إسلام ويب

مقصورة ابن دريد [5]للشيخ : عبد العزيز بن علي الحربي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العظة والعبرة هي ثمرة الأحداث التي يمر بها المرء في حياته، وعدم الاستفادة من الأحداث والمصائب يدل على طيش وحمق يدعو المرء للمراجعة، وقصة امرئ القيس في هذا تصلح نموذجاً من النماذج. المفردات اللغوية تحمل دلالات معنوية متنوعة بتنوع تصريفاتها واختلاف السياقات التي وردت فيها؛ وبهذا يتجلى اتسام هذه اللغة بالحيوية والتجدد، وما في هذه المادة من بيان القلب الحرفي، والاستئناف البياني، وتصاريف الفعل (عثر) خير برهان على ذلك.

    1.   

    إدخال المتكلم كلمات عامية أو غير عربية أثناء كلامه

    باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم على نبيه ومصطفاه، وآله وصحبه ومن تولاه،

    أما بعد:

    قال ابن دريد رحمه الله تعالى في مقصورته:

    [ فإن عثرت بعدها إن وألت نفسي من هاتا فقولا لا لعا

    وإن تكن مدتها موصولةً بالحتف سلطت الأسا على الأسى

    إن امرأ القيس جرى إلى مدى فاعتاقه حمامه دون المدى

    وخامرت نفس أبي الجبر الجوى حتى حواه الحتف فيما قد حوى

    وابن الأشج القيل ساق نفسه إلى الردى حذار إشمات العدى

    واخترم الوضاح من دون التي أملها سيف الحمام المنتضى

    فقد سما قبلي يزيد طالباً شأو العلى فما وهى ولا ونى

    فاعترضت دون التي رام وقد جد به الجد اللهيم الأربى

    هل أنا بدع من عرانين على جار عليهم صرف دهر واعتدى

    وإن أنالتني المقادير الذي أكيده لم آل في رأب الثأى

    وقد سما عمرو إلى أوتاره فاحتط منها كل عالي المستمى

    فاستنزل الزباء قسراً وهي من عقاب لوح الجو أعلى منتمى

    وسيف استعلت به همته حتى رمى أبعد شأو المرتمى

    فجرع الأحبوش سماً ناقعاً واحتل من غِمدان محراب الدمى

    ثم ابن هند باشرت نيرانه يوم أوارة تميم بالصلى

    ما اعتن لي يأس يناجي همتي إلا تحداه رجاء فاكتمى ].

    قبل البدء في شرح الأبيات قال لي أحدكم: إنك في بعض الأحايين تدخل كلمات تعد من لحن القول، أي: ليست عربية من حيث الأصل، أو هي عامية، وكان الجواب عليه من وجهين، قلت له: إنه لا يستطيع أحد أن يدعي أنه سوف يتجرد كلامه من كل لفظة دخيلة، والسبب في ذلك أنني أنا وأنت وكل من يتكلم بالعربية ممتزجون بأناس في هذا العصر يتكلمون بكلمات فصيحة، وبكلمات دخيلة، وبكلمات معربة، وبكلمات أعجمية، وبكلمات محرفة، وبكلمات غير معربة، ونحن لنا أسماع تسجل هذه الألفاظ، فتتأثر طريقتنا بذلك، فإذا كان الإنسان ممتزجاً ببني جنسه، الذين يتكلمون معظم كلامهم بألفاظ عامية، فلا بد أن يرد على لسانه شيء من هذه الألفاظ، هذا واحد، هذا الأمر الأول.

    الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في بعض المقامات بكلام غير عربي، كما جاء في صحيح البخاري، وبوب على ذلك البخاري بقوله: باب من تكلم بالفارسية والرَطانة أو الرِطانة، فالرَطانة والرِطانة أن تتكلم بكلام وفيه ما لا يفهمه العربي، إلا إذا كان قد سمع مثل هذه الألفاظ، وأورد البخاري الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لـأم خالد وكان عليها حلة: ( سنة سنة )، أي: حسنة حسنة، هذا باللسان الحبشي، وأورد حديث: ( إن جابراً قد صنع لكم سوراً )، والسور باللغة الفارسية الطعام، هكذا قال الشراح، مع اختلافهم في هذه اللفظة هل هي سور أم سؤر؟ والسؤر لفظة عربية ومعناها بقية الشيء، لكن الظاهر الأول؛ لأنه لا يكون للفظ معنىً تاماً إذا كان المعنى: إنه قد صنع لكم بقية طعام.

    ثم إن المقامات تختلف، هنالك مقام لا يحسن للإنسان أن يتكلم إلا بألفاظ عربية صحيحة، ليس فيها لحن ولا تحريف ولا تصحيف، كمقام خطبة الجمعة، فإنه لا يصلح أن يتكلم الخطيب في ذلك المقام بكلام عامي، وكذلك إذا كان الإنسان يطرد كلامه على نسق واحد، كما أتكلم الآن بلفظ عربي، يراعي فيه الإعراب، فلا يحسن به أن يدخل كلمةً عاميةً في هذا الكلام المنظوم، إلا إذا كان على سبيل البيان، أو على سبيل التظرف، أو على معنىً من المعاني.

    كذلك في مقام التأليف فإنه من العيب أن يدخل الإنسان في كلامه لفظةً ليست بعربية، إلا إذا كانت هذه اللفظة قد عربت، أو كانت هذه اللفظة لا مناص من ذكرها، وذلك كالألفاظ التي هي أسماء للأشياء التي صنعها غيرنا من الذين ليسوا بعرب، كهذا الجهاز الذي أتكلم فيه الآن، هذا ليس من صنعنا، والكهرباء ليست من صنعنا، والكمبيوتر ليس من صنعنا، الذي صنع هذه الآلة هو الذي وضع لها اسماً، فمن المكابرة أن نقول: إنه لا بد أن نضع لهذا الجهاز لفظاً عربياً، والعرب لا تعرفه، ونظلم به صانعه، فإنه أحق بتسميته، فمن ولد له ولد فهو أحق بتسميته، ألا يكفي أننا نستعمل هذه الأشياء وننتفع بها ونكون عالةً على غيرنا؟ أنريد أن نسمي الأشياء بغير أسمائها تعصباً للغة العربية؟ لو كان في من يعترض على هذا فالح لصنع لنا شيئاً مثل هذا وسماه، وكان حينئذ أحق بتسميته وهو أهل لذلك، أما وقد صنعها غيرك فهو أحق بتسميتها، بعضهم أراد أن يعرب هذه الأسماء كلها: البطارية عربها، الميكرفون عربه، الكهرباء عربها، الكمبيوتر قال: نسميه الكلب الأبتر، هذا أقرب لفظ؛ لأن التعريب أن تأتي باللفظة، وتدخل عليها أو تنقص منها بعض الحروف؛ حتى تسلم لك الكلمة بلفظ عربي، وما هو بكلب ولا أبتر، الصحيح أن في القرآن ألفاظاً معربة، هنالك ألفاظ كانت معروفة عند العرب أخذوها واستعملوها، أخذها التجار والرحالة الذين ذهبوا إلى بلاد غير العرب ثم جاءوا بهذه الكلمات، وأصبحت بعد ذلك دائرةً على ألسنتهم، وجاءت في القرآن، وهذا لا يؤثر في اللغة العربية، اللغة العربية محفوظة، المشكلة هو أن نأتي إلى ألفاظ عربية ونحرفها، وأن ننطق بالكلمة على غير وجهها، أو أن نأتي بلفظ عربي ونضعه في غير محله، ها هنا الإشكال، وهذا هو الذي يحسن بالمعتني باللغة العربية أن يتتبعه، أما ما عدا ذلك من الألفاظ التي قد عمت بها البلوى، وأصبحت دخيلة، وعرفت أيضاً فلا خوف على اللغة العربية منها، عرف أنها ليست بعربية، لا أحد من الناس يقول لك: إن الميكرفون مثلاً لفظة عربية، حتى العامي يعرف هذا، فهذا لا خوف منه، هذا هو بسط الجواب الذي أجبت به على من سألني.

    1.   

    شرح قول الناظم: (فإن عثرت بعدها إن وألت...)

    يقول ابن دريد رحمه الله:

    [ فإن عثرت بعدها إن وألت نفسي من هاتا فقولا لا لعا ]

    أولاً: كلمة عثر في اللغة العربية من ألفاظ القرآن، قال الله تعالى: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا [المائدة:107]، وقال عز وجل: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ [الكهف:21].

    عثر على الشيء بمعنى وجد، وعثر تأتي بمعنى زل، عثرت رجلك أي: زلت، هذه مثلثة تقول فيها: عثر يعثِر ويعثُر ويعثَر.

    والماضي كذلك، الماضي مثلث عثر وعثِر وعثُر، وكذلك المضارع كما سوف يأتي في بيتين للشيخ نفسه، بعد النكبة التي قال فيها:

    لا تحسبن يا دهر أني جارع لنكبة تعرقني عرق المدى

    (إن وألت)، وأل في اللغة العربية بمعنى طلب النجاة، وهي من ألفاظ القرآن أيضاً كذلك، الموئل المستقر والملجأ، لكن الراغب الأصبهاني جاء بهذه اللفظة في أول، وأظنها من أخطائه.

    سبب تعدد أسماء الإشارة للأنثى دون الذكر

    وقوله: (نفسي من هاتا) هذه الهاء هي التي للتنبيه، وتا اسم إشارة كما هو معروف، العرب وضعت للمذكر اسماً واحداً وهو للإشارة، الإشارة من المعارف ذا فقط للمذكر، وأما الأنثى فجعلت لها ألفاظ عدة في ذلك، تقول: ذي وذه وتي وتا وته كل هذا موجود، ولم يذكر شراح الألفية مثلاً والنحويون فيما اطلعت عليه سبباً، لكن السبب والله أعلم في ذلك أن المرأة أمرها مبني على الجهالة والتعمية، فتحتاج إلى أن يشار إليها بألفاظ: مرةً بلفظ، ومرةً بلفظ، ومرةً بلفظ، أما الشيء الواضح فيكفي فيه إشارة واحدة؛ لأنه يعرف إذا قيل هذا عرفنا هذا.

    وأما قوله: ( فقولا: لا لعا )، أصل كلمة (لعا) تقال لمن عثر وزلت قدمه وهو ماشي في الطريق، يقال له: لعا، أي: رفعك الله وأقام عثرتك، لعاك الله أي: رفعك، يقال: إنها اسم فعل ماضي، فيكون معنى (لا لعا) أي: لا أقام الله عثرتك، فهو هنا يقول: إن وقعت مرةً أخرى في هذه المذلة وفي هذا المأزق، إن نجوت من هذه العلة التي أصابتني من جراء هذا الحب فقولا لي هذا الخطاب، هو خطاب لاثنين، كأن الإنسان يفترض فيه أن يكون مع اثنين حتى يكونا جماعة؛ لأن الثلاثة ركب، فيكون معه صاحب وصاحب آخر، وجرت عادة العرب أو شعراء العرب أنهم يذكرون ذلك في أشعارهم، كما قال امرؤ القيس : (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل).

    وجاء في الحديث: ( الثلاثة ركب )؛ لأن الإنسان حين يسافر قد يعتل إذا كان وحده، وإذا كان معه رفيق واحد يحتاج إلى أن يذهب ذلك الواحد لجلب الإغاثة له، فيبقى وحده يحتاج إلى من يقوم على شأنه، هذا الذي يقوم على شأنه هو الثالث، ولذلك كان الواحد في السفر شيطاناً، والاثنان شيطانين، والثلاثة ركبًا، فهذا هو الأصلح لهم، فهو كأنه يخاطب اثنين معه بأن يدعوا عليه بأن لا يقيم الله عثرته؛ لأن (المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين)، فهو إن لم يكن قد تاب توبةً نصوحاً من هذا الحب الذي أوقعه في الردى وفي الهلكة، فهو حقيق بأن يدعى عليه هذه الدعوة، هذا الكلام يقوله من عزم على شيء، أو على توبة نصوح، وعزم على أن لا يعود إلى ما كان يفعله.

    الجواب على الشرطين الواردين في شطر البيت

    ها هنا مشكلة لغوية في هذا البيت في قوله: (فإن عثرت بعدها إن وألت) اجتمع شرطان: إن عثرت، وإن وألت، تقول: هذا الجواب هل هو جواب للشرط الثاني، أم هو جواب للشرط الأول، أم هو جواب لهما معاً؟ هنا حار النحويون والفقهاء في مثل هذا الأسلوب، والأمر لا يحتاج إلى كثرة جدل، فالمسألة واضحة من غير تكلف.

    لو قيل لك: ما هو الجواب؟ تقول: لا لعا، وهذا جواب للاثنين معاً.

    هنالك من قال: إن الجواب للأول، وجواب الثاني محذوف، وهنالك من عكس.

    وهنالك - وهم الأكثر وهذا من أعجب العجاب - من قال: إن جواب (إن وألت) هو فإن عثرت، يعني إن وألت فإن عثرت بعدها كلام لا تستسيغه، لا يستسيغه ذوقك أو طبعك إن كان سليماً، وقالوا: هذا نظيره قوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ [الواقعة:88-89]، أما تحتاج إلى جواب، (وإن كان) تحتاج إلى جواب، فقالوا: (فروح) هذا جواب (إن كان)، يعني هذه الفاء في جواب (إن كان).

    وهذه المسألة أوردها ابن مالك تحت عنوان -في غير الألفية-: (اعتراض الشرط على الشرط)، والفقهاء يسمونها (تعليق التعليق)، تعليق على تعليق، يعني كما يقال: إن طلقت المرأة إن انتهت عدتها حل لها الزواج، جاز لها أن تتزوج، فهذان شرطان، الجواب هل هو للأول أم للثاني؟

    إن قلت مثلاً: إن كلمتني إن أتيتني أكرمتك، إن قلت كما قالوا: إن الجملة الشرطية الأولى هي جواب للأولى، فإنه يترتب عليه معنىً آخر، إن كلمتني أكرمتك، المعنى إن كلمتني إن أتيتني أكرمتك، لا بد أن يكون الكلام قبلاً، فلو كلمه فأتى ما يصح، لا يجب عليه الإكرام؛ لأن الأول مشروط بحصول الثاني، وقد قلنا: إن الأول هو جواب الثاني، إن جئتني أو إن أتيتني إن كلمتني أكرمتك، فلا بد أن يحصل كلام فمجيء ثم الإكرام، فإن حصل مجيء فكلام فلا حق له في ذلك.

    نظروا لذلك في القرآن أيضاً فاستدلوا بقوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا [الأحزاب:50]، ومن غير تكلف ولا كلام كثير المعنى واضح، الشرطان اجتمعا والجواب واحد للجميع، إن وهبت نفسها، إذا أراد النبي أن يستنكحها، فله أن يتزوجها، هذا لا يحتاج إلى تكلف، وهو أيضاً كقوله تعالى: وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]، الجواب (ولا ينفعكم نصحي)، والشرط جاء بعد ذلك، يعني لا ينفعكم نصحي (إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم)، ها هنا أمران: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34] لا ينفعكم نصحي، ولذلك الشرط الثاني مركب مع الشرط الأول، ولا يصح معنى الأول وحده، يعني إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي لا، كأن الجملة واحدة، إن أردت أن أنصح لكم، احذف الشرط ألغِ كلمة إن - في غير القرآن - تصبح وكان الله يريد أن يغويكم، كأن هذا الشرط الثاني هو قيد للأول، لا نطيل في هذا الكلام إن أردتم البحث في هذه المسألة ارجعوا إلى التفسير.

    ها هنا يقول الشيخ في (عثر):

    عثرت على الحكم الذي كنت جاهلاً فماضيه مفتوح وآتيه فاضمم

    عثرت هنا بمعنى وجدت؛ لأن عثر بمعنى وجد، وعثر بمعنى وجد هي التي جاءت في القرآن، أما بمعنى الزلل ما أظنه في القرآن، فهنا: عثرت على الحكم الذي كنت جاهلاً فماضيه مفتوح وآتيه فاضمم، آتيه يعني المضارع؛ لأن المضارع هو للآتي.

    (وناقة خلي في الركاب مثلث)، أي: وعثرت ناقة خلي، والفعل الذي هو عثر بمعنى زل، هو حذف الفعل، عثرت ناقة خلي - أي خليلي - في الركاب، عثرت الناقة في الركاب، لك أن تقول: عثِرت وعثَرت وعثُرت، مثلث هذا خبر، (مضياً) أي: هي مثلث في حال المضي حينما يكون فعلاً ماضياً، (وشكل الماضي للآتي قد نمي)، أيضاً كذلك هذا التثليث موجود في الفعل الماضي، قد نمي أي: نسب، هو منسوب أيضاً، أو هو موجود، أو هو واقع وصحيح في الفعل المضارع، فلك أن تقول في عثر فلان: عثرت رجله، تقول: عثَرت وعثِرت وعثُرت، تعثُر وتعثِر وتعثَر، في الأمكنة قد يعثُر الجواد، أو قد يعثَر الجواد، قد يكبو.

    أنواع العثار

    والعثرة يقولون: إنها عثرتان: عثرة باللسان، وعثرة بالرجل، فأما عثرة الرجل فتكون إذا زل الإنسان زلت قدمه، بمعنى أنها ضربت في شيء في حجر أو في حبل أو شيء، ثم تأثر بعد ذلك، فإن هذا له دواء، أما عثرة اللسان فقد تكون هي القاتلة والقاصمة للظهر، تكون سبباً في حتفه وهلاكه، وكم من أناس قتلتهم ألسنتهم منهم ابن السكيت، وقد جاء ببيتين هما من الحكمة، فقال:

    يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل

    فعثرته من فيه تلقي برأسه وعثرته بالرجل تبرا على مهل

    وقد ذكر هو في آخر الكتاب:

    والدهر يكبو بالفتى وتارةً ينهضه من عثرة إذا كبا

    قد ذكر مثل هذا المعنى في آخر هذه المنظومة، المعنى الجملي يقول هنا: فإن عثرت عثرةً ثانيةً، إن خلصت نفسي ونجت هذه المرة من هذه العثرة الأولى فلا سلمت ولا نجوت، يدعو على نفسه بالهلاك، هذا معروف وموجود في حياتنا، ويتكلم به كل لسان.

    1.   

    شرح قول الناظم: (وإن تكن مدتها موصولةً...)

    ثم قال بعد ذلك:

    [ وإن تكن مدتها موصولةً بالحتف سلطت الأسا على الأسى ]

    وإن تكن مدتها، الشيخ فسرها بالعثرة، والشارحون فسروها بالنكبة السابقة التي يتكلم عنها، وكل ذلك صحيح، وإن تكن مدة هذه النكبة موصولة أي: طويلة الأجل تصل به إلى الهلاك، إلى أن تكون هي السبب في الحتف والهلاك والموت، فإنني حينئذ في هذه المدة سوف أسلط الأسا على الأسى، الأسا قصد بذلك الصبر، والأسى هو الحزن؛ لأن أصل أسا يقال: أسا الجرح، بمعنى أنه داواه، والأسوة هي القدوة، والله عز وجل يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ [الأحزاب:21] بضم الهمزة وبكسرها وقد قرئ بذلك: (إسوةً حسنة)، ففي القاموس الأسوة والإسوة كالقدوة والقدوة، جاءت هذه اللفظة على وزنها في الكسر وفي الضم ومعناها القدوة، وأما الأسى فهو الحزن، هذا من باب قول الشاعر:

    تفرقت غنمي يوماً فقلت لها يا رب سلط عليها الذئب والضبعا

    تعرفون الذئب وتعرفون الضبع، هذا الرجل كان له غنم وكانت تتعبه؛ لأنها تتفرق وتذهب يمنةً ويسرة، فقال هذا الكلام، فلا ندري هل هو دعا عليها أم دعا لها، الله أعلم، قد اختلف في ذلك أهل العلم، وشغلنا بهذا البيت؛ ولذلك أخذ مساحة في كتب اللغة في لسان العرب وفي التاج، وابن بري قال كلاماً طويلاً في هذا، ثم بعد ذلك ناقشوا ما هو الراجح، لكن الظريف في هذه المسألة أنه إن كان قد دعا عليها فهو إنسان ذكي، وإن كان قد دعا لها فهو ذكي عميق الذكاء، وذلك أن الذئب والضبع لا يجتمعان، فإذا اجتمعا صار بينهما مقتلة عظيمة، فإن كان الله قد استجاب دعوته وسلط عليها الذئب والضبع، فإنه سوف يشغل هذا بهذا وهذا بهذا وتنجو الغنم، فيكون قد دعا لها حينئذ؛ لأن هذين لا يجتمعان على خير، وإنما يجتمعان على خصام وحرب، بينهما ثأر كبير، فهذا كما يفعل أعداء الإسلام بالمسلمين، يشغلونهم بقضاياهم، ويؤججون الحرب بينهم، وهذه هي المشكلة التي لا مخرج منها، والتي لم يستجب للنبي صلى الله عليه وسلم فيها، وهو أن لا يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذه أهون )، فيحتمل المعنى في هذا البيت هذا وهذا، وهو قال: إنه سوف يسلط الصبر على الحزن، فهو الذي يداويه، وسوف يعتركان حينئذ، ويحصل بينهما مدافعة، كل واحد يدافع الآخر، قد يغلب الحزن، وقد يغلب التصبر، فإذا غلب الصبر الحزن، فإنه حينئذ يكون قد ظفر بما يريد، وغالباً ما يكون في العشاق أن الحزن هو الذي يغلب الصبر؛ لأنه يقابل الصبر بما لا طاقة له به، فالأمر أكبر من الصبر؛ لأنه يستولي على قلبه وعقله وعلى سائر جوارحه، فلا يستطيع بعد ذلك أن يقاوم شيئاً، وبأي شيء يقاوم وقد نفذت العدة، ليس معه عدة ولا عتاد حتى يحارب ذلك الحزن.

    الحتف هو الموت، ابن فارس جاء بهذه الكلمة وقال: إنها كلمة مفردة، هذه المادة ليس لها ألفاظ مشابهة، الحتف هو الهلاك، وسوف يعطينا بمرادفاته ألفاظاً أخرى.

    قلب السين صاداً والصاد زاياً

    (وسلطت) التسليط معروف، هذه السين حينما تأتي في لفظ فيه طاء لك أن تقلبها صاداً بسبب الإطباق، إذا جاءت اللفظة فيها لام فقط وليس فيها حرف من حروف الإطباق فلا يصح هذا؛ لأنه يغير المعنى، وقد كان بعض الناس يزعم أنه يجوز لك أن تقلب السين صاداً والصاد سيناً في كل كلمة ورد فيها أحدهما، ولكنه ليس بصحيح، وقرر بعض العلماء هذا في زمان سابق، في زمان غابر في القرون الأولى، وقال لتلاميذه هذه القاعدة، فجاء بعض التلاميذ الأذكياء في اليوم الثاني، وكان هذا الشيخ يكنى أبا صالح، وقال له: الصلام عليك يا أبا سالح، هل يجوز لنا أن نقرأ قوله عز وجل: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ [الرعد:23] بالسين، ففطن الشيخ، هذه ما تحتاج إلى فطنة، المسألة واضحة إلى أن هذه القاعدة فاسدة؛ لأن الغرض من السعة في الإبدال، وأن نبدل حرفاً بحرف هو التخفيف، بشرط أن لا نوقع الناس في حرج آخر، فهنا تختلط علينا الألفاظ، وتختلط علينا المعاني، ويحصل لبس كبير، فحين يحصل لبس لا يجوز لنا أن نبدل، تعرفون أنه قرئ في القرآن: اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة:6] والسراط، وقراءة أخرى بالإشمام، ليس هناك زاي خالصة كما يظن بعض الناس أنه يجوز أن تقول: الزراط، إنما هو إشمام كالإشمام في (أصدق) في قراءة، هناك قراءة (أصدق)، تأتي بالصاد وتشمها صوت الزاي، فيتولد من ذلك حرف كالظاء التي ينطق بها العامة حينما يقول لك: يا ظالم مثلاً، هذه الزاي التي في يا ظالم اجعلها هنا، وقل: إنها كالصاد التي أشممناها صوت الزاي.

    المعنى: وإن تكن مدة النكبة التي أصابتني موصولةً بالهلاك تسلحت بسلاحي، يعني هنا لا يصلح أن تأتي بالصاد، والمراد بسلاح الصبر والتأسي أقطع به رقاب الحزن والأسى.

    مثال للاستئناف البياني

    ثم جاء بعد ذلك بكلام يصح أن نقول عنه: إنه مستأنف استئنافاً بيانياً، يأتي به المتكلم حينما يأتي بكلام، ثم يتوجس السامع بعد ذلك كلاماً جديداً يصلح أن يكون سؤالاً؛ لأن كلامه السابق يحتاج إلى سؤال، فإنه حينما ادعى هذه الدعاوى، أو حينما أخبرنا بهذه الأخبار عن نفسه كأنه قيل له: فهل أنت مسبوق إلى هذا الأمر، أم أنت غريب في هذا الشأن؟ هل أنت مسبوق إلى هذا أم لا يتكلم المفسرون عن مثل هذا الأسلوب عند قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ [البقرة:6]؛ لأنه تكلم عن المؤمنين، فكأن سؤالاً سيرد: ما حال الكافرين؟ فكان الجواب: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ))، وهذا مثله أيضاً قوله عز وجل: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [الإسراء:106-107]، هذا جواب لسؤال مقدر أو محذوف، فهو يقول: ما كنت بدعاً، ولذلك سوف يأتي:

    (هل أنا بدع من عرانين علًى جار عليهم صرف دهر واعتدى)

    فهو يقول: لست ببدع في هذا الأمر، فقد سبقت إلى ذلك، يعني يريد أن يقول: إنه لن يوصله إلى هذا حمق فيه، وإنما هو أمر عادي وصل إليه من سبق وممن هو أعظم منه.

    1.   

    شرح قول الناظم: (إن امرأ القيس جرى إلى مدى...)

    قال رحمه الله:

    [ إن امرأ القيس جرى إلى مدى فاعتاقه حمامه دون المدى ]

    (إن امرأ القيس) هو الشاعر الجاهلي الذي توفي قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ثلاثين عاماً، وهو شاعر مفلق، ممكن أن يكون أشعر الشعراء الجاهليين وغيرهم، وقد جاء حديث ضعيف في (أنه قائد الشعراء إلى النار).

    أفضل الشعراء

    وقد قالوا: إن الشعر بدئ بملك وختم بملك، قصدوا بالملك الأول امرأ القيس، والثاني يقال: إنه أبو فراس، لكن ليس بصحيح، ليس بشاعر يبلغ مرتبة المتنبي الذي كان معاصراً له ولا يكاد، ولكن قد يكون الإطلاق هكذا من غير تفصيل بأنه أشعر الشعراء، ولذلك قلت: يمكن فيه شيء، يعني المسألة تحتاج إلى تفصيل، ولذلك بعضهم فصل تفصيلاً يقبل من بعض الوجوه، وهو أنه أشعر الشعراء في بعض الأحوال، وغيره أشعر منه في بعض الأحوال، لكن فيما أعتقد في الجملة هو أشعر منه، فقالوا: إنه أشعرهم إذا ركب، ركب ناقته، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، وهذا صحيح في أمر النابغة أي أنه أشعر الشعراء؛ لأنه أخوفهم، رجل خواف، من يستطيع أن يأتي بمثل هذا البيت الذي قال فيه:

    فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

    والأعشى إذا شرب، وعنترة إذا غضب.. وهكذا، هو قال - فيما يقال - قصيدته التي هي: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)، وهو ذاهب إلى حبيبته على ناقته.

    طرف من سيرة امرئ القيس

    امرؤ القيس هذا له قصة طويلة عريضة موجودة في المطولات، ولا نريد أن نتكلم في أساطير الأولين وأن نخوض فيها، لكن فيها بعض الأمثلة وبعض الأشياء النافعة، نوجز هذه القصة، هذا الرجل هو يقول: إنه كان له أمل في شيء، فأعتقه حمامه دون المدى، كان له غاية فلم يصل إلى غايته، وأنا لي غاية فلم أصل إلى غايتي.

    امرؤ القيس كان رجلاً خميراً سكيراً، يبحث عن النساء وعن الشهوات والمتعة، وأبوه ملك، وجاءه في يوم من الأيام خبر مقتل أبيه؛ لأنه كان ملكاً على بني أسد فقتلوه، تمالئوا عليه فقتلوه، فجاءه الخبر وهو يشرب الخمر فقال: ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، (اليوم خمر وغداً أمر)، وصير ذلك مثلاً، إذا جاءك في هذه الأيام كلام مثل هذا، وتريد أن تؤجله ليوم غد، لك أن تقول: (اليوم خمر وغداً أمر)، والأمثال تجرى على ما هي عليه، ولا يعني ذلك أنك تعمل بمقتضاها، وهكذا جميع الأمثال، حتى إذا كان المثل فيه خطاب للنساء، فإنك تأتي به كما هو، تقول: (الصيف ضيعتِ اللبن)، تقوله للرجل، ضيعتِ هكذا، وتقول: (على نفسها جنت براقش) وهكذا، فما الذي حدث؟

    أعد العدة، وجمع له جيشاً صغيراً، وذهب لقتال من قتل أباه، وصادف بني كنانة يظنون أنه يقصدهم، وهو يظن أنهم يقصدونه، فحصل بينه وبينهم قتال، فقتل منهم أناساً كثيراً، فنبهته امرأة إلى أن عدوه هم بنو أسد، وهؤلاء ليسوا بني أسد، فذهب بعد ذلك إلى بني أسد، ولكنه رأى أنه لا قبل له بهم، فذهب بعد ذلك إلى قيصر يستعين به، فأكرمه ونعمه وأعطاه بيتاً، والرجل قلبه معلق بالنساء، والذي يكون قلبه معلقاً بالنساء لا يفتر من البحث عن هذا الصيد، أطلت مرةً ابنة قيصر من النافذة من قصرها، وهي فتاة حسناء، فعشقها امرؤ القيس كعادته في عشق النساء كـأم الحويرث وفاطمة وغيرهما، وقعت في قلبه فراسلها، كتب لها بعض القصيد، وامرؤ القيس ممن يطمع فيه، فأجابته أيضاً فيما قيل.

    هذه من أساطير الأولين، التي تشبه أساطير بني إسرائيل، التي نتحدث بها ولا نصدقها ولا نكذبها، فاستعان بقيصر فأعطاه جيشاً، وكان قيصر قد بلغه أن هذا الرجل يشبب بابنته، وهذا أمر معيب، فأمر بعض من كان معه في الجيش أن يلبسه تلك الحلة، حلة أهداها إليه قيصر، فلبسها وكانت قد وضع فيها سُم أو سَم أو سِم، فلبسها ففتكت به، وهو في الطريق عرف الأمر، وقد شارف على الهلاك، حينئذ جلس إلى جانب قبر كانت فيه ابنة ملك من السابقين معروفة عندهم، وذكر الأبيات المعروفة التي فيها:

    أجارتنا إن الخطوب تنوب وإني مقيم ما أقام عسيب

    أجارتنا إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب

    وهلك في ذلك الموطن، وذكر وهو يسير إلى قيصر في المرة الأولى بيتين هما من الحكمة، كان معه ابن قميئة لعله عمرو فيما أظن، وهو سائر معه بكى صاحبه؛ لأنهما فارقا بلاد العرب، وقيصر كان في بلاد أخرى، فأشفق قلبه على هذه المفارقة مفارقة بلاد العرب؛ لأن النفوس تحن إلى أوطانها، فعبر عن ذلك امرؤ القيس ببيتين:

    بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

    فقلت له: لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

    فسكنه بهذين البيتين، والحكمة في هذا الأمر أن من كان له غاية وكان له همة عالية، فإنه لا يقف دونها شيء، وهو ماض إلى ما يريد ولو كان في ذلك الهلاك، والحث على أن تكون تلك الغاية غايةً نبيلة وشريفة.

    هنا يقول: إن امرأ القيس جرى إلى مدى، أي: إلى غاية (فاعتاقه) أي: منعه، والمادة في القرآن قال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الأحزاب:18].

    الحمام وبيان معانيها مثلثة

    (حمامُه)، الحمام هو الموت، والحُمام اسم رجل، وأما الحَمام فمعروف فهو هذا الطائر، لا تقل للمفرد المذكر: حمام، حمام هذا اسم جنس للجميع، تقول: حمامة للواحد كما تقول في النمل: نملة للمذكر والمؤنث، وإن كان بعضهم قال: لا، النملة التي كلمت سليمان كانت أنثى بدليل قوله: قَالَتْ نَمْلَةٌ [النمل:18]، ولو كان ذكراً لقال: قال نملة، وهذا كلام لا يقبل على جهة الجزم؛ لأن هذا جائز في اللغة العربية مراعاة للفظ، ولفظ نملة هذا مؤنث، ولك أن تقول: قالت نملة: ولو كانت هذه النملة ذكراً، الحمام هو الطائر المعروف.

    يقول الجاحظ: إنه أشبه ما يكون بالإنسان في طبائعه وعاداته.

    ويقول في القاموس: مجاورتها أمان من الخدر، والفالج، والجمود، والسكتة، والسبات، ولحمه باهي يولد الدم والمني، ووضعها مشقوقةً وهي حية على نهشة العقرب مجرب للبرء، ودمها يقطع الرعاف.

    هذا كلامهم في مادة الحاء والميم والميم، وهذا الكلام كلام ليس بصحيح، ليست مجاورته أماناً من الخدر، والفالج جلطة، يعني إذا كان عندك حمامة ما تأتيك جلطة أبداً، ولا سكتة قلبية، هذا الكلام ينقله من مثل كتاب المستطرف، يذكر الحيوانات والطيور، ثم بعد ذلك تجد ذكر طبائع الحيوان الخواص، فإذا علقت ناب الفأرة أو ناب الضبع في أذنك لا يمسك كذا، ولا يصيبك حسد، وإذا كنت تعشق امرأةً وأخذت ظفر السنور فإنها تستجيب لك، هذا كلام فاضي، أما ما يتعلق بالتجارب إن كان وضعها مشقوقة على نهشة العقرب مجرب للبرء انتهينا، إذا كانت هذه التجربة صادقة، والتجربة لا تثبت من مرة واحدة، إنما تكون من مرات.

    فإذاً: امرؤ القيس هذا هو الشاعر الكندي، وكندة من أبناء يشجب بن يعرب بن قحطان، وكان من خبره أنه ذهب إلى قيصر يستعينه على قاتل أبيه، فأعطاه جيشاً، غير أن الحِمام وهو الموت اعتاقه أي: حبسه وحال بينه وبين مراده، وقصته معروفة مطولة.

    وفي الحِمام يقول ابن مالك في مثله:

    مطوقات الطير قل حَمام والموت والمصائب الحِمام

    وقل لحمى الإبل الحمام.

    أيضاً الحمام اسم رجل وحمى الإبل.

    (كذا الذي ساد على الأصحاب)، يعني: والسيد.

    المدى الغاية في شطر البيت الأول وفي الثاني، يعني أن امرأ القيس جرى إلى مدى، إلى غاية فاعتاقه حمامه دون المدى، فتكون (أل) هذه ما اسمها؟

    للعهد الذكري، العهد الذكري مثل قوله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:15-16]، فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ [النور:35]، الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ [النور:35].

    والمرادفات للحمام الوفاة والحتف، ويقال: مات حتف أنفه، إذا كان موته بلا قتل ولا ضرب، وفاضت نفسه إذا مات فجأةً، بالضاد، وفاظت بالضاء إذا مات بعلة، والجريض وسط الموت أو اختلاف الفكين عند الموت.

    يقول: إن الشاعر امرأ القيس ذهب إلى غايته، فأعاقه أجله دون بلوغ غايته، ونحن نبلغ إلى هذه الغاية ونقف، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    ما يلزم طالب علم القراءات تعلمه

    السؤال: طالب علم متخصص في غير القرآن، له رغبة أن يتعلم من علم القراءات، فبم تنصحونه؟ وجزاكم الله خيراً.

    الجواب: الذي يقع فيه كثير من الذين يحفظون القراءات أنهم يقصرون في أمرين: في أمر التفسير، وفي أمر اللغة العربية، وهذه مصيبة كبيرة يقع فيها كثير من القراء الكبار، حتى حينما كنا نسأل بعض مشايخنا عن معنى كلمة في القرآن الكريم، وهو من كبار القراء يقول: اسأل أهل التفسير، كأن القارئ الحافظ للقراءات ليس من شأنه أن يعرف معاني القرآن، والقراءات ما هي إلا جزء بسيط مساعد، جزء قليل، جزء صغير مساعد في فهم القرآن، القرآن أنزل من أجل التدبر، من أجل أن يتدبر، ومن أجل أن يتفهم، وأن يعمل بمعانيه، فإذا كان الإنسان يقرأ القرآن فقط، ويجمع قراءاته ويتعلم تجويده فقط، فهذا كإنسان كما قال الغزالي: إنسان أرسل له ملك رسالة وأمره فيها بأشياء، فجعل يرتلها بأحسن صوت، ويرددها، ويطبق فيها أحكام التجويد، ولكنه لم يتفقه في معانيها، ولم يعمل بها، فهذا كأنه يهزأ بصاحب هذه الرسالة، ولهذا قال ابن العربي -فيما أخبرني به بعض العلماء- كلمةً جميلة: إن الشيطان حينما لم يستطع أن يشغل المسلمين عن القرآن شغلهم بالقرآن، لكن شغلهم بالقرآن عن القرآن، شغلهم به عنه، ولذلك الآن الحفاظ كثير، وأصحاب الأصوات والتجويد كثير ولا يحصون، وفي النساء الآن ممن يحفظن القراءات كثير جداً، نساء يحفظن القرآن بالقراءات، ولكنهم تركوا أمرين: التفقه في معاني هذا القرآن، وحصل تقصير في العمل وكلنا مقصر، فمن العيب على حامل القرآن أن يكون جاهلاً بمعانيه، هو لا يستطيع أن يستوفي جميع المعاني، لكن عليه أن يشتغل بمعرفة هذه المعاني، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل على بعض أصحابه وهم يقرءون القرآن، وكان فيهم العربي والعجمي، في الحديث الأعرابي أو العربي والعجمي، فقال عليه الصلاة والسلام: ( اقرءوا فكل حسن )، حتى من قصر في التجويد، ليست المشكلة التقصير بالتجويد، المشكلة في أمر آخر.

    ولذلك أصحاب القراءات وأنا منهم، لكنني الحمد لله لا أرى هذا التعصب للتجويد بهذه الطريقة، ورمي الناس بالفسق والإلحاد والتحريف في القرآن إذا قرءوا بغير تجويد، فهنالك يعني منظومة طويلة نظمها بعض الناس فيمن يقصر في أمر التجويد، وبأنه سيكون من حطب جهنم؛ لأنه حرَّف القرآن، وهو لم يحرف القرآن، لكنه اتهمه بهذا الاتهام الظالم، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( اقرءوا فكل حسن، فسوف يأتي قوم يقيمونه كما يقيمون القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه )، (يقيمونه كما يقيمون القدح)، القدح هو السهم قبل أن يراش ويوضع فيه الريش، سهم يقيمونه حق إقامته، كما نفعل الآن في القرآن، (يتعجلونه) أي: يتعجلون ثوابه في الدنيا ولا يتأجلون ثوابه في الآخرة.

    والله ذم أناساً لا يعلمون من القرآن إلا القراءة فقط، قال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، فقط مجرد أماني، وأماني مفرد أمنية، أو أماني بالتخفيف وهي قراءة أبي جعفر مفردها أمنية، والأمنيّة والأمنيَة لها في اللغة العربية معنيان: المعنى الأول: من التمني القلبي الذي نعرفه.

    والثاني: تمنى بمعنى قرأ، فمعنى (إلا أماني) أي: إلا قراءات، الأمنية هي القراءة.

    تمنى كتاب الله أول ليله تمني داود الزبور على رسل

    ومعنى تمنى هنا قرأ، فهؤلاء لا يعلمون الكتاب إلا قراءة، يقرءونه من أوله إلى آخره كما في هذه الآية في الكلام عن اليهود، يقرءون الكتاب لكن مجرد قراءة فقط، فهذا مذموم في الشرع وفي العقل.

    فعليك يا من طلب القراءات أن تعنى بمعاني القرآن، هذا أولاً.

    ثانياً: عليك أن تعنى باللغة العربية.

    الآن كثير من الطلاب يحمل القرآن بالقراءات، لكن اسأله عن توجيه قراءة من القراءات، قل له: لماذا نصبت هذه اللفظة: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، ما توجيه هذه القراءة؟ لماذا قال: (وأرجلَكم)؟ لأنه يترتب عليها معنى، وأحياناً يترتب عليها فقه وحكم شرعي، وأحياناً يترتب عليها معنىً يترتب عليه الوقف الواجب عند القراء؛ لأنه من تمام المعنى، أما الواجب الشرعي فلا، لو وصل ليس في ذلك شيء، وهناك قراءة: (وأرجلُكم) وهنا قراءة (وأرجلَكم)، لو قرأ مثلاً قوله تعالى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ [الأنعام:109]، في قراءة: ((وما يشعركم أنها))، وفي قراءة: ((وما يشعركم إنها إذا جاءت))، هذا الاختلاف في هاتين القراءتين له ثمرة في الوقف وفي المعنى، فإن من قرأ بالكسر معنى قراءته (وما يشعركم) هذا سؤال ونقف، ثم يأتي بعد ذلك بكلام جديد ((إنها إذا جاءت لا يؤمنون))، وأما في حالة الوصل فلا؛ لأن المسألة كالتعليل لما سبق، أي: وما يشعركم؛ لأنها إذا جاءت أو بأنها إذا جاءت لا يؤمنون، وهذا له نظير أو له نظائر كثيرة في القرآن الكريم في القراءات، ولا نحتاج إلى أن نطيل في الجواب.

    تصنيف مقصورة ابن دريد من السبك والتراكيب

    السؤال: ما رأيكم في المقصورة من ناحية تراكيبها وقوتها؟

    الجواب: متوسطة.

    الجواب عمن قال (ريماس) ثواب القبر

    السؤال: هل يصح أن كلمة (ريماس) معناها ثواب القبر؟

    الجواب: لا أعلم؛ لأن الرمس هو القبر، لكن ريماس ما أظنها صحيحة.

    جمع ضب

    السؤال: هل يصح جمع ضب على ضبان؟

    الجواب: نعم، ويصح أن يجمع على ضباب، وهذا هو الأصل.

    نقف عند هذا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757024369