أعل حديثاً في ترجمة أو في أثناء حديث فإنه يريد بذلك أن هذا الحديث وأحاديث الباب كلها ضعيفة.
ولهذا لو قصد جامع ألفاظ البخاري في الإعلال لأحاديث ثم بناها على أن البخاري يقول: لا يصح أو الأحاديث في الباب معلولة ما كان ذلك بعيداً، وهذه الفائدة قيدوها بالسبر، ولا أعلم من نص عليها، ولا أعلم ما يخرم هذه القاعدة، ومن وجد ما يخرمها فهو مفيد لنا مشكور ومأجور، وهي نافعة في أمور العلل أن الإنسان يجمع الأحاديث التي أعلها البخاري ثم يجزم أن ما في معناها معلول.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر