إسلام ويب

أهمية الخشوعللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل، ولا يعقل المرء صلاته إلا إذا خشع فيها، ومن هنا كان للخشوع أهمية عظيمة، فعلى المسلم أن يحرص على الخشوع، وأن يعمل بأسبابه ما استطاع، فإن الخشوع أول علم يرفع من هذه الأمة، ولهذا لما كان سلف الأمة أهل خشية وخشوع مكن الله لهم، ورفع قدرهم، وأعلى مكانتهم، وخلد ذكرهم.

    1.   

    أحوال الناس في عبادة الله عز وجل

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنس والجن لعبادته، وجعلهم متفاوتين في أداء هذا الحق الذي من أجله خلقوا، فمنهم من يوفق بتوفيق الله سبحانه وتعالى إلى استغلال ما أنعم الله به عليه من العمر والوقت فيما خلق من أجله، وأولئك هم الشاكرون، وقليل ما هم كما قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13] .

    ومنهم من يستغل ما أنعم الله به عليه من النعم في عداوته ومعصيته، وأولئك هم المخذولون الذين لا يباليهم الله باله، ولا يضرون الله سبحانه وتعالى شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم، ومنهم من يستغل نعم الله عليه في اللغو المباح فهذه النعم لا له ولا عليه منها، ولكن أولئك قد خسروا وفاتتهم الصفقات المربحة، وكثير من الذين يظهرون في صورة العابدين تكون عباداتهم جثثاً ميتة ليس فيها روح، وذلك أن روح العبادة هو الخشوع لله سبحانه وتعالى، والتأدب بأدبه، والخضوع بين يديه، والمذلة لوجهه العظيم الذي تعنو له الوجوه يوم القيامة كما قال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا[طه:111] .

    فيحتاج المؤمن إلى التخلق بهذا الأدب العظيم مع الله سبحانه وتعالى، وأن يكون من الخاشعين لله، وأولئك الخاشعون هم المخبتون الذين بشرهم الله بالبشارة العظيمة في كتابه، فقد قال الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[الحج:34-35] ، فأولئك قد اتصفوا بهذا الأدب مع الله سبحانه وتعالى فعرفوه ولذلك أحسنوا عبادته، وعرفوا أن مدة بقائهم في هذه الحياة مدة محصورة يسيرة، وأن فائدتها القرب منه سبحانه وتعالى، فتنافسوا في التقرب إليه، وبادروا قبل أن تفجأهم الملهيات والشواغل التي تحول بينهم وبين ذلك، فقد علموا أن لهم أوقاتاً لا يستطيعون فيها عبادة الله، وعرفوا أن شواغل هذه الدنيا كثيرة، وأن الأوقات التي تخلص للإنسان ليعبد الله فيها ويصدق معه يسيرة، فبادروا فقطعوا المراحل، وسبقوا الشيطان، فلم يبق له على آثارهم إلا الندم، وأولئك قد عرفوا هذا الطريق فلزموه، فهم في سباق مع الزمن، وأيامهم ولياليهم مشغولة بالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى وقطع المسافات الشاسعة في القرب إليه، والله سبحانه وتعالى يتقرب إليهم بأبلغ من ذلك، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا عند ظن عبدي بي، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب ألي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فسبحان ربنا ما أحلمه وما أكرمه!.

    إن الله سبحانه وتعالى غني عن العبادات التي يؤديها أصحابها بقلوب غافلة لاهية، وإنه سبحانه وتعالى إذا أقبل عليه العبد بخشوع أقبل عليه الباري سبحانه وتعالى، ويكفي ذلك شرفاً ومكانة، ولذلك جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد -وهو في صلاته- ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).

    1.   

    أقسام أعمال القلب

    إن عمل القلب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: النية

    القسم الأول: النية: والنية هي توجه القلب إلى الشيء وقصده، وهي التي يمتاز بها الفعل عن غيره مما يشابهه ويحاكيه، فتتميز بها العبادة عن العادة، ويتميز بها الفرض عن النفل، فلا يقع ذلك إلا بالنية، ولذلك كانت شرطاً لأداء العبادة وصحتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وبهذه النية يتفاوت العمل تفاوتاً عظيماً؛ فهي تفسير الأعمال، ويضاعف العمل اليسير بهذه النية إذا صدق فيها صاحبها وأخلص، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قاتل فقتل: (لقد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً).

    وهذه النية يكتب في ميزان حسنات الإنسان بها ما لم يعمله إذا نواه، فمن نوى الخير متى ما قدر عليه كتب له ولو لم يفعله؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان فيمن قبلنا مر على كثيب أهيل من رمل، فقال: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله، فلما مات عرضت عليه صحائف أعماله فإذا فيها كثيب أهيل من سويق، فقال: يا رب! من أين لي هذا وما رأته عيناي قط قال: أتذكر يوم كذا عند أن مررت على كثيب أهيل من رمل فقلت: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله؛ فقد تقبلته منك).

    ولذلك فنية المؤمن هي من عمله، فيثاب الإنسان إذا نوى صيام رمضان ولو مات قبل أن يبلغ رمضان، ويثاب بأجر الشهادة في سبيل الله إذا سأل الشهادة صادقاً ولو مات على فراشه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الله الشهادة في سبيله صادقاً بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه)، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[النساء:100] .

    وكذلك ينال الإنسان ثواب شيء لم يقع أصلاً ولم يخلق، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين أحوال الناس في الدنيا فذكر أربعة أحوال فقال: (إنما الدنيا لأربعة:

    رجل آتاه الله فقهاً ومالاً فهو ينفق ماله فيما يقرب إلى الله، فهو بأعلى المنازل.

    ورجل أتاه الله فقهاً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه ما فعل هذا، فهما في الأجر سواء.

    ورجل أتاه الله مالاً ولم يؤته فقهاً فهو يضرب فيه يميناً وشمالاً في معصية الله، فهو بشر المنازل.

    ورجل لم يؤته الله مالاً ولم يؤته فقهاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه مثلما فعل هذا، فهما في الوزر سوا).

    فلذلك يثاب الإنسان على أمر لم يخلق إذا أحسن النية فيه لله سبحانه وتعالى، وقد كان كثير من سلفنا الصالح يستعد لرمضان قبله، وللعبادات كلها بنيته، فيحاول مع نفسه حتى يخلص النية ويصدق، ويتأهب بذلك للعبادة قبل أن يأتي وقت أدائها؛ فإن مات قبلها مات في طريقها؛ وهو في صلاة منذ خروجه إليها، وإن بلغ إليها جاءها مستعداً قد تخلص من كل الشواغل والملهيات، وأقبل عليها بقلب سليم.

    القسم الثاني: حضور القلب في العبادة

    القسم الثاني من أعمال القلب هو الحضور:

    وهو أن يحضر الإنسان ما يفعل وما يقول، فإن قلب الإنسان عرضة لأن يذهب به الشيطان، فإذا فعل كثيراً من أنواع العبادات ولم يكن حاضراً لها كانت جوارحه خيراً من قلبه؛ فكان معكوساً منكوس الفطرة، فالأصل أن القلب إذا صلح صلحت الجوارح، وإذا فسد فسدت، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

    ولذلك جاء النهي عن خشوع النفاق، قيل: وما هو؟ قال: أن ترى الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع، فإذا كانت الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع فهذا هو خشوع النفاق، ولا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضر، فقد يؤدي الإنسان الصلاة وما كتب له نصفها ..ثلثها ..ربعها.. حتى انتهى إلى العشر، فلا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضره، وذلك أن الإنسان إذا كبَّر وهو لا ينوي التكبير أو لا يقصده وإنما جرى على لسانه فهو بمثابة النائم الذي يهذي، والعقل مناط التكليف، وإذا ذهب العقل فاشتغل بأمر آخر كانت العبادة مؤداة في غير موقعها، كالذي يحلم في النوم أنه يفعل فعلاً ولم يفعله، فلذلك نجد أن كثيراً من المصلين والعابدين في غير الصلاة من أنواع العبادة يشتغلون بقلوبهم بأمر وتنشغل جوارحهم بأمر آخر!

    ولذلك قال العلامة محمد المودودي رحمه الله: إن من دواهي شيطان الصلاة أنه يشغل الإنسان بشيء مهم من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة عن صلاته، فلا هو أدى ذلك الأمر، ولا هو أدى صلاته! قال:

    من أربى مثلث الوترين تذكيره أمراً من الدارين

    عند دخولك الصلاة فاشتغل به فلا تصلحه ولا تصل

    وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ما يشغل عن الحضور في الصلاة، فقال: (لا صلاة بحضرة الطعام)، وذلك أن قلوب كثير من الناس تشتغل بالطعام، وبالأخص عند الحاجة إليه، فلا تحضر في الصلاة، فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بحضرة الطعام، فقال: (إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدءوا بالعَشاء قبل العِشاء)، فلذلك يبدأ الإنسان بالطعام قبل أداء صلاة العشاء، ليخلص لصلاته، ويتأهب لها.

    وكذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي المرء حاقناً وهو يدافع الأخبثين، بل قال: (لا صلاة للمرء وهو يدافع الأخبثين)، فإذا كان الإنسان حاقناً يحس بغلبة البول فإنه لا يصلي في ذلك الوقت، بل يبدأ بالاستفراغ، ثم بعد ذلك يتأهب للصلاة ويتهيأ لها؛ لأن كل ما يشغله عن الصلاة سيذهب ببعض حضوره، فلا يؤديها كما شرعت.

    وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عن المرور بين يدي المصلي لما فيه من شغله عن الصلاة، فاللحظة التي يمر فيها المار بين يدي المصلي يقطع نور صلاته؛ لانشغاله بالمار بين يديه؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم : (إذا كان أحدكم في صلاته فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرحل، وليدن منها، فإن أراد أحد أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان).

    وكذلك جاء من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ذات يوم في المسجد فجاءت شاة تريد المرور بين يديه فزجرها -معناه: أشار إليها فلم تزدجر- فتقدم حتى ألصق بطنه بالجدار؛ حتى يمنع تلك الشاة من المرور بين يديه.

    وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب له أعلام -والأعلام هي الخطوط الحمر- فلما سلم خلعه وقال: (احملوا هذه إلى أبي الجهم، وائتوني بإنبجانيته، فإنني نظرت إلى علمها فكاد يفتنني عن صلاتي).

    فلذلك لابد أن يتأهب الإنسان للانشغال بالصلاة، وعدم الانشغال بأي شيء سواها، حتى النظر إلى الخطوط في ثياب تشغل الإنسان عن صلاته؛ ولذلك خلع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الثوب، وأمر أن يحمل إلى أبي الجهم ، وأن يؤتى بإنبجانية كان يلبسها أبو الجهم ، فجمع بذلك بين الحسنيين ؛ فـأبو الجهم من فقراء المسلمين فتصدق عليه بهذا الثوب الجميل، والنبي صلى الله عليه وسلم زينته في ذاته؛ فلا تزيده الثياب زينة ولا رفعة، كما قال السموءل :

    إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل

    ولذلك أراد أن يلبس إنبجانية هذا الفقير من فقراء المسلمين، فيلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزدان الإنبجانية برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يتخلص من كل ما يشغل عن الصلاة ويلهي عنها.

    إن كثيراً من الناس إذا دخل الصلاة اشتغل بأمور مضت كان فيها، فكأنه لم ينقطع عما مضى، ولم يقبل على الله، ولم يدخل في الصلاة أصلاً، فما زال منشغلاً فيما كان منشغلاً به قبل الصلاة، وهؤلاء لم تنفعهم صلاتهم شيئاً، فلا هي تنهاهم عن الفحشاء ولا المنكر، ولا هي تقطع أعمالهم التي كانوا فيها، ومنهم من يبدأ الصلاة خاشعاً حاضراً، لكنه سرعان ما ينصرف وراء الأهواء والملهيات، فيدبر شئون حياته وأموره، ومع ذلك لا يقضي منها شيئاً.

    وقد ذكر بعض الفضلاء أنه كان يصلي مع الشيخ الحسن فلما سلم تردد الشيخ في الصلاة، هل نقصت أو هي تمام، فقال له الرجل: بل نقصت فقال: وما يدريك؟ فقال: كنت إذا دخلت الصلاة اشتغلت بقافلة من هنا إلى مكان كذا، وإلى مكان الزرع، فلا تسلم حتى آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها، والآن سلمت وأنا في مكان كذا قبل أن آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها!!

    فأصبح يعرف قدر الصلاة بقدر انشغاله، وما تتجارى به نفسه فيه من الأمور.

    القسم الثالث: الخشوع في العبادة

    القسم الثالث من أعمال القلب: الخشوع، وقد عرفه ابن أسد بأنه الخوف باستشعار الوقوف بين يدي الخالق، والخوف أي: ما يعتري الإنسان من الخوف والمذلة عندما يستشعر الوقوف بين يدي الخالق، وأنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وأن الله يجيبه في كلامه، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] تذكر أن الله يجيبه فيقول: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:3] تذكر أن الله يجيبه فيقول: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4] تذكر أن الله يجيبه فيقول: مجدني عبدي، وفي رواية: فوض إلي عبدي، هؤلاء لي ولعبدي ما سأل.

    وهكذا حتى تنتهي الصلاة، فكل لفظ يعلم أن الله سبحانه وتعالى يسمعه، وكل خطرة تخطر في القلب يعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليها، وهو: أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16] ، وأنه:يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى[طه:7] ، ومن هنا فهو يخاف الخوف الشديد بهيبة هذا المقام، فأنتم تعلمون أن أحدكم لو كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسلم عليه ويكلمه، فلا شك أنه سيحضر ويخاف، كما وصف ذلك كعب بن زهير رضي الله عنه عندما وضع يمينه في كف النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

    وقال كل خليل كـنت آملـه لا ألهينك إني عنك مشغـول

    فقلت خلوا سبيلي لا أبـا لكم فكل ما قدر الرحمن مفعـول

    كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمـول

    نبئت أن رسـول الله أوعـدني والعفو عند رسول الله مأمول

    وقد أتيت رسـول الله معتـذراً والعذر عند رسول الله مقبول

    مهلاً هداك الذي أعطاك نافلـة القرآن فيها مواعيظ وتفصيـل

    لا تأخذني بأقوال الوشـاة فلم أذنب وإن كثرت فيَّ الأقاويـل

    إلى أن يقول:

    حتى وضعت يمينـي لا أنازعـه في كف ذي نقمات قيله القيل

    لذاك أهيب عنـدي إذ أكلمـه وقيل إنك مأخوذ ومسئـول

    من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه من بطن عثر غيل دونه غيـل

    يغدو فيلحم ضرغامين عيشهمـا لحم من القوم معفور الخراديل

    فهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من هيبة الإنسان لأسد يقابله، وقد عرف مكانه من قبل، وعرف أنه لا يجرؤ أحد أن يدخل مكانه، وتخاف منه السباع، فكيف بمن دونها؟!

    منه وتظل سباع الجو ضامدة ولا تمشى بواديه الأراجيـل

    فإذا كان الإنسان هكذا بهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف ستكون هيبته لديان السماوات والأرض الذي خلق النبي صلى الله عليه وسلم وشرفه وكرمه، وهو الذي أرسله؟!

    فلابد أن يحضر في بال الإنسان أنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وما يعتريه حينئذ من قشعريرة الجسم والارتعاشة في البدن، وسيلان الدموع، وحركة في القلب، هو الذي يمثل بالخشوع، فالخشوع إذاً يعرف بهذه الأمور كلها، فيظهر على البدن بقشعريرته وانتفاضته وبالدموع، وكذلك بالخوف الشديد، وبارتعاش القلب، فكل هذه آثار من آثار الخشوع، وإنما يحصل ذلك للإنسان عند تمام إيمانه، فمن لم يكن مؤمناً بأنه يكلم الله كفاحاً، وأنه معه، وأن الله سبحانه وتعالى ينظر إليه وهو في صلاته، لم يكن لينال هذه المنزلة، ولم يكن ليحضر هذا التشريف، بل هو محجوب حينئذ مطرود عن جناب الله سبحانه وتعالى، فإنما ينظر الله سبحانه وتعالى إلى من كان متحلياً بما أمره به، متخلياً عما نهاه عنه، فأولئك هم الذين يستحقون هذا المكان الرفيع.

    1.   

    الخشوع صفة أنبياء الله عز وجل وأوليائه

    وإن الملك الديان سبحانه وتعالى يختار من عباده قوماً للخدمة، فيخلصهم لعبادته سبحانه وتعالى؛ وهم المخلَصون المخلِصون الذين اختيروا قبل خلق السماوات والأرض، وكتبوا في العباد الذين محضهم الله لطاعته، وأخلصهم لنفسه، وأولئك المخلصون هم الذين يستشعرون حلاوة المناجاة، ويستلذون بهذه العبادة؛ فيستريحون بالصلاة من هموم الدنيا ومشاغلها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال !)، وكان يلجأ إليها في شأنه كله.

    وكان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وكثير من الساسة إذا حزبهم أمر، وتكاثرت عليهم العساكر، ودخلوا في الحروب أو المشكلات المادية الاقتصادية، أو اجتمع العمال في إضرابات آثارها سيئة، ولم يجدوا ما يدفعون به رواتبهم، فإنما يلجئون إلى المؤسسات والهيئات، والنبي صلى الله عليه وسلم في كل الأزمات إنما كان يلجأ إلى الصلاة، فإذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وهي التي جعلت فيها قرة عينه صلى الله عليه وسلم، كما قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).

    وكذلك فإن المؤمن الصادق إذا تذكر هذه المناجاة، وأنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان تذكر هذا المقام العظيم، ونحن جميعاً نغبط موسى بن عمران إذا تذكرنا أن الله اتخذه كليماً وكلمه بكلامه، ولاشك أن كل واحد منا يتذكر أن موسى كان نبي الله، وأنه كلمه مباشرة بكلامه سبحانه وتعالى، وهذا المقام مقال عالٍ جداً يعترف به الأولون والآخرون يوم القيامة في مقام الشفاعة، فيأتون موسى فيقولون: أنت كليم الله اختارك لرسالاته ولكلامه.

    1.   

    الخشوع مقام رفيع

    فهذا المقام الرفيع يناله الخاشع لله سبحانه وتعالى إذا تذكر أن الله يخاطبه؛ فيقول: (حمدني عبدي.. أثنى علي عبدي.. مجدني عبدي.. هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل.. هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل).

    فيشعر الإنسان حينئذ بهذا التقريب العظيم، وأنه صار كليماً لله سبحانه وتعالى حين أعلى منزلته، وخاطبه الرب سبحانه وتعالى الذي لا يشغله شيء عن شيء، ولا كائن عن كائن، ولا تختلط عليه اللغات، ولا تلتبس عليه، فهو سبحانه وتعالى يخاطبك بهذا الجواب، وأنت تقول في رفعك من الركوع: سمع الله لمن حمده، إقراراً بذلك وإيذاناً بهذه المناجاة العظيمة، فكأنما أوتيت صحيفتك بيمينك، فالفرح الذي يحصل عندما تنال صحيفتك بيمينك هو الذي تصيح به في الملأ الأعلى وتقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ[الحاقة:19-20] .

    فكذلك هنا إذا خشعت بين يدي الله في ركوعك ترفع صارخاً فتقول: سمع الله لمن حمده، فرحاً بهذا اللقاء للملك الديان سبحانه وتعالى، وسروراً بهذه المناجاة التي أخلصت فيها لله، إن كثيراً من الناس لا يتذوق هذا الطعم ولا يناله، فإذا قال: سمع الله لمن حمده لم تؤثر فيه، وإذا سمعها من إمام لم يفهمها أصلاً، وإذا سمع الرفع بالتكبير لم يؤثر ذلك فيه، وأولئك لا يمكن أن يعدوا من الخاشعين، بل وشتان بينهم وبين الخاشعين!

    1.   

    حاجة الإنسان إلى الخشوع

    إن حاجة الإنسان إلى هذا الخشوع هي حاجته إلى تغذية قلبه، فهذه القلوب إنما تتغذى بالخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى، والأنس به، والقرب إليه، وكلما كان الإنسان أعلى منزلة في الإيمان كلما كان أكثر خشوعاً وإقبالاً على الله سبحانه وتعالى وتأثراً بعبادته ومناجاته له سبحانه وتعالى.

    إن الله سبحانه وتعالى أثنى على الخاشعين في الصلاة في قوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ[المؤمنون:1-2] .

    ولا يقتضي هذا أن الخشوع مختص بالصلاة، بل الخشوع في كل عبادة لله سبحانه وتعالى، سواء كانت قلبية أو بدنية أو مالية، وسواء كانت فعلية أو تركية؛ إذ لابد فيها من هذا الخشوع؛ فهو روحها، وبه حياتها، وهو معناها، وإذا خلت العبادة من هذا الخشوع كانت روتيناً يفعله الإنسان كما يفعل الطفل إذا رأى مصلياً، فإنه يقوم ويصلي ولا يفهم شيئاً من ذلك، وإنما يركع ويسجد ويقوم كما يفعل في تقاليده للأشخاص جميعاً، والإنسان لا يرضى أن يكون كالطفل الذي لا يفهم شيئاً من تصرفاته، فلذلك لابد أن يفهم معنى القيام، ومعنى الاستقبال، ومعنى رفع اليدين، وأن يجعل الدنيا وراء ظهره، ويفهم معنى التكبير إذا كبر، ويعلم أنه إذا كبر ملأت تكبيرته ما بين السماء والأرض، ويفهم معنى الفاتحة التي يقرؤها، ومعنى القرآن الذي يقرأ بعدها، ومعنى تكبيره للركوع، ومعنى تسبيحه وتعظيمه فيه، وهكذا في كل أجزاء صلاته.

    وهكذا في عباداته الأخرى، فالصائم لابد أن يخشع أيضاً، ونحن ننتظر قبل رمضان قدوم هذا الشهر الكريم الذي هو شهر الصيام، فكثير من الناس يؤدي الصيام فيه من غير خشوع، فتجدهم في نهار الصيام وهم يعملون أعمالهم كما كانوا لا يحسون برغبة ولا رهبة، ولا يؤثر فيهم صومهم شيئاً، وتراهم كذلك في ليالي رمضان الفاضلة العظيمة التي يزداد فيها عمر الإنسان بما لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى كما إذا وفق لقيام ليلة القدر، فإنه يزاد على الأقل بأربع وثمانين سنة في ليلة واحدة، ففائدة العمر للعبادة، وهذه الليلة خير من ألف شهر و(خير) أفعل تفضيل؛ ولا يقتضي ذلك حصرها في ألف شهر..

    فإذاً: أقل الناس من كانت ليلة القدر في حقه بقدر ألف شهر، وألف شهر أربع وثمانون سنة وزيادة ستة أشهر تقريباً، فهذه المدة التي نحتاج إليها بزيادة أعمارنا، لا يستفيد منها أولئك الذين يشغلون ليالي رمضان بما لا خير فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم)، وفي رواية: (إني امرؤ صائم)، فلابد أن يستشعر الإنسان أنه في حرمة الصيام.

    فإذا كنت في صلاتك فخاطبك إنسان فهل ستجيبه؟ لن تجيبه؛ لأنك مشغول بحرمة الصلاة، فكذلك إذا كنت في حرمة الصيام، فاعلم أنك في حرمة عبادة عظيمة هي مثل الصلاة؛ فلذلك لابد أن تشتغل بصيامك.

    (فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم)، (فليقل) أي: في قلبه، أي: فليتذكر ذلك وليقل: إني صائم؛ لأن هذا الصيام يحجبه ويمنعه عن إجابة ذلك الإنسان بمثل قوله.

    وهكذا في العبادات كلها، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[المؤمنون:60] ، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالت: (أهو الذي يسرق ويزني ويكذب وهو يخاف الله؟ قال: لا، بل هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف ألا يتقبل الله منه)، فهؤلاء يؤتون ما آتوا، فيقدمون الأعمال الصالحة لأنفسهم وهم يخافون خوفاً شديداً ألا يتقبل الله منهم، ولذا قال سبحانه:وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:60-61] .

    1.   

    فائدة الخشوع

    إن الإنسان إذا أحس بطعم هذا الخشوع سهل عليه، واستطاع أن يتعود عليه في أموره كلها، فكثير من سلفنا الصالح كانوا خاشعين في كل أوقاتهم، وإذا نظر الإنسان إليهم تذكر الله سبحانه وتعالى؛ فهم دائماً مشتغلون بطاعته وعبادته، وبمجرد النظر إلى أحدهم تتذكر الله سبحانه وتعالى.

    كان أهل الشام يقولون: إنا لتصدأ قلوبنا فنذهب إلى أبي الدرداء ،فلا نكلمه كلمة واحدة، وإنما ننظر إليه في مصلاه فنرجع وقد تخلصنا من ذلك الصدأ؛ لأن أبا الدرداء كان في عبادته كأنما ينظر إلى الجنة والنار بين يديه.

    وكذلك فإن كثيراً من الذين أتوا من بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -أيضاً- كانوا بهذا الحال في كل أوقاتهم، فقد كان أهل العراق يذهبون إلى الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله، فإذا رأوه ورآهم بكى هو لرؤيتهم، وبكوا هم لبكائه!

    وقد ذكر مالك رحمه الله أمثال ذلك عن أهل المدينة، وتعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدل على تعظيمهم لله عز وجل، فقد قال مالك رحمه الله: (لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً؛ فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته.

    هذا هو الرجل الكريم الذي كان ينفق ماله كله على الناس، ويخدم الفقراء بيده، وهو قد جمع أشرف النسب، فأبوه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وأمه عائشة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، فجمع الطرفين، وهو عالم أهل المدينة في ذلك الوقت وعابدهم، وهذا مع حسن خلقه ولباقته، ولكنه كان إذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته.

    قال مالك: (وأدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتقع لونه وتغير، حتى رحمناه، وخرجنا عنه).

    فأولئك القوم كانوا بهذا المستوى من الخشوع في كل أوقاتهم، ولم يزل الخشوع يتناقص في الناس عصراً بعد عصر، فاليوم تسمع من يسمع القرآن كاملاً أو يقرؤه كاملاً ولم تتحرك نفسه لآية واحدة منه! ولو نزل القرآن على جبل من الجبال لصار دكاً لجلال الله، كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21] .

    وتجد من يذكر عنده رسول الله صلى الله علي وسلم في المجلس كثيراً، ويسمع كثيراً من أحاديثه الصحيحة عنه، وكثيراً من أحواله، ومع ذلك لا ينتفض قلبه، ولا يتأثر، ولا يتذكر.

    إن كثيراً من الذين لا يفهمون حرفاً واحداً من القرآن يتأثرون لسماعه تأثراً بليغاً، وكثيراً من الذين يفهمونه ويتعقلونه ويدرسون تفسيره لا يتأثرون به، وهذا عجب من العجائب! وآية من الآيات، بل هو من معجزات هذا الكتاب العظيم، وقد شاهدنا عدداً من الأعاجم الذين لا يعرفون القرآن، ولا يفهمون منه كلمة واحدة، ومع ذلك لا يسمعون قراءته حتى تسمع النشيج عن يمينك وشمالك، يبكون بكاءً صادقاً بحرقة عظيمة، وذلك أنهم يعرفون أن هذا كلام الله، فقدر مستواهم في العلم أن يعلموا أن هذا الكلام كلام الله، فأحبوه من أجل ذلك، فبكوا تأثراً به.

    وقد كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه عند موته يقلب المصحف على خديه ويقول: كلام ربي، كتاب ربي! محبة للقرآن، حتى توفي على ذلك رضي الله عنه وأرضاه.

    1.   

    خشوع النبي صلى الله عليه وسلم

    إن الذي يعلم بعض أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سماعه للقرآن وبعض أحواله في عباداته الأخرى، يستشعر أنه صلى الله عليه وسلم مع ما امتن الله به عليه من البشارة العاجلة، ومع ما ادخر له من المقام المحمود العظيم الذي خصه الله به من بين الخلائق؛ كان يتأثر بهذا القرآن تأثراً عجيباً، ففي حديث ابن مسعود في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ علي القرآن، فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود : فقرأت سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا[النساء:41-42] ، قال: حسبك! فنظرت فإذا عيناه تهملان).

    (وخرج ذات ليلة في المدينة فمر على باب عجوز من الأنصار، فإذا هي تقرأ القرآن، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع، فقرأت العجوز: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ[الغاشية:1] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أتاني، نعم أتاني، وجلس يبكي عند بابها).

    وعندما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة فتح مكة، وقد وعده الله سبحانه وتعالى بفتحها عليه فقال: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا[الفتح:21] ، مع ذلك يدخلها وهو في حال عجيب من الخشوع، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ألصق ذقنه بصدره حياءً من الله أن يدخل حرمه في السلاح).

    فهكذا كان حياؤه من الله، مع أن الله أحلها له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وإنما أحلت لي ساعة من نهار)، كما في حديث أبي شريح رضي الله في صحيح البخاري، ومع ذلك يخشع صلى الله عليه وسلم هذا الخشوع العظيم حياءً من الله سبحانه وتعالى، وأدباً معه، وتوقيراً لحرماته، وتعظيماً لها؛ لأن ذلك من التقوى، كما قال عز وجل: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج:32] .

    إن كثيراً من السابقين كانوا يخشعون في حلق العلم كما يخشعون في الصلاة، فهي عبادة لله سبحانه وتعالى؛ فيستعدون لها، ويتأهبون لها كما يتأهبون للصلاة، ويخشعون فيها كخشوعهم في الصلاة.

    1.   

    أحوال الصحابة والسلف رضوان الله عليهم في الخشوع

    ولذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا عنده فتكلم كأنما على رءوسهم الطير، كما وصفهم عروة بن مسعود رضي الله عنه بقوله: (كأنما على رءوسهم الطير)، والطير إذا نزل على رءوس الإبل وجلت ووقفت ولم تتحرك من مكانها، فكذلك حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا عنده، فإنهم يكونون مطرقين يستمعون إلى ما يقول، وقد كانوا كذلك إذا سمعوا كلام الأئمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يطرقون لسماع الخطب وسماع الدروس من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، حتى فيمن بعدهم.

    فهذا مالك بن أنس رحمه الله كان إذا تكلم أطرق الناس لكلامه، ولم يراجعه أحد في كلمة منه، كما قال عبد الملك بن المعلل:

    يأبى الجواب فما يكلـم هيبـة والسائلون نواكس الأذقان

    شرف الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان

    ولذلك عند أن كان هناك أسرة غنية في المدينة لها ولدان فقط، فحسد أحدهما الآخر فقتله غيلة، بأن ذهب به إلى بئر فرداه فيها، ومذهب أهل المدينة أن القتل غيلة ليس الحق فيه لولي الدم، بل الحق فيه للمسلمين عموماً، فالقاتل غيلة يقتل ولو عفا عنه أولياء الدم، وبه أخذ مالك رحمه الله.

    فعفا والدا القتيل عن القاتل، وقالا: ليس لنا ولد سواه فنحن نعفو عنه، فوضعه أمير المدينة في السجن حتى يتبين له فيه، فجاء مالك فراجع الأمير في قتله، فقال: والداه شيخان كبيران، وقد أخبرا أنه ليس لهما ولد سواه، وهما يعفوان عنه، فقال مالك : (والله لا أتكلم في العلم حتى يقتل، فتحركت المدينة كلها حتى قتل الرجل.

    وهذا إضراب من الإمام مالك رحمه الله احتجاجاً على تعطيل حد واحد من حدود الله في قضية واحدة، والناس اليوم يشهدون تعطيل الحدود كلها! ومع ذلك لا يتحرك أحد لهذا، ولا يضرب من أجله، ومالك رحمه الله يضرب عن تدريس العلم من أجل تعطيل حد واحد، ويقول: (والله! لا أتكلم في العلم حتى يقتل).

    لذلك كان أولئك السلف رحمهم الله بهذا المستوى من الإيمان والخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى، فكانت صلاتهم تزيدهم إيماناً ونوراً، وكانت زكاتهم تزيدهم زكاءً وقرباً، وكان صيامهم مدرسة تعودهم على التقوى كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:183] ، وكان حجهم كذلك تصفية وتطهيراً لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، وكما قال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى[البقرة:203] أي: تغفر له ذنوبه كلها فيرجع ولا إثم عليه، وإنما ذلك لمن اتقى فقط.

    فلهذا كانوا في أدبار العبادات يتحلون بالصفاء المطلق؛ وتدعوهم العبادة إلى الزيادة منها، كما قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ[الشرح:7-8] ، فكلما انتهوا من عبادة ازدادوا قوة ونشاطاً للعبادة الأخرى، بخلاف الذين يأتون الصلاة وهم كسالى، ولا يؤدون العبادة بإقبال كما كان أولئك، فستشق عليهم عبادتهم، وإذا انقضى رمضان لم يستطيعوا صيام ست من شوال، وإذا انقضى الحج وانتهى لم يستطيعوا العمرة، وقد ورد في متابعة الحج والعمرة الأجر الكثير؛ قال صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير صدأ الحديد).

    وهكذا كانوا إذا سمعوا القرآن تأثروا به فازدادوا سخاءً وتواضعاً وإقبالاً، وإذا سمعوا أوامر الله سبحانه وتعالى فيه لم يتعدوها، ولم يتجاوزوها، كما كان عمر رضي الله عنه، ففي حديث الحر بن قيس في الصحيح قال: جاء عيينة بن حصن -وكان سيداً مطاعاً، ولكنه أحمق- فقال: إن لك وجهاً عند هذا الرجل؛ فاشفع لي عنده حتى أكلمه، فكلمه الحر، فدخل عليه عيينة فقال: أيه يا ابن الخطاب ! فوالله! ما تحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل، فغضب عمر للكذب، حتى هم به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول في كتابه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[الأعراف:199] ، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما تعداها عمر حين سمعها؛ وكان عمر وقافاً عند كتاب الله.

    ونحن اليوم إذا قرئ على الإنسان شيء من كتاب الله أو استدل له بآية يحفظها، وقد يكون حفظها قبل بلوغه، بل قبل إدراكه ولكنه لم يقف عندها، فتراه يريد المراجعة، ويريد معارضتها بكلام المخلوقين، وهي كلام الخالق سبحانه وتعالى، وإذا أخبر بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك لم يقف عنده، ويريد معارضته بكلام من دونه من أتباعه، فكل هذا من الخلل البين الذي هو بسبب نقص الخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى.

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس في كل الأوقات، ولكنه كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.

    أثر الخشوع في طلب الجنة والشهادة في سبيل الله

    فإذا كان الحال كذلك فينبغي لنا بعد كل عبادة أن نتأثر بأثرها، فيتضح ذلك في أخلاقنا وتصرفاتنا وكلامنا، وينبغي أن نكون أهل إقبال على الله سبحانه وتعالى وتنزه عن هذه الدنيا وعن أعراضها كلها، وعلينا أن نتطهر من كل ذلك، فينبغي أن ترف قلوبنا إلى الجنات العلى، وأن نتأهب للفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن، وحينئذ يضحي الإنسان، وتستعد نفسه للتضحية والبذل في سبيل الله بما يستطيع.

    ولذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا سمعوا شيئاً من الوعد أو الوعيد رفت له قلوبهم، ففي حديث أبي بردة بن أبي موسى رضي الله عنه قال: حضرت أبي وقد حضر الصف، أي: التقى الصفان في حال المعركة فقام أبو موسى -وهو أبو أبي بردة -فقام خطيباً فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر، لم يكن بينه وبين الجنة إلا أن يموت)، فقال له رجل: يا أبا موسى ! آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فتقدم الرجل فقاتل حتى قتل.

    فهكذا كان يؤثر فيهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوه؛ لأنهم صدقوا الله سبحانه وتعالى فأثر فيهم هذا الكلام تأثيراً بليغاً.

    فهذا عامر بن فهيرة لما أحس بوقع السيف نضح الدم على وجهه وقال: (فزت ورب الكعبة!).

    وكذلك فعل حرام بن ملحان رضي الله عنه؛ فإنه لما ضرب بالسيف حمد الله سبحانه وتعالى على أنه قتل في سبيل الله، وهذا الحال نجده عندما سأل ابن رواحة رضي الله عنه الله سبحانه وتعالى المغفرة والشهادة في سبيله عند توديع المسلمين له في غزوة مؤتة والناس يسألون لهم العودة بأمان، وهو يقول:

    لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا

    فذكر أنه يريد الشهادة في سبيل الله، وألا يرجع أبداً بعد ذلك، فقد فهموا هذه النصوص وتأثروا بها، ولذلك فإن ابن رواحة عندما نزل للبراز في وقت المعركة قال:

    يا حبذا الجنـة واقترابهـا طيبة وبـارد شرابهـا

    والروم روم قد دنا عذابها علي إن لاقيتها ضرابها

    فترجل وقاتل حتى قتل مقبلاً غير مدبر.

    وكذلك عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه في يوم أحد؛ عندما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الجيش عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: (أي أصحابي! لا تخونوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف؛ وقد رأيتم العدو مقبلاً، فقالوا: لو كنا نعلم قتالاً لاتبعناكم، فقال: لعنكم الله، وأغنى عنكم المسلمين).

    فرجع فانتزع بردة كانت عليه فوضعها أمامه، وقاتل حتى قتل، وتمنى أن يعود إلى الدنيا حتى يقاتل فيقتل، ثم يقاتل فيقتل.

    وقد تمنى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلاف سرية تخرج في سبيل الله، ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل).

    فالشهيد لا يتمنى شيئاً من الدنيا إلا الرجوع إليها ليقتل مرة أخرى في سبيل الله لما رأى من أجر الشهادة وفضلها، فإنه يغفر للشهيد عند أول قطرة تقطر من دمه، ويزوج بسبعين من الحور العين، فلذلك لما صدق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام كانت لهم التضحيات العظيمة، وكان لهذا التصديق والخشوع الأثر البالغ في نشر الإسلام والجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، ولما تراجع الخشوع في الناس قل فيهم العمل بمقتضى ما يقرءون، فالناس الآن يصدقون هذا الكلام ويعلمون أنه الحق، لكنهم لا يعملون به كما عمل به أولئك، فلا يضحون في سبيل الله كما ضحى أولئك السابقون الأولون.

    ولهذا فقد تراجع مد الإسلام، وأصاب كثيراً من المسلمين الوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت وانشغلوا بأمور دنياهم عن أمور هذا الدين، فأصبح كثير من الناس يؤثر السلامة العاجلة على أمور الدين، ولا يرضى أن يتمعر وجهه يوماً واحداً في ذات الله سبحانه وتعالى، فكل ذلك من نقص الخشوع لله سبحانه وتعالى وإحسان التعامل معه جل وعلا.

    إن علينا -عباد الله- أن نحيي قلوبنا بالخشوع لله سبحانه وتعالى في أعمالنا كلها، وأن نتذكر أن هذا الخشوع هو روحها، وأنها إذا خلت منه كانت جثة ينبغي أن ترمى في القمامة، فلا يستطيع أحد أن يحمل جيفة قد أنتنت، وهذه الأعمال إذا خلت من الخشوع والخضوع كانت جيفة منتنة لا خير فيها؛ فلابد أن نستحضر هذا في أمورنا كلها.

    1.   

    الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة

    ولابد أن نعلم أن للخشوع أسباباً معينة عليه:

    الطهارة من أسباب الخشوع

    فمن أسباب الخشوع في الصلاة: أن يستحضر الإنسان ذلك في وقت طهارته، وأن يحافظ على الطهارة تمام المحافظة، فكيف يخشع من لا يؤدي طهارته، ولا يستتر من البول، ولا يأتي الصلاة إلا في ثياب متسخة، ولا يأخذ زينته عند كل مسجد؟ وإذا ذهب إلى المدرسة أو إلى العمل اتخذ ثياب زينته، فإذا ذهب إلى المسجد خرج في ثوب نومه، فكيف يخشع من كان هكذا؟

    وإن سبب نقص خشوع كثير من الناس في الصلاة هو عدم حفاظهم على الطهارة، فهذه الطهارة سواء كانت من حدث أو من خبث، إنما جعلها الله سبحانه وتعالى إعداداً للصلاة وتهيئة لها، فطهارة الخبث إذا تركها الإنسان كان عرضة لعذاب القبر، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين جديدين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة).

    وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه).

    وإن كثيراً من الناس لا يستترون من البول، فترى بعضهم يبول في الطرق التي هي حق مشترك للعامة لا يحل استغلاله فيما يضر بالعامة، وهي من الملاعن التي يُلعن أصحابها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللاعنين، وعن الملاعن كلها.

    وكذلك تجد كثيراً من الناس لا يحافظ على أداء طهارة الحدث؛ فهو يتيمم وهو قادر على الغسل أو الوضوء، وإذا تيمم أيضاً لم يحسن التيمم، فتراه يأخذ حجراً صغيراً فيمرر يديه عليه، ويظن هذا مجزئاً في التيمم، وهذا بعيد كل البعد عن التيمم الذي شرعه الله، فقد قال الله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ[المائدة:6] ، وهو يمسح به هو على يديه، فهو لم يؤد ما أمره الله به؛ ولا يعتبر هذا تيمماً، ولا يجزئه.

    وهكذا تجد كثيراً من الناس لا يبالي بنظافة ثيابه، مع أن الأصل أن يكون للإنسان ثوب للصلاة يعده لها، فهذه الصلاة هي أعظم أحوالك وشئونك، فأنت تعد ثوبك وتغسله وتنظفه إذا أردت الذهاب إلى العمل أو إلى المدرسة، فكيف لا تحضر ذلك للصلاة وللمسجد العظيم، وقد قال الله تعالى في كتابه: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ[الأعراف:31] ؟! فهذا مما يهمله كثير من الناس، وهو مما يكون سبباً لنقص الخشوع.

    الحضور إلى المسجد قبل الصلاة من أسباب الخشوع

    وكذلك من أسباب الخشوع في الصلاة: الحضور قبلها إلى المسجد بوقت تستقر فيه النفس؛ حتى يؤدي الإنسان الرواتب، ويتطهر، ويذكر، وتحول بينه وبين الشيطان فترة حادثة لجوارحه في المسجد، فالذي لا يأتي إلا عند الإقامة أو بعد أن يحرم الإمام كيف يخشع وقد جاء من الدنيا مباشرة إلى الصلاة؟!

    وإنما يخشع الإنسان إذا جاء فجلس في المسجد بعد أن صلى الراتبة، وهيأ نفسه للصلاة، وذكر الله سبحانه وتعالى، فهذا الذي يستطيع الخشوع في الصلاة.

    استخدام السواك من أسباب الخشوع في الصلاة

    كذلك فإن مما يعين على الخشوع في الصلاة: السواك، فهو مطهرة للفم مرضاة للرب، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليه، وكان يبدأ به إذا دخل بيته وإذا خرج منه، وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وفي رواية: (عند كل وضوء)، فالعناية بالسواك مما يعين على الحضور في الصلاة والخشوع فيها.

    استواء الصف من أسباب الخشوع

    وكذلك مما يعين على الخشوع في الصلاة: استواء الصف؛ فالصف الذي يتخلله الشياطين لا يمكن أن يحضر أصحابه، ولا أن يخشعوا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالي أرى الشياطين خلال صفوفكم كأنهم غنم عفر؟!)، وقال: (عباد الله! لتسوون بين صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم).

    فلذلك لابد أن يجتهد الناس في تسوية الصفوف، وأن يلين الإنسان في يد إخوانه حتى يكون ذلك سبباً لخشوعه، وكم من إنسان لم يكن خاشعاً فأحس بقشعريرة جاره في الصف فأدى ذلك به إلى الخشوع!

    وكم من إنسان أيضاً كان مشتغلاً على الأقل بالحضور في الصلاة، فإذا بجاره يتثاءب، فاتصل به الشيطان فتثاءب هو بتثاؤب جاره، وكثيراً ما ترون الإنسان إذا تثاءب تثاءب جاره في الصلاة؛ لأن الشيطان يتوصل بالجار إلى جاره.

    دعاء الاستفتاح من أسباب الخشوع في الصلاة

    كذلك من أسباب الخشوع في الصلاة: دعاء الاستفتاح الذي يقصر فيه كثير من الناس، فإن الإنسان إذا أقبل على الله وكبر تكبيرة الإحرام واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه استطاع بذلك أن يخشع؛ لأن الشيطان سيجتنبه.

    فكثير من الناس لا يفتتح الصلاة أصلاً، فلذلك يجد الشيطان مدخلاً إليه في بداية صلاته، وقلما يحضر معنى التكبير في ذهنه، وقلما يحضر معنى الحمد في ذهنه عندما يقرأ إذا لم يستفتح، لكن إذا استفتح الصلاة بالدعاء الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلني من الخطايا بالماء والثلج والبرد)، تباعدت عنه خطاياه، فاستطاع أن يحضر في الصلاة، واستطاع أن يخشع إذا قرأ الفاتحة أو غيرها، فكان ذهنه حاضراً؛ لأنه قد باعد الله بينه وبين خطاياه، وبينه وبين الشيطان، وغسل بالماء والثلج والبرد، وتهيأ لأن يكون من الخاشعين بين يدي الله سبحانه وتعالى.

    استحضار المصلي لعظمة الصلاة من أسباب الخشوع

    كذلك من أسباب الخشوع في الصلاة: عظمة هذه الصلاة في ذهن الإنسان:

    فإذا كان الإنسان إذا سمع (حي على الصلاة) أو أدرك أن وقت الصلاة قد دخل، استطاع أن يتخلص من أعماله، وأن ينتفض قلبه منها، وكانت أكبر همه إذا حضر وقتها، وكان مقدماً لها على كل أشغاله الأخرى، فهذا هو الذي يستطيع الخشوع فيها.

    أما إذا كانت الصلاة أمراً روتينياً في حياته وعادياً؛ فإنه إذا فاتته الصلاة لم يشعر بالمصيبة، وقد كان الصحابة يعزي بعضهم بعضاً إذا فاتتهم الصلاة، فمن فاتته الصلاة منهم يُعزى في تلك المصيبة التي حلت به.

    فإذا كان الإنسان يعلم عظمة الصلاة وأهميتها ويبادر إليها بهذه المبادرة، فلابد أن يكون خاشعاً فيها؛ لأنه مستعد لها تمام الاستعداد؛ ولذلك فإن الذي يستحضر عظمة الصلاة والاهتمام بها سيكون من المحافظين عليها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس صلوات فرضهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حفظهن وحافظ عليهن حفظ دينه، وكان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن ضيعهن لم يكن له عند الله عهد. إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه).

    وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى عماله: (إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع وأضيع).

    فلذلك لابد أن تكون الصلاة ذات أهمية في حياة المسلم، وأن يقدمها على شئونه الأخرى، فهذا مما يعينه على الخشوع فيها.

    1.   

    الخشوع مطلوب في جميع العبادات

    وكذلك على الإنسان أن يعلم أن هذه الأسباب المذكورة في الصلاة نظيرها في غير الصلاة من العبادات الأخرى، فإذا كان الإنسان يتأهب للعبادات الأخرى ويتهيأ لها، اشتياقاً إلى الله، ورغبة في مقابلته، ورغبة في الخير الذي سيقسمه بين عباده، وهو يعلم أنه الآن قد أذن له، وفتح له باب الملك الديان، وقد تنافس المتنافسون في الدخول فازدحموا عند الباب، فلذلك يريد أن يكون من الذين يتعرف عليهم الملائكة، وأن يكون من الذين يكتبونهم الأول فالأول، وأن يتعرف إلى الله في الرخاء ليعرفه في الشدة؛ فهذا لاشك أنه سيكون خاشعاً في أعماله كلها؛ لأنه يحس بالمنافسة، ويحس بأن الناس رعيل مقبل، وأن العباد منهم من يتنافسون في القرب؛ وهو لا يرضى أن يكون أحد سابقاً له حاجزاً بينه وبين القرب إلى الملك الديان سبحانه وتعالى.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الخشوع في عبادتنا كلها، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من الصادقين المخلصين المخلصين، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    حكم العمل الخاص في وقت الوظيفة العامة

    السؤال: هل يجوز لموظف في الوظيفة العامة أن يعمل عملاً آخر مع وظيفته؟

    الجوب: الوظيفة إذا كانت مباحة في أصلها، وكان الإنسان مأذوناً له شرعاً في أن يعملها، ووقع عقداً على أن يستغل الوقت المقرر في تلك الوظيفة، وكانت الوظيفة تأخذ ذلك الوقت كله، فلا يجوز له أخذ شيء من ذلك الوقت لأموره الخاصة، وإذا استغله فما يأخذ في مقابله هو من السحت.

    أما إذا كانت الوظيفة أصلاً لا يجوز العمل فيها فيجوز حينئذ الخروج منها، بل يطلب الخروج والتوبة منها، وكذلك إذا كانت الوظيفة لا تشغل الوقت كله كساعات التدريس، فإذا كان الإنسان موظفاً-مثلاً- لتدريس حصص محددة فدرسها، فالوقت الآخر الذي ليس فيه تدريس وليس فيه جدول لعمله يمكن أن يصرفه فيما كان من شئونه.

    حكم العمل في دكان لا يصلي أصحابه صلاة الجماعة

    السؤال: هل يجوز العمل في دكان لا يصلي أصحابه مع الجماعة ويباع فيه بعض البضائع الأمريكية؟

    الجواب: إن الإنسان إذا كان ينصح، ويؤدي الحق الذي عليه، وإذا سمع النداء إلى الصلاة أقبل عليها، ولم يكن يبيع شيئاً من المحرمات، فيجوز له العمل مع النصح لمن يعمل معه أن يكون كذلك، وأن تكون الصلاة أهم عنده من التجارة، كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا[الجمعة:11] .

    فلابد أن يتذكر الإنسان أن ما عند الله خير وأبقى، وأن يقدم الصلاة على التجارة، وكذلك لابد أن ينصح من يعمل معه حتى يترك بيع ما حرم الله بيعه.

    موضع اليدين في الصلاة

    السؤال: جاء في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يصير كل عظم في موضعه، أليس هذا دليلاً واضحاً لمن قال بإسبال اليدين في الصلاة؟

    الجواب: لا؛ فموضع اليدين في الصلاة هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم وعرف من فعله، وهو وضع اليدين على الصدر، فهذا استقرار كل عضو في موضعه، فموضع العضو لا يقصد به موضعه في حال القيام، ولا موضعه في حال الاضطجاع أو الجلوس؛ فذلك مختلف، إنما يقصد به موضعه في الصلاة، فموضع اليدين في الصلاة في حال القيام هو الصدر، فالإنسان يضع يساره على صدره، ثم يضع يمينه فوقها أو يقبضها بها، فهذا موضع اليدين في الصلاة.

    والسائل يسأل عن حديث أبي حميد الساعدي في وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أقر أبا حميد على ذلك عشرة ممن شهدوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فقد بين أبو حميد هيئة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما موضع اليدين في الصلاة فهو الصدر، لما ثبت في أحاديث أخرى كثيرة تقارب ثمانية أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في موضع اليدين في الصلاة.

    تحريك السبابة في الصلاة

    السؤال: ما حكم تحريك السبابة في الصلاة؟

    الجواب: ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بالمسبحة، و(يشير) فعل مضارع، والفعل المضارع يقتضي التجدد، والجملة الحالية تقتضي التجدد والحدوث، والفعل المضارع أيضاً يقتضي التكرار، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بسبابته، ومعنى الإشارة بها: التحريك، وأيضاً جاء في حديث زائدة بن قدامة أنه كان يحركها، بلفظ التحريك، وهي زيادة ثقة.

    وقت تستر المرأة

    السؤال: هل تجوز مصافحة البنت التي بلغت الخامسة من عمرها إذا أمنت الفتنة؟

    الجواب: نعم؛ لأن البنت إنما يطلب سترها إذا دخلت التاسعة من عمرها وهذا أرجح شيء، فإن عائشة رضي الله عنها حدثت عن نفسها: أنها كانت تلعب مع بنات من الأنصار على المراجيح، فجاء نسوة من الأنصار فأخذنها، فغسلن رأسها وهيأنها، فلم تكن حينئذ تلبس ما يسترها في وقت أخذها وهي في التاسعة من عمرها، وذلك حين دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    حكم قيام الابن بتطهير أمه

    السؤال: امرأة لا تستطيع القيام بشئونها لمرض، وليست لها بنت تقوم بذلك، فهل يجوز لابنها أن يقوم بشئونها من تطهيرها وغير ذلك؟

    الجواب: تطهير بدنها إذا كان مما يتعلق بالعورة بأن يكون ملوثاً بالنجس، فالأصل أنه لا يحل ذلك للرجال، لكن إذا لم توجد امرأة تقوم به فستكون هذه المرأة كالمتوفاة، ومن المعلوم أن المتوفى يباح غسل عورته، لكن يجعل الإنسان على يده خرقة حتى لا يباشر العورة بيده ولا ينظر، بل يغسل من تحت الثوب.

    فابنها هذا إذا لم يجد من يزيل عنها ذلك الضرر والقذر فليجعل على يده سترة، وليغسلها من تحت ثوب، ولا يكشف عن شيء من ذلك، فيجعلها بمثابة المتوفاة، ويكون هذا من باب الضرورات كما قال خليل رحمه الله، إنما ذلك من أحكام الضرورات التي تبيح المحظورات.

    حكم صرف الكفارة في نفقة الأبناء

    السؤال: هل صرف الكفارة في نفقة الأبناء مجزئ أم لا؟

    الجواب: إذا كان الإنسان فقيراً معدماً لا يملك شيئاً، وكان من أشد الناس حاجة وفقراً، فيمكن أن يخرج كفارته على أهل بيته، بدليل حديث سلمة بن صخر رضي الله عنه، فإنه (أتى النبي صلى الله عليه وسلم يضرب صدره وينتف شعره، فقال: يا رسول الله! هلكت وأهلكت، فقال: ولم؟ قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فأمره أن يعتق رقبة، فضرب صفحة عنقه وقال: والذي بعثك بالحق لا أملك غير هذه، فأمره أن يصوم شهرين متتابعين، فقال: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام؟ فأمره أن يطعم ستين مسكيناً، فقال: والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، فأمره أن يجلس، فجلس فجيء بعرق من تمر -وهو وعاء يتسع لستين مداً- فقال: أنفق هذا على أهلك)، فحمله فأنفقه على أهله، وهذا من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفقه بأمته.

    فلعل الراجح إن شاء الله تعالى: أنه إذا كان الإنسان بهذا المستوى من الفقر والحاجة فله أن ينفق ذلك على أهله.

    وقت إخراج زكاة الفطر

    السؤال: هل إخراج صدقة الفطر قبل الفطر جائز؟ وهل المطلوب إخراجها قبل الصلاة؟ وهل تجزئ نقداً؟

    الجواب: من السنة أن تخرج زكاة الفطر إلى المساجد في الليالي الثلاث الأخيرة من رمضان، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبسط البسوط في مؤخرة المسجد، فيأتي الناس بصدقات الفطر، وكان يكلف أبا هريرة برعايتها، فكان يحرسها، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح يوم العيد، جاء إليها فقسمها، ثم إذا انتهت خرج إلى المصلى.

    فإذاً: ينبغي للناس أن يخرجوها إلى المساجد، وأن يجمعوها فيها في الليالي الأخيرة من رمضان، ثم توزع بعد صلاة الصبح قبل صلاة العيد.

    أما إخراجها بالقيمة أو بغير الطعام: فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فرضها صاعاً من طعام كما في حديث ابن عمر ، فالراجح أنه لا يجوز أداؤها من غير طعام، إلا إذا كان الإنسان في مكان لا يجد فيه من يحتاج إلى ذلك الطعام، كالموجودين في بعض البلدان الأوروبية أو الأمريكية من المسلمين الذين هم في جالية غنية في جمهورها، ويحتاج الفقراء إلى نقل زكاة الفطر إليهم، فحينئذ يمكن أن تنقل، وكذلك الحال في بعض البلدان الغنية يمكن أن تنقل نقداً فيشترى بها الطعام للفقراء في أماكن وجودهم.

    حكم العمليات الاستشهادية

    السؤال: ما حكم من نفذ عملية استشهادية فقتل فيها مجموعة من اليهود؟

    الجواب: إذا كان ذلك في فلسطين فهو من الجهاد في سبيل الله، وقد أوجب الله سبحانه وتعالى الجهاد في سبيله، وأوجب إرهاب العدو وإرعابهم، فقال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ[الأنفال:60] ، ولا يمكن اليوم جهاد اليهود بأي سلاح ولا بأي وسيلة لأفراد المسلمين إلا عن طريق هذه العمليات.

    وهذا الجهاد في أهم جهة اليوم وأعظمها، ولا يوجد غير هذه العمليات، وعلى الإنسان حينئذ أن يكون صادقاً مخلصاً، وألا ينوي بذلك إزهاق نفسه والخروج من هذه الحياة، بل ينوي بذلك جهاد العدو وإعلاء كلمة الله وإرهاب العدو بذلك، وأن يكون مخلصاً لله صادقاً، فإنما حرم الله قتل الإنسان نفسه إذا كان ذلك عدواناً وظلماً، وهي علة منصوصة؛ فقد قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا[النساء:29-30] .

    وأما بالنسبة للبلاد الأخرى التي ليست مثل فلسطين، فلا ينبغي فيها الإقدام على مثل هذا ما دامت الوسائل الأخرى موجودة.

    والشهادة إنما تكون بالنية، فإذا كان الإنسان صادقاً مخلصاً فهو شهيد عند الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نستطيع الحكم بذلك، فإنما الشهيد من صدق، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل فقيل له: (الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

    وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث أنه قال: (والله أعلم بمن يقتل في سبيله).

    سبب صعوبة الزواج على كثير من الشباب

    السؤال: لماذا أصبح الزواج صعباً على الشباب الراغبين فيه؟

    الجواب: هذا من الأخطاء الاجتماعية، ومن الأمور التي ينبغي أن يتخلص منها المجتمع؛ فإن ذلك من الأمور التي أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم من صلح لها وقدر عليها، والتعاون على ذلك من التعاون على البر والتقوى، وهو من الأمور التي يسرها الشارع، وحض عليها.

    ولم يكن غلاء المهور محموداً، ففي زمان النبي صلى الله عليه وسلم، كانت مهور أزواجه وبناته بأقل ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يذكر نساء قريش بقلة التكاليف، فقد صح عنه أنه قال: (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أرعاه لزوج في ذات يده، وأحناه على ولد في صغره، وأرضاه بالقليل).

    وكذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بهذا المستوى، فقد ذهب بلال رضي الله عنه مع أخيه إلى قوم من الأنصار، فحمد بلال الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فأنا بلال وهذا أخي، كنا عبدين فأعتقنا الله، وكنا كافرين فهدانا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله، فإن زوجتمونا فلكم الشكر، وإن رددتمونا فلكم العذر، فقالوا: والله لا نردكما، فزوجوهما.

    فإذاً: كان الأمر ميسوراً على هذا الوجه، وإنما جاءت التعقيدات بأمر الجاهلية، وهي سبب لإشاعة كثير من الفحشاء والمنكر.

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود بإسناد صحيح أنه قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).

    حكم صلاة حامل النجاسة

    السؤال: إذا سقطت النجاسة على المصلي في الصلاة، فماذا يعمل؟

    الجواب: النجاسة إذا أحس بها المصلي في الصلاة فعليه أن يقطع صلاته حتى يتطهر منها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في الصلاة فأتاه جبريل فأخبره أن في إحدى نعليه قذراً فخلعهما.

    تفسير قوله تعالى: ((وماكنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا))

    السؤال: ما هو تفسير قول الله تعالى: وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا[القصص:45] ؟

    الجواب: الله سبحانه وتعالى بين لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يقتدي به من هدي الأنبياء السابقين، فبين له ما لقي موسى من الأذى، وما لقي شيخ مدين كذلك من أهلها، وما لقي غيرهما من الأنبياء من الأذى من أصحابهم، وأنهم صبروا على ذلك وصابروا، وهذا تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له عما يلقى من إعراض قومه وأذاهم، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر).

    وقوله: وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا[القصص:45] أي: ما كنت مستقراً، والثواء: الاستقرار كما قال عنترة:

    طال الثواء على رسوم المنزل بين اللكيك وبين ذات الحرمل

    والمقصود بقوله: (وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)، أنهم كانوا من أفجر الأمم وأشدهم إعراضاً عن الحق، فلذلك عزي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعراض قومه بأنه قد نال ذلك من الذين سبقوه على هذا الدرب، فقد لقوا الأذى والإعراض وصبروا عليه: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ[الأنعام:90] ، وهذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً.

    لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من قدر، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، أخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والعمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض، أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا.

    اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم هؤلاء عبادك وإماؤك قد اجتمعوا في بيت من بيوتك يرفعون إليك أيدي الضراعة، فلا تردهم خائبين، ولا تجعلهم عن رحمتك من المطرودين، وهب المسيئين منهم للمحسنين يا أرحم الراحمين!

    اللهم ما أنت قاسمه من خيري الدنيا والآخرة فاجعل لنا منه أوفر حظ ونصيب، اللهم لا تخرج أحداً من هذا المكان إلا وقد غفرت له، اللهم لا تخرج أحداً منا من هذا المكان إلا وقد غفرت له، اللهم إنك أعلم بنا منا فاقض ما في علمك من حوائجنا، اللهم إنك أعلم بنا منا فاقض ما في علمك من حوائجنا.

    اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين!

    اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا أرحم الراحمين!

    اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، واجعل المال عوناً لنا على طاعتك يا أرحم الراحمين!

    اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض.

    اللهم إن الأمور مرجعها إليك فلا تفضحنا بين يديك، اللهم خذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، اللهم ملك علينا أنفسنا بخير، ولا تسلطها علينا بشر.

    اللهم آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

    اللهم اجعل سرائرنا خيراً من علانيتنا، واجعل علانياتنا صالحة، اللهم استرنا بسترك الجميل.

    اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك في كل مكان، اللهم سدد أقلامهم، وسدد سهامهم، واجمع على الحق قلوبهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أنزل بأسك ورجزك وسخطك وعذابك على كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك، ويصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، وأنزل بهم المثلات والقوارع يا قوي يا عزيز!

    اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا قوي يا متين، اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا قوي يا متين.

    اللهم طهر المسجد الأقصى من رجز اليهود.

    اللهم كن للمستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وفك أسرى المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم فك أسر المأسورين من المسلمين يا أرحم الراحمين!

    اللهم عجل فرجهم يا قوي يا عزيز، اللهم انصر دينك وأظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

    اللهم اخلف نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته بخير، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيه حدودك يا أرحم الراحمين!

    اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بك، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755951637