إسلام ويب

وصية رسول الله لمعاذللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما لا شك فيه أن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم كنوز نافعة، وكلمات جامعة، تصلح الدنيا والآخرة، ومنها ما وصى به حبّه معاذ بن جبل من طلب معونة الله له على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يكون ذلك دعاء له دبر الصلاة، كما حذره من ترك ذلك، وقد امتثل معاذ وصية رسول الله، وبلغها للأمة بعده.

    1.   

    لمحة من حياة معاذ بن جبل

    الحمد لله رب العالمين, نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! روى الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في سننه، وصححه الألباني وغيره من أهل العلم, عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، قال: ( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: يا معاذ! والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ ألا تدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).

    في هذه اللحظات أيها الأخوة نقف مع وصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي الشاب الجليل معاذ رضي الله تعالى عنه، مع ما جاء في هذا الحديث من مقدمات قبل الوصية.

    حب النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه

    في هذا الحديث إخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر مؤكد بأنواع التأكيدات المعروفة في البلاغة العربية، فقد أكد الجملة التي أخبر فيها بحبه لـمعاذ بثلاثة مؤكدات:

    أولها: القسم, قال: (والله). والثاني: التأكيد بحرف التأكيد (إن). والثالث: التأكيد باللام الموطئة للقسم, (لأحبك)، وزاد الأمر تأكيداً بأن كرر الجملة ثانياً, وهذا توكيد لفظي كما يقول أهل اللغة، ( والله إني لأحبك، والله إني لأحبك )، فمن هو هذا المحبوب؟ هو معاذ رضي الله تعالى عنه.

    إسلام معاذ ووفاته

    مات معاذ في خلافة عمر, في طاعون عمواس، الطاعون الذي أصاب الشام في أوائل خلافة عمر, وقد مات رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعمره ثلاث وثلاثون سنة، فكم كان عمره يوم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكم كان سنه حينما استحق هذه الشهادة الجليلة من رسول الله؟ معاذ بايع يوم العقبة قبل الهجرة، فقد جاء في ترجمته كما في السير وغيرها: بايع في العقبة وهو شاب أمرد، يعني: ليس في وجهه شعرة, ولكنه مع صغر سنه يبايع بيعة الكبار، ويتعامل كما يتعامل الكبار، شهد بدراً وعمره عشرون سنة, وشهد بعدها المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    من فضائل معاذ رضي الله عنه

    ما كان حب رسول الله لـمعاذ من فراغ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب إلا في الله، ولا يبغض إلا في الله، لم يحب هذا الشاب عبثاً، إنما حبه لما قام به من فضائل، ولما تحلى به من أعمال، فقد جاء في فضله أحاديث كثيرة، فكان ممن جمع القرآن في عهد رسول الله، وفي صحيح مسلم : ( إنه لم يجمع القرآن في عهد رسول الله سوى أربعة: معاذ بن جبل، وأبي بن كعب، و زيد رضي الله تعالى عنه، وأبو زيد ), يقول أنس: أحد عمومتي، فكان معاذ واحداً ممن جمعوا القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: حفظوه واستوعبوه، وواحداً ممن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ منهم القرآن، فقال: ( خذوا القرآن عن أربعة, ومنهم: معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه ), وهو الشاب الفتي الصغير، ولما مات معاذ قال عمر رضي الله تعالى عنه: ( لو كان معاذ حياً فاستخلفته، يعني: جعلته خليفة ورائي، فقدمت على ربي فسألني لماذا استخلفت معاذاً ؟ لقلت: سمعت نبيك وعبدك يقول: يبعث العلماء يوم القيامة و معاذ بين أيديهم برتوة، يتقدمهم بمد البصر )، هكذا شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وفي الحديث الذي عدد فضائل أصحابه، قال عن معاذ : ( وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل )، فـمعاذ الشاب أعلم الناس بالحلال والحرام.

    محبته بمجرد رؤيته

    هذا هو معاذ إذا وقع عليه نظر الناظر أحبه لا محالة، جاء في ترجمته في الطبقات الكبرى أن أبا إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق فإذا رجال ومعهم شاب براق الثنايا، إذا اختلفوا في شيء أرجعوه إليه فصدروا عن رأيه، فقلت لهم: من هذا؟ قالوا: هذا معاذ بن جبل , يقول أبو إدريس : فهجرت في اليوم التالي، يعني: ذهبت إلى المسجد وقت الهاجرة، وقت الظهر، قبل أن يذهب الناس، فهجرت في اليوم الثاني فوجدت معاذاً قد سبقني بالتهجير، فوجدته يصلي، فانتظرته حتى فرغ من صلاته، فلما انتهى أتيته من قبل وجهه، فسلمت عليه ثم قلت له: والله إني لأحبك في الله، إنها شهادة رسول الله، لكنها الآن تنطق بها ألسن لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله إني لأحبك في الله، فقال له معاذ : آلله؟ يعني: تقسم بالله أنك تحبني في الله، فقال: آلله، كررها ثلاثاً، قال: فجذبني من ردائي، وقال لي: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يقول الله تعالى: وجبت رحمتي للمتحابين فيَّ )، هذا هو النموذج من الشباب الذي كان يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تمتلئ بهم العيون، وتقر بهم، وتنشرح الصدور بسماع كلامهم، وتطمئن النفوس إلى مجالستهم، هؤلاء هم شباب محمد صلى الله عليه وسلم رباهم على مائدة القرآن، وصنعهم على عينه، فكانوا قرة عين لمن رآهم ولمن جاء بعدهم، ومنهم: معاذ بن جبل.

    بعثة معاذ إلى اليمن

    ومعاذ كغيره من الشباب, يعاني ما يعاني من المشكلات، ومن أكبر مهماته ومشكلاته أنه كان كريم الطبع، سخي اليد، لا يحبس شيئاً إذا سئل، ذهب كرمه بماله كله، تصدق بأمواله فذهبت أمواله كلها صدقة وكرماً، حتى ركبته الديون, وهنا ( جاء الغرماء يشكونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون أموالهم, فجمعهم وجمع معاذاً, وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصر أموال معاذ وباعها وسدد الغرماء، لكنها لم تفِ بالديون, فطلب منهم أن يضعوا عنه الدين فلم يضعوا عنه شيئاً )، فجاء العلاج النبوي، إنه الأسلوب الأحسن في تربية الشاب وعلاج مشكلاته، التعامل معه كله، التعامل مع روحانيته وماديته، تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه المشكلة حين لم يرض الغرماء بطرح الدين, فوجد نفسه عليه الصلاة والسلام بحاجة إلى أن يساعد هذا الشاب في علاج مشكلته، فبعثه إلى اليمن، وكما قال معاذ بعد ذلك: إنما بعثني ليجبرني, لعلي أجد مجالاً للكسب، ومجالاً للرزق، ولعلي أجد متنفساً فأجبر ما نزل بي من مصيبة، بعثه إلى اليمن ليعلم الناس الدين, وكانت من وصاياه تلك الوصية العظيمة: ( يا معاذ : إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ) إلى آخر الحديث.

    وقفات من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ

    معاذ خرج رسول الله صلى الله عيه وسلم يودعه وهو مسافر إلى اليمن, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على رجليه و معاذ راكب على راحلته؛ لأن معاذاً من علماء الصحابة، ومن خيار الصحابة، وممن وعى القرآن وجمعه، ومن خيرة من رباهم، ( يمشي معه على قدميه، و معاذ راكب، ويقول له لأنه يحبه: يا معاذ! لعلك لا تلقاني بعد سنتي هذه، يا معاذ لعلك تمر على قبري ومسجدي، فبكى معاذ لأنه علم أنها آخر رؤية لرسول الله، فقال له عليه الصلاة والسلام: لا تبك يا معاذ، إن البكاء من الشيطان )، هذا هو الشاب العالم التقي النقي، الذي يوصيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية العظيمة: ( والله إني لأحبك، فلا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).

    أخذ بيده قبل أن يوصيه بهذه الوصية العظيمة، وفي هذا ما فيه من التلطف، فالرسول الذي قارب الستين, وانتشر البياض في لحيته عليه الصلاة والسلام يأخذ بيد شاب فتي في العشرينات من عمره ويلاطفه, ويقول له: والله إني لأحبك، كم مرة فعل الواحد منا هذا السلوك مع أحب الناس إليه، مع ولده من صلبه، كم مرة قال الأب لابنه وهو آخذ بيده: والله إني لأحبك يا بني؟ ( معاذ أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيده وقال له: والله إني لأحبك )، وابن عمر الشاب الآخر الصغير قال كما في الحديث المشهور الذي نحفظه جميعاً: ( أخد رسول الله بمنكبي ) يعني: وضع يديه على منكبيه ( وقال: يا عبد الله , كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )، ويقول صحابي آخر وهو جرير : ( ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي, وربما ضرب على صدري )، هكذا كان يتعامل مع الشباب بكامل الرفق، وبكامل الود والحب، ويقدم لهم أهم ما يحتاجونه، إنهم يحتاجون إلى ما يقيم دينهم، وما يحفظ عليهم أخلاقهم، وهكذا جاءت الوصية لـمعاذ : ( لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).

    1.   

    جملة من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة

    قبل أن أتكلم عن مفردات هذا الدعاء وما تعنيه هذه الوصية, ينبغي ألا نغفل أبداً عن أن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاصة أصحابه وأحب الناس إليه هي الكنوز العظيمة التي كان يهديها إليهم، والخيرات الكبيرة التي كان يسوقها إليهم، والأعطيات الجزيلة التي كان يتفضل بها عليهم، وليست الدنيا، وليست الأموال، فقد كان يعطي مسلمة الفتح المئات من الإبل ويدع الأنصاري والمهاجري فلا يعطيه شيئاً، كان يخص أحبابه، ويخص المقربين من أصحابه، ويخص المقدمين منهم بوصايا، وبهبات، وبعطايا من نوع آخر, تلمس هذا في حديثه مع الأحباب, ما الذي كان يعطيه لهم؟ ( أبو بكر جاء إليه وقال: علمني دعاءً أدعو به في بيتي وفي صلاتي, قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كبيراً, وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ).

    و( جاءه العباس , فقال له: يا عباس , قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية ).

    و( سألته عائشة : إذا وافقت ليلة القدر ماذا تقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ).

    و( أوصى الحسن, فقال: إذا أوترت فقل: اللهم اهدني في من هديت، وعافني في من عافيت، وتولني في من توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني واصرف عني برحمتك شر ما قضيت ).

    و( أوصى شداد بن أوس, فقال: إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنز أنت هذه الكلمات: اللهم أعني على الثبات على الأمر، والعزيمة على الرشد، وشكر نعمتك, وحسن عبادتك .. ) إلى آخر الحديث.

    هذه وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقربين من أصحابه، الوصايا التي تقيم الدين والدنيا، والوصايا التي تبعث الهمة على ملاحظة الآخرة، والعمل للآخرة، والاستعداد للقاء الله، والعمل من أجل العيش الطويل الذي لا فناء بعده، ولا موت بعده، والاستعداد للحياة الدائمة، وإذا قامت هذه الحياة انتظمت معها الدنيا لا محالة، وهذا ما فهمه معاذ الذي أوصي بهذه الوصية.

    الجمع بين أمر الدنيا والآخرة

    في تاريخ ابن عساكر جاءت قصة عجيبة طريفة عن أحد التابعين، وهو أبو عمارة سعيد رضي الله تعالى عنه وأرضاه يحكي لنا قصة وقعت في دمشق أو في حمص, فقد رأى جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فأتاني آت فقال لي: هؤلاء أصحاب رسول الله، يعني: إذا أردت أن تستفيد شيئاً من خيرهم, فلحق بهم قال: فذهبت إليهم، فإذا أنا في القوم وفيهم شاب في آخرهم, فطفقت أسألهم وأقول: علموني خيراً، اقبسوني نوراً، أعطوني شيئاً من الخير الذي تعلمتموه من رسول الله, قال: فطفق القوم لا يألون في تعليم الخير, لا يقصرون، كل يبذل ما بوسعه في تعليم هذا الرجل الخير, قال: فنظرت إلى الشاب في آخر القوم فتجاوزته عيني؛ لأنه شاب صغير, فهو أصغرهم سناً, فظن بأن ما عند القوم يكفي عن ما عند معاذ , لكنه لا يدري ما يحويه معاذ , أعلم الناس بالحلال والحرام، من جمع القرآن، فناداه معاذ بنفسه, قال له: تعال, لقد سألت هؤلاء ولم يألوا خيراً في تعليمك الخير, ولكني أظنك لا تحفظ كل ما قالوه، أظن جيداً أنك لن تحفظ كل ما سمعت, أَوَلا أدلك على كلمة تجمع لك ما قالوه كله؟ قال: بلى, قال: إذا اجتمع لك أمران: أمر الدنيا وأمر الآخرة, فعليك بأمر الآخرة, فإنه إذا قام لك فسيمر على ما قسم الله عز وجل لك من دنياك فينتظمه, وإنك إذا جعلت همتك أمر دنياك فحري ألا تدرك واحداً منهما.

    هذه وصية معاذ التي صار يعلمها للناس: إذا اجتمعت الدنيا والآخرة, فإذا حرصت على إقامة الآخرة انتظمت الدنيا, وجاء عمل الآخرة على عمل الدنيا فانتظمه؛ لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فالمؤمن يعمل فيها ولا تشغله عن الله ولا تقطعه عن مرضاة الله, يعمل فيها؛ ليصل منها إلى رضوان الله، يعمل فيها؛ ليصل من خلالها إلى جنة الله، فإذا قامت الآخرة انتظم للإنسان ما قسمه الله عز وجل له من هذه الدنيا، وإلا فهو حري ألا ينتظم له شيء من أمر الدنيا والآخرة، وفي الأثر القدسي ( يقول الله تعالى: يا عبدي! إني خلقتك لي وخلقت كل شيء لك, فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له )، أي: لا تشتغل عن الشيء الموفور المدخر، ولا تشتغل بالشيء المضمون، ولا تشتغل بالشيء الذي تكفل الله عز وجل به، لا تشتغل به عما طلب منك، والذي طلب منك هو الذي ينبغي أن تصرف إليه الهمة، وتصرف إليه الكد والسعي, فتحاول وتجاهد لإقامته، لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له.

    طلب التوفيق من الله للقيام بعبادته

    هذه الوصية هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : ( فلا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )، يوجهه إلى الدعاء لأنه أجل العبادات، فـ(الدعاء هو العبادة)؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم, ولكنه في الوقت نفسه يوجهه إلى أهم الدعوات التي ينبغي أن ينطلق الإنسان فيها إلى ربه, سائلها إياه طالبها منه, فتوجه إلى الله لتسأله أن يعينك على ما طلبه منك, وعلى ما كلفك به؛ ولذلك قال بعض الحكماء كما في حكم ابن عطاء الله: خير ما تطلبه منه ما طلبه منك. طلب منك العبادة، طلب منك الذكر، طلب منك إقامة الدين، فأهم مسألة تتوجه بها إلى الله أن تسأله أن يهديك، وأن تسأله أن يثبتك، وأن تسأله أن يعينك على هذه العبادة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام لعلي : ( قل: اللهم اهدني وسددني ).

    القاعدتان اللتان يقوم عليهما الدين

    فهذه الدعوة العظيمة المتضمنة، الاهتمام بما طلبه الله عز وجل منا: ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ), هي على وجازة ألفاظها تحوي القاعدتين العظيمتين اللتين قام عليهما هذا الدين، يقول ابن القيم رحمه الله في الفوائد: الدين يقوم على قاعدتين كبيرتين: قاعدة الذكر والشكر؛ كما قال سبحانه وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152], فذكر الله وشكر الله عليهما يقوم الدين؛ لأن ذكر الله يتضمن ذكر الله بأسمائه وصفاته, وتوحيده سبحانه وتعالى, وتنزيهه عن النقائص, والثناء عليه بالمدح بالكمال المطلق، وذكر الله يتضمن وذكر حلاله، وذكر حرامه، وذكر فرائضه، وذكر نواهيه، ويتضمن ذكر شرعه، فتقف عند الحدود، وتؤدي الفرائض وتجتنب المحرمات، فهذا هو ذكر الله الشامل؛ الذكر اللساني والذكر القلبي والذكر بالأركان والجوارح.

    والثانية: شكر الله, يعني: العمل بطاعة الله, فإذا كان الإنسان يمضي وقته ذاكراً لله, مسخراً نفسه في طاعة الله, فقد أقام الدين كله؛ ولهذا كانت الوصية لـمعاذ : ( أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )، ليست العبادة فقط, وإنما حسن العبادة، فالعبادة لها حسن وجمال, وهناك عبادة ناقصة الحسن, كما أن الإسلام إسلام حسن, وإسلام ناقص الحسن, وفي الحديث: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فالعبادة الحسنة هي التي يؤدي فيها الإنسان حق الله على ما ينبغي, أو قريباً مما ينبغي, بقدر استطاعته, فهذه الدعوات العظيمة، (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) تنتظم هذه الأمور كلها، وفيها إعلان الفقر لله, وأن الإنسان لا يستطيع أن يجلب لنفسه خيراً من دين أو دنيا, كما لا يقدر على أن يدفع عن نفسه شراً إلا بمعونة الله؛ ولذلك كان من كنوز الجنة أن يقول القائل: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى كما حكى عنه تلميذه ابن القيم: قلبت نظري في ألفاظ الأدعية التي جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم, فوجدت أهمها وأعظمها سؤال الله تعالى العون على مرضاته, فأهم دعوة تدعو بها: أن يعينك الله على تحقيق مرضاته, قال: ثم تأملتها فوجدتها في قول الله سبحانه وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5], نعبدك ولا نعبد سواك, ونستعين بك, فإنه لا حول لنا فنتحول به من حال إلى حال, ولا قوة نستمد بها لنغير من أحوالنا إلا منك, فلا حول ولا قوة إلا بالله، هذه الدعوة العظيمة, وهذه الوصية الكبيرة التي توجه الأنظار نحو المهم في حياة هذا الإنسان, التوجه نحو تحقيق مرضاة الله, وسؤال الله تعالى العون والتوفيق والمدد؛ ليتقوى الإنسان على أداء هذه المهمة الجليلة.

    ولاحظوا أيها الأحباب أنها وصية أسديت لعالم، إنها وصية وجهت لفقيه, إنه أعلم الناس بالحلال والحرام, وأحفظ الناس لكتاب الله, إنه حِب رسول الله, ومع ذلك لم يكن في غنى عن أن يوصى بهذه الوصية العظيمة, وأن يذكر بهذا التذكير المهم: ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    الاجتهاد في الدعاء والذكر وتحري مواضع الإجابة

    الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! إننا بحاجة إلى أن نتعاهد أنفسنا في شأن الدعاء, وفي شأن استغلال أوقات الإجابة, كما أننا بحاجة إلى أن نتفقد أبناءنا وبناتنا الشباب؛ فنعلمهم الدعاء, إنهم بحاجة إلى أن يعلموا ما يعنيهم, فهم بأمس الحاجة إلى أن يعلموا كلمات يتقربون بها إلى الله, و معاذ هنا علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء, وحرص عليه أن يتخير أوقات الإجابة, قال: ( لا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ), ودبر الصلاة يحتمل معنيين كما قال أهل العلم, يحتمل أن يكون قبل السلام؛ لأن دبر الحيوان آخر أجزائه, ويحتمل أن يكون بعد الصلاة؛ لأنه يقال عنها: دبر الصلوات, والأحوط للإنسان بلا شك أن يدعو بهذه الدعوة العظيمة في المقامين, فيدعو بها قبل سلامه من صلاته, ويدعو بها بعد سلامه من صلاته.

    ومما نحتاج أن نذكر به أنفسنا -أيها الأحباب- أن دبر الصلوات من مواطن إجابة الدعاء, كما جاء في هذا الحديث, وهذا يشمل صلاة الفرض وصلاة النفل, فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الحسن: ( أي الدعاء أسمع؟ ) أي: أي الدعاء أقرب إلى الإجابة؟ ( فقال عليه الصلاة والسلام: جوف الليل الآخر, وأدبار الصلوات المكتوبات ), فيستحب للإنسان أن يدعو بعد الصلاة المكتوبة والنافلة, ويتوسل إلى الله عز وجل بهذه الصلاة التي صلاها, فإذا أجيبت هذه الدعوة، وفق الإنسان توفيقاً ليس بعده تعاسة, وفتحت له أبواب السعادة التي لا يشقى بعدها أبداً.

    نسأل الله تعالى من فضله العظيم أن يمدنا بتوفيقه, اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث, أصلح لنا شأننا كله, ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها, دقها وجلها, وأولها وآخرها, وسرها وعلانيتها.

    اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه, وافتح للموعظة قلبه وأذنيه, أنت ولي ذلك والقادر عليه, اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين, اللهم اخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين, اللهم من أراد المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره, وأشغله بنفسه, واجعل تدميره في تدبيره يا قوي يا عزيز.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755972023