إسلام ويب

العام الهجريللشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن مما ينبغي لكل عاقل أن يتفكر في انقضاء الأيام، والشهور والأعوام، وأن يتفكر فيمن مضى من الناس إلى الآخرة، وأن يتأمل في أحوال الناس يوم القيامة، ليكون ذلك دافعاً له إلى طاعة الله عز وجل، ومعيناً على استغلال العمر قبل انقضائه، ليفلح يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم

    1.   

    عبر وعظات من عام تصرم وفات

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله؛ بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في سبيل ربه حق الجهاد، ولم يترك شيئاً مما أمر به إلا بلغه، فتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وهدى الناس من الضلالة، ونجاهم من الجهالة، وبصرهم من العمى، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وهداهم بإذن ربه إلى صراط مستقيم، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه، أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أيها المسلمون عباد الله! إن عاماً قد مضى وعاماً آخر قد أقبل، أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ما كان من حسنات وأعمال طيبات، وأن يتجاوز عما كان من سيئات وخطيئات، وأن يجعل عامنا الذي أقبل خيراً من عامنا الذي مضى، وأن يهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، والتوفيق لما يحب ويرضى، وأن يجعله عام نصر وفتح للإسلام والمسلمين.

    الاعتبار بمن مضى في العام المنصرم

    أيها المسلمون عباد الله! إن العاقل هو الذي يعتبر، وهو الذي يتعظ بتعاقب الليل والنهار، ومرور الأيام والشهور والأعوام، العاقل هو الذي ينظر فيما كان، وما ينبغي أن يكون، فلو تأملت أيها المسلم في عامك الذي مضى، كم من إنسان قد رحل عن هذه الدنيا، كم من إنسان كان يبني مجداً وما أتمه، وكم من إنسان بنى بيتاً وما سكنه، كم من إنسان قد عقد على عروسه ولم يدخل بها، كم من إنسان كان ينتظر وظيفةً، كان يتوكف تخرجاً من مدرسة أو جامعة، هؤلاء جميعاً أدركهم الموت، اخترمهم هادم اللذات وهم لم يستمتعوا بحياتهم على الوجه الذي يريدونه بعد، غفلوا عن أن الدنيا مليئة بمفاجآت كثيرة، وأن الموت يأتي بغتةً وأنهم راحلون عما قريب.

    أقسام الناس بعد رحيلهم من الدنيا

    لكن الراحلين ليسوا سواءً، إن ناساً رحلوا عن هذه الدنيا بعدما سجلوا كلمتهم، ووضعوا آثارهم الشاهدة لهم بأنهم قد مروا في ذاكرة الأيام، وأنهم كان لهم في هذه الدنيا أعمال مجيدة تخلد ذكرهم، وكم من أناس آخرين رحلوا عن هذه الدنيا وقد عاشوا فيها صغاراً بعدما ولدوا صغاراً، ثم رحلوا عنها - نسأل الله العافية - وهم صغار، ما تركوا آثاراً، ولا خلفوا أعمالاً، ولا عاد أحد يذكرهم؛ لأنه ما كان فيهم للناس نفع أبداً، رحلوا عن هذه الدنيا بعدما عاشوا لأنفسهم، فلم يشعر بحياتهم أحد، ولم يأسف على فقدهم أحد.

    الاتعاظ بمضي عام ومجيء عام

    يا أيها المسلم يا عبد الله! اعتبر بمضي عام ومجيء عام، إنك عما قليل إلى الله سائر، سأل الفضيل بن عياض رحمه الله رجلاً، قال له: كم عمرك؟ قال له: ستون سنة، قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، ويوشك أن تصل، عما قريب ستصل إلى نقطة النهاية، إلى الله عز وجل، حيث ترى مصيرك، إما إلى جنة وإما إلى نار، هناك في عرصات القيامة لا عدل أعظم ولا أوسع من أن تجد كتاباً فيه أعمالك، فيه أقوالك، فيه آثارك، قال تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:60-61]، تجد هذا الكتاب: لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].

    أقسام الناس يوم القيامة وبيان حالهم

    يا أيها المسلم! ما أسعدك في ذلك اليوم العظيم إذا أعطيت كتابك بيمينك، فصحت على الملأ: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24]، وما أشقاك، وما أخسرك إذا أعطيت كتابك بشمالك؛ فناديت على الملأ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29] ، فينادي الله عز وجل: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32].

    يا أيها المسلمون، عباد الله! ما أحرانا أن نتعظ بانقضاء عام ومجيء عام، وأن نتأمل ونعمل ليوم القيامة الذي ينقسم الناس فيه إلى فريقين: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، فمن كانوا على عمل صالح، من واظبوا على الطاعات، من حافظوا على الفرائض المكتوبات، من تزودوا من النوافل والمستحبات، هؤلاء هم أهل الجنة، أما من ضيعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، وقضوا أعمارهم في غفلة ولهو ولعب وغناء وطرب، فهم والعياذ بالله أصحاب الصفقة الخاسرة.

    ولقد بين الله جل جلاله حال الفريقين فقال: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:49-54]، نسأل الله أن يجعلنا منهم، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ [ص:55-60].

    هكذا الذين اجتمعوا على غير الطاعة يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً كما قال الله: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38]، هؤلاء الذين اجتمعوا في الدنيا على حرب الله ورسوله، على الصد عن سبيله، اجتمعوا على المعاصي والآثام، يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض؛ بل أكثر من أن ذلك: يتبرأ من الإنسان أمه وأبوه، وأخته وأخوه، وصاحبته وبنوه، كل منهم مقبل على خاصة نفسه، كل منهم مشغول بمصيره.

    بل أكثر من ذلك أن يخاصم الإنسان أعضاءه، هذه التي كان في الدنيا يحافظ عليها، يداويها، يعالجها، يسافر إلى المشرق والمغرب إذا عانى من وجع فيها، تأتي يوم القيامة لتشهد عليه بما كان منه، يقول تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].

    الحث على استغلال العمر في العمل قبل انقضاء الأجل

    أيها المسلمون، عباد الله! أنتم في دارٍ العمل فيها متاح، أكثروا من ذكر الله، أكثروا من قراءة القرآن، أكثروا من السجود؛ فإنك يا مسلم لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77] ، بروا آباءكم، صلوا أرحامكم، أحسنوا إلى جيرانكم، أدوا الحقوق إلى أهلها قبل ألا يكون دينار ولا درهم، صرفوا أعماركم وأوقاتكم في طاعة ربكم بما يبيض وجوهكم يوم تعرضون عليه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس:38-42].

    أيها المسلمون عباد الله! من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون، ومن كان عمله في نقصان فالموت خير له من الحياة، يا مسلم! ( اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، حياتك قبل موتك، صحتك قبل سقمك، غناك قبل فقرك، فراغك قبل شغلك ).

    واعلم أنه عما قريب ستموت؛ الكل سيموت ويحمل إلى قبره (ويتبعه ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يرجع أهله وماله، ولا يبقى إلا عمله ) ، والله لن يدخل القبر معك إلا عملك، يقول الله لك: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]، تركت الزوجات والأولاد، تركت الأموال والعقار، تركت الجاه والسلطان، تركت المناصب والرتب، تركت الأصدقاء والخلان: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].

    هناك لا ينفعك إلا عملك، لا ينفعك إلا ما قدمت من أعمال صالحة ترجو ذخرها عند الله عز وجل.

    اللهم إنك ترى مكاننا، وتسمع كلامنا، ولا يخفى عليك شيء من أمرنا، وأنت تعلم سرنا وعلانيتنا، ونحن البؤساء الفقراء الخائفون المستجيرون، المقرون المعترفون بذنوبهم، نسألك يا ألله مسألة المساكين، ونبتهل إليك ابتهال المذنبين الذليلين، من خضعت لك رقابهم، وذلت لك جباههم، ورغمت لك أنوفهم، وفاضت لك أعينهم، اللهم اجعلها لنا ساعة توبة، وخذ بأيدينا إليك أخذ الكرام عليك، اللهم لا تجعلنا بدعائك أشقياء، وكن بنا دوماً رحيماً، يا خير المسئولين ويا خير المعطين، وتوبوا إلى الله واستغفروه.

    قيمة الوقت عند الناس

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله بالهدى واليقين، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70] ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء المرسلين، وآل كل وصحب كل أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين، أما بعد:

    أيها المسلمون عباد الله! فما أنفس الأوقات، ما أنفس الساعات، ما أنفس الأيام والليالي، السعيد من صرفها في طاعة ربه، والله إن المرء ليأسى حين يجد أناساً قد مضى بهم العمر، فتصرمت أكثر أيامهم وهم يعلمون يقيناً أنه ما بقي على لقاء الله إلا قليل، وأن ما بقي ليس مثل الذي مضى، ويأسى المرء حين يجد الكثير ممن يكب على لهوه ولعبه من غير تفكير بأنه سيندم عند موته حيث لا ينفع الندم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني )، وقال تعال: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:123-124].

    الحث على الإكثار من صيام شهر الله المحرم

    يا أيها المسلمون! أنتم في شهر عظيم، في شهر الله المحرم، وهو خاتمة الأشهر الحرم المتتابعات، وقد أرشدكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإكثار من صيامه، فثبت عنه أنه قال: ( أحب الصلاة إلى الله بعد الفريضة قيام الليل، وأحب الصيام إلى الله بعد رمضان صيام شهر الله المحرم ) ، والوقت شتاء أيها المسلمون عباد الله! وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( الصوم في الشتاء غنيمة باردة ) ، لا يعاني الإنسان عطشاً مؤذياً، ولا جوعاً مفرطاً، والنهار قصير والليل طويل، فالموفق من اغتنم هذا الشهر في طاعة الله عز وجل.

    أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يختم لنا بالحسنى، وأن يسعدنا في الآخرة والأولى، وأن يجعل عواقب أمورنا إلى خير، وأن يجعل عامنا هذا عام خير وإيمان وسلم وإسلام، ونصر للإسلام وأهله، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نسألك بأننا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أن تتوب علينا، وأن تعفو عنا، وأن تتجاوز عن سيئاتنا، وأن تكفر خطيئاتنا، وأن تضاعف حسناتنا، وأن تصلح فساد قلوبنا.

    اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا، اللهم اجعل حبك أحب الأشياء لدينا، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا، واقطع حاجات الدنيا عنا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقر أعيننا بالشوق إلى لقائك وعبادتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.

    اللهم أحينا على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وتوفنا على ملته، وأعذنا من مضلات الفتن.

    اللهم اجعل خير عملنا خواتمه، وخير عمرنا أواخره، وخير أيامنا يوم نلقاك، أصلح ذرياتنا، أصلح أزواجنا، أصلح أحوالنا، أصلح ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

    اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء إخواننا في الصومال، واحقن دماء إخواننا في العراق، واحقن دماء إخواننا في فلسطين.

    اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم ثبت أقدامهم، وقو شوكتهم، واجمع كلمتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على من عاداك وعاداهم، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، غفرانك ربنا وإليك المصير، رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس:85]، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:86].

    ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار.

    اللهم اجز عنا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم خير ما جزيت به نبياً عن أمته، ورسولاً عن قومه، اللهم أحينا على سنته، وتوفنا على ملته، واحشرنا تحت لوائه، واسقنا بيده الشريفة شربةً هنيئةً لا نظمأ بعدها أبداً، وأحسن الختام يا علام، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756012278