إسلام ويب

الصحة النفسيةللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القلق النفسي هو مرض العصر الذي يهدد عدداً كبيراً من الناس، وسببه بلا شك البعد عن التدين الصحيح، وفي ديننا الإسلامي العلاج الناجع لهذا المرض، فالإيمان والرضا وعمل الطاعات والخيرات يجنب الإنسان هذا الخطر المحدق.

    1.   

    المرض النفسي آفة العصر

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! حديثنا اليوم عن الصحة النفسية؛ لأن العالم كله يحتفي بيوم عالمي للصحة النفسية، وما جعلوا له يوماً يحتفلون به، وينشطون برامج للوقاية والعلاج ويثيرون الحديث في كل محفل من محافلهم، إلا لعظم المصيبة بهذا الداء العظيم، إنه مرض العصر، الاختلال النفسي، الاضطرابات النفسية، الأدواء النفسية، مئات الملايين يعانون من هذا المرض، ومن وقع عليهم الإحصاء حسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية أربعمائة وخمسين مليوناً يعانون من القلق النفسي، هذا نوع من الأدواء النفسية، وهذا نوع من البشر الذين وقع عليهم العد والإحصاء، أما الذين يعانون من اختلالات أخرى، ولم يقع عليهم العد والإحصاء، فلا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى.

    مرض العصر تعاني منه البشرية، وكلما ازدادت غنى وثروة ازداد تسلط هذا المرض عليها، وكلما غرقت في أوحال المادية عاقبها الله سبحانه وتعالى بتسليط هذه الآلام عليها.

    اسمع إلى أحد الإخصائيين الأمريكيين وهو يتحدث عن القلق وما يفعله في المجتمع الأمريكي، يقول: لقد أثبت الإحصاء أن القلق هو القاتل الأول في أمريكا، ففي خلال سني الحرب العالمية الأخيرة قتل من أبنائنا نحو ثلث مليون مقاتل، وفي خلال هذه الفترة نفسها قضى داء القلب على مليوني نسمة، ومن هؤلاء مليون نسمة كان مرضهم ناشئاً عن القلق وتوتر الأعصاب. ثم يقول: إن مرض القلب من الأسباب الرئيسية التي حلت بالباحثين .. إلى أن يقول: إن رجال الأعمال الذين لا يعرفون كيف يكافحون القلق يموتون مبكرين.

    العالم كله يشتكي، العالم كله يبكي من القلق والهموم والأكدار والأحزان، ثم يبحثون بعد ذلك عن العلاج، ويتكلمون قبل ذلك عن الوقاية.

    علاقة الدين بآفة القلق والاكتئاب

    نحن من المنبر نتحدث عن علاقة الدين بهذه الآفات، ما يفعله الدين في مكافحة هذه الآفة، وكيف يعيش الإنسان السوي بعيداً عن هذه الآفات، لا غرابة في أن يعاني من هذه الآفات أبناء المجتمعات البعيدة عن الله، التي لا تعرف الله، ولا تؤمن بالدار الآخرة، لا غرابة أن يعاني الناس من أنواع القلق الذين يعيشون بعيداً عن وحي النبوة، وعن هدي الله، لكن الغرابة أن يبتلى بهذه الآفات أبناء التوحيد الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، الذين حباهم الله ومنحهم سبحانه وتعالى كل أسباب السكينة، الذين أعطاهم الله كل أسباب الوقار والاطمئنان النفسي، هنا الغرابة، ويصدق فينا قول الشاعر:

    ومن عجب والعجائب جمة قرب الشفاء وما إليه وصول

    كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول

    الماء فوق ظهورها وهي تموت عطشاً، وهذا حال أبناء المسلمين الذين يعانون الهموم والأكدار، ووحي الله عز وجل يتلى بين أيديهم، وهدي الله يعرض عليهم مساء صباح، هذه الدنيا بطبيعتها لا تخلو من الأكدار، لا تخلو من المنغصات، ولهذا يقول القائل:

    ومن رام في الدنيا حياةً خلية من الهم والأكدار رام محالا

    الذي يريد أن يعيش حياة خالية من كل هم، منزهة من كل عيب، بريئة من كل منغص، فإنه يبحث عن شيء محال، جبلها الله وفطرها على أن يوجد فيها المنغص، هكذا خلقها الله عز وجل، ولذلك قال بعض الحكماء: من قال لصاحبه: صرف الله عنك نوائب الدهر، وأبعد عنك حوادث الأيام فقد دعا عليه بالموت؛ لأنه ما دام حياً فلا بد أن تنزل به نوائب الدهر، ولا بد أن يصيبه الدهر بحوادثه. وقال الآخر: وعظك الله يا ابن آدم، ولكن علم أن الموعظة المجردة لا تنفع، فأصابك بما أصابك من المكدرات ومن المنغصات حتى تبحث عن العلاج، حتى ترجع إلى مصدر هذا القلق أين؟ ثم تداويه وتعالجه، هذه الدنيا هكذا جبلت.

    الصحة النفسية في نظر الأخصائيين

    وهكذا يقول الأخصائيون أيضاً، أطباء النفس اليوم عندما يعرفون الصحة النفسية يعرفونها بكلمات كثيرة، لكن الكلمة الجامعة التي ترجع إليها جميع تعاريفهم، أن الإنسان السوي نفسياً هو الإنسان الذي يستطيع أن يسيطر على عوامل اليأس والإحباط، وأن يقف صامداً أمام أعاصير الحياة. كل التعريفات ترجع إلى هذا المعنى، الإنسان المستقيم نفسياً السوي نفسياً هو الذي يستطيع أن يتغلب على عوامل اليأس والإحباط، يستطيع أن يتغلب على مصادر القلق، فيداويها قبل أن تهيمن عليه.

    أين مصدر القلق؟ وكيف يداوى هذا القلق؟ أين مصدر المرض النفسي؟ وكيف يداوى هذا المرض؟ هذا ما بينه لنا الله في كتابه، وبينه لنا رسوله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته، والبشرية عاشت ما عاشت في القرون الأخيرة متنكرة للتعاليم الدينية، والأطباء النفسيون كثير منهم غرقوا في بحار الإلحاد، فرأوا أن الديانة لا أثر لها في معالجة النفس، ولكنهم في الأخير يعودون ويقررون أن الدين هو المؤثر الأول في الحياة النفسية الصحيحة. وسأقرأ عليكم بعض تصريحاتهم.

    يقول أحدهم وهو النفساني ديفيد لارسون، وقد قوم بصورة منهجية كل الدراسات التي نشرت في أكبر مجلتين متخصصتين في الطب النفسي، بين عام ثمانية وسبعين وتسعة وثمانين من القرن الماضي، فيما يتعلق بالعلاقة بين الإيمان والصحة النفسية، وتوصل إلى هذه الإحصائية، يقول: التدين يؤثر في (84%) من الحالات المرضية بشكل إيجابي، وفي (13%) بشكل حيادي، الدين والتدين يعالج هذه النسبة من الأمراض بالحالات النفسية، شفاؤهم في التدين، علاجهم في الرجوع إلى الدين، دواؤهم أن يعرفوا الدين، ولا سيما إذا كان الدين الحق، فإن الدين الباطل لا يزيد الإنسان إلا قلقاً واضطراباً.

    وفي كلام آخر للدكتور كاري في كتابه الشهير (الإنسان الحديث يبحث عن الروح) يقول: كلما علت المؤشرات المادية في مجتمع من المجتمعات ازدادت فيها الكآبة وازداد فيها المرض، وقبل سنين عديدة نشر مقال في إحدى الصحف التي لا تهتم بالتدين (روز اليوسف) عنوان المقال: أصحاب الجنة ليسوا سعداء، ثم في أثناء المقال يستخلص الإنسان من هم أصحاب الجنة، يتحدث عن أبناء السويد، السويد التي تكفل للمولود كل ما يحتاجه من متطلبات الحياة وهو في بطن أمه، قبل أن يخرج إلى الدنيا، ومعدلات الانتحار في المجتمع السويدي أكثر منها في أي مجتمع آخر، فيقول: هذه الجنة لم تغن عن أصحابها شيئاً، هذه الجنة لم تزدهم إلا قلقاً واضطراباً، التدين هو مفتاح السعادة، التدين هو مفتاح الطمأنينة والسكينة النفسية. هذا الشخص يتحدث عن الإنسان المعاصر، وأن أكبر مبتغاه، وأعظم ما يطلبه الحديث عن الروح وأين يجد الكلام عنها، يقول هذا الباحث: خلال السنوات الثلاث الماضية جاء أشخاص من جميع أقطار العالم يستشيرونني، وقد عالجت مئات المرضى، ومعظمهم في منتصف مرحلة حياتهم، أي: في الخامسة والثلاثين من العمر، ولم يكن بين هؤلاء جميعاً من لا تعود مشكلته إلى إيجاد ملجأ ديني يتطلع من خلاله إلى الحياة، وباستطاعتي أن أقول: إن كلاً منهم مرض لأنه فقد ما منحه الدين للمؤمنين، ولم يشف من لم يستعد إيمانه الحقيقي، أي: لم يشف من لم يسترجع إيمانه الحقيقي، لم تكتب السلامة لمن لم يرجع إلى التدين.

    1.   

    أسباب السعادة والطمأنينة

    هذا الكلام الذي نقرؤه أيها الإخوة! إنما نقرؤه لنستفيد ونعتبر من خلال حياة الآخرين، ولسنا بحاجة إلى قراءته، ولسنا بحاجة إلى الرجوع إليه؛ لأن هذه الحقائق ناصعة واضحة في كتاب الله يقول تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ [محمد:2].

    البال صالح، والصدر منشرح، والقلب مضيء حين يعيش الإنسان في ظلال عقيدة التوحيد، حين يهدى إلى هذا الدين الحنيف، ويقتنع بما آتاه الله، هكذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: ( أفلح من هدي إلى الإسلام، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، أفلح كل الفلاح من هداه الله إلى الإسلام، وقنعه بما آتاه.

    معرفة الله

    أيها الإخوة! الدين هو مبعث الحياة النفسية السعيدة، هو مبعث الطمأنينة، الناس بحثوا عن السعادة في الأموال فرجعوا خائبين، وبحثوا عن السعادة في الزوجات والأولاد فرجعوا مفلسين، وبحثوا عن السعادة في المناصب والوجاهات فرجعوا خائبين، لا يجد السعادة والطمأنينة إلا من عرف الله، ولا تزال هذه النفس في رحلة تبحث عن مبتغاها، تبحث عن طلبها، كلما وجدت شيئاً تطلعت إلى غيره، فإذا عرفت الله وأنست بذكره وعملت في طاعته هناك يستقر بها السفر، وتلقي عن كاهلها العصا، وبغير هذا ستبقى تعيش هذه الرحلة الطويلة، هذه الرحلة المعذبة، وهذا وعد الله الذي لا يتخلف: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].

    الإيمان والعمل الصالح وذكر الله

    الحياة الطيبة جزاء للإيمان والعمل الطيب، ومن تنكب لهذا الطريق، ومن حاد عن هذا الصراط فإنه لن يجني إلا الآلام، ولن يعيش إلا الحسرات والآهات، كما يقول ابن القيم رحمه الله: في القلب شعث -يعني: تفرق- لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بما قضاه الله، هكذا فطر الله القلب، فيه حاجة وفيه رغبة أكيدة، يبحث عن شيء أكيد، لكن ما هو هذا الشيء الذي يبحث عنه؟ إنه التعرف على المعبود، التعرف على الله، الاشتغال بذكره، الاشتغال بمناجاته، الاشتغال بطاعته، فإذا وصل إلى هذا المقصود استراح؛ لأنه وصل إلى ما يطلبه، وإذا حاد عن هذا الطريق وظن أنه سيجد مطلوب نفسه في غيره، فإنه لن يجني إلا العناء، هذا ما يلخصه لنا القرآن في قول الله سبحانه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وهو يتكلم قبل ذلك عن الدنيا وزينتها في أعين الناس، زين لهم الحياة الدنيا، يتحدث عن الدنيا وفرحهم بها، ولكن في الأخير يقول لهم: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فلا اطمئنان إلا في التعرف على هذا المعبود سبحانه، والتعرف على ما يرضيه، فإذا تعرفت عليه، وإذا عرفت ما يرضيه وسلكت هذا الطريق وصلت إلى باب السعادة الأعظم الذي من ولجه لن يشقى بعده أبداً، هكذا قضى الله سبحانه لما أنزل آدم إلى هذه الأرض: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124]، العيشة الضنك: الضيق، والهم، والقلق، حليف لكل من تنكب عن طريق الله، لكل من أعرض عن ذكر الله.

    لا غرابة من أنه بين الحين والحين تصدر علينا أخبار تطالعنا في الصحف وفي المواقع وفي غيرها من مصادر الأخبار بأن فلاناً المليونير أو الملياردير ينام في المستشفى لأنه يعاني من حالة نفسية، لن تغني عنه أمواله شيئاً، لن تغني الزعامات عن أصحابها، ولن تغني الدنيا عن أربابها، لن تسد عنهم هذا الباب من أبواب الهول والألم والقلق، لن يسده إلا الاشتغال بالله، الاشتغال بطاعته.

    هكذا جاءت الأخبار النبوية، أخبرنا فيها عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة عن باب الطمأنينة، باب الرضا، يتكلم عن العبادات مثلاً فيخبرنا عليه الصلاة والسلام بأن قرة العين إنما تكون في الصلاة، يقول: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة )، قرار العين معناه: وصول الإنسان إلى أعلى مراتب الصحة النفسية؛ لأن العين إنما تقر وتهدأ وتسكن عن المطالعة يميناً وشمالاً حين يعجبها المنظور إليه، حين تفرح بما تطالعه، فإذا طالعت الشيء المؤنس، الشيء المفرح قرت عليه، ولا تريد أن تتحول عنه، لن تجد هذا المعنى، لن تقر العين، ولن تطيب النفس إلا بالصلاة، ( جعلت قرة عيني في الصلاة )، طيب النفس وعد الله لمن قضى ساعاته في ذكر الله، بين ذكر بلسانه وذكر بجوارحه، طاعة بلسانه وطاعة بقلبه، ألم يقل لنا النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا نام أحدكم عقد الشيطان على قفاه ثلاث عقد، ويضرب على كل عقدة منها عليك ليل طويل فارقد ).

    هذا حالنا جميعاً، إذا نام الواحد منا عقد الشيطان على قفاه هذه العقد الثلاث، لكن كيف تحل العقد الشيطانية؟ كيف يزيل الإنسان عن نفسه هذا التعقيد الشيطاني؟ يقول: (فإذا هو استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت عقدة، فإذا صلى انحلت عقده كلها، وأصبح نشيطاً طيب النفس)، طيب النفس جلبته الطهارة، طيب النفس جلبه ذكر الله، طيب النفس جلبته الصلاة، ولن يصل إلى طيب النفس بغير ذلك، قال: ( وإلا أصبح خبيث النفس كسلاناً )، هكذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام، إذا لم يكن من أهل الطهارة، إذا لم يكن من أهل الوضوء، إذا لم يكن من أهل الصلاة.

    الاشتغال بهم الآخرة

    توحيد الهم وأن تجعل همك هو الله، تصبح وأنت تأمل الآخرة تمسي وأنت تنتظر الآخرة، توحيد الهم أن تحدد الهدف، وأن تجعل هدفك هو الوصول إلى مرضاة الله، هذا من أعظم الأسباب في طرد الهم عن نفسك، وإذا لم تفعل فإنك لن تجني إلا على نفسك، هكذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام، (من جعل الهموم هماً واحداً، هم آخرته كفاه الله هم دنياه)، كفاك الله جميع أنواع الهموم، إذا جعلت الهم هماً واحداً، وهو هم الآخرة، يعني: أن تصبح في الصباح وأنت تساءل نفسك: ما هي الفرائض التي فرض الله عليّ في هذه الساعة، ماذا أفعل الآن؟ فرض عليّ الصلاة فأؤديها وحرم عليّ كذا فأجتنبه، أن تجعل الآخرة همك في ساعات حياتك، فإذا فعلت ذلك كفاك الله هم دنياك، (ومن جعل همه هم دنياه لم يبال الله عز وجل في أي أوديتها هلك)، أوديتها متفرقة، وشعبها كثيرة، وأحوالها مختلفة، فصاحبها كما قيل عنه: القلب شعاع، والهم أوزاع، فإذا جعلت همومك هماً واحداً وهو المعرفة بالله، التعرف على ما يرضيه، العمل بما يقربك إليه أفلحت كل الفلاح.

    الرضا بما كتبه الله من رزق وغيره

    من أسباب السكينة والسعادة النفسية التي يتحدث عنها الأطباء النفسيون: أن يعيش الإنسان حياة اقتصادية مقبولة، وماذا يقصدون بها؟ هل من المعقول أن يعيش الناس جميعاً في حالة اقتصادية مرفهة؟ هل من الممكن أن يعيش الناس جميعاً في طبقات اقتصادية متقاربة؟ كلا، وألف كلا، هكذا فطر الله عز وجل الدنيا: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:21].. نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:32].

    من الخطأ أن يقال للناس: لن تجدوا الحياة النفسية الصحيحة إلا حينما تعيشون أوضاعاً اقتصادية مقبولة، هذا خطأ وألف خطأ، ستجد السعادة حين تقتنع بما قدره الله عز وجل لك، ستجد السعادة حين ترضى بما قسمه الله لك، وهكذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط )، حين ترضى بما قسم الله وتقتنع بما آتاك الله، وتعلم يقيناً أن الخير هو فيما قضاه الله لك، وأن اختيار الله لك خير من اختيارك لنفسك، كم من إنسان يسعى ويحرص للحصول على شيء، للوصول إلى شيء، والله قد علم أن الخير في خلاف ذلك، قد علم أن الخير في غير ذلك، فقدره له ذلك الخير؛ لأنه يعلم سبحانه أن صلاحه فيه، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

    1.   

    مصادر الصحة النفسية

    الرضا بقضاء الله وقدره

    وهنا يأتي القرآن لعلاج هذه المشكلة، فيقرر في أنفسنا مبدأ الرضا بقضاء الله، وأن يرضى الإنسان بما قدره الله عز وجل عليه، غنىً وفقراً، صحةً وسقماً، عيشاً وموتاً، أن يرضى بأن يكون في الوطن الفلاني أو في غيره من الجنس الفلاني أو من غيره، أن يرضى بهذا كله، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، الله يعلم مآلات الأمور وحقائقها، الله يعلم إلى ما تنتهي إليه الأحداث فيقدر لعبده بلطفه ورحمته ما يصلحه، (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

    أيها الإخوة! من مصادر الصحة النفسية الأكيدة الرضا بقضاء الله تعالى، فمن عاش راضياً عاش مطمئناً، عاش مرتاح البال هادئ النفس، ومن عاش يتطلع إلى ما في أيدي الناس ومن عاش يتطلع إلى أن يحيا كما يحيا الناس، فإنه لا يزال في عناء ومشقة، ولهذا قال الله جل شأنه في كتابه الكريم: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32]، فالحياة ستكون سعيدة مطمئنة حين يرضى الإنسان بالمكان الذي وضعه الله عز وجل فيه، يعلم أن هذا هو الخير، وأن قدر الله السابق تكتنفه الرحمة، وتحوطه الرعاية، فهو خير الراحمين وأرحم الراحمين.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    الأمل وإحسان الظن بالله

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! ومن مصادر الصحة النفسية: الأمل، أن يعيش الإنسان مؤملاً لما يحبه، راجياً وقوع ما يتمناه، والقرآن يحثنا على إحسان الظن بالله، وتوقع كل خير فيما يستقبل، وينهانا سبحانه وتعالى عن اليأس، ينهانا سبحانه وتعالى عن سوء الظن به، يحرم علينا أن نظن به سوءاً، فالمسلم يعيش حياة متفائلة، مملوءة بتوقع المحبوب، هكذا دلنا الله في كتابه، ودلنا رسوله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، أخبرنا سبحانه في الحديث القدسي بأنه يفعل بالإنسان ما يظنه هذا الإنسان بربه، فقال لنا سبحانه في الحديث: ( أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء )، ظن بالله خيراً، وأمل منه الخير، فهو أهل لكل معروف، وهو المرجى لكل إحسان، فإذا انتظرت منه هذا فعل بك ما تظنه به.

    طرد القلق

    من مصادر الصحة النفسية: أن يطرد الإنسان عن نفسه القلق المتوهم، الخوف المستقبلي، أناس يعيشون الفقر قبل حصولهم، وأناس يعيشون المرض قبل نزوله، وأناس يعيشون أنواع المصائب والكوارث لمجرد الاحتمال والتوقع، والله عز وجل سد عنا هذا الباب، وأمرنا بأن نحسن الظن به، وصدق الشاعر حين قال:

    سهرت أعين ونامت عيون في شئون تكون أو لا تكون

    فاطرح الهم ما استطعت عن النفس فحملانك الهموم جنون

    إن رباً كفاك ما كان بالأمس سيكفيك في غدٍ ما يكون

    الذي أحسن إليك في الماضي سيكمل الإحسان، ويكمل الجميل في المستقبل، الذي عافاك وأعطاك ورزقك فيما مضى سيعطيك فيما يستقبل، فلماذا الهم من غير موجب؟

    العيش في ظلال طاعة الله

    من مصادر الراحة النفسية الأكيدة: أن يعيش الإنسان في ظلال طاعة الله، صباحه ومساءه، فإذا عاش هذه الحياة فهو موعود بوعد الله الذي لا يتخلف، موعود بوعد الله الذي لا يكذب، قالت عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة )، إذا نزلت به الأمور، واشتدت عليه الكروب رجع إلى الصلاة، فطاعة الله والاشتغال برضوانه هو باب السعادة الأعظم الذي من وفق إليه فقد وفق لكل خير، ومن حرم الوصول إليه فقد حرم الوصول إلى كل خير.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجعلنا من عباده السعداء، نسأله أن يجعل يومنا خيراً من أمسنا، وأن يجعل غدنا خيراً من يومنا، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها.

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا خير الراحمين أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم استعملنا فيما يرضيك عنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا برحمتك يا أرحم الراحمين!

    اللهم اشغل قلوبنا بحبك، وألسنتنا بذكرك، وجوارحنا بطاعتك، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756012600