إسلام ويب

الرفق باليتيمللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإحسان إلى اليتامى قربة من أعظم القربات، ورعايتهم وكفالتهم والحفاظ على حقوقهم من أعظم الواجبات، فمن أراد السعادة ولين القلوب ففي كفالة اليتيم مبتغاه ورجاؤه الذي يبحث عنه.

    1.   

    الرفق باليتيم من خصائص الإسلام

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! روى الإمام الطبراني رحمه الله تعالى وحسنه الشيخ الألباني رحمهم الله جميعاً، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه، فقال له عليه الصلاة والسلام: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ قال: نعم. قال: ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك؛ يلن قلبك، وتدرك حاجتك ).

    اليوم نتحدث عن الدواء العظيم الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث سبباً للين القلوب ورحمتها ورقتها، وإذا لان القلب أشفق، إذا رحم القلب استوجب الإنسان رحمة الله سبحانه وتعالى، فإن الله يرحم الراحمين، ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ).

    نتحدث عن هذه الخصلة العظيمة من خصال الإسلام، وهي الرفق باليتيم، كفالة اليتيم، رحمة اليتيم، إعلان الإسلام عن هذا الحق لهذا الإنسان المستضعف اليتيم، هذا الحق الذي سبق به الإسلام غيره من الأنظمة في الدعاء إلى الاعتناء به والاهتمام به، في آخر ما وصلت إليه الحضارة المادية اليوم.

    الحضارة الغربية أعلنت حقوق الإنسان، وكان من جملة الحقوق حقوق الطفل عامة، لكنهم لم يتكلموا عن حق هذا النوع الخاص من الطفل، هذا النوع الخاص من الأطفال الأيتام، لم يتعرض لهم إعلان حقوق الإنسان، وهذه طبيعة العقل البشري، هذه طبيعة النتاج البشري القصور والجهل، العجز عن الإحاطة بجميع محتاجات هذا الإنسان، أما اللطيف الخبير الذي يعلم ما في الأنفس، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

    اللطيف الخبير سبحانه وتعالى يذكر هذا الحق في مواطن من كتابه الكريم، ويتكلم نبيه صلى الله عليه وسلم عن هذا الإنسان المستضعف، ويضيق على الناس، ويحرج عليهم، ويدخل عليهم أنواع الحرج والضيق إذا هم فرطوا في هذا الحق، فيقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: ( أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة )، (أحرج) يعني: أدعو بالحرج، وأدخل الضيق على كل من تساهل أو تهاون في حق هذا الإنسان المستضعف: ( أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة )، شغلوا العالم بالحقوق الوهمية للمرأة، وتجافوا عن هذا الحق العظيم الذي يحتاجه هذا الإنسان المسكين، حق اليتيم، موقف الشريعة منه، من هو اليتيم؟ وماذا يقول الله في كتابه عن اليتيم؟ وماذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا الإنسان؟ ما الذي له وما الذي عليه؟ هذا موضوعنا في هذه اللحظات.

    1.   

    المراد باليتيم وحدود اليتم

    اليتيم في لغة العرب: من فقد أباه. أما من فقد والديه فيقال عنه: اللطيم، ومن فقد أمه يقال عنه: العجي، اليتيم من فقد أباه ولم يبلغ سن الاحتلام، إذا بلغ الاحتلام رفع عنه اسم اليتم، وإن بقي الحكم، هذا هو اليتيم.

    سئل عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه كما في صحيح مسلم عن اليتيم ومتى يرتفع عنه اليتم، فقال: ولعمر الله إن الرجل لتنبت لحيته وهو ضعيف الأخذ لنفسه، ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ارتفع عنه اليتم.

    هكذا تبقى الشريعة تحافظ على هذا الإنسان، وترعاه وتكلؤه، وتحث الناس وتحظهم على الإحسان إليه، حتى يبلغ هذا المبلغ، حتى يبلغ مبلغ الرجال الكاملين، فيأخذ لنفسه كما يأخذ صالح الناس، ويتصرف لنفسه كما يتصرف المصلحون من الناس، وما دون ذلك هو بحاجة إلى الحماية والرعاية والكلاءة.

    1.   

    مفهوم كفالة اليتيم

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! اليتيم فقد أباه، فهو يحتاج إلى من يقوم بهذا الدور بدلاً عنه، وليست كفالة اليتيم مقتصرة على الإنفاق عليه أو إطعامه، فهذا جزء كبير مما يحتاجه اليتيم من الإحسان، ولكنه ليس كل ما يتمنى، ليس كل ما يريد، اليتيم كغيره من الأيتام، يحتاج إلى يد حانية تمسح رأسه، ويحتاج إلى إنسان مشفق يشعره بالرحمة والحنان، اليتيم كغيره من الناس يحتاج أن يعيش في أوساط المجتمع، فيأخذ منهم ويعطي، ويتعود على الاختلاط بهم، وليست دور الرعاية، ولا دور كفالة الأيتام هي الحل الأمثل لرعاية الأيتام في المجتمع المسلم.

    الصورة المثالية لكفالة اليتيم في مجتمع المسلمين أن يكون اليتيم مختلطاً بأسر المسلمين، أن يعيش معهم في بيوتهم، وأن يتربى مع أبنائهم، فيتعود ما يتعودون من صالح الأخلاق، ويأخذ ما يأخذون من التأديب والتعليم، هذا هو المعنى الكامل لكفالة اليتيم.

    ولذلك العلماء يفسرون كافل اليتيم بأنه مربيه ومصلحه والقائم عليه، هذا هو كافل اليتيم بالمعنى الأكمل، بالمعنى التام، من قام على اليتيم إطعاماً وتربيةً وتوجيهاً وإصلاحاً، وهذا لا يمكن أن يتأتى بكماله وتمامه إذا عزل اليتيم عن المجتمع في دور الرعاية، ولذلك يصبح الناس يتحدثون عن مبدأ الأسر البديلة، وأن يكون لهذا اليتيم أسرة بديلة، أسرة تقوم مقام أسرته المفقودة، وهذا من أنجع الحلول في تنشئة هذا اليتيم تنشئة سوية، مخالطة اليتيم، والمخالطة لليتيم مقصود شرعي.

    الله عز وجل خفف عن المسلمين بعض الأحكام، وهون عليهم بعض المواطن التي كانوا يتحرجون منها، هون عليهم ذلك في مقابل أن يخالطوا اليتيم، وألا يعزلوا اليتيم عنهم، قال ابن عباس كما في صحيح البخاري وغيره: لما أنزل الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]، وأنزل: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:34]، كان كل رجل عنده يتيم يعمد إلى عزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه خوفاً من الإثم، وفراراً من الكبيرة، فإن أكل مال اليتيم من الموبقات كما جاء في الحديث.

    لما نزلت هذه الآيات خشي الصحابة على أنفسهم من أن يقعوا في هذا الإثم، فعمدوا إلى التنزه عن أموال اليتامى، والأخذ بالاحتياط والبراءة، فعزلوا أموال اليتامى، فكان اليتيم يأكل بمفرده، ويشرب بمفرده، فإذا بقي شيء من طعامه حفظ له ليأكله في وقت آخر، وما أراد الله هذا، ما أراد أن يعزل اليتيم فيشعر بالوحشة، ويشعر بالغربة، ويشعر بالانقطاع عن الناس، فأنزل هذا التخريج: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220]، لا حرج عليكم في أن تخالطوا اليتيم، ولو أكلتم بعد ذلك شيئاً من أمواله عن غير قصد، ولو أخذتم شيئاً من أمواله بغير اعتداء، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220]، وشأن الإخوان أن يخالط بعضهم بعضاً، شأن الإخوان أن ينال أحدهم من حظ الآخر بطيب نفس منه، وهكذا ينبغي أن يعامل اليتيم، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220].

    وأورد هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عظيم، فقال: ( من ضم يتيماً بين مسلمين )، يعني: يتيماً من أبوين مسلمين، ( من ضم يتيماً بين مسلمين، فأطعمه من طعامه وجبت له الجنة )، ضم هذا اليتيم إليه، وأطعمه مع أبنائه، وكساه مع أبنائه، وعلمه ورباه كما يربي أبناءه وجبت له الجنة، استحق الجنة، هذا هو المقصود الكامل لهذه الشريعة في رعاية اليتيم، وإذا لم نستطع ذلك فحنانيك بعض الشر أهون من بعض.

    علينا أن نسابق إلى كفالة اليتيم، أحد شراح الحديث وهو الإمام ابن بطال رحمه الله تعالى، وهو يتكلم عن هذا الحديث العظيم في كفالة اليتيم: ( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين ) يقول: حق على كل مسلم سمع هذا الحديث أن يكفل يتيماً حتى يظفر بالقرب من منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.

    1.   

    الإحسان إلى اليتامى اللقطاء

    إخوة الإسلام! كفالة اليتيم من أعظم القربات التي يتقرب بها الإنسان إلى الله، ومن اليتامى الذين ينبغي أن يعرف الناس أن حكمهم ملحق باليتامى اللقطاء، ومجهولو الأنساب الذين لا يعلم الناس من أبوه ومن أمه، فإذا كانت الشريعة تعتني كل هذا الاعتناء باليتيم الذي عرف أبوه، وقد يكون له مال، وقد يكون ثرياً غنياً، ومع ذلك أمرنا بالإحسان إليه في صغره، فمن فقد والديه أحوج إلى هذه الرعاية، وأحوج إلى الإحسان من غيره، مجهولو النسب، وكذلك من يسميه الفقهاء بولد الزنا الذي تركه أبوه، أوقع الفاحشة بأمه وهرب عنها وتركها، هذا بحاجة إلى أن يرعى كما يرعى اليتيم، وعموم الحديث يشمله، فالإحسان إلى كل نفس بقدر ما تحتاج إليه يعظم أجر المحسن إليها.

    1.   

    التعامل مع اليتيم بين أهل الكفر والإيمان

    حال اليتيم عند أهل الكفر والتكذيب

    هذا اليتيم تحدث عنه القرآن بإسهاب في مواطن، وقرنه وأفرده بالذكر في مواطن أخرى.

    يقول سبحانه وتعالى وهو يتحدث عن أعظم صفة يمتاز بها أهل التكذيب للدين الذين فرطوا في حقوق الله، ثم فرطوا في حقوق الخلق، فيقرن سبحانه وتعالى بين حقه سبحانه، وبين حق أول المستضعفين من الناس اليتيم، فيقول في سورة الماعون: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون:1-2].

    إذا أردت أن تعرف أهم صفات المكذبين للدين، رأيت أنهم يتهاونون بحق المستضعفين، يتهاونون بحق الضعفاء الذين لا يستطيعون الانتصار لأنفسهم، فهذا اليتيم مزجور في مجتمعهم.. مهمل، بل يقرع بأنواع الإساءة، ويدفع ويساء إليه بأنواع الإساءات، هذا حال اليتيم في المجتمعات التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر.

    أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:1-3].

    في سورة الفجر يخبر سبحانه وتعالى عن سر الابتلاء بالمال، فيقول نعياً على هذا الإنسان سوء الفهم: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:15-16]، يعني: ضيق عليه رزقه، فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:16].

    قال: (كلا)، ليس الأمر كذلك، لم نوسع الأرزاق ليقول الواحد منكم بأن الله أكرمه، فإنه ليس من عنوان الكرامة بسط الرزق في هذه الدنيا، فكم من مبسوط له في رزقه وهو فاجر يعيث في الأرض فساداً، وكم من ولي لله قد ضيق عليه في رزقه، وهو مدفوع بالأبواب، ولو أقسم على الله لأبره، كلا، ليست المسألة على ما فهمتم، إنما أعطيناكم ما أعطيناكم فتنة وامتحاناً وابتلاءً لنرى ماذا تفعلون، فأين ميدان التسابق إذاً؟ أين يجوز الإنسان هذا الاختبار؟ وكيف يفلح الإنسان في هذا الابتلاء؟

    قال: كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الفجر:17]، فلا تخوضوا الميادين التي ينبغي أن تسابقوا فيها، والتي من أجلها بسط الله الخيرات، وأنزل لكم الأموال، ووسع لكم الأرزاق.

    ميدان الإحسان إلى الناس، وأولاهم بهذا الإحسان اليتيم، كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر:17-18]، لا يحض بعضكم بعضاً على إطعام المساكين.

    هذه هي أهم صفات أهل الكفران: زجر اليتيم، قهر اليتيم، إذلال اليتيم، عدم المبالاة بحق هذا اليتيم.

    حال أهل الإيمان مع اليتيم

    أما أهل الإيمان فلهم شأن آخر، أهل الإيمان وجههم الله عز وجل ووجه النداء لنبيه ليكون لهم أسوة وقدوة، فذكره بنعمته عليه، وهو اليتيم الأعظم، قال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى:6-9]، لا تسيء إليه بأي أنواع الإساءة كانت قولاً أو فعلاً أو إشارة، لا تعتدي عليه بأنواع الاعتداء.

    1.   

    حماية الدين لليتيم وحقه

    أحاط الله عز وجل هذا اليتيم بجملة من التشريعات التي تحفظه وتحفظ حقه.

    بعض النصوص القرآنية المعظمة لحق اليتيم وحرمته

    حرم على الناس الاستيلاء على أموال اليتامى، على خلاف ما كان يعهده العرب في جاهليتهم، فإن اليتيم ماله مستباح، ولا سيما إذا كانت أنثى، فإنها لا تستحق من مالها شيئاً، وإذا خشي الواحد منهم أن تثور عليه هذه الفتاة، أو أن يلومه المجتمع، ولم تكن من محارمه تزوجها قهراً، وأخذ أموالها عنوة، فأنزل الله التشريعات التي تحرم ذلك.

    أمرنا في غير موطن من كتابه بألا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، فقال سبحانه وتعالى في البيان التفصيلي الذي يبين فيه شريعة الإسلام تفصيلاً لمن آمن بها في مكة: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151] إلى أن قال: وَلا تَقْرَبُوا [الأنعام:151]، وهو يعدد أوجه المعاملات والتعاقد بين الناس، بعد أن تكلم عن حقوق الله، وأتى إلى التعاقد والتعامل بين الناس، بدأها سبحانه وتعالى بهذا الحق العظيم: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]، فلا يجوز لأحد أن يقرب مال اليتيم إلا بأحسن الوسائل، يثمره، ينميه، ينفق على اليتيم منه، يحفظه، يرعاه، أما بغير هذا فلا يجوز له أن يقرب مال اليتيم، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152].

    وحذرهم أبلغ تحذير من أن تسول للإنسان نفسه بأن يعتدي على مال يتيم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].

    ويذكرهم سبحانه وتعالى الموقف الحرج، إذا دعتك اليوم قدرتك على ظلم اليتيم والإساءة إليه، فتذكر أن عمرك بيد الله، وأن لك أطفالاً صغاراً وراءك، ربما أصابهم من اليتم ما أصاب هذا: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]، ليرعوا حق الأيتام ما داموا قائمين عليهم، وليتذكروا بأن الله عز وجل قد يعاقبهم إن أساءوا بمثل ما فعلوا: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9].

    كانوا كما ذكرت إذا مات أبو الفتاة الصغيرة وكان لها مال وحظ من الجمال، تزوجها أحد أبناء عمومتها قهراً عليها، وطمعاً في مالها، وطمعاً في جمالها، لا يبذل الواحد منهم ماله الواجب عليه للمرأة، فلا يعطيها من الصداق والمهر كما يعطي غيرها من النساء، فأنزل الله آيات تتلى، يمنع فيها تزوج الفتاة اليتيمة إلا إذا أعطيت كما تعطى غيرها من النساء، قال سبحانه وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، النساء غيرها كثير، وهؤلاء الكثيرات لم ترض الواحدة منهن بالنكاح إلا إذا أعطيت صداقها، فلا تستضعف هذه، ولا تستهن بحقها، فلا يجوز لك أن تنكحها إلا إذا أعطيتها مثلما تعطي غيرها، (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) هذا المعنى: إن خفتم ألا تقسطوا وتقيموا العدل إذا نكحتم اليتيمات فانصرفوا عنهن وتزوجوا غيرهن، ودعوا غيركم يتزوج هؤلاء اليتيمات، فسيوفي لها الحق، وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3].

    هكذا يتحدث الله جل شأنه عن اليتيم في كتابه.

    في مواطن عديدة؛ يذكره سبحانه وتعالى بالاسم مع المساكين في مصارف الأموال، لما تكلم عن الفيء جعل من مصارف الفيء اليتامى، ولما عدد أوجه البر والإنفاق في الخير ذكر منهم اليتامى مع أنهم من جملة المساكين، ولو ذكر المساكين لكفى، ولكنه ينبه سبحانه وتعالى إلى هذا الصنف من الناس، ومدى حاجتهم إلى الرعاية والاهتمام والإنفاق، فيذكرهم جل شأنه في مواطن كثيرة من كتابه.

    بعض النصوص النبوية المعظمة لحق اليتيم وحرمته

    أما النبي صلى الله عليه وسلم اليتيم الأعظم والأسوة الأكمل لهؤلاء الناس، فقد كان يتيماً، وذاق مرارة اليتم، ورباه أقاربه، رباه جده، ثم تكفل به عمه لما بلغ، ولما جاءته الشريعة حث عليه الصلاة والسلام على إكرام اليتيم أبلغ حث، ولا أدل على ذلك من أن جعل منزلة اليتيم تلي منزلته عليه الصلاة والسلام في الجنة، فقد صح في الحديث المشهور ويحفظه الجميع: ( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وفرج بين أصابعه )، أشار بالسبابة والوسطى، وفرق بينهما يسيراً، قال العلماء: ليس بين السبابة والوسطى أصبع، وكذلك ليس بين منزلة كافل اليتيم ومنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة منزلة، فمنزلة كافل اليتيم تلي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين ).

    وجاء في حديث آخر وما أعظمه من بيان منزلة كافل اليتيم، يقول عليه الصلاة والسلام كما حسنه الحافظ : ( أنا أول من يستفتح باب الجنة، فإذا امرأة تبادرني )، امرأة قد لا يحسب لها الناس بالاً، ولا يحسبون لها حساباً، امرأة تسابق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبادره لتدخل الجنة معه، أو قبله، أو على أثره، لكنها تسابق، وهي تطمع في أن تدخل الجنة إما على أثره عليه الصلاة والسلام وإما أن تدخلها معه وتطمع في أن تكون في منزلة رسول الله في أول من يدخل الجنة، قال: ( فإذ امرأة تبادرني )، فيستغرب عليه الصلاة والسلام، ويقول: ( من أنت؟ فتقول: أنا امرأة تأيمت على أيتام لي )، يعني: مات زوجي ولي أيتام، فتركت الزواج ورغبت عن الأزواج وفضلت أن أتأيم، وأبقى أيماً بلا زوج رعاية لهؤلاء الأيتام وحفاظاً لهم (تأيمت على أيتام لي)، فلا عجب بعد ذلك أن تزاحم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون تالية له في المنزلة.

    هذه منزلة كافل اليتيم في هذا الشرع الحنيف، وعده عليه الصلاة والسلام بهذا الوعد العظيم في الآخرة، ووعده قبل ذلك بهذه الجائزة العظيمة التي سمعتموها في أول الخطبة، يلين قلبك، وتدرك حاجتك، ويصلح دينك، وتنقضي حاجاتك، وتصلح دنياك، وتصلح آخرتك، ويخلف الله عز وجل عليك بخير عاجل في دينك وبدنك، وفي نفسك وحياتك وأموالك، فتدرك ما تتمنى، وتصل إلى ما تروم إليه، يلن قلبك وتدرك حاجتك، وإذا لان القلب وأدرك الإنسان الحاجة، فهذا هو الفلاح الذي ليس بعده فلاح.

    أما ماذا يحتاجه اليتيم، ومتى تنقطع عنه هذه الكفالة؟ فهذا ما ستسمعونه في الخطبة الثانية.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    1.   

    أهمية إحياء رعاية الأيتام في مجتمع المسلمين

    نحن بحاجة أيها الإخوة أن نحيي هذه المعاني في مجتمع المسلمين، ليس لأننا مسلمون فحسب، ولكن لأننا أكثر المجتمعات أيتاماً وللأسف، أكثر المجتمعات أيتاماً اليوم الأمة الإسلامية، في القطر الواحد يبلغ الأيتام فيها بالملايين، لا سيما مواطن الحروب والنزاع، في العراق وحدها ما يزيد على خمسة ملايين يتيم، وفي أفغانستان ما يزيد على مليوني يتيم، وفي فلسطين مثلهم، وفي السودان ما يقرب من مليون يتيم، وفي أوطان تصنف على أنها أوطان آمنة بعيدة عن الحروب كاليمن فيها ما يزيد على نصف المليون يتيم، أما الصومال فلا يعلم عددهم إلا الله.

    إذا تصفح الإنسان خارطة هذه الأمة، وما فيها من المنكوبين الذين يستحقون مد يد الإحسان والرحمة يعرف مقدار الواجب المنوط بنا، ويكلفنا بأن نقوم برعايتهم، كما أنه يفضح الوجه القبيح لهذه الحضارة المادية التي تزعم وتتشدق بحقوق الإنسان، لماذا كل هؤلاء الأيتام؟ لماذا ييتم الملايين؟ والعجب أنه يعتدى عليهم في أوطانهم، تدمر عليهم بيوتهم في أوطانهم، رغم أنهم لم يعتدوا على أحد، ولم يذهبوا لغزو أحد، ولم يرفعوا الراية ويعلنوا الجهاد ليغزو أحداً في بلده، اعتدي عليهم في قراهم، وفي أريافهم بعيداً عن المدنية، بعيداً عن تزاحمات المدن، دمرت عليهم البيوت، ويتم الأطفال، إنه الوجه القبيح لهذه الحضارة التي تتشدق مساء صباح برعاية حقوق الإنسان، ورعاية المستضعفين، لكن هذا ينبه هذه الأمة إلى ضرورة القيام بأمرها، فوعد الله عز وجل قريب، ولمن انتصر من بعد ظلمه، فإن الله عز وجل تكفل بحمايته، وتكفل بتأييده ونصره، وتكفل سبحانه وتعالى بإعانته، وقد بلغ الظلم أعلاه، وبلغ السيل الزبى.

    ونحن نذكر بهذا المقام بهذه الشريحة في داخل هذه البلاد وفي غيرها، فهم أحوج ما يكونون إلى الرعاية، وللأسف تنادي الجهات الرسمية بضرورة تنبيه الناس إلى رعاية الأيتام والقيام بحقوقهم، حتى يسارع الميسورون والأغنياء إلى مد يد العون والتعاون مع المؤسسات التي تعنى بكفالة اليتيم، ولا ينبغي لنا أن نغفل عن اليتيم، كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر:17-18].

    أبرز صفات المجتمع المسلم أنه يحض بعضه بعضاً على إطعام المسكين، يحث بعضهم بعضاً على رعاية الضعفاء والمساكين والأيتام، أحوج ما يكونون إلى هذا، ويبقى اليتيم يتيماً في حكم الشرع إلى أن يبلغ، لكن الرعاية قد تستمر له ولو بعد البلوغ حتى يبلغ سناً يأخذ لنفسه كما يأخذ الناس، ويتصرف لنفسه كما يتصرف الناس.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وامكر لهم ولا تمكر عليهم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم عليك بأعداء الإسلام فإنهم لا يعجزونك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756165876