إسلام ويب

المقدمةللشيخ : محمد يوسف حربة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كلما بحث الباحثون في تركة السلف العلمية عثروا على أسفار ماتعة، من ذلك كتاب بداية المجتهد الذي يعد موسوعة فقهية موازنة. وقد اتخذ ابن رشد فيه مصطلحات حديثية خاصة، ومسلكاً علمياً رائعاً في مناقشة المسائل العلمية، وعرج على ذكر الطرق والألفاظ التي تتلقى منها الأحكام الشرعية، وتكلم عن أسباب الخلاف في المسائل، والقياس وأنواعه، وغير ذلك.

    1.   

    مصطلحات ابن رشد في بداية المجتهد

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم فصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وأتباع سيدنا محمد إلى يوم الدين.

    وبعد:

    فمن مصطلحات ابن رشد في الكتاب، كما جاء في باب الفقه المسألة الأولى، أنه إذا قال: الحديث ثابت، فالمراد به أخرجه الشيخان البخاري و مسلم ، أو أحدهما، وكذلك من مصطلحاته أنه إذا قال: اتفق الجمهور؛ فيريد بهم مالكاً و الشافعي و أبا حنيفة ، كما ذكر ذلك في التيمم.

    كذلك من مصطلحاته أنه إذا ذكر الآثار فالمراد بها الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله، وليس المقصود آثار الصحابة والتابعين.

    1.   

    المنهج العلمي في مناقشة المسائل في بداية المجتهد

    أما مقدمة المؤلف فيقول: [ أما بعد:

    الحمد لله بجميع محامده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وآله وأصحابه، غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي - أي: أن يكون مرجعاً له - أي: على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها، والمختلف فيها بأدلتها، - يعني: في الفتوى- والتنبيه على نكت الخلاف فيها - يعني أسباب الخلاف، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع ].

    يعني: هذا الكتاب ليس إحاطة بالشريعة كلها، بحيث أن كل مسألة شرعية تكلم فيها العلماء ستجدها فيه، وإنما هو في المسائل الكبار الأصول، بحيث أنك تكون على طريقة ومنهج تستطيع أن تقرأ في غيره من الكتب؛ فهذا يبين لك بأن هذه المسألة كذا وكذا، وبعد ذلك إذا كان هناك مسائل أخرى ستنظر فيها، ويبين لك الأسباب، فإذا درست في غيره من الكتب تبين لك بدراسة الأسباب هنا أسباب الخلاف هناك في تلك المسألة.

    وهذه الطريقة يشير فيها إلى كيف يبتدئ المجتهد، كيف يبدأ يعرف القول وأسباب الخلاف.

    وقد أشار لك على بعض المسائل وأنت تطالع وتقرأ المسائل الأخرى.

    وبمناسبة أنه ما ذكر كل المسائل؛ فنحن نقول لكم في الترجيحات: ما رجحنا كل مسائل الخلاف في الشريعة، وإنما رجحنا، المسائل التي ذكرها الـمؤلف وذكر الخلاف فيها، وبينا فيها الراجح، وبياننا للراجح في هذه المسائل نريد منه أن يعرف الطالب الطرق التي رجحنا بها بين الأقوال المسكوت عنها؛ فقد يورد ابن رشد الأقوال ويسكت عنها ولا يرجحها.

    فأنا رجحت بين الأقوال التي أوردها ابن رشد وسكت عنها، وبينت كما أنه بين أسباب الخلاف، فإذا فاتك في هذا الترجيحات يظهر لك أسباب الترجيح، فإذا ورد سؤال: لماذا رجحت؟ نقول: لوجه كذا ولوجه كذا؛ فالأوجه التي رجحت أنا بها هنا، تستطيع أنت أن تطالع مسألة ليست موجودة عند ابن رشد فترجح؛ لأنك سوف تجد الطرق بين الأقوال المختلفة، ستجد الأسباب والطرق، وكذلك يبين لك الدليل الأقوى بطريقة أصول الفقه، وكذلك الترجيح بين الأحاديث وهكذا.

    المقصود أنكم تأخذون هذا الكتاب كطريقة إلى دراسة الخلاف، وكطريقة إلى استطاعة أحدكم أن يرجح، لا أنكم تأخذونه تقليداً في الترجيح؛ لأنه قد تأتيكم مسائل تريدون التقليد فيها ولا تجدوا أحداً، ولا بد أن تكونوا على معرفة كاملة بالطرق التي رجحت بها في هذا الكتاب، وهو سذكر شيئاً من أسباب هذا الترجيح ... .

    1.   

    الطرق التي تتلقى فيها الأحكام الشرعية

    قال: [ وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع ]، يعني: المسائل التي تكلم عليها المؤلف هي المسائل التي نطق بها الشرع، وليس المسائل التي استنبطت استنباطاً بعيدا وخفيا من المتأخرين من الفقهاء؛ لأن الفقهاء استنبطوا مسائل خفية جداً، ليست من التي نطق بها الشارع.

    [ أو تتعلق بالمنطوق تعلقاً قريباً، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد.

    وقبل ذلك فلنذكر كم أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام الشرعية ]، يعني: سيذكر أصناف الطرق التي نأخذ منها الأحكام، وتتلقى الأحكام، وسيذكر أنها من الكتاب والسنة والتي تتلقى من الأحكام الشريعة.

    [ وكم أصناف الأحكام الشرعية ]، والأحكام الشرعية سبعة أحكام: الواجب والمندوب والمحرم والمكروه...

    [ وكم أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف بأوجز ما يمكننا من ذلك ]، إذاً سيذكر لك أولاً طرق الخلاف، وثانياً أصناف الخلاف، وثالثاً أحكام الشرع، ورابعاً كم الأسباب التي أوجبت الخلاف، وسيتكلم عن هذه بقواعد أصولية، بحيث تبني عليها في مسائل أخرى، وسيذكر الطرق التي منها تلقيت الأحكام الشرعية وعرفت أن هذا واجب، وهذا مندوب، وهذا حرام، إلى آخرها.

    ما ورد فيه النص من قول أو فعل أو إقرار

    قال: [ إن الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي عليه الصلاة والسلام بالجنس ثلاثة، إما لفظ ] واللفظ يشمل الكتاب والسنة، قال الله كذا وكذا، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، هذان يسميان لفظا.

    [ وإما فعل ] أي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فدل على جوازه، أو دل على وجوبه؛ لأن الفعل قد يكون واجباً، كأن يكون بياناً لواجب.

    [ وإما إقرار ] بأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى أصحابه يعملون شيئاً فسكت عنه، إذاً فنحن طرقنا ثلاث: لفظ: وهو الكتاب والسنة، وفعل رسول الله، وإقراره، هذه تسمى طرق الأحكام الشرعية.

    ما لم يرد فيه نص وكلام العلماء في القياس

    قال: [ وأما ما سكت عنه الشارع من الأحكام ]، ولم يرد فيه لفظ ولا فعل ولا إقرار، [ فقال الجمهور: إن طريق الوقوف عليه هو القياس ]، فتكون هناك مسألة منطوق بها. والمسألة الثانية تشبهها، وهذا يسمى مقيس عليه.

    [ وقال أهل الظاهر: القياس في الشرع باطل ]، إذا قست مسألة على أخرى فهذا باطل، [ وما سكت عنه الشارع فلا حكم له ]، هذا قول أهل الظاهر.

    [ ودليل العقل يشهد بثبوته ]، أي: أن دليل العقل يشهد بثبوت القياس؛ لأن الطرق محصورة، وأفعال الناس غير محصورة.

    [ وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية. ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى ]. هذا طريق رابع بعد الثلاثة السابقة، وقد قيل فيه: بأنه ليس بدليل مستقل، وإنما هو كاشف عن الدليل، بسبب وجود علة الأصل المقيس عليه في الفرع المقيس.

    فتكون طرق الاستدلال ثلاثة، والقياس كاشف عن طرق الاستدلال بأحد الطرق الثلاث، التي هي: القول، والفعل، والإقرار، والقياس تكشيفي، مثلاً قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الخمر حرام، وأما علة تحريمه فالأصل في تحريمه الإسكار، ومتى وجدت علة الإسكار نقول: هذا الشيء حرام، فالقياس كشف لنا أن علة التحريم الإسكار، وأنها إذا وجدت في الشيء الآخر ثبت له ذلك الحكم، إذاً ليس دليلاً مستقلاً، وإنما هو كاشف عن الدليل، يكون شيئاً منطوقاً به، مذكوراً علته، وشيء لا ينطق به، ولا يذكر علته، فتجد العلة بنفسها موجودة في هذا المقيس فتقول: هذا حرام؛ لأن العلة في التحريم كذا، فإذا قال الرسول قولاً في ذاك الحديث، ثم ثبتت علة التحريم هنا، فكشف لنا عن علة التحريم، فيكون كاشفاً عن الدليل.

    1.   

    أصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام

    قال: [ وأصناف الألفاظ ] يعني أقسام اللفظ [ التي تتلقى منها الأحكام من السمع ]، لأن اللفظ يتلقاه السمع [ أربعة: ثلاثة متفق عليها، ورابع مختلف فيه ] يعني: ألفاظ القرآن وألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم، تنقسم إلى أربعة أقسام: ثلاثة متفق عليها على أنها مأخوذ بها، ورابع مختلف فيه هل نـأخذ به أو لا نأخذ به.

    [ أما الثلاثة المتفق عليها: فلفظ عام يحمل على عمومه، أو خاص يحمل على خصوصه ] مثل الأمر في قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] فهذا أمر لكل الناس، أو خاص ورد الخطاب لإنسان موصوف.

    [ أو لفظ عام يراد به الخصوص]، واللفظ العام المراد به الخصوص، تفهمه من سياق الآية، مثل قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54]، فالناس ههنا المراد بهم محمد عليه الصلاة والسلام، وليس كل الناس، فهذا لفظ عام أريد به الخصوص، أيضاً مثل قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173]، المراد به أبو سفيان وأصحابه، وليس الناس كلهم قد جمعوا لهم، وقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران:173]، الناس هنا المراد بهم واحد وهو نعيم بن مسعود الأشجعي ، وهو الذي أتى يشوش على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول لهم: إن الناس قد جمعوا لكم، فالناس هنا لفظ عام يراد به الخصوص.

    [أو لفظ خاص يراد به العموم]، هذه أقسام أربعة:

    [وفي هذا يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى ]، يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم صغير، فأنت تقول: إذا كان هذا الحكم الصغير حراماً، فالذي أكبر منه حرام، كما في قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، فإذا كان لا يجوز أن تقول للأب: أف، فسبه حرام من باب أولى، هذا خاص أريد به عموم الأذية، فلا تؤذ والديك.

    نجملها مرة ثانية أولاً: العام المراد به العموم، وهذا مثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]، كلها حرام.

    ومثال العام الذي يراد به الخصوص، قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، الأموال تشمل الملابس، وتشمل المركوبات، وتشمل البيوت، لكن الصدقة لا تجب فيها، إنما تجب في أشياء مخصوصة، إذاً هذا العام أراد به الخصوص.

    1.   

    طرق ورود الأمر والنهي

    قال: [ومثال الخاص يراد به العام، كما في قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه يفهم من هذا تحريم الضرب والشتم وما فوق ذلك، وهذه إما أن يأتي المستدعى بها فعله بصيغة الأمر].

    صيغة ما يستدعى فعله

    قال: [وهذه إما أن يأتي المستدعى بها فعله بصيغة الأمر، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به الأمر ] فاللفظ إما يأتي للأمر بحكم أو النهي عن حكم، أو يأتي إخبار من الله، لكن يراد به الأمر، مثل: آية المصابرة: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:65]، فهذا خبر وليس أمراً، ثم قال: الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66]، وهذا خبر أريد به الأمر، بدليل قوله: الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ [الأنفال:66]؛ لأنه دخله النسخ، والأخبار لا يدخلها النسخ، وإنما يدخل النسخ في الأوامر والنواهي، فلما علمنا أنه نسخه، عرفنا أنه خبر أريد به الأمر.

    صيغة ما يستدعى تركه

    [ وكذلك المستدعى تركه ] وهو الذي ينهى عنه، [ إما أن يأتي بصيغة النهي ]، مثل قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، هذا بصيغة النهي، [ وإما أن يأتي بصيغة الخبر ] كقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، هذا خبر ولكن المراد به النهي، ليس لك خيرة.

    فالأمر والنهي يأتي بطريقتين: الأمر بطريقة الطلب والنهي بطريقة الخبر.

    إذاً ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا وردت بالأمر أو النهي، فإما أمر يستدعي الوجوب، وإما نهي يستدعي الحرمة، أو أمر يستدعي الندب، أو نهي يستدعي الكراهة، وهذه هي التي يتكلم عنها المؤلف.

    دلالة صيغ الأمر على الوجوب

    قال: [ وإذا أتت هذه الألفاظ بهذه الصيغ، فهل يحمل استدعاء الفعل بها على الوجوب أو على الندب، على ما سيقال في حد الواجب والمندوب، أو يتوقف ]، نقول: ننظر دليل آخر، هل هو للوجوب أو للندب.

    [ حتى يدل الدليل على أحدهما؛ فيه بين العلماء خلاف مذكور في كتب أصول الفقه ] بعض العلماء قالوا: يفيد الوجوب، والبعض قالوا: يفيد الندب، والبعض قالوا: يتوقف ويبحث دليل آخر حتى يترجح الندب أو الوجوب.

    والراجح من هذا أنه يستدعي الوجوب، حتى يوجد صارف يصرفه.

    دلالة صيغ النهي على الحرمة

    قال: [ وكذلك الحال في صيغ النهي هل تدل على الكراهة أو التحريم، أو لا تدل على واحد منهما؟ فيه خلاف أيضاً ]. الراجح أنه يدل على الحرمة؛ لقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

    1.   

    الأعيان التي يتعلق بها الحكم

    ما يدل على معنى واحد

    [ والأعيان التي تتعلق بها الأحكام، إما أن يدل عليها بلفظ يدل على معنى واحد، كقولي: فلان فإنه يدل على غيره، وكقولك: (محمد رسول الله) فإنه يدل على معنى واحد فقط.

    [ وهو الذي يعرف في صناعة أصول الفقه بالنص ] إذا قالوا: وهذا الدليل نص في كذا، يعني: لا يدل على غيره.

    ما يدل على أكثر من معنى

    قال: [ وإما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء ] يعني: وضع هذا اللفظ يدل على معان بالسواء، العين تدل على العين الباصرة وتدل على العين الجارية عين الماء، وتدل على عين الذهب والفضة، وتدل على عين الشمس. هذه الأسماء كلها تدل عليها العين بالاشتراك، لا بالمجاز ولا بالعقل، فهذا اللفظ يسمى المجمل.

    [ وإما أن يدل عليها بلفظ يدل على أكثر من معنى واحد ] كالقرء، القرء اسم للحيض واسم للطهر، فثلاثة قروء، هل هي ثلاث حيضات، أو ثلاثة أطهار اختلف العلماء، من باب الاختلاف بالمجمل، وقالت الشافعية: المراد به الطهر، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمر : ( طلقها وهي طاهر ).

    [ وهذا قسمان: إما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء، وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالمجمل ] كالقرء، [ ولا خلاف في أنه لا يوجب حكماً ] لا نعلم أي قرء، حتى نجد دليلاً آخر، يدلنا على أن المراد به كذا.

    والمجمل الذي يدل على معان كثيرة بلفظ واحد، يقول أحد الشعراء يصف الرسول صلى الله عليه وسلم:

    بالعين جاد، أي: الذهب والفضة، وكم شفاها ريقه، العين الباصرة، وبريقه حلت، العين الجارية، ولها علت، أي عين الشمس أنواره.

    بالعين جاد وكم شفاها ريقه وبه حلت ولها علت أنواره

    هذا في استخدام اللفظ الواحد على معان متعددة.

    وإما أن يكون اللفظ دلالته على بعض تلك المعاني أكثر من بعض ]؛ فالأسد يدل على الحيوان المفترس، ويدل على الرجل الشجاع. [ وهذا ما يسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أكثر ظاهراً ] سمي الأسد بالحيوان المفترس في الظاهر. [ ويسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أقل محتملاً ]. يعني مجازاً، فالأسد إطلاقه على الحيوان المفترس هذا ظاهر، وإطلاقه على الرجل الشجاع هذا كلام محتمل [وإذا ورد مطلقاً] كقولك: رأيت الأسد، [ حمل على تلك المعاني التي أظهر فيها ] إذا ورد مطلقاً حمل على المعاني التي هو أظهر فيها، أما إذا ورد بصيغة تبعده عن الظاهر؛ فإنا نحمله على المعنى المجازي كرأيت أسداً في الجامعة يحمل السلاح، هذا نحمله على الرجل الشجاع.

    قال: [ على تلك المعاني التي هو أظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل ] كالجار؛ فإنه اسم لمن لاصقت بيته بيتك، هذا اللفظ الأكثر، وقد يطلق على المشارك الذي شاركك في البيت، كأن تكون اشتريته أنت وهو سواء، فهذا يسمى جاراً؛ لكن إطلاقه على المجاور أكثر، وإطلاقه على المشارك أقل، لكن ورد في الحديث: ( إذا صرفت الطرق، وبينت الحدود فلا شفعة )، فهذا يبين تلازم أثر الجار، وأن المراد به الجار المشارك؛ لأنه إذا صرفت الطرق وبينت الحدود فإنه يكون جاراً ملاصقاً.

    أسباب الخلاف إجمالاً

    يقول المؤلف: [ فيعرض الخلاف للفقهاء ]، ما هي أسبابه منها. [ في أقاويل الشارع؛ لكن ذلك من قبيل ثلاثة معانٍ، من قبيل الاشتراك في لفظ العين الذي علق به الحكم ]، مثلاً نقول: سبب الخلاف بين الحنفية والشافعية في القرء هو الاشتراك في اللفظ؛ لأن القرء يطلق على الحيض وعلى الطهر، فالحنفية حملته على الحيض، والشافعية حملته على الطهر. [ ومن قبيل الاشتراك في الألف، واللام المقرونة بجنس تلك العين ]، الماء، التراب، (أل) هنا للتعريف: أي المراد بالماء هو المعروف لديكم وهو بئر بضاعة، وهو الماء الذي لا يحمل الخبث، أو المراد به الماء مطلقاً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الماء لا ينجسه شيء ) هل المراد به الماء الكثير، أو مطلق الماء فـ(أل) هنا للجنس؛ لأنك إذا قلت للإنسان: أعطني الماء فأعطاك كأساً، أو أعطاك وايتاً، فكله: لا يطلق عليه ماء. إذاً (أل) هنا للجنس، هنا الشافعية حملوا: ( الماء لا ينجسه شيء )، على البعض، أي: بعض الماء لا ينجسه شيء، كبئر بضاعة لأنها كثيرة الماء، فحملوه على الكثير، وقالوا: إن الماء لا ينجس إذا كان كثيراً، وينجس إذا كان قليلاً، والمالكية قالوا: (أل) هنا للجنس، ولو كان الماء قليلاً فلا ينجس إلا بالتغير.

    إذاً الألفاظ يكون سبب الخلاف فيها إما الإجمال، أو العموم والخصوص، أو ما يراد بالأوامر والنواهي، فمن حمل الأوامر على الوجوب قال: واجب، ومن حملها على الندب قال: مندوب، هذا هو سبب الخلاف في الألفاظ. فيجري من ثلاث طرق: إما طريقة الاشتراك في اللفظ، أو الأمر الخاص، أو من قبل الاشتراك في الأوامر والنواهي.

    1.   

    الاستدلال بمفهوم المخالفة

    الآن سيتكلم على الطريق الرابع، والكلام السابق كله على الطرق الثلاث، ثم ابتدأ الكلام عن الطريق الرابع المختلف فيه، فقال: [ وأما الطريق الرابع: فهو أن يفهم من إيجاب الحكم لشيء ما نفي ذلك الحكم، عما عدا ذلك الشيء، أو نفي الحكم عن شيء ما، إيجابه لما عدا ذلك الشيء، الذي نفى عنه، وهذا الذي يعرف بدليل الخطاب ] أو مفهوم المخالفة.

    مثلاً: إذا جاءك العلماء فأكرمهم، هذا يفهم منه أن نكرم العلماء، مفهوم منطوق، ويفهم منه أنك ما تكرم الجهال، إذا جاءك سيئ الأخلاق فأهنه، هذا يفهم منه أن تهين سيئ الأخلاق، ولكن حسن الأخلاق ما تهينه، هو دل على إكرام العلماء بالمنطوق، وعلى عدم إكرام غير العلماء بالمفهوم، ودل على إهانة السفيه بالمنطوق، وعلى إكرام الطيب بالمفهوم، هذا أخذ به الأئمة الثلاثة ما عدا أبي حنيفة فقال: لا يؤخذ به.

    [ هو أصل مختلف فيه مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ( في سائمة الغنم زكاة )؛ فإن قوماً فهموا منه ألا زكاة في غير السائمة ] التي هي المعلوفة في البيت وهؤلاء هم الشافعية.

    وسبق قوله: [ وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع، أربعة: ثلاثة متفق عليها، ورابع مختلف فيه ]، وهنا قال: (وأما الطريق الرابع) والصواب أن يقول: الصنف الرابع؛ لأن الطرق غير الأصناف؛ لأنها دون الأصناف. فالطرق التي تتلقى منها الأحكام: قول، وفعل، وإقرار، وهذه متفق عليها، والرابع القياس وهو مختلف فيه.

    1.   

    القياس الشرعي وأقسامه

    تعريف القياس

    قال: [ وأما القياس الشرعي فهو إلحاق الحكم الواجب لشيء ما، بالشيء المسكوت عنه، لشبه ]، أي لعلة الشبه، [ بالشيء الذي أوجب له الشرع ذلك الحكم، أو لعلة جامعة بينهما، ولذلك كان القياس الشرعي صنفين: قياس شبه، وقياس علة ].

    قياس الشبه

    أما قياس الشبه فهو أن يتردد الفرع بين أصلين؛ فيلحق بأكثرهما شبهاً كالعبد إذا قتل هل تلزم فيه القيمة أو الدية؛ لأنه يشبه المال من حيث أنه يباع ويوهب ويورث، ونحو ذلك، ويشبه الحر من حيث أنه يثاب ويعاقب، وينكِح ويطلق، ونحو ذلك فهنا يلحق بأكثرهما شبهاً، والأكثر شبهاً هنا أنه أشبه بالمال، فتلزمه قيمته وإن كانت أكثر من الدية، وقيل: بالعكس.

    قياس العلة

    قياس العلة: هو الوصف -مثل: الخمر وصفه بأنه مسكر- الظاهر المنضبط الذي يناسب الحكم، فيحقق مصلحة الناس، بجلب النفع لهم، أو دفع الشر عنهم، فيوجد في الأصل المنطوق حكم الشرع فيه، وفي الفرع المسكوت عنه بحكم الشرع فيلحق الفرع بالأصل، بجامع العلة، كالإسكار بالخمر الذي هو الأصل، فالخمر علة التحريم فيه هي الإسكار، والنبيذ هو الفرع، النبيذ لم يرد فيه حديث، فإذا كان النبيذ مسكراً، فإننا نلحقه بالخمر.

    وفي النبيذ الذي هو الفرع، فيلحق النبيذ بالخمر في التحريم، بجامع علة الإسكار. مثلاً الخمر حرمها الرسول صلى الله عليه وسلم للإسكار، وحرمتها الآية للإسكار، جاء النبيذ بعده، قالت الشافعية والأئمة الثلاثة: إذا بلغ النبيذ إلى حد يسكر كثيره أو قليله حرام فتعليلهم بجامع الإسكار؛ لأن العلة فيه الإسكار.

    وقالت الحنفية: أن النبيذ جائز إلا ما بلغ شربه الإسكار فإذا شربت كثيراً يكون النبيذ حراماً، وإذا شربت قليلاً فالنبيذ ليس بحرام وإن كان مسكراً، وفي الحديث: ( ما أسكر كثيره فقليله حرام )؛ لعلة وجود الإسكار في النبيذ، هذا هو قياس العلة.

    الفرق بين القياس الشرعي واللفظ الخاص الذي يراد به العام

    قال المصنف رحمه الله: [ والفرق بين القياس الشرعي واللفظ الخاص يراد به العام ] كقوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، يحرم الضرب؛ فهل هو من باب القياس أو من باب آخر؟ قال بعضهم: أنه من باب قياس الأدنى على الأعلى، ويسمونه القياس بنفي الفارق، وبعضهم يقول هو: منطوق وليس بقياس؛ لأن تحريم الأدنى يلزم منه تحريم الأعلى بفطرة الناس، فالشافعي يسميه القياس بنفي الفارق، وغيره يسميه مفهوم الموافقة؛ لأن هناك مفهوم المخالفة، ومفهوم الموافقة الذي يكون المسكوت عنه به أولى من المنطوق، كأن المؤلف يريد أن يبين، هل هناك فرق بين مفهوم الموافقة وفرق بين القياس أو لا؟

    [ والفرق بين القياس الشرعي، واللفظ الخاص يراد به العام أن القياس يكون على الخاص الذي أريد به الخاص ]، فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، أريد به قول: أف، الذي أريد به الخاص ] الخمر، الخمر أريد به الخمر، لكن أف ما أريد به الـأف، أريد به الأذى.

    [ والفرق بين القياس الشرعي، واللفظ الخاص المراد به العام، أن القياس يكون على الخاص، الذي أريد به الخاص ] كلفظ الخمر قسنا عليه النبيذ.

    [ فيلحق به غيره، أعني أن المسكوت عنه يلحق بالمنطوق به، من جهة الشبه الذي بينهما، لا من جهة دلالة اللفظ ]، لكن فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، ألحق الأذى من دلالة اللفظ، وليس من القياس.

    [ لأن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق من جهة تنبيه اللفظ ليس بقياس ]. يعني: إذا ألحقت المفهوم بالمنطوق من جهة تنبيه اللفظ، (أف) ينبه ألا تضربه؛ فهذا لا يسمى قياساً إنما يسمى مفهوم موافقة، وخاصاً أريد به العموم.

    [ وإنما هو من دلالة اللفظ، وهذان الصنفان يتقاربان جداً ]، يعني القياس ومفهوم الموافقة معانيها متقاربة؛ ولهذا تشكل على بعض العلماء، فيقول: هذا من القياس، أو هذا من مفهوم الموافقة، أو من باب العام أريد به الخاص وليس كذلك، وكذلك سننبه أن صاحب الكتاب من ضمن الإشكال عليه هذا، صاحب الكتاب سيورد لفظ يبين فيه أنه أشكل عليه.

    [ وهما يلتبسان على الفقهاء كثيراً جداً، فمثال القياس إلحاق شارب الخمر بالقاذف في الحد، والصداق بالنصاب في القطع ].

    هذا لا بأس به، يعني: إلحاق شارب الخمر بالحد للقاذف؛ لأن القذف هو سب، والمعروف أن شارب الخمر يسب فهذا من باب مفهوم الموافقة.

    وقوله: (والصداق بالنصاب بالقطع)، هذه عبارة أشار إليها إشارة بعيدة جداً، فالحنفية يقولون: أقل الصداق عشرة دراهم، قياساً على أقل مبلغ من المال تقطع به اليد، والعلة هي استباحة العضو، لما استبيح العضو بعشرة دراهم، استبيح نكاحه بعشرة دراهم، بجامع أنه قبض استبيح به العضو.

    قال: [ وأما إلحاق الربويات بالمقتات ]، الربويات: الأشياء الربوية: كالطعام، الحب، الفواكه، والخضروات.

    [ أو بالكيل أو بالطعم فمن باب الخاص أريد به العام ]، يقول: إن هذا من باب الخاص أريد به العام، هذه إلحاقها ليس من باب الخاص أريد به العام، وإنما هو من باب العلة؛ لأنه ورد في الحديث: القيد بالمطعومات، فبين أن العلة الطعم، فقالت الشافعية: أن كل مطعوم تدخله الربويات، سواءً كان مكيلاً أو موزوناً أو غير مكيل.

    وقال بعض العلماء أظنهم الحنابلة: إن الربا لا يدخل إلا في المكيل وقالت المالكية: إن الربا لا يدخل إلا في المقتات المدخر؛ فجعلوا العلة الاقتيات والادخار، وأولئك جعلوا العلة الكيل، وأولئك جعلوا العلة الطعم، فهل هو من باب: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] أو من باب العلة. وهو قد جعله من باب الخاص أريد به العام، فهو يشكل كثيراً.

    [ فتأمل هذا فإن فيه غموضاً، والجنس الأول: هو الذي ينبغي للظاهرية أن تنازع فيه ]، يعني: قياس العلة وقياس الشبه للظاهرية أن تقول: ما نقبلها وتنازع فيه، أما الخاص أريد به العام فهذا مثل قوله: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] ما ينبغي هذا لأنه بالطبع والفطرة شيء معروف بين الناس.

    [ وأما الثاني فليس ينبغي لها أن تنازع فيه؛ لأنه من باب السمع، والذي يرد ذلك يرد نوعاً من خطاب العرب ]،من فطرة الناس.

    انتهينا من الطرق وذكرنا أن الطريقة الأولى: هي اللفظ.

    الطريقة الثانية: هي الفعل.

    1.   

    تلقي الأحكام عن طريق الفعل والإقرار

    قال: [ وأما الفعل ..]، وهذه هي الطريقة الثانية التي نأخذ منها الأحكام؛ فقد ذكر المؤلف الطرق أجمالاً، وتكلم على الطريقة الأولى تفصيلاً وسيتكلم على الطريقة الثانية.

    [ وأما الفعل: فإنه عند الأكثر من الطرق التي تتلقى منها الأحكام الشرعية، وقال قوم: الأفعال ليست تفيد حكماً ]، هذا كلام ضعيف، [ إذ ليس لها صيغ. والذين قالوا : إنها تتلقى منها الأحكام اختلفوا في نوع الحكم الذي تدل عليه ] الوجوب أو الندب، [ فقال قوم: تدل على الوجوب ]، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]. [ وقال قوم: تدل على الندب، والمختار عند المحققين أنها إن أتت بياناً مجمل واجب، دلت على الوجوب ]، مثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بغسل الوجه، قالوا: الوجه مجمل، فيدخل فيه الاستنشاق والمضمضة، والرسول صلى الله عليه وسلم داوم على الاستنشاق والمضمضة، فهي بيان لواجب فهي واجبة، يعني أنها أتت بياناً باللفظ الواجب المجمل فهي للوجوب، وإن أتت باللفظ المندوب المجمل، فهي للندب، يعني كالشرح لذلك اللفظ الذي بينته الأفعال، وإذا داوم على الفعل فيكون بياناً للمجمل، من وجوب أو ندب.

    [ وإن أتت بياناً لمجمل مندوب، مندوب إليه دلت على الندب. وإن لم تأت بياناً لمجمل ] يعني: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم أتت ولا يوجد قبلها مجمل [ فإن كانت من جنس القربة دلت على الندب، وإن كانت من جنس المباحات، دلت على الإباحة ] شيء مباح.

    مثلاً تربية الرسول صلى الله عليه وسلم شعر رأسه، وما كان العرف فيها، آداب عرضية مباحة، فهذه تدل على أنها مباحة.

    [ وأما الإقرار فإنه يدل على الجواز ]، على جواز ذلك العمل الذي أقره الرسول صلى الله عليه وسلم، [ فهذه أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام أو تستنبط ].

    1.   

    كون الإجماع من طرق تلقي الأحكام

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما الإجماع: فهو مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة ]، إجماع العلماء على كذا وكذا، نقول دليله كذا؛ لكنه ليس دليلاً مستقلاً؛ لأنه أتى بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو كان الإجماع بعد الرسول دليلاً مستقلاً لكانت هناك أحكام شرعية ثبتت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه مستند إما على قول أو فعل أو إقرار أو قياس؛ إذن الإجماع ليس بطريق.

    [ إلا أنه إذا وقع في واحد منها، ولم يكن قطعياً، نقل الحكم من غلبة الظن إلى القطع، وليس الإجماع أصلاً مستقلاً بذاته من غير إسناد إلى واحد من هذه الطرق؛ لأنه لو كان كذلك لكان يقتضي إثبات شرع زائد، بعد النبي صلى الله عليه وسلم ].

    فإذا قال قائل: ما فائدة الإجماع إذا لم تقولوا: إنه طريق مستقل؟ قلنا: فائدته أن الحكم المختلف فيه ظني الثبوت؛ لأن كل واحد من المختلفين يقول: أظن أني على الصواب وصاحبي على خطأ، كله يجوز وغير ذلك، أما المسألة التي وقع فيها الإجماع فقد نقلها من الظن إلى اليقين هذا فائدته. فإذاً هو ليس بمستقل، ولكنه يرفع الحكم من الظن إلى اليقين؛ لأنه لو قلنا: إنه مستقل لأثبتنا تشريعاً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الأحكام الشرعية

    قال: [ وأما المعاني المتداولة المتأدية من هذه الطرق اللفظية للمكلفين، فهي بالجملة: إما أمر بشيء، وإما نهي عن شيء، وإما تخيير فيه.

    والأمر إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بتركه سمي واجباً ، وإن فهم منه الثواب على الفعل وانتفى العقاب مع الترك سمي ندباً. والنهي أيضاً إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بالفعل سمي حراماً ومحظوراً، وإن فهم منه الحث على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سمي مكروهاً؛ فتكون أصناف الأحكام الشرعية المتلقاة من هذه الطرق خمسة: واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومخير فيه وهو المباح ].

    1.   

    أسباب الخلاف

    تردد اللفظ بين العموم والخصوص وغيرهما ...

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما أسباب الاختلاف بالجنس فستة: أحدها: تردد الألفاظ بين هذه الأصناف الأربعة أعني بين أن يكون اللفظ عاماً يراد به الخاص، أو خاصاً يراد به العموم، أو عاماً يراد به العموم، أو خاصاً يراد به الخاص ]، أي أن البعض يقول: هذا اللفظ عام أريد به الخصوص، وبعضهم يقول: إن هذا لفظ عام أريد به العموم، فيبني أحكامه عامة، وهكذا الأصناف الأربعة.

    فبسبب اختلافهم يوجد الخلاف في فهمهم لهذا اللفظ، هل هو عام أريد به الخصوص، إذا قالوا: عام أريد به الخصوص، قالوا: يكتفي على المسألة نفسها فقط هل هو خاص أريد به العموم؟ نعم، قالوا: يعم كذا وكذا وعلى هذا فقس.

    الاشتراك في اللفظ

    قال: [ والثاني: الاشتراك الذي في الألفاظ ]، كما بينا في القرء [ وذلك إما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الذي ينطلق على الأطهار وعلى الحيض، وكذلك لفظ الأمر هل يحمل على الوجوب أو على الندب؟ ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو على الكراهية ] هذا سبب من أسباب الاختلاف وهو الاشتراك في اللفظ، فالأمر مشترك بين الندب والوجوب، والنهي مشترك بين التحريم والكراهة.

    [ وإما في اللفظ المركب، مثل قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:5] ] وهذه جاءت بعد آيات وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5]، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4]، أثبت عليهم مجموعة من الأحكام فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، وهذا حكم مجمع عليه، أن الرامي يجلد، والحكم الثاني: وَلا تَقْبَلُوا لَهمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، والحكم الثالث: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5]، فلا نقول: إن من قذف وتاب فلا يجلد؛ لأنه حكم مجمع عليه. إذاً الاستثناء هل هو راجع إلى عدم قبول شهادته، أو كونه فاسقاً إلى يوم القيامة الاستثناء راجع إلى اللفظ الأخير، أو إلى اللفظين السابقين؛ هذه فيها إجمال.

    قالت الحنفية: إن الاستثناء راجع إلى عدم الفسق، فلا يكون فاسقاً عند الله، بل يغفر له ويرحمه، أما شهادته فلا تقبل.

    وقالت الأئمة الثلاثة: إن الاستثناء راجع إلى الجمل التي قبله، فتقبل شهادته، ويتوب الله عليه، وينتفي فسقه؛ والسبب في ذلك أن عدم قبول الشهادة هو الفسق، فإذا انتفى الفسق قبلت الشهادة. هذا في المركب، [ فإنه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد، فتكون التوبة رافعة للفسق، ومجيزة شهادة القاذف ]

    الاختلاف في الإعراب

    قال: [ والثالث: الاختلاف في الإعراب ] مثل: الآية التي يختلفون في إعرابها فيختلفون في حكمها، كآية الوضوء: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ [المائدة:6]هذه قراءة، ((وَأَرْجُلَكُمْ)) قراءة أخرى، فاختلفوا في الإعراب، فقال بعض الفقهاء: قراءة: ((وَأَرْجُلَكُمْ))، معطوفة على الأيدي فيفيد الغسل، وقراءة: وَأَرْجُلِكُمْ [المائدة:6]، ليس معطوفاً على الرأس، وإنما هو من باب المجاورة، إذ لما جاورت مكسوراً كسرت، كقولك: وجحر ضبٍ خربٍ، الأصل أنه خربٌ.

    وقال الذين يوجبون مسح الأرجل كالشيعة: يجب مسحها ولا يجب غسلها؛ لأنها معطوفة على الرءوس، ولكن نصبت لأنها في الأصل مفعول به، فأوجب الخلاف الاختلاف في الإعراب.

    كذلك اختلفت الشيعة مع أهل السنة، عندما قسم أبو بكر مال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة )، (نحن): مبتدأ، (معاشر): منصوب على الاختصاص، (لا نورث): لا: نافية، ونورث: فعل مضارع خبر نحن، (ما تركناه) ما: اسم موصول بمعنى الذي وهو مبتدأ، وتركنا: صلة الموصول، و(صدقة) خبر، هذا الإعراب يفيد أن أموال الرسول صلى الله عليه وسلم لا تورث.

    قالت الشيعة في الإعراب ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث )، المعنى: لا نورث المال الذي تركناه وهو صدقة، قالوا: (نحن معاشر) نحن: مبتدأ، معاشر: منصوب على الاختصاص، (لا نورث): لا: نافية، نورث: فعل مضارع، ما: اسم موصول، مفعول (نورث) وتركنا: صلة الموصول، وصدقة: حال، فاختلف الإعراب، فقالت الشيعة: إن أبا بكر أخذ ميراث فاطمة من المال، فالشيعة يقولون ما ترك من أموال الصدقة لا يورث، وما ترك من ماله يورث، مع أنه لا دلالة لهم في الحديث؛ فيكون الاختلاف سببه الإعراب.

    تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز

    الشيخ: [ الرابع: تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز ]، يعني: الأسد حقيقة في الحيوان المفترس، ومجاز في الإنسان، وهذا اللفظ يأتي في القرآن أو في السنة، فيحمله بعض العلماء على الحقيقة فيثبتوا به الحقيقة، ويحمله بعض العلماء على المجاز فيثبتوه على المجاز، وهذا من أسباب الخلاف، وهذا كالذي قلنا في الجار، فقالوا: إن الجار الملاصق له الشفعة، فحملوه على الحقيقة، وبعضهم حمله على المجاز وقالوا: إنه لا شفعة إلا في المشارك. فهذا من أسباب الخلاف، وهذا الأمر أدى بالمعتزلة والأشعرية إلى إنكار الصفات، فحملوها كلها على المجاز وما سبب حملكم لها على المجاز؟ قالوا: إن العقل لم يقبلها.

    فهذا السبب هو الذي أوقع المعتزلة والأشعرية في هذه الورطة الكبيرة، فأولوا صفات الله كلها، ولهذا جاء من يقول: إن صفات الله لا يدخل فيها المجاز؛ لأن المجاز يجوز نفيه، كما لو قلت: رأيت أسداً يمشي في الجامعة حاملاً سلاحاً: هذا أسد وهو إنسان، هذا إنسان باعتبار الحقيقة أن الأسد حيوان مفترس. فلا يجوز لي أن أقول في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]،ليس معناها استوى، ولكن معناها استولى، فأنفي الحقيقة، لا يجوز ذلك، ولا يصلح؛ لأنه تكذيب لله سبحانه وتعالى فيما قاله في كتابه.

    والمجاز قد أنكره كثير من العلماء، نفي المجاز في القرآن المنزل بالإعجاز، هذا كتيب صغير ألفه محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، وموجود مع أضواء البيان.

    إطلاق اللفظ أحياناً وتقييده أحياناً

    قال: [ والخامس: إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة ]، قد يرد اللفظ مطلقاً، وقد يرد مقيداً، وهذا ينقسم إلى أربعة أقسام:

    الأول: إما أن يتفقا في اللفظ والحكم فمثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]، وقوله: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]، فيحمل المطلق على المقيد؛ لأن حكمها واحد.

    الثاني: لا يحمل المطلق على المقيد بالإجماع، وذلك إذا اختلف الحكم والسبب، مثل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، هذا لفظ مطلق، وقوله في آية الوضوء: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ [المائدة:6]، فسبب قطع اليد هو السرقة، وسبب غسل اليد هو الوضوء، فهنا لا يحمل المطلق على المقيد.

    الثالث: أن يتفق المطلق والمقيد في الحكم ويختلفان في السبب، كالكفارة، قيدت في القتل، بأن تكون مؤمنة وأطلقت في غيره، فهل يحمل المطلق على المقيد، فيه اختلاف بين العلماء.

    الرابع: أن يتفق السبب ويختلف الحكم، كالتيمم والوضوء، سببها كلها حدث، ولكن الوضوء غير التيمم، فقيدت الآية في الغسل إلى المرافق، ولم تقيد في التيمم، هذا فيه اختلاف بين العلماء.

    إذاً عرفنا أن من أسباب الخلاف إطلاق اللفظ تارةً وتقييده أخرى، وأنه في مسألتين متفق عليه، وفي مسألتين مختلف فيه.

    التعارض بين الأدلة

    قال: [ السادس: التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ، التي يتلقى منها الشرع الأحكام ] يعني: أن تجد نصين متعارضين، أو قياسين متعارضين، فهذا يكون سبب في اختلاف، فبعض العلماء يقول: هذا منسوخ، وبعضهم يقول: هذا غير منسوخ؛ أو أن بعضهم يصحح هذا الحديث، وبعضهم يصحح الآخر، وهكذا، وبعضهم يقول: هذا حديث خاص بصاحبه، والحديث الآخر عام، وهكذا، فهذه كلها من أسباب الخلاف.

    [ قال القاضي ] يعني نفسه، وإذ قد ذكرنا بالجملة هذه الأشياء، فلنشرع فيما قصدنا له، مستعينين بالله، ولنبدأ من ذلك بكتاب الطهارة على عاداتهم.

    نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله على النبي محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756564450