إسلام ويب

تفسير سورة النور - الآية [30]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • وضع الله سبحانه تدابير احترازية حتى لا يقع المسلم في الفواحش، ولذلك شرع غض البصر، كون إطلاقه مما يؤدي إلى الوقوع في الزنا، وبالتزام هذه التدابير يكون المجتمع طاهراً نظيفاً، كما أمر الله سبحانه بحفظ الفروج، والأمر به على جهة العموم، حيث يشمل حفظهما من النظر إليها ومن سائر المحرمات كالزنا واللواط والسحاق والاستمناء وغيره

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم...)

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

    فيقول الله عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].

    هذا هو الموضع الثاني في بيان الإجراءات الاحترازية الواقية من الوقوع في فاحشة الزنا، أجارنا الله وإياكم والمسلمين أجمعين.

    ففي الموضع الأول بين ربنا جل جلاله وجوب الاستئذان عند دخول بيوت الغير، وبين النبي عليه الصلاة والسلام العلة، فقال: ( إنما جعل الاستئذان من أجل النظر )، وفي هذا الموضع يأمرنا ربنا جل جلاله بأمر آخر، وهو الأمر بغض البصر.

    سبب نزول الآية

    وقد افتتحت الآية بتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُلْ [النور:30]، أي: قل يا محمد! وهذا إما عناية بالأمر وتنويهاً بشأنه، وإما لوقوع السؤال عنه من الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقد روى ابن مردويه من حديث أنس رضي الله عنه ( أن رجلاً من الصحابة كان في الطريق فرأى امرأة، فنظر إليها ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان بأنه ما نظر أحدكما للآخر إلا إعجاباً به، فما زال الرجل ينظر إليها حتى اصطدم بجدار فكسر أنفه، فقال: والله لا أمسح الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه وقص عليه القصة، قال له صلى الله عليه وسلم: استغفر ربك، فتلك عقوبة ذنبك )، ونزلت الآية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ[النور:30].

    أقول مرة ثانية: إما أن يكون الابتداء بتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إشعاراً بعظم الأمر، وإما أن يكون جواباً لسؤال سائل.

    قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ[النور:30]، أي: قل لكل من يصدق عليه وصف الإيمان.

    معنى (الغض)

    وقوله: يَغُضُّوا[النور:30]، الغض: هو النقص والإطراق، ومنه قول القائل:

    فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا

    ومنه قول عنترة:

    وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها

    وهذا رجل جاهلي ولكنه كان يفتخر بأخلاقه السامية العالية، يقول: بأن جارتي إذا خرجت، أو إذا دخلت فإنني أغض طرفي، لا أدقق النظر، ولا أتبع البصر، حتى تدخل إلى بيتها.

    دلالة (من) في قوله تعالى: (يغضوا من أبصارهم)

    وقوله: مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، (من) هاهنا للمفسرين فيها وجهان:

    الوجه الأول: بأنها زائدة لتأكيد المعنى، كما في قول الله عز وجل: فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:47]، المعنى: فما منكم أحد عنه حاجزين، وكما في قوله تعالى: لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ[القصص:46]، المعنى: ما أتاهم نذير من قبلك.

    الوجه الثاني: بأن (من) تبعيضية، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ[النور:30]، يعني: ليس المطلوب غض البصر مطلقاً، فيسير الإنسان مطرقاً رأسه، وإنما يغض من بصره؛ لأن الرجل قد يحتاج إلى النظر إلى المرأة، كما في فعل القاضي من أجل أن يتأكد من الشاهد، وكما في فعل الطبيب المعالج، وكما في فعل الخاطب.

    فالخاطب يحل له أن ينظر إلى من يريد خطبتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابي: إني خطبت امرأة من الأنصار، قال له: ( أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما )، وفي بعض الروايات: ( انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً )، وفي بعض الروايات: ( فإن في أعين الأنصار عمشاً )؛ ولذلك قال علماؤنا: لا بأس أن يردد الخاطب النظر، إن لم تكف الأولى.

    فالخاطب ينظر، والقاضي ينظر، وكذلك الطبيب ينظر، كذلك النظرة الأولى، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يا علي ! لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى )؛ ولذلك جيء في البصر بـ(من) التبعيضية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ[النور:30] وهناك في الفروج ما قال: ويحفظوا من فروجهم، وإنما قال: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ[النور:30]، فدل ذلك على أن الأصل في الفرج الحفظ.

    وقوله: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ[النور:30]، أي: أطهر لقلوبهم وأبقى لدينهم.

    دلالة ختم الآية بقوله تعالى: (إن الله خبير بما يصنعون)

    ثم ختم ربنا الآية مثل ما ختم آية الاستئذان بقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:29]، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28]، وهنا قال: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، وهذا تهديد؛ لأن الله عز وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولا تخفى عليه خافية.

    1.   

    فتنة إطلاق البصر وإظهار المرأة زينتها

    وهذه الآية المباركة يأمرنا ربنا جل جلاله فيها بأمر تطيب به نفوسنا، وتطمئن به قلوبنا، ونسلم فيه من الآهات والحسرات، وبالقسمة العقلية نجد هناك احتمالات أربعة:

    الاحتمال الأول: أن تستر المرأة زينتها ويغض الرجل بصره، وهذا هو المجتمع الطاهر النقي، الشريف المبارك، تستر المرأة فيه زينتها، ولا تتبرج تبرج الجاهلية، ولا تتزين إذا خرجت، ولا تتعطر إذا مرت بالرجال الأجانب، وفي الوقت نفسه الرجل المسلم يغض بصره، فهذا مجتمع آمن، طاهر، نظيف، يأمن فيه كل إنسان على عرضه، ويطمئن على زوجه وابنته وأخته، وكذلك يطمئن على ولده، فإذا كان النساء متسترات محتشمات وقورات، لا تخرج إحداهن إلا وعليها سكينة ووقار، فإن الإنسان يطمئن على ولده، ويطمئن على بنته.

    الاحتمال الثاني: أن تبدي المرأة زينتها، ويغض الرجل بصره، فالمرأة ما اتقت الله عز وجل، وأظهرت ما أمر الله بستره، وتبرجت، ولكن الرجل غض بصره.

    الاحتمال الثالث: أن تستر المرأة زينتها، وتلتزم حجابها، ويطلق الرجل بصره.

    وهذه الاحتمالات الثلاثة ليس منها خوف، الاحتمال الأول: غَضُّ الرجل بصره، وستر المرأة زينتها، فهذا مجتمع الصحابة.

    الاحتمال الثاني: أبدت المرأة زينتها فغض الرجل بصره، الحمد لله وليس فيه كثير خوف.

    الاحتمال الثالث: الرجل لا يتقي الله، يطلق بصره، ولكن المرأة تستر زينتها، وهذا أيضاً ليس فيه كثير خوف.

    أما الهلاك والدمار وظهور الفاحشة فإنه يكون إذا حصل الخلل من المرسل والمستقبل، فأبدت المرأة زينتها، وكشفت مفاتن جسدها، وأطلق الرجل بصره، فهاهنا الطامة الكبرى.

    1.   

    الأحاديث الواردة في التحذير من إطلاق البصر

    وإطلاق البصر قد ورد فيه التحذير الشديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فقال: اصرف بصرك )، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والجلوس على الطرقات، قالوا: يا رسول الله! ما لنا منها بد! قال: فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: رد السلام، وكف الأذى، وغض البصر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( يا علي ! لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى )، وفي لفظ: ( وليست لك الثانية )، وفي لفظ: ( لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وعليك الثانية )، وهذا ثابت من حديث عبدالله بن بريدة عن أبيه بريدة بن الحصيب رضوان الله على الجميع.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، وكفوا أيديكم، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم )، وقال: ( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه؛ أضمن له الجنة )، وفي الحديث القدسي -وفي سنده ضعف-: ( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه ).

    1.   

    الحكمة من التحذير من إطلاق البصر

    هذا التحذير من إطلاق البصر كان لأمور، منها:

    أولاً: لأن البصر بريد الزنا، بل سماه النبي صلى الله عليه وسلم زنا، قال - والحديث في الصحيح - : ( كتب على ابن آدم حظه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يشتهي ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ).

    ثانياً: لأن إطلاق البصر يؤدي إلى ما بعده:

    كسبت لقلبي نظرة لتسره عيني فكانت شقوة ووبالا

    ما مر بي شيء أشد من الهوى سبحان من خلق الهوى وتعالى

    فإطلاق البصر قد يورث الإنسان هوى يهلكه، وإطلاق البصر يجعل الإنسان كالذي يأكل ولا يشبع، كما قيل:

    وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

    رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

    ثالثاً: إطلاق البصر قد يؤدي بالإنسان إلى جريمة تسقط هيبته في الدنيا، فتثلم عرضه، وتؤدي به إلى أن يقام عليه الحد، وقد تورثه عذاب الآخرة؛ ولذلك قال القائل:

    كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

    والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر

    يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

    1.   

    عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بغض البصر

    وقد بلغ من عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس : أنه صلى الله عليه وسلم لما كان يوم النحر جاءت امرأة خثعمية تسأله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أردف الفضل بن العباس ، ابن عمه، فجعل الفضل ينظر إلى تلك المرأة، فلكزه النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه حتى حوله، فرجع ينظر إليها فحول النبي صلى الله عليه وسلم وجهه فقال له العباس : ( يا رسول الله! أوجعت وجه ابن عمك، فقال: إني رأيت امرأة وضيئة، وشاباً وضيئاً، فلم آمن عليهما الشيطان )، فالرسول صلى الله عليه وسلم هاهنا غير المنكر بيده.

    1.   

    عواقب إطلاق البصر

    حين نقرأ قول المتنبي لما يقول:

    فمن المطالب والقتيل القاتل؟

    يذكر علماؤنا رحمهم الله بأن إنساناً كان يعمل مؤذناً فصعد يوماً ليؤذن، وكانوا فيما مضى يصعدون على السطوح، أو يصعدون على المآذن قبل أن توجد هذه المكبرات، فلما صعد ليؤذن وقعت عينه على امرأة فهويها والعياذ بالله، وكانت إصابة قاتلة، فترك الأذان ونزل، ثم ذهب إليها، فقالت له: ما تريد؟ قال لها: إياك أريد، قالت: لا أفعل حراماً، ولا أدخل نفسي مداخل الريب، فقال لها: أتزوجك، قالت: أنت مسلم، وأنا نصرانية، وأبي لا يرضى، فقال لها: أتنصر، فجاء أبوها، والرجل كفر بالله رب العالمين، ودخل في دين النصرانية، وعقد له على تلك الفتاة، وقبل أن يدخل بها، صعد على سطح منزله فخر ميتاً، مات على الكفر والعياذ بالله والسبب نظرة! ما اتقى الله عز وجل فيها.

    ولذلك نبينا عليه الصلاة والسلام يحذرنا مرة بعد مرة من إطلاق البصر، وربنا جل جلاله يأمرنا بأن نغض أبصارنا. قال علماؤنا: من كثرت نظراته دامت حسراته، فالإنسان إذا أطلق بصره سيرى أشكالاً وألواناً وأموراً لا قبل له بها، فيورثه ذلك الحسرة، وعدم شكر النعمة، وقد وضع لنا النبي صلى الله عليه وسلم علاجاً، فلو أن الإنسان وقعت عينه على شيء فصرف بصره، فإذا وجد من أثر تلك النظرة شيئاً في قلبه، فليأت أهله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله، فإن معها مثل الذي معها )، فالإنسان إذا رأى امرأة فأعجبته فليأت زوجته في الحلال، والنساء كلهن سواء.

    والإنسان إذا غض بصره، رضي بما قسم الله له، أما إذا أطلق بصره، فإنه سيتسخط ويتضجر، وكثير من الخلافات الزوجية تجدون مردها إلى هذا الأمر، بأن الرجل أطلق بصره، أو أن المرأة أطلقت بصرها، أو هما معاً، هو يطلق بصره، وهي تطلق بصرها، فإنه إذا أطلق بصره، رأى من هي أجمل من زوجه، ومن هي أحسن قواماً، ومن هي أنعم شعراً، ومن هي أصبح وجهاً، وكذلك هي إذا أطلقت بصرها سترى رجالاً كثيرين، أصبح وجوهاً، وأمشق قواماً، وأفتل عضلات، وغير ذلك مما يعجب المرأة في الرجل، مثلما أن الرجل يرى ما يعجب الرجل من المرأة، فيورث ذلك نفرة، خاصة في زماننا لما كثرت الوسائل المرئية، فالإنسان ينظر إلى التلفاز، وينظر إلى الصحف والمجلات، وما إلى ذلك، فيرى ما يرى.

    1.   

    التفكر في نساء الجنة مما يعين على غض البصر

    إن الإنسان إذا فكر في نساء الجنة وما أعد الله لأهلها فإنه يتصاغر في عينه كل نعيم دنيوي، إذا تفكرت وقرأت قوله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة:22]، أي: بيض واسعات العيون، شديدات بياضها، شديدات سوادها، شفر الحورية منهن بمنزلة جناح النسر، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49]، رقتهن كرقة القشرة مما يلي البيضة.

    إذا تفكرت في أن الحور العين هؤلاء لا يبصقن، ولا يمتخطن، ولا يبلن، ولا يتغوطن، ولا يمنين، ولا يلدن، ولا يحضن، لا يصيبهن شيء من القذر مما يصيب نساء الدنيا، وإنما هن مطهرات كما أخبر ربنا جل جلاله.

    وأنهن: مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72]، مقصورات: أي: محبوسات، وأنهن: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ[الصافات:48]، أي: حابسات أنظارهن عن غير أزواجهن.

    وليست هي مشغولة بالذهب، ولا بالحرير، ولا بالقصور، ولا بالخمور، ولا بشيء؛ بل تقول لزوجها: ( والله ما في الجنة شيء أطيب ولا أحسن منك ) الآن لو أنك صحبت زوجتك إلى سوق الذهب، لا تكاد تنظر إليك، وإنما هي مشغولة بذهب الدنيا الذي قد يكون مغشوشاً! أما هذه في الجنة، فعندها الذهب، وعندها الحرير والإستبرق واللؤلؤ والحلي، وعندها القصور، والشجرة الواحدة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وقصرها في الجنة بناؤه لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، وملاطه المسك، وحصباؤه اللؤلؤ، وترابه الزعفران، لكنها مقبلة على زوجها تقول له: (والله! ما في الجنة شيء أطيب ولا أحسن منك) ثم تغني له: ( نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نموت، نحن المقيمات فلا نظعن ).

    وهي أيضاً لا تسافر، ولا تذهب عنك، ولا تشتغل بوالد ولا ولد، ولا بشيء، وإنما هي مقبلة عليك، فالإنسان إذا فكر في هذا النعيم الأخروي فإنه يحتقر نعيم الدنيا، ويتمتع به بقدر ما أباح الله له، ولا يتعدى ذلك إلى ما حرم الله عليه، فهذا هو الأمر الأول في الآية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ[النور:30]، وسيأتي مثله: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ[النور:31].

    1.   

    الأمور التي يحفظ منها الفرج

    ثم قال سبحانه: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ[النور:30]، وحفظ الفرج يكون من عدة أمور:

    أولها: حفظ الفرج من أن يرى، ففي حديث معاوية القشيري رضي الله عنه قال: ( قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال له: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك، قال: يا رسول الله! فأحدنا يكون خالياً.. )، أي: يجلس في مكان وحده، ( قال: فالله أحق أن يستحيا منه )، فعلى الإنسان أن يحفظ عورته من أن ينظر إليها غيره؛ ولهذا حرصت الشريعة على ذلك حتى في البول فالسنة أن يبول الإنسان جالساً، والسنة ألا يخلع ثوبه إلا بعد دنوه من الأرض، ولكن لو احتاج أن يبول قائماً فلا حرج؛ لأنه ثبت: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على سباطة قوم فبال قائماً )، إما لوجع في مأبضه عليه الصلاة والسلام، أي: في باطن ركبته، وإما لأن المكان ما ناسب أن يجلس فيه عليه الصلاة والسلام، فلا بأس أن يبول الإنسان قائماً إن احتاج بشرطين: الشرط الأول: أن يأمن الناظر، أي: أنه لا أحد يرى عورته، ثانياً: أن يأمن التلوث، فلا يرتد إليه بوله، ولا يتلوث بدنه ولا ثيابه.

    ثانياً: حفظ الفرج من الزنا، قال الله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ[الفرقان:68]، وقال الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7].

    ثالثاً: حفظ الفرج من اللواط، وفي القرآن الكريم أبدأ الله عز وجل وأعاد في ذكر قوم لوط، وقد وصمهم الله عز وجل بأنهم فاسقون، وأنهم عادون، وأنهم مسرفون، وأنهم مخبثون، وأنهم قوم سوء إلى غير ذلك من الصفات القبيحة، ونبيهم عليه الصلاة والسلام نعى عليهم، فقال لهم: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء:165-166]، وبلغ بهم عرام الكفر أن يقولوا لنبيهم: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء:167-169]، فنجاه الله عز وجل وأهله إلا امرأته، وأرسل إليه الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه، فجاء القوم إلى بيت لوط من أجل أن ينتهكوا عرض أولئك، فتألم لوط عليه السلام، ونظر إلى أولئك الشباب، فقال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، فقالت له الملائكة: يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ[هود:81]، يعني: لسنا من بني آدم، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ[هود:81]، يعني: اطمئن، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ[هود:81]، وأنزل الله بهم تلك العقوبة.

    رابعاً: يحفظ الفرج من الاستمناء، وهو: إخراج المني عمداً، وهو الذي كانت تسميه العرب: جلد عميرة:

    إذا حللت بواد لا أنيس به فاجلد عميرة لا عار ولا حرج

    هكذا كانوا يقولون!

    والشيخ محمد الأمين رحمه الله في الأضواء ذكر بأن شاباً أحمق، وكان عندهم جارية تسمى عميرة ، وعميرة هذه كانت تصيح فقيل له: ما شأنكم؟ قال: أمي تجلد عميرة.

    فيسمى الاستمناء، ويسمى جلد عميرة، والآن بلسان الناس يسمونه العادة السرية، فهذا كله ممنوع؛ لأن الله عز وجل قال: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:5-6]، ثم قال: فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ [المؤمنون:7]، أي: المعتدون المجاوزون لحدود الله.

    وورد في حديث رواه الإمام الحسن بن عرفة : عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما - وسنده ضعيف - : ( سبعة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، ويدخلهم النار أول الداخلين: ناكح يده، والفاعل، والمفعول به، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره ).

    والإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله في كتابه أحكام القرآن أطال في بيان هذه المسألة، ونقل عن بعض السلف بأنه سئل عنها، فقال: أف وتف! نكاح الأمة خير منه.

    ويدل على ذلك بأن هذه العادة القبيحة التي تسمى العادة السرية، لا تتأتى إلا إذا تخيل الإنسان صورة محرمة.

    وهذه العادة يذكر بعض الأطباء أن من أضرارها أنها تضعف الخلايا المخية؛ لأن الفاعل يحتاج إلى قوة مخيلة كبيرة.

    ومن أضرارها النفسية أن الإنسان دائماً يعيش مع الأوهام والخيالات، قالوا: ومن أضرارها العضوية أنها قد تسبب عجزاً جزئياً أو كلياً، قالوا: ومن أضرارها: بأنها تورث رعشة في الأطراف، وهذه الرعشة ليست غريبة ممن طعن في السن، يعني: إذا كان الإنسان عمره تسعين سنة، أو مائة سنة، فارتعشت يده فليس بغريب، لكن حين تجد ابن العشرين والثلاثين يحمل الكوب فترتعش يده فإن هناك أمراً غير سوي.

    خامساً: يحفظ الفرج من السحاق، الذي يكون بين النساء، وهذا كله داخل في قول ربنا: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ[النور:30]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يضمن لي ما بين لحييه -أي: اللسان- وما بين فخذيه -أي: الفرج- أضمن له الجنة )، وهذا يفسر قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي )، نصف الدين الذي هو الفرج، ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق، وما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال: الأجوفان: الفم والفرج )، فالفم من ناحية الكلام، ومن ناحية الطعام، والفرج لأن الإنسان يفعل به ما حرم الله عليه.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    صفة النظرة الشرعية للمخطوبة ومتى تكون

    السؤال: جزاك الله خيراً! نريدك أن تفصل لنا قليلاً في النظرة الشرعية، وخاصة للمرأة التي تنتقب، كيف تكون؟

    الجواب: لو نظرنا إليها نظرة واقعية، نقول: الأفضل أن ينظر إليها، لا في بيت أهلها، لكن بعلم أهلها قبل أن يخطبها؛ لأن الخطبة مترتبة على النظر، يعني: مثلاً سمع عن فلانة بأنها دينة خلوقة، فسأل: فكيف شكلها؟ فقيل له: جميلة، أو قيل له: مقبولة، ففي هذه الحالة لا يستطيع هو أن يحكم، فربما هي جميلة عندك وليست جميلة عندي، فيقول لأهلها: أنا أريد أن أمكن من النظر إليها، فالمفروض أن يهيئ أهلها له سبيلاً ينظر إليها دون أن تعلم؛ لأنه ربما لا تعجبه فيقول لأهلها: جزاكم الله خيراً، وينصرف دون أن يجرح شعورها، أو يخدش حياءها؛ لأنه لو قيل لها: جاء فلان يخطبك لكنه يريد أن ينظر إليك، فنظر إليها، وقال لهم: يفتح الله! فإنها في هذه الحالة سيضيق صدرها ويتغير مزاجها، ويدخل عليها من الغم ما الله به عليم.

    فالأفضل أن ينظر إليها بعلم أهلها لا بعلمها، والنساء يستطعن أن يدبرن سبيلاً في ذلك، أما إذا كانت منقبة، يعني: كان وجهها بادياً فالأمر في ذلك سهل، والحمد لله رب العالمين.

    ملك اليمين وتوهم دخول الخادمات فيه

    السؤال: هل في هذا الزمان ملك يمين؟ وقد يظن البعض أن الخادمات ملك يمين، فما حكم ذلك؟

    الجواب: من ظن أن الخادمة ملك يمين فهذا متلاعب بالدين؛ لأن ملك اليمين ما عنده إلا سبب واحد وهو الكفر، يعني: حصلت حرب بين المسلمين والكفار، ونحن كمسلمين منهيون عن قتل النساء والأطفال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وجه جيشاً، قال لهم: ( اغزوا بسم الله، على بركة الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً وليداً، ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً مثمراً، ولا تخربوا عامراً، ولا تعقرن بعيراً إلا لمأكلة )، إلى آخر ما يقول عليه الصلاة والسلام.

    وهؤلاء النساء اللاتي أخذن أسيرات، تأمرنا الشريعة بأن نحسن إلى الأسير، وأن نطعمه، وألا نكلفه فوق طاقته إلى غير ذلك من التعاليم.

    والمرأة ليست حاجتها فقط طعاماً وشراباً، وإنما هناك الحاجة الفطرية، في هذه الحالة تبيح الشريعة لهذا الذي وقعت المرأة في قسمه، أو في سهمه بأن يستمتع بها استمتاع الأزواج، ولا تسمى زوجة، وإنما تسمى ملك يمين، فإذا استولدها صارت أم ولد، وقبل أن يستولدها يصح له أن يهبها، ويصح له أن يبيعها.

    أما الآن فإن هذا الكلام غير موجود في دنيا الناس؛ ولذلك لا يوجد ملك يمين، ومن ظن أن الخادمة ملك يمين فقد ظن ظن السوء، وقال على الله ما لا يعلم، فإن الخادمة مستأجرة، شأنها شأن أي إنسان، مثلما تستأجرني لعمل من الأعمال مثلاً، وأستأجرك لعمل من الأعمال، كذلك الخادمة مستأجرة، تعطى لها أجرة، وتعامل معاملة الأجير وفق أحكام الإجارة المبينة في شريعة الإسلام.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756223192