بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فقد تبين أن سبب نزول هذه الآيات المباركات أن امرأةً من الأنصار شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ( يا رسول الله! إني أكون على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي، ولا يزال رجل من أهلي يدخل علي وأنا على تلك الحال، فنزلت هذه الآية: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، فقال أبو بكر : يا رسول الله! أرأيت الخانات والمساكن التي في طريق الشام؟ فأنزل الله عز وجل قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29] ).
ومعلوم أن البيوت نعمة من نعم الله علينا، فالإنسان يستر فيها عورته، ويخلو فيها بأهله، ويتخفف فيها من ثيابه، ويباشر فيها حياته وهو آمن من أن يطلع عليه الناس، وقد امتن ربنا جل جلاله علينا بهذه النعمة، فقال سبحانه في سورة النحل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ [النحل:80]، فهذه البيوت لها حرمتها، ولذلك ثبت في صحيح مسلم من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم حل لهم أن يفقئوا عينه )، وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث: هل هو على ظاهره، أو ليس كذلك؟ فبعضهم قالوا: ليس على ظاهره، وإنما خرج مخرج التهديد والوعيد لمن يتجسس على الناس ويتطلع عليهم بغير إذن منهم.
قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: والصحيح أن الحديث على ظاهره، فمن اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه لم يكن عليهم دية ولا ضمان قال: ويدل على ذلك حديث أنس في صحيح البخاري : ( أن رجلاً قال لرسول صلى الله عليه وسلم: لقد اطلعت عليك من بعض حجرك وفي يدك مدرىً ترجل به رأسك )، المدرى: ما يستعمل في ترجيل الرأس كالمشط ونحوه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( لكنني لو رأيتك لطعنتك في عينك )، وهذا كلام من الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم وهو أرحم الناس بالناس، وهذا يدل على عظم جرم من اطلع على بيت الناس بدون إذن أو بدون علم منهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إنما جعل الاستئذان من أجل النظر )، وقال عمر بن الخطاب : من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق.
ولذلك مضى معنا في آداب الاستئذان أن الإنسان إذا طرق باباً أنه لا يقابله من تلقاء وجهه، وإنما يتنحى يميناً أو شمالاً حتى يؤذن له.
مضى معنا من الآداب: أن ( الاستئذان ثلاث مرات، فإن أذن لأحدكم وإلا فليرجع )، وهذا المعنى قد رواه أبو موسى الأشعري ، و أبو سعيد الخدري ، و أبي بن كعب رضوان الله على الجميع، ( لما جاء أبو موسى يستأذن على عمر بن الخطاب فطرق الباب ثلاثاً ثم رجع، فقال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ قالوا: بلى، فطلبوه فأرجعوه، قال له عمر : ما الذي ردك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لأحدكم وإلا فليرجع. فقال له عمر : لتأتيني ببينة أو لأجعلنك نكالاً -أو قال: لأوجعنك ضرباً- فجاء أبو موسى مذعوراً، فضحك منه الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد ، وشهد عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لأحدكم وإلا فليرجع. فقال عمر رضي الله عنه: ألهاني عنه الصفق بالأسواق )، يعني: ألهاني عن هذا العلم الذي سمعتموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أني كنت مشغولاً في الأسواق.
وفي بعض الروايات: ( أن أبي بن كعب قال له: يا ابن الخطاب ! لا تكن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر : إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت )، فاعتذر بأنه ما اتهم أبا موسى رضي الله عنه، ولكنه كره أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أن يتثبت من هذا الحديث الذي رواه عبد الله بن قيس عليه من الله الرضوان.
الاستئذان مطلوب حتى على الأرحام، بل حتى على المحارم، فلا يذهب أحدٌ إلى بيت خالته مثلاً، فيدخل ويقول: هذه خالتي، أو هذه عمتي، أو هذا عمي، أو هذا خالي؛ بل حتى لو كان بيت أبيك وأمك، وأنت لست معهم فمطلوب منك أن تستأذن؛ ولذلك لما قال رجل: ( يا رسول الله! أستأذن على أمي؟ قال: نعم، قال: ليس لها خادم غيري، قال: استأذن عليها، فقال: يا رسول الله! إنها أمي، فقال له صلى الله عليه وسلم: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن عليها ).
كذلك الإنسان لو ذهب إلى بيت ابنه أو بنته فإنه يستأذن؛ لأن الآية عامة قال تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، أي: حتى تستعلموا وتستخبروا وتستكشفوا، فـ(حتى تستأنسوا) من الاستئناس الذي هو ضد الاستيحاش، أي: حتى تشعروا بالأنس، قال تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27].
وقد مضى معنا أن السلام مقدم على الاستئذان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( لما جاءه رجل فقال: أألج؟ قال لخادمه: اخرج فعلمه الاستئذان، قل له: فليقل: السلام عليكم، أألج؟ )، يعني: يقدم السلام قبل الاستئذان.
وقوله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، يخاطب بها الصغير أيضاً، فالصغير نعلمه إذا ذهب إلى بيوت الناس أن يستأذن، ولذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم أنساً أن يستأذن، وقد كان أنس رضي الله عنه إذ ذاك غلاماً صغيراً؛ لأنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان أنس ابن عشر سنين، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أنس ابن عشرين سنة، يقول الله عز وجل: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27].
وهاهنا ذكر العلماء مسألةً: لو أن إنساناً أرسل إلى إنسان رسولاً، كأن أرسلت ولدك، فقلت له: ادع فلاناً ليأتينا، فهل إرسالك لهذا الرسول يعد إذناً أم لا بد من إذن جديد؟ الصحيح أنه لا بد من الاستئذان، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي إليه قدح من لبن، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام أبا هريرة وعرف ما به من الجوع )؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه ما كان له مال، وإنما كان يصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على طعام بطنه، يقول رضي الله عنه: ( كنت أجوع حتى ألصق كبدي بالأرض من شدة الجوع، فيأتي الرجل فيقعد على صدري يظن أن بي صرعاً، فأقول: يا عبد الله! ما بي شيء مما تظن، إنما هو الجوع )، يعني رقدتي على الأرض أو تقلبي على الأرض سببه الجوع ليس إلا، قال: ( فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فعرف ما بي من الجوع، فقال: أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: اتبعني، قال: فتبعته حتى دخل بيته، فإذا عس من لبن، فسأل أهله، فقالوا: أرسل به آل فلان من الأنصار ) أبو هريرة رضي الله عنه توقع أن النبي صلى الله عليه وسلم سيهدي إليه ذلك اللبن، أو سيتقاسمه معه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( اذهب فادع أهل الصفة ) وهم فقراء المهاجرين الذين كانوا ينامون في المسجد، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ( فقلت في نفسي: وما يصنع هذا القدح بأهل الصفة؟ أما كنت أنا أولى بهذه الشربة؟ ولم يكن من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بد )، أي: لا يستطيع أن يناقش الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقول له: والله اللبن هذا ما يكفي، أنا وأنت نشربه ( لم يكن من أمره بد، قال: فذهبت فدعوتهم فجاءوا جميعاً -أي: لم يعتذر منهم أحد- قال: فاستأذنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهذا هو محل الشاهد، بأنهم ما اكتفوا بمجيء أبي هريرة وإنما جاءوا معه فاستأذنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فأذن لهم، ثم قال: يا أبا هر ! اسقهم )، ومعلوم بأن ساقي القوم آخرهم شرباً، ( فبدأ أبو هريرة رضي الله عنه يسقيهم، يقول: وأنا أنظر إلى القدح والله ما أدري أيزيد أم ينقص؟ قال: حتى شربوا جميعاً، فمددته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اجلس، فجلست، فقال لي: اشرب، فشربت، ثم مددته إليه فقال: اشرب، فشربت، ثم مددته إليه، فقال: اشرب، فشربت فلم يزل يقول لي: اشرب اشرب اشرب حتى قلت: والله لا أجد له مسلكاً يا رسول الله! فأخذه فسمى الله فشرب وكان آخر القوم شرباً عليه الصلاة والسلام ).
إذاً لو أنك أرسلت ولدك من أجل أن يستدعي رجلاً فمجرد ذهابه لا يعد إذناً، بل لا بد لهذا القادم أن يستأذن؛ لعموم الآية: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27].
ولو أن صاحب البيت سأل فقال: من؟ ينبغي أن تعرف نفسك تعريفاً كاملاً أنا فلان ابن فلان، ويكره لك أن تقول: أنا؛ لأن (أنا) لا يحصل بها تعريف، وإذا استأذنت على قوم فينبغي أن تستأذن بما لا يضجرهم، وينبغي أن يكون الدق خفيفاً، كما قال أنس بن مالك : ( كنا نقرع باب النبي صلى الله عليه وسلم بالأظافير ).
قال أهل العلم: ومن أدب الاستئذان: أن يكون بين المرة والمرة فسحة، فلا تدق دقاً متوالياً وإنما تتريث من أجل أن ينتبه إذا كان نائماً، ومن أجل أن يفرغ إذا كان يقضي حاجته، ومن أجل أن يفرغ إذا كان يصلي، ومن أجل أن يتهيأ له أن يستعد لاستقبالك، فالمرة الأولى بها يعلمون، وبالمرة الثانية حذرهم يأخذون، وبالمرة الثالثة يأذنون أو يردون، فالاستئذان ثلاث، وهذه الثلاث متدرجة وليست متتابعة.
وقد اختلف أهل العلم فيما لو غلب على ظنه أنهم لم يسمعوا، أيحل له أن يزيد على الثلاث أو لا؟ مثلاً: الحمد لله الآن بيوتنا كبيرة، ونسأل الله المزيد من فضله، ولربما يعلم الطارق من حال أهل البيت أنهم يجلسون في قعر بعيد، غلب على ظنه بأن الدق لم يسمعوه، قد طرق عليهم ثلاثاً فما أجابوه، فهل يحل له أن يزيد على الثلاث أم لا؟
الجواب: أن عموم النص يدل على عدم جواز الزيادة على الثلاث، سمعوا أم لم يسمعوا، أجابوا أم لم يجيبوا، فتستأذنون ثلاثاً، فإن أذنوا فبها، وإلا فارجعوا هو أزكى لكم، ولم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم بما إذا سمعوا أو لم يسمعوا.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر