إسلام ويب

تاريخ القرآن الكريم [2]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يعتمد منهج المسلمين في دراسة تاريخ القرآن على تعظيم القرآن، والتحقيق في الآثار المتعلقة بتاريخ القرآن، وأما دراسة المناوئين للقرآن فإنهم يعمدون إلى الطعن فيه، ولذلك يستخدمون عدة مناهج لتحقيق غرضهم، منها: المنهج الإسقاطي، والافتراضي، ودعوى التناقض في الآثار، والاعتماد على الآثار الباطلة، ودعوى الحيادية المزعومة وغير ذلك.

    1.   

    المراد بمصطلح تاريخ القرآن

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

    أما بعد:

    فهذا هو الدرس الثاني في موضوع تاريخ القرآن، وقد أخذنا في الدرس السابق بعض المواضيع المتعلقة بتأصيل هذا المبحث، وقد أخذنا موضوع الوحي وما يتعلق به، ثم ذكرنا ما يتعلق بالإشارة إلى القرآن في الكتب السابقة، ثم ذكرنا ما يتعلق بالفرق بين القرآن وبين الكتب السابقة، ثم تحدثنا عن تعريف القرآن أو ما يسمى بمصطلح القرآن، وهل هناك مشكلة في تعريف القرآن، ثم ذكرنا بعض ما يتعلق بأسماء القرآن وأوصافه.

    ومن باب الفائدة فيما يتعلق بأسماء القرآن وأوصافه وهي مسألة فيها كلام، لكن التحرير فيها قليل.

    أقول: إنه لا يؤثر على القرآن من أي جهة من جهاته الاختلاف في: هل هذا اسم وهل هذا صفة؟ لا يؤثر في ذات القرآن وإنما التأثير فيه كمسألة علمية هل هذه بالفعل من الأوصاف أو من الأسماء.

    وهناك فائدة أخرى وهي: عن الأثر والنتيجة للقضية العلمية التي نناقشها، أي: هل لها أثر ونتيجة فإن قلنا بالإيجاب فما هي النتيجة وما هو الأثر؟ وإن قلنا بالسلب فما هي النتيجة وما هو الأثر سواءً كانت نتيجة عليمة أو نتيجة عملية؟

    ثم النظر إلى الأثر العلمي، هل هذه المسألة لها أثر في القضية العلمية التي نناقشها أم لا؛ لأنه قد يكون لها أثر علمي، لكن ليس محطها القضية العلمية التي نناقشها، فهذه أمور يجب أن ننتبه لها ونحن نناقش هذه القضايا المرتبطة بتاريخ القرآن أو ما يمكن أن نقول عنه: نقل القرآن.

    نبتدئ بالموضوع الذي سيكون تتمة لما ذكرته سابقاً وسيتركز على مسألتين: ما المراد بمصطلح تاريخ القرآن؟ فقد يسأل سائل ويقول: ما المراد بمصطلح تاريخ القرآن؟ وما الفرق بين تاريخ القرآن وبين علوم القرآن وبين علوم التفسير؟ أي: عندنا مصطلحات تتكرر وقد تكون متقاربة، وقد تكون متداخلة أحياناً، فاضطررنا إلى أننا نناقشها كمصطلح، أي: ما المراد بتاريخ القرآن؟ ولماذا نذكر هذا المصطلح بالذات ولم نذكره بأسلوب آخر؟

    وهذه التسمية بالذات؛ لأن هذا المصطلح صار يستخدم حتى كاد يكون مختصاً بأهل الاستشراق وغيرهم، وهذا ليس بصحيح؛ لأن القرآن وما يتعلق به من تاريخ، الأصل أن يكون المتحدث عنه هم أهل الاختصاص من أهل الإسلام، ولكن لما طرق هذا الموضوع من فئات متعددة وبعضهم ليس من أهل هذا الدين أصلاً، فإننا نريد أن نوضح أن ما يتعلق بما ذكروه بهذا المصطلح الذي اسمه: تاريخ القرآن هو في الحقيقة من حيث المصطلح ليس فيه إشكال، لكن المشكلة فيما طرحوه في هذا الموضوع.

    فلو تأملنا الموضوعات التي طرحت في تاريخ القرآن فسنجد أنها تكلمت عن هذا الموضوع إما عن مصدره وإما عن جمعه وتدوينه ورسمه وقراءاته، وإما عن المصاحف المكتوبة سواءً كانت المصاحف القديمة أو المصاحف المتأخرة، وإما عن تاريخ طباعته، وإما عن ترجمته، فجملة هذه الموضوعات كلها تدخل ضمن تاريخ القرآن، وإذا تأملنا هذه الموضوعات فسنجد أنها في الحقيقة جزءاً من علوم القرآن التي ندرسها من خلال علوم القرآن، لكن ليس بهذه الطريقة التي نعرضها اليوم؛ لأننا حينما نتكلم عن علوم القرآن نعرضها من جهة التقرير، أما هنا فسنناقشها من جهة التقرير، وقد نضطر أحياناً إلى مناقشة بعض الأفكار الخاطئة في هذا الموضوع.

    كيف يدرس تاريخ القرآن؟

    1.   

    الكتب المؤلفة في تاريخ القرآن وبيان مناهجها

    إذا رجعنا إلى الكتب التي كتبت حول هذا الموضوع سواءً بهذا العنوان أو بغيره، فنقسم مراحل تدريسه إلى مرحلتين: الكتب المتقدمة التي لعلمائنا المتقدمين، والكتب المعاصرة.

    فإذا نظرنا إلى كتب العلماء المتقدمين فيمكننا أن نقسمها من جهة العناوين إلى أقسام، فمثلاً: نجد أن بعض العلماء كان لهم كتب فيما يتعلق برسوم هذه المصاحف، أي: كيف كتبت هذه اللفظة، وكيف كتبت في هذا المصحف، وهل هناك إجماع على هذا الرسم أم لا؟ فهذه نسميها رسوم المصاحف.

    فمن الكتب التي كتبت عند علمائنا المتقدمين كتاب لـسهل بن محمد بن عثمان السجستاني اللغوي البصري توفي سنة مائتين وخمسين، له كتاب اسمه: اختلاف المصاحف، ويعتبر هذا الكتاب من أوائل كتب المتقدمين، وهذا الحصر ليس حصراً نهائياً وإنما نذكر منه أمثلة.

    ونجد أيضاً محمد بن عبد الله بن محمد الأشجه ، وله كتاب مشهور باسم اختلاف المصاحف، توفي سنة ثلاثمائة وستين، وقبله محمد بن بشار بن الأنباري له كتاب في الرد على من طعن في مصحف عثمان ، وهو في رسوم المصاحف، و ابن مقسم اللغوي المقرئ المشهور محمد بن الحسن بن يعقوب توفي سنة ثلاثمائة واثنتين وخمسين له كتاب أيضاً بعنوان: المصاحف.

    فإذا دخلنا إلى قرن متأخر عنهم، في أواخر القرن السادس، فسنجد لـمحمد بن محمود السمرقندي كتاباً بعنوان: إيضاح في رسم المصاحف.

    وهناك كتب كثيرة مؤلفة في اختلاف المصاحف، منها ما هو قديم، ومنها ما هو متأخر، ويمكن الرجوع إلى كتب مثل كتاب الفرست لـابن النديم ، والمعاجم التي هي كشف الظنون وغيرها، ستجدون جملة كبيرة جداً مما يتعلق برسوم المصاحف، فهذه الكتب التي كتبها العلماء في رسوم المصاحف يمكن أن نقول: إنها سارت على منهجين:

    المنهج الأول: منهج الجمع والتقدير

    المنهج الأول: منهج الجمع والتقرير.

    والمنهج الثاني: منهج الرد على الخصوم، مثلما كان عند ابن الأنباري وهذه الكتب سواء كانت منهج الجمع والتقرير أو منهج الرد على الخصوم تجمع ما يتعلق بالاختلاف في رسوم المصاحف؛ فأي كاتب يكتب ما يتعلق برسم المصحف لا بد أن يتعرض للاختلاف في رسوم المصاحف.

    هل وقع الاختلاف في رسم المصحف أم لم يقع؟

    نقول: الاختلافات في رسوم المصاحف وقعت وسيأتينا إن شاء الله تحليل سبب هذه الاختلافات عندما نتكلم عن جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه، لكن الكلام الآن هو عن المنهج العام الذي سارت عليه هذه الكتب.

    هذه الكتب خصوصاً المتقدم منها التي كانت في عصر الإسناد كانت تعتمد على الإسناد، وكان بعضها يعتمد على الجمع دون التحرير، بمعنى: أنها لم تلتزم الصحة، فقد كانت تعتمد على الجمع، ولم يكن من مقاصد مؤلفيها النظر في الآثار الصحيحة من غيرها، ولهذا يمكن أن نجد في مثل كتاب المصاحف لـابن أبي داود وهو مطبوع، له طبعات متعددة وأول من أخرجه المستشرق، لما نتأمل في هذا الكتاب لا يمكن أن نجعل كل ما ورد فيه صحيحاً، وكذلك ليس كل ما ورد فيه باطلاً، ففيه الصحيح والضعيف الذي لا يحتج به.

    وهنا يجب أن ننتبه إلى منهج العلماء؛ لأن بعض المعاصرين خاصة بعض طلبة العلم في الجامعات الذين صارت عندهم القضايا العلمية يمكن أن نمثلها في: إما وإما، يعني: إما أن يكون أبيض وإما أن يكون أسود، تجد بعضهم لما يحرر مثل هذا الكتاب أو ينقد هذا الكتاب يعنف على المؤلف إيراده للآثار الباطلة والضعيفة و.. و.. إلى آخره، التي اعتمد عليها أعداء الإسلام.

    وهذا الانتقاد لما كتبه العلماء فيه نظر؛ لأننا أولاً: لا بد أن ننظر إلى منهج المؤلف ومراده.

    ثانياً: بعدما ننظر إلى منهج المؤلف ننظر إلى هل بالفعل كان بهذا الكتاب أثر أو أن الأثر جاء عند المعاصرين، والمعاصرون ليسوا حجة؛ لأن كثيراً من المعاصرين خصوصاً من يريد إبطال دين الإسلام يعتمد على الأباطيل للإسقاط.

    فقصدي من ذلك كونهم يجدون في كتاب ابن أبي داود أثراً أو أثرين أو عشرة، ويعتمدون عليها ليس الخطأ منه، وإنما الخط والخلل ممن يستفيد من هذه ويدرسها بهذا الأسلوب.

    فالذي أريده أن يكون عندنا نظرة متوازنة متعادلة في التعامل مع تراث العلماء، وإلا فـابن أبي داود من المحدثين ولا يجهل أن هذا الحديث ضعيف، وبعض الحديث أشد ضعفاً، وهذا الحديث متكلم فيه، وهذا الأثر فيه من كلام كذا، هذا لا يجهله.

    لكنه فعل هذا لمنهجية معتادة معتمدة عند العلماء قديماً، وهي منهجية الجمع؛ لأنه قد يكون هذا الحديث الذي تكلم فيه من جهة ما له طرق أخرى، ويستفاد من هذا الذي جاء، أيضاً قد يستفاد من هذه الأحاديث الباطلة إثبات أنها باطلة، بحيث أنه إذا استشهد أحد بحديث ما نقول: هذا الذي استشهدت به لم يروَ إلا من هذا الطريق وهو موجود عند ابن أبي داود وهذا الحديث متكلم فيه بكذا وكذا وكذا.

    فإذاً: هذه المنهجية التي كان يسلكها هؤلاء ليس عليها أي إشكال، لكن الإشكال جاء عندنا نحن؛ لأننا لم نستطع أن نتعامل مع هذه الكتب، ونتعامل مع مناهج العلماء المتقدمة؛ لأن طريقتنا في التعلم والمنهجية التي نسلكها اليوم منهجية في كثير من الأحيان، وأعتذر عن كلمة كثير؛ لكنها في كثير من الأحيان تكون منقطعة عن طريقة العلماء المتقدمين، فيقع التصادم عندنا نحن وإلا فالذين كتبوا أولاً من علمائنا لم يكن عندهم مثل هذه المشكلة.

    ولا يفهم مني فاهم أن هذا يعني عصمة كل ما كتب، ولكني أتكلم عن جمهور مناهج العلماء المتقدمين، وكيفية التعامل معهم، وأيضاً لا يفهم من ذلك أننا لا ننتقد الآثار الواردة في كتاب المصاحف لـابن أبي داود أو غيره من الآثار التي فيها ضعيف شديد وأن نعتمد عليها، هذا لا يفهم من كلامي، وإنما قصدت أن ننتبه للمنهجية العامة في هذا الموضوع، وأرجو أن يفهم الكلام على ما أردته؛ لأنه أحياناً بعض الناس يقول مثل هذا ويبني عليه أنه يجوز أن نأخذ بالضعيف والموضوع في مثل هذه الأمور، وهذا ليس بصحيح فليس مرادي هذا، وإنما مرادي أن ننتبه للمنهجية العامة التي كان يسير عليها العلماء، وألا ننتقد هذه المنهجية؛ لأننا افترضنا لأنفسنا منهجية جديدة، صحيح لو جاء أحد المعاصرين وأراد أن يكتب وكتب على هذه المنهجية القديمة يمكن أن يعترض عليه بأن أسلوب الكتابة ومنهجية الكتابة اختلفت الآن، وصار القصد إلى تحديد الآثار واردة، أما مع العلماء المتقدمين فيجب أن نأخذ كتبهم بالنظر التاريخي الذي كان يعيشه هذا المؤلف، ومنهجه الذي سلكه فيه.

    النوع الثاني: منهج الرد على المخالف

    النوع الثاني من الكتب هو: كتاب الرد على من خالف مصحف عثمان لـابن الأنباري ، وهذا الكتاب كتاب كما نلاحظ رد، لكنه أيضاً يعمد إلى الآثار ويناقشها، وهذا الكتاب مع الأسف غير موجود، والموجود منه نقول فقط لا تكفي لإعطاء صورة متكاملة عن هذا الكتاب، ولا عن سبب تأليفه، لكن ظاهر جداً منه أن هناك من تكلم فيما يتعلق برسم المصحف و ابن الأنباري تصدى للرد عليه.

    ومن الكتب أيضاً التي تدخل في هذا الباب وهو: باب اختلاف المصاحف بعض الكتب المتقدمة أيضاً التي كتبت في فضائل القرآن قد تشير إلى اختلاف رسوم مصاحف ولا يوجد عندنا لكي نذكره إلا كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام فضائل القرآن؛ لأنه خصص جزءاً منه لما يتعلق باختلاف رسوم المصاحف، ويذكرها بالسند.

    أيضاً من الكتب الكتب التي كتبت في الانتصار للقرآن، والانتصار مناهج العلماء فيه على أنواع، قد يكون أحياناً انتصاراً لنظمه، وقد يكون انتصاراً لما يتعلق برسمه، فعندنا مجموعة من الكتب بهذا العنوان، فيحتمل أن تكون من هذا الباب، ويحتمل أن تكون من باب غيره.

    من أمثلة كتب الانتصار كتاب: الانتصار لـابن أخشيد وهو: أبو بكر أحمد بن علي البغدادي المعتزلي، له كتاب في الانتصار للقرآن، يعني: في النقل، توفي سنة ثلاثمائة وست وعشرين.

    بعده يأتينا كتاب مهم جداً وقد طبع جزء منه كتاب الانتصار لنقل القرآن لـلباقلاني توفي أربعمائة وثلاث وهو من فضلاء الأشاعرة، وقد كتب هذا الكتاب للرد على من طعن في نقل القرآن، وهذا الكتاب عمدة لما جاء بعده في النقاش أو في الجدل العقلي للرد على أمثال هؤلاء؛ لأن الباقلاني رحمه الله تعالى المنهج العام عنده في كثير من كتاباته كانت المنحى العقلي، وفي هذا الكتاب نحى نفس المنحى لكن باعتماد الأثر، فهو كتاب مفيد، وأقول: إنه من المفيد جداً دراسة المنهج الجدلي في الرد على من طعن في نقل القرآن من خلال كتاب الباقلاني ، يعني: كيف نجادل من طعن في نقل القرآن ؟ ندرس كيف تعالم الباقلاني مع هؤلاء، ونستخرج من المنهج الجدلي الباقلاني في هذا الكتاب، لأنه يمكن أن نستفيد منه حتى في هذا الوقت.

    وعندنا أيضاً من المصادر التي تتعلق بهذا الموضوع: كتب علوم القرآن، ونلاحظ أن جل الموضوعات التي تناقش في تاريخ القرآن هي في الحقيقة جزء من علوم القرآن لا تنفك منه؛ ولهذا تجد من كتب في تاريخ القرآن بهذا المصطلح لا يمكن أن ينفك من كتاب الإتقان لـلسيوطي ؛ لأنه أكثر انتشاراً، ومثله كتاب البرهان، ومثله أيضاً: الزيادة والإحسان لـابن عقيلة ، فكتب علوم القرآن عموماً المتقدمة والمتأخرة هي في الحقيقة مصدر من مصادر تاريخ القرآن، أو ممكن أن نقول: إنها تكلمت عن جزء كبير مما يتعلق بقضية تاريخ القرآن.

    بعض الكتب المعاصرة في تاريخ القرآن

    وقريب من هذا العصر بدأت تخرج كتب بهذا العنوان: تاريخ القرآن، عندنا كتاب منسوب لـموسى جار الله رستف دوني الروسي، له كتاب في هذا وقد طبع عام ألف وثلاثمائة وثلاث وعشرين في المطبعة الإسلامية ببطرس برق.

    ومن الكتب الأقرب معاصرة عندنا وأهم كتاب يمكن أن ننتبه له هو كتاب للمستشرق نول دكة بعنوان: تاريخ القرآن، وهذا الكتاب يعد عند المستشرقين ككتاب سيبويه عند النحاة، المصدر الأول في النحو، يعني: قيمته العلمية كبيرة، أيضاً بالنسبة للمستشرقين القيمية العلمية لكتاب نول دكة تاريخ القرآن قوية جداً، بل إنهم يعتمدون عليه ويرونه فتحاً، بل إن هذا الكتاب لما كتبه نول دكة وكان كتبه وعمره خمس وعشرون سنة، في مسابقة وفاز بهذه المسابقة، لما كتب هذا الكتاب أحدث نقلة تاريخية نوعية في الكتابة عن تاريخ القرآن للمستشرقين الذين جاءوا بعده، فصارت جل دراساتهم تدور حول أفكار نول دكة هذا، ولهذا الكتاب هو في الحقيقة نقض لكل الدراسات التي قامت عليه.

    ومن باب الفائدة هذا الكتاب إذا قرأه المسلم يلاحظ فيه الخلط الكثير، ويلاحظ فيه أشياء كثيرة، سآتي إن شاء الله إلى ذكر المنهجيات التي كان يستخدمها المستشرقون في تناولهم ما يتعلق بتاريخ القرآن.

    كذلك أيضاً تاريخ القرآن لـمحمد طاهر الكردي ، وهذا الكتاب في بعض قضايا علوم القرآن مرتبطة به وأخص ما فيها كان عما يتعلق برسمه، و محمد طاهر الكردي رحمه الله تعالى كان خطاطاً فاعتنى كثيراً بما يتعلق بقضية الرسم.

    ومن الكتب أيضاً المعاصرة وهو قريب جداً كتاب مدخل إلى القرآن الجزء الأول منه التعريف بالقرآن للدكتور محمد عابد الجابري ، وهذا الكتاب فيه محاولة طرح جديد لدراسة تاريخ القرآن على نمط الدكتور محمد الجابري في نقاشه للتراث أو للعقل العربي، والقضية التي ظهر بها بفلسفته الجديدة، فانتقد ما يتعلق بتاريخ القرآن بهذه الطريقة.

    والآراء التي طرحها هذه ليست الآن موضوعنا، لكن أقصد أن هذه من الكتب التي طرحت ما يتعلق بتاريخ القرآن، ولعلي آتي إلى بعض الملحوظات على هذه المنهجية التي سلكها في هذا الموضوع.

    1.   

    المناهج في دراسة تاريخ القرآن

    نأتي الآن إلى قضية المناهج في دراسة تاريخ القرآن:

    القرآن في نظر المسلمين

    لو نظرنا إلى الكتاب لهذا الموضوع، فإذا كان من المسلمين فما هي نظرة المسلمين للقرآن؟ وكيف يتلقون الأخبار؟

    وهذه قضية مهمة جداً، المستشرقون لم يحرصوا على الاعتناء بها؛ لأنهم لو اعتنوا بها اعتناءً حقيقياً لأوصلتهم إلى رفض كثير من آرائهم التي أقاموها؛ ولذا أقول: إنه من المهم جداً أن ننتبه إلى هذه القضية المنهجية، التي هي: كيف يتلقى المسلمون القرآن والسنة؟ كيف يتلقون هذا العلم؟

    طريقة تلقيهم لهذا العلم لم يحرص المستشرقون ولا غيرهم على دراستها، وإنما كانوا يشككون في أفراد مما يتعلق بهذه القضية ليسقطوا كليات، والذي يؤسف عليه ليس أن يفعل هؤلاء هذا، وإنما الذي يؤسف عليه أن يوجد أحياناً عندنا نحن طلبة العلم من يتشرب مثل هذه الأمور فتقع مشكلة في هذا.

    فإذاً أقول: إنه يجب أن ننتبه إلى هذا الأمر، فلا يوجد مسلم يخالف في تقديس القرآن، وأنه منزل من عند الله؛ لأنه لا يمكن أن يكون مسلماً وهو ينكر هذا.

    فإذاً: هذه النظرة من المسلمين وطريقة تلقي القرآن عندهم والسنة قضية كلية، ويمكن أخذها واستلهامها من خلال القراءة في طبقات التراجم وفي طريقة تدوين القرآن وطريقة تدوين السنة، وهي طريقة كبيرة جداً جداً لا يدانيها أي عمل من أعمال البشر في وقتهم، فلو جئت إلى كل الحضارات التي كانت حولهم أو التي كانت قبلهم لا يوجد ما يداني ما عمله المسلمون في تدوين كتابهم، وتدوين سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

    وهنا إشكالية لا بد من ذكرها فيما يتعلق بالمسلمين، وهي رأي الرافضة في نقل القرآن، فالرافضة مختلفون في نقل القرآن هل القرآن الموجود هذا كامل أو ناقص؟ يتفقون في أن الموجود الآن من القرآن لكنهم يقولون: إنه ناقص، فهم يدعون النقص، طبعاً ليس كل الرافضة، ولكن هناك جمهور من الرافضة يرون هذا، فإذا جئت تناقش هؤلاء دخلت في مشكلة التقية عندهم، وأحسنهم حالاً من إذا احتججت عليه برأي فلان أو علان يقول لك: هذا رأيه وأنا لا ألتزم به، مع أن عندهم مقدمات لا يمكن أن تسهم في هذه النتيجة؛ فعندهم أن رأي بعض الأئمة لا يجوز تجاوزه، فإذا نقلت له رأي أحد أئمتهم اعتذر لك أن هذا رأي فلان وأنا لا أتحمل هذا الرأي ولا أقبله.

    إذاً: ليس عندهم في هذا الموضوع قضية النقل والاعتماد على المنقول، إنما هو تهرب، وإلى اليوم وهم يتهربون من هذا ويتخوفون منه، فإن كانت لهم سطوة أخرجوا ما يزعمون بأنه مصحف فاطمة أو غيره، وإذا لم يكن كمنوا وخمدوا.

    فالمسألة مع الرافضة والكلام معهم أنا لا أرى أنها تجدي، وليس هذا نقاشنا اليوم، لكني أردت أن أشير إلى أنه لا يمكن تجاوز هذه النقطة والتنبه لها، وأنه ما زال جمهور من الرافضة يرون هذا الرأي، لا نستطيع أن نعمم، لكن نقول: جمهور من الرافضة يرون هذا الرأي، ويرون أن المصحف الذي بين أيدينا ناقصاً، ولا شك أن هذا كلام باطل وليس عليه أي دليل، وإن كانوا يعتمدون على أحاديث عندنا بالنسبة لنا صحيحة وغير صحيحة، لكنهم يعتمدون عليها من باب التشبيه والتدليس، وستأتي إشارة إن شاء الله إليها حين نتكلم عن القراءات الشاذة والقراءات المنسوخة بإذن الله.

    منهج أهل الإلحاد في دراسة تاريخ القرآن

    عندنا أيضاً من الدارسين أهل الإلحاد سواءً من المتقدمين مثلما ذكرنا ردود بعض العلماء عليهم أو من المعاصرين، ولو تأملتم الإنترنت اليوم ستجدونه طافحاً مليئاً بكلام هؤلاء فيما يتعلق بقضية القرآن ونقل القرآن.

    وأهل الإلحاد المشكلة فيهم أنهم حينما يدخلون إلى هذا الموضوع أو غيره ليس مرادهم الوصول إلى الحق، ولهذا يأتون بحجج واهية جداً جداً لا يقولها الطفل الصغير، وكذلك يحتجون بما أنت تعلم أنه باطل وموضوع عندك؛ لأجل فقط إثبات ما يريدون، وليس لأجل غرض آخر.

    فلهذا نقاش هؤلاء لا يجدي؛ لأنهم لا يريدون الحق أصلاً، هذا يريد أن يطعن في دينك فقط، ولا يعني هذا أنهم لا يرد عليهم، لكن نقول: نقاشهم والمجادلة معهم لا تجدي، وأنا أعجبني أحد المفكرين الإسلاميين مرة كان يناقش في موضوع مع بعض هؤلاء الملحدين، فهو يشبه هذا الأمر بإنسان خارج من بيته نظيف لابس هندام واحد أكرمكم الله خارج من وسط بيارات ممتلئ بالقاذورات ويقول للرجل النظيف: تعال أصارعك، من الذي سيخسر؟!! النتيجة واضحة.

    إذاً: هو ما عنده شيء يخسره وليس عنده أصلاً ثوابت أو مبدأ لكي نقول: والله إذا نوقش سيرجع عنها، فقضية أهل الإلحاد بالذات النقاش معهم عسير؛ لأنهم لا يريدون أن يصلوا إلى الحق، لكن لا يعني هذا أن يترك لهم الزمام ولكن قصدت أن ننتبه إلى هذه الحيثية.

    منهج المستشرقين والمنصرين في دراسة تاريخ القرآن

    القسم الثاني: المستشرقون والمنصرون، أما المنصرون فالأصل فيهم هو: الطعن في القرآن؛ لأن هذا يخالف نصرانيتهم وهذا طبيعي، وأما المستشرقون فمن باب العدل أن ننتبه إلى أن بعضهم قد يريد العلم لذات العلم، لكنهم قليل جداً، وكثير من هؤلاء المستشرقين لا يخلو إما أن يكون منطلقه توراثياً، يعني: يريد أن يثبت صحة ما جاء في كتبهم، وقد يكون مستشرقاً علمانياً، لكن إذا جاءت مسألة الإسلام والنصرانية، يقدم النصرانية على الإسلام وإن كان يتذرع بالعلمانية، وهذا موجود في كتبهم.

    الثاني: أن يكون مدعوماً من جهات تنصيرية وهذا أيضاً موجود، فإذا كان بعض المستشرقين لم يدعم فإن بعض المستشرقين قد دعم، ودفع له؛ لكي يكتب ضد الإسلام سواء في القرآن أو غيره، ومن باب الفائدة بدأت مراكز البحث العلمي تحتل مكانة المستشرقين القديمة، يعني: المستشرق القديم الذي كنا نراه يأتي إلى الأزهر أو إلى لبنان أو إلى سوريا ويدرس ويتعلم العربية، ثم يذهب ويسمى مستشرقاً، ويدرس الإسلام، ويخرج كتباً هذا مازال موجوداً، لكن الآن بدأت تحتل مكانته التي كانت موجودة سابقاً مراكز البحث العلمي، فيجب أن ننتبه إلى ما تخرجه مراكز البحث العلمي، والذي ذكر سؤالاً أمس ما قام به اليهود من تفسير للقرآن جديد، أو كذلك ما قامت به أمريكا في الكتاب الذي يسمونه: الفرقان الحق، وسيقوم غيرها وكل هذه تخرج عن مراكز دراسات وليس عن شخص معين، فإذاً: يجب أن ننتبه إلى أن الهجمة بدأت تتغير من كون المستشرق يكتب إلى كونه جماعة من المفكرين تحت ما يسمى بمركز علمي يكتبون في الطعن ضد القرآن.

    فهؤلاء المستشرقون والمنصرون منطلقاتهم متعددة، لكن الجامع بينهم هو: محاولة إسقاط هذا الكتاب، في النهاية أي كتابة لهم فهي محاولة إسقاط هذا الكتاب، سواءً فيما يتعلق بنقله يعني: كيف نقل إلينا؟ أو ما يتعلق بمضمونه وهذا ليس مجاله الآن ولو كان الحديث عن مضمون القرآن فسنجد كيف يتعاملون مع مضمون القرآن.

    وأيضاً من باب الفائدة: لو نحن رجعنا إلى نظر التاريخ فيما يسمى: بالسامية، التاريخ السامي، لما يتكلمون عن السامية يذكرون اليهود الذين هم العبريون، ويذكرون أيضاً العرب، ويذكرون جملة من الأقوام الأخرى ويدخلونها في مصطلح السامية مع أنه مصطلح لا واقع له، لكن هكذا الآن هو موجود.

    السؤال الذي أريد أن ننتبه له: إذا كان هؤلاء ساميين، فهل نعتمد ما جاء عن العرب على أنهم ساميون أو لا؟ هذا من خلال البحث عند هؤلاء سواءً كانوا باسم منصرين أو مستشرقين أو باحثين أين كانوا.

    العجيب أنهم كلهم يجمعون على أنهم لا يعتدون بأي مكتوب صادر من هذه الجزيرة لا سابقاً ولا لاحقاً؛ ففي هذه الدراسات عدم الاعتداد بالعرب ولا بكتابات العرب جملة وتفصيلاً.

    1.   

    طريقة تقديم موضوع تاريخ القرآن

    ندخل الآن إلى كيف نطرح هذا الموضوع؟

    كما نلاحظ ونحن نناقش هذا الموضوع فيه إشكالية كبيرة جداً، وأنا لي رأي في هذا أن مثل هذه الموضوعات يحسن أولاً: أن تطرح في مجاميع علمية ومناقشات، فإذا استوت على سوقها يمكن أن يبرزها من المناقشين من يكون ذا حسن وبيان، ويمكن أن يوصلها إلى عمل المثقفين بطريقة مناسبة، لكن هكذا قدري وقدركم، وما زال هذا هو قدر الدورات العلمية، ولعل الله سبحانه وتعالى أن ييسر في المستقبل أن يكون هناك دراسات لمثل هذه الدورات العلمية بحيث إنها تبرمج وتمنهج ليكون عطاؤها أفضل.

    كيف نقدم لهم هذا الموضوع؟

    سيكون عندنا الجانب العقلي المعتمد على الآثار أقوى مما لو كنا نقدمه للمرحلة التي ذكرتها قبل قليل.

    فإذاً سنعتمد على الآثار بقوة، ونعتمد الجانب العقلي أيضاً بقوة؛ لأننا نحتاج إلى الجانب العقلي في النقاش والدفاع وأيضاً في قضية التقرير، ولهذا أنا أنصح من كان عنده قدرة علمية وليس عنده قدرة جدلية ألا يناقش؛ لأنه لا يستطيع أن يوصل ما عنده من العلم، بل قد يكون بعض من عنده قدرة عقلية في المناقشة أقوى في إيصال الفكرة وفي هزم الخصم منك، مع أنك قد تكون أكثر علماً.

    فإذاً: قضية العلم مهمة وقضية العقل مهمة، فيجب أن يكون عندنا نوع من التوازن، ولا يعني ذلك أنه من كان عنده قدرة في الجدل أن نقول له: تفضل، بل لا بد أن يتعلم لكن من خلال ما رأيته من بعض المناقشات تبين لي أن العلم لا يكفي بل يحتاج مع العلم إلى معرفة النقاط الضعيفة التي يناقش فيها الخصم.

    فإذاً سيختلف طرح هذا الموضوع باختلاف الطبقات التي يطرح لها هذا الموضوع.

    1.   

    كيفية التعامل مع تاريخ القرآن والآثار المتعلقة به

    نأتي الآن إلى كيفية التعامل مع تاريخ القرآن وما يتعلق به من الآثار؛ لأن المسألة كلها مرتبطة بالآثار:

    فالمنهج المعتبر هو منهجنا نحن المسلمين وكيف تعاملنا مع هذه الآثار؟

    فلو قلت: عندك كتاب المصاحف لـابن أبي داود ، وقلنا: اقرأ هذا الكتاب، كيف يمكن أن تعامل مع هذا الكتاب؟ هل تعاملك مع هذا الكتاب مثل تعاملك مع صحيح البخاري ؟ لما نقول لك مثلاً: استخرج ما يتعلق بتاريخ القرآن من صحيح البخاري ؟ هل ستحتاج أنت فيما يتعلق بصحيح البخاري مثلما تحتاج فيما يتعلق بكتاب المصاحف لـابن أبي داود ؟

    لا شك إنه يختلف؛ لأن صحيح البخاري قد كفينا، والعلماء جيلاً بعد جيل أثنوا على هذا الكتاب وأثبتوا ما فيه من الصحة، وعرفت مداخله ومخارجه، لكن كتاب ابن أبي داود فيه آثار ضعيفة وباطلة، فيحتاج إلى نخل وتحريف، فإذا كنت ستتكلم عن بدء الوحي وعندك حديث في صحيح البخاري ، وحديث في ابن أبي داود فلا شك أنك ستقدم الذي في صحيح البخاري .

    المقصد الذي أريده إن عندنا نحن منهجية عامة في قضية النظر في الآثار، وكيفية التعامل معها، يمكن أن نقسمها إلى قسمين كليين:

    ما يكون حجة، وما لا يكون حجة.

    فما يكون حجة له أنواع ليس هذا مجال ذكرها، مثل الصحيح والحسن والضعيف إذا انجبر.

    والذي لا يكون حجة الضعيف شديد الضعف والموضوع فهذه قضية داخل ضمن ما يحتج به وما لا يحتج، لكن في النهاية عندنا مقومات للكشف عما يمكن أن نعتمده وما يمكن ألا نعتمده.

    وأريد أن ننتبه هنا إلى أن المخالف لنا في مثل هذا الأمر لم يدرس هذه المنهجية دراسة علمية واقعية، ومن درسها من المنصفين قد علم يقيناً أن أضبط علوم الدنيا هي علوم المسلمين، لكن من يريد أن يطعن في دينك في كتابك لا يعنى بهذا الموضوع، فما يجده في كتاب الأغاني يساوي ما يجده في صحيح البخاري ، فلا يمكن أن ينظر كيف كتب البخاري كتابه؟ وكيف تلقى عن شيوخه؟ كيف .. كيف .. إلى آخره، وكيف تلقى العلماء هذا الكتاب بالقبول؟ وما هي الأشياء التي اعترضوا عليها، والأشياء التي لم يعترضوا عليها؟ هذا لا يناقشه أصلاً؛ لأن عنده ما دام هذا الأثر في كتاب من كتبكم فهو حجة عليكم، هذه المنهجية المستخدمة عندهم.

    لكن نحن بالنسبة لنا عندنا نوع من التمييز بين الآثار، وهذا التمييز ليس اعتباطياً، وإنما هو قائم على أسس علمية معروفة وهي أسس علم الجرح والتعديل معروفة عند علماء الحديث، وكيفية دراسة الأسانيد.

    فإذاً نحن نحتاج إلى هذا العلم في مناقشة هذه القضايا؛ لأنها مرتبطة بالآثار، فدراسة الأسانيد أصل لا بد منه لمن يريد أن يدخل في مثل هذه الأمور، وإلا سيبقى عنده الإشكال حينما ترده بعض الآثار ولا يعرف كيف يخرجها من جهة الإسناد، ولا يدري أن فيها ضعفاً، ولا يدري أن فيها انقطاعاً، وهذا الانقطاع يجعلها لا يحتج بها، فيقع في إشكالات كثيرة.

    فهذه هي القضية الأولى وهي: النظر في الآثار وتمييز الأسانيد.

    النظر الثاني: وهو نظر مهم وقد نغفل عنه في كثير من الأحيان، والمستشرقون يحاولون الوصول منه إلى قلب بعض القضايا، وإن كانوا قد أخفقوا، لكن أنا أدعوكم إلى أن تنتبهوا له سواء في هذا العلم أو في غيره، وهو النظر الواقعي التاريخي، يعني: محاولة تكييف الواقعة، أو بتعبير آخر: اجتهد في أن ترى نفسك أنك في ذلك التاريخ ماذا كنت سترى أمامك؟

    ونلاحظ أن النظر التاريخي سيكون متداخلاً مع الآثار، بمعنى: لو أوصلني النظر التاريخي إلى مخالفة أثر صحيح فإن المقدم هو الأثر الصحيح، ومعنى ذلك طريقتي التي سلكتها في النظر التاريخي غلط.

    أيضاً لو أوصلني النظر التاريخي إلى إثبات قضية لا دليل عليها فليست بحجة.

    إذاً: المقصد الذي نصل إليه لما نتكلم عن النظر التاريخي لا يفهم من ذلك أننا نحكم النظر التاريخي على الآثار، بل نجعل الآثار منطلقاً من منطلقات النظر التاريخي.

    وهذا النظر التاريخي لو تأملنا في النتائج فيه، فسنتوصل في بعض الأحيان إلى أن النظر التاريخي أوصلنا إلى معلومات لو لم نعلمها لا تؤثر على نقل القرآن، وقد يوصلنا النظر التاريخي إلى توكيد بعض القضايا التي نناقشها في هذا الموضع لنقل القرآن، وسيأتي إن شاء الله حين نتكلم عن الجمع في عهد أبي بكر والجمع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والجمع في عهد عثمان من ناحية النظر الواقعي التاريخي .

    خذ مثالاً فيما يتعلق بالنظر التاريخي المعتمد أيضاً على الآثار: من أين تعلم الصحابة الخط وكتبوا المصحف بناءً على هذا الخط؟

    فيه خلاف: بعضهم قال: إنهم أخذوه من خط المسند من الجنوب يعني: من اليمن.

    وبعضهم قال: إنهم أخذوه من الشمال من الأنباط، هذه الآثار الواردة هكذا وسموه فيما بعد: الخط العثماني.

    والبحث التاريخي أثبت أن خط المصحف أقرب إلى خطوط الشمال منه إلى خطوط الجنوب؛ لأنه جاءت عندنا كتابات قديمة مؤرخة أثبتت هذا التقارب، فهذه النتيجة الآن هل نحتاج فيها إلى أن نناقش هذه القضية وننظر في الآثار.

    الآثار احتمالية وليست نصاً قاطعاً، فإذاً نثبت هذه القضية التاريخية: أن الخط الذي تعلمه الصحابة هو مأخوذ من الأنباط من الشمال.

    السؤال الذي يرد الآن: افترض أننا ما عرفنا من أين أخذ الصحابة الخط هل يؤثر على نقل القرآن؟

    الجواب: لا تؤثر على نقل القرآن، ولا يعني ذلك أننا لا نعتمدها، بل لها فوائد جزئية نستفيدها ونحن نناقش قضية رسم المصحف.

    عندنا أيضاً هل كانت الكتابة فاشية في العرب أو لا؟

    نرجع إلى الآثار والنظر التاريخي، هناك آثار عندنا مثلاً: غزوة بدر لما أسر الأسرى، فكان من أساليب الفداء التي قررها الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم الكتابة، فنفهم من هذا أن الكتابة كانت موجودة في قريش لكن السؤال عن وجود الكتابة، هل كانت الكتابة فاشية ومعروفة عندهم؟ هذا بحث ناقشه كثير ممن تكلموا في تاريخ القرآن أو في رسم المصحف أو كذلك في قضايا أخرى مرتبطة بتاريخ العرب، لكن الذي نثبته يقيناً أن الكتابة كانت موجودة.

    والواقع التاريخي يدل على عدم ظهورها ظهوراً بيناً، والذي جعلها كثيرة هي الحاجة إلى كتابة القرآن، والحاجة إلى كتابة السنة هي الذي جعلت الكتابة فاشية فيما بعد عند العرب، أما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الصحابة والتابعين فلم تكن الكتابة هي الأصل، وهذا سنستفيد منه لاحقاً حينما نتكلم عن علاقة الرسم بالمقروء.

    هذه الآن المسألة: هل الكتابة فاشية أو لم تكن فاشية، هل لها أثر فيما يتعلق بنقل القرآن؟

    الجواب: أيضاً لا يؤثر، إنما الواقع التاريخي دلنا على أن الكتابة كانت معروفة عند العرب، وأن هؤلاء المسلمين الذين كانت أصولهم عرب تعلموا الكتابة وكتبوا المصحف، فالمسألة في مثل هذا ليست مشكلة، والعجيب أنك تجد من يتكلم عن تاريخ القرآن يجعل من هذه مشكلة علمية ويناقشها ويحاول أن يحرر فيها ويجتهد في أن يبرز أن الكتابة كانت فاشية جداً عند العرب، وهذا لسنا بحاجة إليه من خلال الواقع التاريخي الموجود بين يدينا.

    وهذه مسألة لعلي أرجئها لاحقاً لكن هي أيضاً من المسائل التي مرتبطة بهذا وهي: هل الأصل في دراسة القرآن في عهد الصحابة والتابعين الانطلاق من المرسوم أو الانطلاق من المتلقى وحفظه، يعني: المقروء وحفظه؟

    هذه مسألة مرتبطة بالتاريخ.

    نحن أيضاً لما نتأمل فلا يتوقع أن حال الصحابة مثل حالنا اليوم المسجد الواحد فيه حول مائة مصحف، بل الحال كان ضد ذلك، بمعنى: أن المحفوظ كان أكثر من المكتوب، والاعتماد على المحفوظ هو الأصل.

    هذه مسائل إنما نستنبطها وننظرها بالنظر التاريخي، يعني: نتخيل أنفسنا في ذلك الواقع كيف كانوا، فنبرز مثل هذه الأمور، وهذا يفيدنا كثيراً في قضية أن الأصل هو المقروء والمحفوظ وليس المرسوم، ونحن جعلناه الأصل؛ لأنه هو الفاشي عندهم، أما المرسوم فكان قليلاً.

    1.   

    مناهج المخالفين في دراسة تاريخ القرآن

    المنهج الإسقاطي عند المستشرقين في دراسة تاريخ القرآن والآثار المتعلقة به

    المنهج الثاني هو: منهج المخالفين كالمستشرقين، وهذا الحقيقة أنا أردت أن أذكره هنا بالنص؛ لأنه يريحنا من تتبع كل قضية ذكروها، فنذكر قضايا عامة.

    من أكبر الملاحظات على مناهج هؤلاء المخالفين من مستشرقين وغيرهم أن عندهم ما يسمى بالمنهج الإسقاطي، يعني: يسقط شيئاً على شيء، فيجعل القرآن مثل أسفار بني إسرائيل، وهكذا، فهو لما يناقش تاريخ القرآن يستحضر ويناقش تاريخ القرآن وتاريخ أسفار بني إسرائيل، وذكرت لكم شيئاً من طرف تاريخ أسفار بني إسرائيل لا تتوافق مع معطيات تاريخ القرآن إطلاقاً ليس بينها أي موافقة.

    وذكرت أهم قضية فيها: أن النص الذي نزلت به هذه الكتب لا يوجد اليوم، أما النص الذي نزل به القرآن فهو محفوظ إلى اليوم.

    وهذا فارق جوهري جداً ومع ذلك تجد أنهم حينما يناقشون قضايا مرتبطة بتاريخ القرآن كأنهم يناقشون أسفار بني إسرائيل، لم يعرف الكاتب، ولا متى كتب هذا السفر، وهل هو من الكتب المعتمدة أما نحن فليس عندنا فيه هذا الكلام، فكيف تأتي وتأخذ منهج قراءة تاريخ أسفار بني إسرائيل وتجعله هو نفسه منهج قراءة تاريخ القرآن، هذا يختلف.

    أيضاً منهج إسقاطه يكون عندنا نحن أحياناً حين يكون عندنا تخيل العصر الذي نعيشه ونتوقع أن الصحابة يعيشون نفس عصرنا فنبدأ نظن مثلاً: أن الصحابة ينطلقون من مرسوم مثلما ننطلق نحن الآن من المرسوم، وأن العامي ما يجده قرأه، ولا ختم على عالم في القرآن، لكنه يعرف القراءة حتى يكون مثقف، فيكون وزير أحياناً بجوارك والا أمير أو مدير دائرة ولا يمكن إذا كنت مثلاً عضو هيئة التدريس أن يكون عميدك بجوارك وحين يقرأ تستحي لأنه يقع في أخطاء شنيعة جداً وهو يقرأ القرآن؛ لأنه ما تلقى القرآن بالمشافهة. فهذا يجب أن ننتبه له؛ لأنه نوع من الإسقاط لا يصلح، بل لا بد أن ندرس منهج الصحابة كما كان أو طريقة تعلمهم كما كانت.

    هذا الإسقاط سواء كان من المستشرقين ولهم أغراضهم أو أيضاً هم أنفسهم يسقطونه على الوقت المعاصر، فهذا لأغراض عندهم معروفة فيجب أيضاً ألا نقع فيها.

    المنهج الافتراضي عند المخالفين في دراسة تاريخ القرآن

    منهج آخر من المناهج التي درس فيها تاريخ القرآن عند هؤلاء المخالفين: الافتراض، وتجد بعض الناس يفترض أنه كذا، يظن أنه كذا، ويظن أن أبا بكر فعل كذا، ظنون لا تنتهي، وهذا يكثر عند بعض المستشرقين والمنصرين يكثر عندهم حين يدرسون تاريخ الإسلام أو ما يتعلق بموضوع تاريخ القرآن.

    عدم التمييز بين الآثار المنقولة

    أيضاً من مناهج هؤلاء: عدم التمييز بين الآثار وهذا قد يكون في كثير من الأحيان عن قصد، فيدخل الموضوع مع الضعيف مع الحسن مع الصحيح فيجعلها في رتبة واحدة ولا يميز بينها، فما دام مروي عندك في كتاب من كتب المسلمين فلا ننقلها.

    بل أحياناً قد ينقل من كتابات معاصرين أسماؤهم أسماء مسلمين، لكنهم أهل إلحاد، فيحتج بها عليك، وعدم التمييز يكاد يكون صبغة عامة عندهم؛ لأن التمييز بين الآثار هو من عمل المسلمين من عمل أهل الحديث، فهؤلاء لا يتعاملون معها بهذا الأسلوب ولا يعنيهم؛ لأنه يريد أن يطعن فلا يعنيه، أو يريد أن يصل إلى حقيقة يزعم أنها علمية إذا كان يحسن الظن به، فيرى أن هذه كلها عنده بمرتبة سواء، وهذا واضح جداً في آثارهم.

    دعوى التناقض في الآثار

    أيضاً من المناهج التي يمكن أن نسميها: منهج التشكيك بدعوى التناقض في الآثار، دعوى التناقض في الآثار، وهذه طريقة في التشكيك، فيقول: إن الآثار في نقل القرآن متناقضة، ثم يورد أثراً صحيحاً وأثراً ضعيفاً، ثم يجعل بينهم تناقض، ثم هذا الأثر يدل على كذا وهذا الأثر يدل على كذا، إذاً هذا فيه تناقض، أما حل التناقض بأسلوب علمي فلا يحله وإنما يوصلك إلى أنه فيه تناقضاً ثم بعد ذلك لا يعنيه الجمع أهم شيء أنه يشكك في هذا وينتهي.

    هذا المبدأ أيضاً موجود ويستخدمه بعض المستشرقين مع أنهم يعرفون من قريب ومن بعيد تمييز الآثار عند المسلمين، وأن المسلمين يميزونها؛ ولهذا قد يعمدون أحياناً إلى بعض أقوال الرافضة فيدخلونها على أنها من أقوال المسلمين في مثل هذه الموضوع، ويحتجون بها على المسلمين.

    عدم الاستقراء التام

    أيضاً من المناهج التي يسلكها هؤلاء: عدم استقراء الاستقراء الكامل، فيستخدمون الاستقراء الناقص قصداً، وهذا ممكن تسميه: بالمنهج الانتقائي، فهو لا يستقرئ استقراءً كاملاً؛ لأنه يريد أن يثبت قضية معينة فتجده يذكر مراجع محددة ويترك مراجع كثيرة جداً.

    من طرائقهم في عدم الاستقراء: اعتمادهم على المكتوب الذي لديهم، يعني: يحتج علي بما كتبه نول دكة، يحتج علي بما كتبه فلان من عندهم، وهذا أيضاً كثير، وهذا لا شك أنه من الناحية العلمية ليس بصحيح أن تنقض علي مسألة مؤصلة عندي برأي واحد يخالفني.

    فالمقصد من ذلك أن هذا المنهج موجود وواضح جداً في دراسة تاريخ القرآن، يعني: من ينظر في مقدمة ... الجفني لكتاب المصاحف لـابن أبي حاتم يجد كل هذه التي تتكلم عنها موجودة عنده.

    الاعتماد على الآثار الباطلة

    أيضاً من المناهج: الاعتماد على آثار باطلة؛ لنصرة الرأي وترك الصحيح المعتمد، وهذا أيضاً موجود في دراسات المستشرقين والمخالفين من الملاحدة وغيرهم.

    المنهج الحيادي المزعوم

    أيضاً من المناهج الموجودة منهج مزعوم طبعاً وهو منهج ما يسمى بالحياد أو التفكير العقلي المجرد في تحكيم النصوص، فيزعم صاحبه أن يدخل لدراسة هذا الموضوع وأنه حيادي وإنما جاء من سبيل العلم فقط، أو يقول: إن هذا يخالف العقل حين تأتيه نصوص لا تتوافق معه وهذا المنهج الحيادي مزعوم وليس دقيقاً؛ لأنه أثبتت الدراسات التي تناقش المستشرقين أنهم لم يكنوا حياديين، بل إن أحسنهم حالاً لا يستطيع أن يكون حيادياً لأنه مرتبط بثقافة وموروث طويل عريض عنده لا يمكن أن ينفك عنه، هذا أحسنهم حالاً.

    أما دعوى العقل فهذه لا شك أنها باطلة؛ لأنه حينما يأتيني واحد ويقول: إن العقل لا يقبل هذا، أقول: عقل من؟ لأن العقل ليس واحداً فالاحتكام إلى العقل المجرد لا يكفي، وتعلمون أنتم ما يسمى بالمدرسة العقلية أو التفكير الاعتزالي وغيره كان من أكبر المشكلات عقل من يحكم؟ فأنتم أيها المعتزلة تختلفون أيضاً، صحيح أنهم متفقون في أصول عامة وهي الأصول الخمسة، وإذا خالفت الأصول الخمسة يختلفون ويكفر بعضهم بعضاً، وكلهم يكفرون باسم العقل، إذاً هذه دعوى، فالعقل المجرد لا يكفي لأن يكون حجة وتحكم فيه هذه النصوص.

    عندنا الآن كتابات فيما يتعلق بالقرآن، فيأتي ويعرض النصوص ويقول: إن العقل يرد هذه النصوص وهي نصوص ثابتة وصحيحة، بل بعضهم رد انشقاق القمر؛ لأنه لا يوافق العقل، ورد بعض المعجزات؛ لأنها لا توافق العقل، فإذا كان هذا هو العقل الذي تريده فلن يبقى شيء، وليس هناك حدود للعقل فيما يرفض، فإذا كان عقلك يرفض وقبلناه فعقلي سيرفض أشد من هذا، ولذلك سنصل في النهاية إلى ما وصل إليه السفسطائيون الذين ينكرون حتى المحسوس، وسنقع في قضية جدلية طويلة عريضة.

    تضخيم بعض المسائل التي لا جدوى من نتائجها على نقل القرآن

    أيضاً من المناهج التي استخدمها هؤلاء: تضخيم بعض المسائل التي لا جدوى من نتائجها على نقل القرآن، لنأخذ أمثلة على ذلك:

    كمسألة هل بقي النبي صلى الله عليه وسلم على أميته في القراءة والكتابة؟

    وهذا فيه خلاف لكن سؤال ممكن أن نناقشه مناقشة علمية، لكن هل له أثر على نقل القرآن؟

    لما نثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف القراءة والكتابة بعدما جاءته الرسالة، فيرد عليه سؤال: إذا كان يعرف القراءة والكتابة لماذا لم يكتب القرآن هو وينهي الخلافات الواردة هذه كلها، ولماذا إذا جاءه شيء قال: ( ادعوا لي زيداً ويأمره أن يكتب )، وكتب له شيئاً كثيراً كان ممكن أن يكتبه، لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب حرفاً واحداً.

    لكن الذي يجب أن ننتبه له وهذا المرتبط بالنظر التاريخي أنه: هل يتوقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف الكتابة والقراءة ولا يكتب للمسلمين مصحفاً، وهو كان يتلوه عليهم آناء الليل وأطراف النهار؟

    لا يتصور أن يترك هذا، ولا يتصور أنه لم يرد عنه أثر صحيح واحد يدل على أنه كتب، هذه القضية ممكن أن يدخلها الحدس والاحتمال العقلي.

    لكن في النهاية سواءً قلنا: كتب أو لم يكتب لا يؤثر على نقل القرآن الذي بين يدينا، لكن نقول من باب الرد.

    مسألة أخرى تأخذ أيضاً تضخيماً فيما يتعلق بنقل القرآن وهي: ترتيب السور هل كان ترتيباً توقيفياً أو اجتهادياً؟

    نحن ندرس هذا في علوم القرآن ونناقشها ويكون فيها نقاش وجدل واستدلالات، فمنا من يصل إلى أنه توقيفي ومنا من يصل إنه اجتهادي، وهذا موضعه البحث العلمي، لكن السؤال: هل له أثر على نقل القرآن؟ بمعنى: إذا قلنا: اجتهادي فإن القرآن سيكون ناقصاً؟ وإذا قلنا: توقيفي فإن القرآن كامل.

    الجواب: ما يؤثر.

    ولو تأملت بعض القضايا التي يدرسها هؤلاء ستجد أنها تضخم في بعض المسائل العلمية بهذه الطريقة التي ذكرتها، ونتيجتها فيما يتعلق بنقل القرآن قد لا يكون لها أثر.

    التاريخ الكتابي والشفاهي

    أيضاً من المناهج التي سلكها هؤلاء: التركيز على مسألة معروفة عندهم وهي تسمى: بالتاريخ الشفاهي والتاريخ الكتابي، الآن بالنسبة لنا نحن لو تأملنا التاريخ المرتبط بالقرآن والسنة كانت شفاهياً كتاباً أو كانت شفاهياً فقط أو كانت كتابياً فقط؟

    الجواب: شفاهياً كتابياً، يعني: الشفاهي والكتابي مع بعض، ما عندنا مشكلة، هذا نوع من الإسقاط؛ لكنهم ذهبوا فدرسوا كتب بني إسرائيل، مع أن كتب بني إسرائيل بقيت فترة شفاهية حتى كتبت، مثل الأناجيل فإنها بقيت فترة شفاهية ثم كتبت.

    والتوراة كما هو معلوم لما حصل سبي دابل أحرقت التوراة، فكتبت من قبل كاتب عزراء كما يقولون عندهم، ثم ترجم بعد ذلك الترجمة السبعينية.

    فإذاً: قضية التاريخ الشفاهي والكتابي ما تصلح عندنا ومع ذلك تجد بعضهم يحاول أن يستفيد من هذه الفكرة ويزعم فيما يتعلق بالروايات أنها روايات شفوية مما يفسح المجال إلى الوضع والتضخيم، طيب أين قواعد وضوابط الجرح والتعديل؟ لماذا لم تنظر إلى هذه الأمة اللي كانت تشتغل فقط على هذا؟

    فهل يتصور مثل البخاري، و مسلم ، و النسائي ، الذين عاشوا طوال حياتهم على حدثنا، وعلى قال، وعلى عن، وإلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه شغلته كلها أنه لن يتقن فنه.

    لا شك أن هذا يتقن فنه، لكن هؤلاء لا يأتون بمثل هذا الأسلوب لما يدرسون تراثنا بل يدرسونه بأسلوب آخر فيبدأ يشكك فيه بهذا المبدأ، طيب هل درست حياة هؤلاء ونظرت كيف جمعوا وكيف فعلوا؟

    فإذاً يطعنون بهذا الجانب وهم يدققون حتى في الكلمة أو الحرف، هل ينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو ما ينسبونها، وظهر عندهم أشياء كثيرة جداً فيما يتعلق بهذا الأمر ومع ذلك تجد أنهم لا يراعون هذا ولا يجعلونه منهجاً علمياً أصلاً، فيأتون بالتشكيك في مثل هذا الأمر.

    تصور المجد الشخصي

    أيضاً من المناهج التي يستخدمونها فيما يتعلق أيضاً بقضية نقل القرآن: يمكن أن نسميه التنظير الدنيوي لبعض القضايا أو يمكن نعطيه وصفاً آخر هو: المجد الشخصي عند الإنسان، بمعنى: أنه يصور لك في بعض القضايا أن فلاناً ما عمل هذا إلا من أجل كذا: قضية اقتصادية معينة، وأن فلاناً لم يفعل هذا إلا لأجل أن يتولى منصباً معيناً أو أن يفعل كذا، هذا موجود في بعض الدراسات، بمعنى: أنه نوع من التشكيك لكنه بافتراض أن فلاناً ما فعل كذا إلا لكذا، وأنه غضب لماذا لم يكن في هذا المكان؛ لأنه كذا، يعني: قضايا مرتبطة بالدنيا، نحن لا نقل إن الصحابة رضوان الله عنهم قد نزعت منهم الدنيا وحب الدنيا، لكن مثل هذه القضايا لا علاقة لها بالدنيا، هذه القضايا مرتبطة بالدين، وكلهم كانوا على قلب رجل واحد فيها، وسنأتي إن شاء الله إلى موضوع ما يتعلق بخلاف ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الموضوع.

    1.   

    بداية تاريخ القرآن

    هذه المقدمة الثانية فيما يتعلق بهذا الموضوع الذي هو تاريخ نقل القرآن، نكون قد انتهينا الآن من جملة ما يتعلق به من ناحية التقديم.

    وقت نزول القرآن

    ندخل الآن إلى بداية التاريخ، فبداية تاريخ القرآن الذي يمكن أن نبدأ بها تاريخ القرآن عندنا هي وقت نزول القرآن؛ لأنه قبل نزول القرآن ما كان عندنا شيء يرتبط بالقرآن؛ ولهذا تجد البخاري رحمه الله تعالى بوب باباً فقال: باب بدء الوحي، وذكر حديث عائشة المشهور الذي فيه: ( أول ما بدء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم )، فنلاحظ أن الرؤيا ثابتة، لكن الوحي الصريح الذي نزل عليه في غار حراء كان بعد ذلك، فكان هذا الوحي الذي كان يراه في المنام تمهيداً لما سيأتيه في غار حراء.

    إذاً تاريخ القرآن يبدأ منذ نزول القرآن.

    هل يمكن أن يشكك بواقعة مثل هذه الواقعة: واقعة نزول القرآن؟

    لا يمكن، حتى أولئك الذين يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي قال هذا، لا يمكن أن يشكك بهذه الفترة أنها هي فترة ابتداء نزول القرآن بغض النظر عن نظره هو في نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء.

    عندنا حديث عائشة المشهور: ( أنه كان يتعبد الليالي ذوات العدد، أي: يتحنث الليالي ذوات العدد )، والحديث مشهور، يظهر منه أن أول ما نزل من القرآن كان الآيات الخمس الأولى، وفي آخر الحديث قضية مهمة أنه قال: ( ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي )، يعني: أنه نزل عليه خمس آيات ثم وقع فترة الوحي.

    المرحلة الثانية هي: التي تحدث عنها جابر بن عبد الله : ( أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي ثم ذكر أنه نزل عليه : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2] ).

    فإذاً: الآن من خلال النظر في هذه الآثار نعلم أن أول ما نزل على الإطلاق هو الآيات الخمس، ثم نزلت بعدها سورة المدثر، ثم توالى القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم النجم بعد النجم من القرآن حتى اكتمل القرآن.

    فليس هناك أي مشكلة في العهد المكي فيما يتعلق بالقرآن أو نقل القرآن وليس في الآثار ما يدل على وقوع إشكال في هذا.

    وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه القرآن في العهد المكي بإقرائهم ما نزل عليه، فيأتون ويسمعون منه ما نزل عليه ويحفظونه ويتلونه.

    وكان الرسول صلى الله عليه وسلم: أحياناً يصلي أمام الكعبة؛ لأنه كان ممنوعاً بعمه أبي طالب فكان يصلي كما قال الله سبحانه وتعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا [الإسراء:110]، فكان يسمع من حوله.

    إذاً الطريقة الأولى لنقل القرآن هي طريقة التلقي.

    العلة من عدم كتابة القرآن في العهد المكي

    وفي هذا العهد طريقة التلقي لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة لم ترد آثار تدل على أنه كان قد عني بتدوين المصحف.

    والعلة ظاهرة في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه لم يكن مستقراً في مكة، وإنما سيكون له مهاجر منها؛ لأن ورقة في آخر كلامه نبهه فقال: ( ليتني فيها جذع إذ يخرجك قومك )، استشرافاً للمستقبل، قال: ( أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثلما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ).

    فإذاً: من أول ما جاءه الوحي وفكرته أنه لن يكون مستقراً.

    القضية الثانية: أن الغلبة لم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم.

    فإذا كان عنده أنه لن يكون هذا محل استقراره وكذلك أيضاً لم تكن الغلبة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلو كتب شيئاً من القرآن في هذا الوقت فإنه عرضة لأمور كثيرة من الضياع، أو من تدنيس الكفار أو غيرها.

    ويمكن أن نقول باختصار: إنه لم تدعو الحاجة في العهد المكي إلى كتابة شيء من القرآن بالصيغة الرسمية التي تكون من عند النبي صلى الله عليه وسلم.

    لكن هل ثبت أن أحداً من الصحابة قد كتب القرآن في العهد المكي؟

    ورد أثر عن عمر لكن من الناحية الإسنادية فيه ضعف، ولو اعتبرناه فهذا العمل كان عملاً اجتهادياً، فكانوا يكتبون حيث كتبوا على رقعة سورة طه وكانت فاطمة أخت عمر تقرأ هي وزوجها، فهذا الذي عندنا من الآثار الذي هو عمل أخت عمر مع زوجها.

    إذاً ممكن أن نقول: إنه في العهد المكي كان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقرئه الصحابة شفاهاً.

    وفي هذه المرحلة أيضاً يأتي أناس يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويذهبون وقد تلقوا الشيء القليل.

    أيضاً لما تنظر إلى الصحابة مثل مصعب بن عمير ومن معه لما ذهبوا إلى المدينة وعلموا الناس حيث كان معهم أيضاً منه الشيء القليل، بمعنى: أنه لم يكن من الأمور التي عني بها في أول الأمر أنه لا يلزم الصحابي أن يحفظ كل القرآن بهذا الشكل الذي يمكن أن نجده عندنا اليوم وهي طريقة حفظ القرآن، وإنما كان هذا يحفظ جزءاً وهذا يحفظ جزءاً وهذا يحفظ جزءاً هذا في العهد المكي.

    إذاً يمكن أن نختصر ما يتعلق بالعهد المكي: بأن القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتلوه ويقرأه ويسمع الصحابة منه، وتلقوه وحفظوه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعن بكتابة القرآن في العهد المكي، وكذلك الصحابة لم يعنوا به؛ لأن الحاجة لم تدع إلى ذلك.

    1.   

    العهد المدني الجديد

    أول أعمال النبي في المدينة

    ننتقل إلى ما يتعلق بالعهد المدني الجديد فأول عمل عمله النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى المدينة بناء المسجد الذي هو مكان التعليم ومكان الصلاة، إذاً الصحابة سيسمعون القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات! في صلاة المغرب، وفي صلاة العشاء، وصلاة الفجر. طبعاً هذا غير الطرائق الأخرى، غير صلاة الليل.

    إذاً عندنا طرائق متعددة سنتكلم عنها إن شاء الله في الدرس اللاحق، والذي أريد أن نربطه بهذه المسألة هي مسألة المسجد وأهميته في تعليم القرآن.

    سيأتينا بعدها هي قضية بداية الاستقرار النبوية، وكتابة العهود والمواثيق، وقضية غزوة بدر، ومن هنا تنشأ فكرة تدوين القرآن.

    الباعث على كتابة تدوين القرآن

    من أين جاءت فكرة تدوين القرآن؟

    سبق وأن ذكرناها في المحاضرات السابقة أنها جاءت من الإشارات الإلاهية أن يكون هذا القرآن مكتوباً في صحف، وأنه يطلق عليه الكتاب، ولا يمكن أن يطلق عليه الكتاب وهو ليس مجموعاً فلا يطلق عليه الكتاب إلا بعد أن يجمع، ولعلنا إن شاء الله الدرس القادم سنبدأ بالمرحلة المدنية وهي التي سنتكلم عنها إن شاء الله بالتفصيل فيما يتعلق بالقرآن في العهد المدني، وماذا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا العهد، وإن بقي وقت فسنناقش أيضاً ذلك في عهد أبي بكر .

    1.   

    الأسئلة

    طريقة الاستقراء الصحيحة

    السؤال: يقول كيف تكون طريقة الاستقراء صحيحة؟

    الجواب: الاستقراء نوعان: استقراء ناقص، واستقراء تام، فالاستقراء التام هو: مراجعة وجمع ما يتعلق بالمسألة من مصادرها كلها، والاستقراء الناقص هو: مراجعة بعض المصادر دون بعض.

    على سبيل المثال: لو كنت تستخرج منهج مفسر، فلا يمكن أن تستخرج منهج مفسر من خلال سورة البقرة فقط لا بد أن تستقرئ جميع التفسير فهذا نسميه استقراءً تاماً، لكن لو أن شخصاً يستخرج منهج مفسر من خلال سورة البقرة فهذا نسميه استقراءً ناقصاً.

    المراد بأبي محمد في تفسير ابن عطية

    السؤال: ابن عطية في تفسيره دائماً يقول: قال أبو محمد فمن هو محمد؟

    الجوب: المراد به نفسه ابن عطية، والذي يظهر أن أحد تلاميذه هو الذي كان يكتب قال: أبو محمد مثلما يكتبون: قال الشيخ رحمه الله.

    التوفيق بين كون القرآن حمال أوجه وبين مناهج التفسير الحديثة

    السؤال: كثيراً ما نسمع إن القرآن حمال وجوه، فكيف نوفق بين هذا القول وبين المناهج الحديثة في التفسير؟

    الجواب: هذا موضوع يطول، لكن هنا أذكر بعض الفوائد:

    الفائدة الأولى: تطبيق منهج أي علم على علم آخر يفسد العلم مباشرة، بمعنى: أن النتائج العلمية منه خطأ.

    الآن تصور لو أنك تستخدم منهج الفقهاء في علم الأدب فإنه لا يستقيم، أو تستخدم منهج دراسة الأسانيد والتدقيق فيها في كتب الأدب لم يبق منها إلا صفحات معدودة، والباقي كله، يذهب هباءً منثوراً، وقس على ذلك غيرها.

    فإذا كان هذا في العلوم الإسلامية تطبيق منهج في علم إسلامي على علم آخر يورث هذا الإشكال فما بالك إذا كان محل الدراسة كتاب المسلمين المقدس والمنهج المحدث منهج بشري غربي وعليه تنازع بين الغرب، فإذا كان هذا بهذه المثابة فقطعاً ما تولده دراسة هذا المنهج ستكون باطلة وخاطئة، والنتائج التي قد تكون صحيحة لا نتكلم عنها، لكن نقول من حيث العموم المنهج خطأ.

    فكونه حمال وجوه لا يعني أن نحمل عليه كل صحيح وباطل، وإنما لا بد أن هناك ضوابط، وإلا أين ذهبت الضوابط لو كان حمال وجوه فما فيه فائدة وما الفائدة من الرسول صلى الله عليه وسلم إذاً -والعياذ بالله -؟ لا قيمة له مع النص القرآني بناءً على هذا، والصحابة لا قيمة لهم، وهذا الذي يريدونه أصحاب هذه المناهج في المناهج الحديثة التي يسمونها: القراءة المعاصرة.

    يقول: أنا اقرأ وأفهم على كيفي، لا علاقة لك أنت هذا النص نصي.

    فهذا ليس بصحيح، معنى هذا: هدم النصوص نص أي إنسان، يعني: أنت كلامك الخاص الآن لو جاء شخص وقال لك: هو غلط، تغضب، وفهم كلام رب العالمين بطريقتك ما بها إشكال؟! ولهذا من أشد ما يثير حفائظ أصحاب هذه القراءة الحديثة هي قراءة قراءتهم.

    أما مراد الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم بقضية القرآن حمال وجوه، فالمراد بها الوجوه الصحيحة التي احتملها النص القرآني، ولا تكون معارضة للأصول، ولها طبعاً ضوابط ليس هذا محلها.

    فلا يلبس علينا بهذه العبارة كون القرآن حمال وجوه، نحن نؤمن أنه حمال وجوه لكن مراده الوجوه الصحيحة المعتبرة وليست كل وجه وإلا النصراني أثبت التدليس من القرآن بزعمه، واليهودي أثبت أن اليهود هم شعب الله المختار من القرآن بزعمه.

    تأثير عقيدة المفسر على تفسيره

    السؤال: هل لعقيدة المفسر أثر في التفسير وهل تم التفصيل في المسألة؟

    الجواب: التفصيل ما نحتاج تفصيل لكن ممكن أن نذكر أمثله:

    الذي يزعم أن عقيدة المفسر لا أثر لها في التفسير هذا لم يقرأ في التفسير، بل لها أثر في بيان المعاني واضح جداً جداً، على سبيل المثال: هاتوا لي أي عقيدة من العقائد ويمكن نضرب لها أمثلة في تأثيرها في التفسير، وفهم المعاني، وإلا لماذا الأشاعرة اشترطوا على الزمخشري المعتزلي؟ وأكثر الكتب التي نقدت الزمخشري ، من خلال الإعتزال هم الأشاعرة، إذاً لو ما كان في العقيدة أثر فلماذا هذا الرد الشديد؟

    كذلك غيرهم من المذاهب كل مذهب له أثر، حتى من يذهب إلى مذهب أهل السنة والجماعة عقيدته لها أثر على فهمه للنص.

    فأقصد من ذلك أن بعض الباحثين يحاول ما يسمى بالعبارة الإعلامية أن يسطح هذه القضية، وأن يجعلها ميسورة ويسهلها، وهذا ليس بصحيح، فهي كقيمة علمية يجب أن ندرسها ونناقشها، لكن ما العيب الذي يقع في دراسة عقيدة المفسر؟

    العيب الكبير الذي يقع خصوصاً عندنا هنا: أننا لا ندرس عقيدة المفسر إلا من خلال باب الصفات الاختيارية فقط، وبعض الصفات الاختيارية أيضاً فقط.

    وهذا استقراء ناقص بل أنقص أيضاً.

    فدراسة عقيدة المفسر بالذات خطيرة جداً، وأنا أرى أنه لا تدرس من خلال التفسير فقط بل أيضاً من خلال كتبه إذا كانت مطبوعة وموجودة؛ لأنه قد يكون له بيانات، وقد يكون له تراجعات في كتبه الأخرى لم يبينها.

    وأضرب لكم مثالاً في دراسة متميزة في دراسة عقيدة مؤلف ما الدكتور محمد السليماني في دراسته لكتاب : قانون التأويل، لما تكلم عن عقيدة ابن العربي، وبين من خلال تاريخ كتبه بعض تراجعاته عن بعض المسائل العقدية، صحيح أنها مسائل فرعية لكنها تدل عن التراجع، فلا يمكن أن تحكم على العالم من خلالها، لكن من خلال النص الذي عندك تقول: من خلال المكتوب كذا يظهر تأثر المفسر بكذا، لكن ما تقول: إن هذا المفسر أشعري هذا المفسر ماتريدي، هذا المفسر معتزلي إلا إذا ظهر من خلال الاستقراء التام أنه على هذه الأصول، وأقول: هذه قضية مهم جداً ينبغي أن ننتبه لها.

    إذاً ليست الإشكالية في الأول بل الأول واضح جداً في ظهور أثر العقيدة عند المفسر، لكن الإشكالية في كيفية دراسة عقيدة المفسر، وإلا الدراسات كثير منها تدرس المفسر من خلال بعض الصفات الذاتية أو الاختيارية، أو بعض الصفات الذاتية والاختيارية ثم يحكم من خلالها على عقيدة المفسر كذا أو كذا، قد يكون صحيح اختياره النهائي لكنه طريقة الوصول إلى هذه المعلومة ناقص فلا بد من الاستقراء التام في مثل هذه المسألة.

    إذا كان فيه سؤال أو استفسار أو نقف عند هذا الحد.

    صفة الأمية في النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: [ هل صفة الأمية صفة مدح ]؟

    الجواب: نعم أمية النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة له صلى الله عليه وسلم صفة رفعة وشرف، وكانت إحدى علامات نبوته صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157]، فأمية النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنها بالنسبة له كانت نوعاً من الرفعة كونه ما كان يعرف الكتابة، وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]، فكونه غير متعلم لا يعرف القراءة والكتابة وينزل عليه هذه العلم الكبير فهذا لا شك أنه من دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم، وهذا احتج به القرآن نفسه.

    فبعض الدعاوى في أنه لم يكن أمياً بعد نزول القرآن هذه الذي كنا نناقشها، أما بقاؤه على الأمية فهذا هو الصحيح أنه بقي صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وقد بين هو الأمية فقال: ( نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه )، فدل على أن الأمية مفهومها عدم معرفة الحساب والكتابة، وعدم الاعتناء بذلك.

    ولما قال: ( نحن أمة أمية )، لو أخذنا غير منطوق هذا فهو يتكلم عن قومه وهو أدرى بهم فدل على أنه لم يكن شائعاً عندهم قضية الكتابة والحسابة، ولذا أحد الصحابة لما أخذوا أخته وساوموه عليها، أخذ عليها مائة درهم أعطاها وكذا، فقالوا له: لما لم تبلغ ألفاً ؟ قال: ما كنت أظن أن فوق المائة عداً، يعني: آخر العدد أعرفه مائة، وهذا كان معروفاً أن العرب ما كانوا أصحاب حساب، بخلاف لما بدأ في عهد عمر الدواوين، فلماذا نحن نحمل مثل هذه المسائل ما لا تحتمل؟ فيجب الوقوف عندها على هذا الحد.

    لكن من باب الفائدة ننتبه إلى أن الأمي قد يكون له مفهوم آخر غير المفهوم المرتبط بالنبي صلى الله عليه وسلم، لما يقول اليهود: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، فهل المراد الآن بالأميين العرب فقط أو الأميين غير اليهود؟ لأن غير اليهود فيهم أهل كتابة، فإذاً مثل هذا لا يؤثر على مفهوم الأمي؛ لأنه ممكن أن نقول: الأمي في القرآن على وجوه:

    الأمي الذي لا يحسب ولا يكتب، قال صلى الله عليه وسلم : ( نحن أمة أمية شهرها كذا وكذا وكذا ).

    والأمي غير اليهود وهذا في مصطلح اليهود: قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، يعني: ليس علينا في غيرنا من الأمم سبيل، فيكون معنى أميين في هذا الموطن غير الأمي الذي في الموطن الآخر الذي هو صفة مدح في النبي صلى الله عليه وسلم، وكونها صفة مدح للنبي صلى الله عليه وسلم لا يعني حتى في عصرنا هذا أن الأمية مدحاً؛ لأن الأمية صارت الآن ذماً فاختلفت المصطلحات، لكن من باب الفائدة كونه يقال: محو الأمية، أو ذم الأمي هذا من باب التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم الأولى تركه، وإن كان المعنى صحيحاً؛ لأن وصف الأمية بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم كمال، فلما نذم الأمية لا نذم أمية النبي صلى الله عليه وسلم، بل نذم أمية المعاصر لنا فمن باب التأدب وكمال الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم لو أزيل هذا بدل محو الأمية، فيقال: تعليم القراءة والكتابة، أو شيء من هذا لكان أفضل.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756588421