إسلام ويب

العبودية في حياة نبي الله سليمان عليه السلامللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أكرم الله تعالى نبيه سليمان -بعد النبوة- بنعم كثيرة: كالملك والمال وغير ذلك، فسخرها في طاعة الله وعبوديته سبحانه، ولم يكن ذلك شاغلاً له عما يقربه إلى ربه من الأعمال الصالحات، فاستحق ثناء الله تعالى.

    1.   

    وقفات مع قوله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان) إلى قوله: (فطفق مسحاً بالسوق والأعناق)

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! في هذه اللحظات نقف مع أربع آيات من سورة (ص)، يتحدث فيها سبحانه وتعالى عن نبي الله سليمان، قال فيها جل شأنه: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:30-33].

    نعمة الولد

    في هذه الآيات الأربع التي ذكرها الله جل شأنه، ذكر قصة داود في مطلع السورة، ثم ثنى بذكر نبي الله سليمان ولم يذكره كعادته سبحانه وتعالى في ذكر الرسل بأن بدأ القصة بالذكر، كما قال سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ [ص:17]، وكما قال بعده: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ [ص:41]، لكنه في قصة سليمان عطف قصته على قصة والده، فقال: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ [ص:30]، فكان من نعم الله على النبي الأول داود، ومن جملة فضائله وعطاياه أن وهب له هذا الولد، وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ [ص:30]، فسليمان أثر من آثار داود، وبقية من بقايا داود؛ ولذلك لم يذكر على جهة الاستقلال، إنما ذكر على جهة التبعية للنبي الأول، وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ [ص:30].

    وتنبه إلى هذا الأسلوب القرآني الرفيع حينما يتكلم عن الولد مع الوالد، ويذكر الولد بصيغة الهبة والعطية والمنيحة والفضل وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ [ص:30]، وكما قال سبحانه في آخر سورة الشورى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]، فالأولاد هبة، وينبغي للإنسان أن يستشعر هذا المعنى، وهو أنه حين يرزق الولد فإنه يعطى عطاءً عظيماً من الله؛ لأن به استمرار الحياة بعد موتك، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: ولد صالح يدعو له )، أي: يدعو له بعد موته، فالولد استمرار لك بعد الممات، وكما جاء في الحديث الآخر: ( يرى الإنسان يوم القيامة في صفحاته استغفاراً كثيراً ) يرى حسنات كثيرة هو لم يعملها ( فيقول: يا رب! من أين هذا؟ فيقال له: باستغفار ولدك لك )، الولد إنما يطلب لهذا المعنى العظيم، لا يطلب لمجرد النظر إليه، لا يطلب لمجرد الانتفاع به بمنافع الدنيا.

    إن أعظم ما يقصده الصالحون من أبنائهم صلاح الأبناء ليكونوا ثمرة وعملاً لهم بعد مماتهم، وهكذا كان يقول الأنبياء، كما قال الله عز وجل عن إبراهيم: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:100-101].

    مقام العبودية لله

    قال تعالى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، المدح الإلهي حين يمدح سبحانه وتعالى أحداً من الناس، إنما يمدحه بتحقيق هذا المعنى العظيم، وهو العبودية لله جل شأنه، ليس بين أحدٍ منا وبين الله رحم، وليس بين أحدٍ منا وبين الله نسب، كلنا أبناء آدم، كلنا خلقه، كلنا عياله، خلقنا من نفس واحدة، من أصل واحد، على اختلاف ألواننا، على اختلاف أنسابنا، على اختلاف لغاتنا، كلنا ذاك المخلوق من أصلٍ واحد، ونتفاوت بالميزان الإلهي بمعنى واحد، وهو تحقيق العبودية لله: من كان لله أطوع كان عند الله أرفع، من كان لله أعبد كان عند الله عز وجل أعز وأمنع.

    وهنا يذكر سبحانه وتعالى هذا الإنسان الكريم سليمان عليه السلام ويمدحه بأسلوب المدح العربي: نِعْمَ الْعَبْدُ [ص:30]، لكنه لم يقل فيه: (نعم) إلا لما كان عبداً لله، والعبودية أرفع مقام يصل إليه الإنسان، عبودية الذل، عبودية الطاعة، عبودية الاستسلام لأمر الله ونهيه، أما العبودية الكونية، وهو جريان الأقدار علينا، جريان أحكام الله علينا، فالناس كلهم عباد، المؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ لكن هناك عبودية اختيارية يفعلها الإنسان بطواعيته، باختياره، برغبته، وهي الذل والاستسلام لأمر الله، يأتمر حين يأمره الله، وينتهي حين ينهاه الله، هذه العبودية أرفع مقام يبلغه الإنسان؛ ولذلك مدح الله نبيه عليه الصلاة والسلام وذكره في أشرف مواطن يذكر فيها محمداً بالعبودية: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، وقال سبحانه وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، في أرفع مقامٍ يبلغه عليه الصلاة والسلام يمدحه الله تعالى بالعبودية.

    وهنا كذلك مدح سليمان عليه السلام وأثنى عليه بأنه حقق العبودية لله، نِعْمَ الْعَبْدُ [ص:30]، وهكذا كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أراد أن يمدح إنساناً إنما يمدحه بمقدار ما فيه من العبودية لله، وإن كان فيه نقص نبه على ذلك النقص، كما قال في الصحيح: ( نعم الرجل عبد الله بن عمر لو كان يقوم من الليل ) على ما فيه من الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان شديد المتابعة لرسول الله، فكل ما يفعله رسول الله من قول أو فعل يحاول عبد الله بن عمر جاهداً أن يفعل مثله، لكنه كان متساهلاً في قيام الليل، وهذا نقص في كمال عبوديته، فقال عنه: ( نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل )، فما ترك عبد الله بعد ذلك قيام الليل.

    الاشتغال بالدنيا عن الذكر والعبادة

    ثم بيّن سبحانه وتعالى مظهراً من مظاهر هذه العبودية، فقال: إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، كثير الرجوع إلى الله، كثير الاستغفار لله، (أواب) كثير العود إلى الله تعالى، كلما أخذته الأخذات رجع إلى الله سبحانه وتعالى سريعاً.

    ثم في الآية التالية ذكر موقفاً من مواقف هذا الأوب، موقفاً من مواقف هذا الرجوع، ليس رجوعاً عن الحرام، ليس رجوعاً عن معصية، ولكنه رجوع عن حالٍ سافل إلى حال أعلى، ذكر موقفاً من مواقفه عليه السلام، وهو اشتغاله بماله، اشتغاله بدنياه عن ذكر الله المستحب، اشتغاله بالنظر إلى المال الجميل، اشتغاله بالنظر إلى زينة الدنيا وبهرجها، اشتغاله بالنظر إلى متاع الدنيا ونسيانه لما هو أولى من ذلك وأجدر بالاهتمام، فذكر موقفاً من مواقفه، قال: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ [ص:31]، والعشي ما بعد الظهر إلى غروب الشمس عند أكثر العلماء، عرض عليه في هذا الوقت أعز أمواله، وأنفس أمواله عنده وهي الخيل الجياد، والصافنات هي الخيل التي إذا وقفت وقفت على ثلاث قوائم، والرابع تقف فيه على طرف الحافر لا تضع قدمها كله على الأرض، وهذا يدل على جودتها وحسنها وخفتها، فهي إذا وقفت وقفت ساكنة، وإذا سارت سارت مسرعة.

    ثم وصفها بوصف آخر، وهو جودتها وسرعتها حال السير والجري، فقال: الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ [ص:31]، يعني: عرض عليه الخيل وهو أعز الأموال عند العرب وعند الناس، ولم يعرض عليه أي خيل، إنما عرض عليه أعز أنواع الخيل وهي الصافنات الجياد، وعرضت عليه في وقت العشي، وهذا الوقت هو الوقت الذي يتفقد فيه الناس أموالهم من النعم؛ لأنها في الصباح تغدو وفي المساء تروح، وفي هذه الساعة يتمتع أرباب الأموال بالنظر إلى هذه الأموال باكرةً أو غاديةً، ويتمتعون إليها حال الرواح، كما قال سبحانه وتعالى في سورة النحل وهو يتكلم عن نعمه: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:5-6]، جمال الأموال حين تعرض على أربابها، كانت تعرض عليهم أنعامهم في البكور فيتمتعون بالنظر إليها، وتعرض عليهم في العشي حين تروح فيتمتعون بالنظر إليها، وهذا هو مقصودهم من تجميع هذه الأموال.

    وهكذا كان نبي الله سليمان قد عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد.

    1.   

    وجه التمتع بالمال الزائد عن الحاجة

    في هذا درس تربوي مهم في مسألة المال ينبغي لنا أن نتفطن له وهو: أن المال ما زاد منه عن الحاجة إنما يتمتع به الإنسان بالنظر إليه، يتمتع الإنسان بعدِّه، والمباهاة به، والمفاخرة في جمعه، لا يأكل منه، ولا يلبس منه، ولا يركب منه؛ لأنه زائد عن حاجاته، فاللذة الوحيدة والشهوة الوحيدة التي يحصلها من هذا القدر الزائد من المال إنما هي الاستمتاع بالنظر إليه؛ ولذلك قال أبو الدرداء رضي الله عنه في حكمة حقها أن تحفظ يقول: الأغنياء يلبسون كما نلبس، ويأكلون كما نأكل، ويشربون كما نشرب، ويركبون كما نركب، نشترك جميعاً في تحقيق هذه المقاصد من المال إلا أنهم لهم فضول أموال يتمتعون بالنظر إليها، ونحن نشارك الأغنياء النظر إلى هذه الأموال، فالأبراج منصوبة كلنا يراها، والعمارات شاهقة كلنا يتمتع بالنظر إليها، والسيارات الفارهة كلنا يستمتع بها والنظر إليها، ولهم فضول أموال يستمتعون بالنظر إليها، ونحن نشاركهم النظر إلا أنهم يحاسبون ولا نحاسب.

    هذا الفارق بين أرباب الأموال الزائدة وبين من عدم هذا القدر الزائد، أن هذا في عافية من الحساب، في عافية من السؤال ( ولن تزول قدما عبدٍ حتى يسأل عن أربع، ومنها: عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه )، هنيئاً لمن رزقه الله عز وجل مالاً فطوعه وسخره ليوصله إلى الله، فـ( لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق )، لكن وا أسفاه على من شغلته أمواله عن الوصول إلى ربه، وا أسفاه على من حجبته أمواله عن الوصول إلى أعلى درجات الجنان، وا أسفاه عليه.

    نبي الله سليمان في هذا الموقف اشتغل بالنظر إلى الصافنات الجياد حتى غربت الشمس: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:31-32]، (أحببت حب الخير)، والخير يعني: المال، يقول: انشغلت بحب المال عن ذكر ربي، انشغلت بالنظر إلى المال وآثرته عن ذكر ربي، حتى توارت بي الحجاب، والذكر هنا ذكر مستحب وليس ذكراً واجباً، فالأذكار منها الواجب ومنها المستحب، والعلماء يقولون: لم يكن في شريعة موسى عليه السلام التي كان عليها داود وسليمان صلاة بعد الزوال إلى الغروب، كما هو حال هذه الأمة، فمعنى ذلك أن نبي الله سليمان لم يشتغل عما أوجبه الله عز وجل عليه، إنما اشتغل عن نافلة، اشتغل عن ذكر كان سيرتقي به درجة عالية، انشغل عنه بهذا المال، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32].

    أما من اشتغل بالمال أو بغير المال عن ذكر واجب، من اشتغل بالمال عن الصلاة، من اشتغل بالمال عن الزكاة، من اشتغل بالمال عن طاعة واجبة، فهذا خاسر، هذا الذي ذكره الله في آخر سورة المنافقين؛ لأن هذا دأب المنافقين، وهذا خلق المنافقين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9] خاسر كل الخسارة، من شغلته دنياه عن آخرته، الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن الدنيا، لكنه مطالب بأن يشتغل بالدنيا ليصل إلى الآخرة.

    علماء السلوك يقسمون الناس إلى ثلاثة أقسام: رجل شغله معاده عن معاشه، شغلته الآخرة فانصرف لها وانقطع عن الدنيا، فهذا من الفائزين، ورجل شغله معاشه لمعاده، فهذا من المقتصدين، شغله الكسب والمعاش ليس لذات الكسب، ولا لذات المعاش، ولكن ليصل منه إلى المعاد، فهذا من المقتصدين، يعني: الذين أدوا ما عليهم، واجتنبوا ما حرم الله عز وجل عليهم، ورجل شغله معاشه عن معاده، فهذا من الخاسرين؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9] أي: عن ذكر الله الواجب، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].

    نبي الله سليمان شغل عن الذكر المستحب، عن صلاة النافلة، عن تسبيحات، وعن تهليلات، فرأى أنه وقع في الغبن، ووقع في الخسارة، ولن تغني عنه تلك الصافنات الجياد شيئاً، فعاتب نفسه وعاقبها، وأراد أن يحول ذلك المال وسيلة للبلوغ إلى أعلى الدرجات، فقال: رُدُّوهَا عَلَيَّ [ص:33] أي: أعيدوا عرضها ثانية، ولما ردوها عليه قال الله: فَطَفِقَ [ص:33]، يعني: فبدأ وشرع، مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:33]، بدأ يعمل سيفه فيها، فيضرب ساقها ليعرقبها فتبرك، ويضرب عنقها بالسيف ليقطعه فتذبح، ثم تصدق بها وذبحها طعمة للفقراء والمساكين حتى لا تكون حجاباً بينه وبين الله سبحانه وتعالى.

    هكذا يقص علينا سبحانه وتعالى طرفاً من أخبار الصالحين لما فيها من العبرة والعظة التربوية، وما قص علينا هذا سدى، إنما قصه لنحبهم في الله، لما تمتعوا به من الصفات الإيمانية العلية، ولنقتدي بهم ونأتسي فيما يفعلونه ويمارسونه.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    ثمرة الاشتغال بطاعة الله

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! لقد ذكر الله عز وجل في كتابه المؤمنين عمار المساجد في سورة النور، فأخبر سبحانه وتعالى عن فئة من عباده الصالحين بأنهم لا تشغلهم تجارة، ولا يشغلهم بيع، ولا تشغلهم دنيا عن الاشتغال بذكر الله، قال: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]، لم يمدح قوماً فقراء؛ لأن من لا يوجد فيه سبب الغفلة لا يمدح على تركه لذلك السبب، إنما مدح قوماً أغنياء لهم أموال ولهم تجارات، ويمكن أن يشغلهم الصفق والبيع، ولكنهم مع وجود هذه المشغلات لم ينصرفوا إليها، ولم ينطاعوا لدواعي نفوسهم بالاشتغال بها، إنهم كما قال الله عنهم: (رجال)، وهذا معنى الرجولية الحقة في أتم معانيها، وذلك بأن يكون الإنسان محققاً للمعاني النبيلة التي بها يمدح الرجل، وأهمها وأعلاها الاشتغال بطاعة الله.

    وأخبر سبحانه في الآية التي تليها بأنه سبحانه يوسع لهم في العطاء، فالاشتغال بطاعة الله ليس من أسباب الحرمان، الاشتغال بطاعة الله ليس من أسباب النقص، الاشتغال بطاعة الله لا يفوت معه خير أبداً، فقد قرر سبحانه وتعالى في كتابه أن من أراد الدنيا فعليه الاشتغال بالله، قال سبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134]، من كان يريد الدنيا فطريقها إرضاء الله، من كان يريد علواً ومالاً وجاهاً، من كان يريد خير الدارين، فالطريق الموصل إلى ذلك طاعة الله.

    وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18] حتى العاجلة بيد الله، يعجل فيها ما يشاء لمن يريد سبحانه وتعالى، فليس كل من أراد أعطي، وليس كل من طلب الدنيا أعطي، فلا يغني عنك ذلك شيئاً، خير ما ينتهجه الإنسان للوصول إلى رزق الله وعطائه الاشتغال بطاعة الله، وخير ما ينبغي أن يوقن به الإنسان أن معصية الله من أعظم أسباب الحرمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )، المرابي يظن أنه يكثر أمواله وهو ينقصها، المرابي يظن بأنه يزيد في أرصدته وهو يمحقها، والسارق يظن أنه يحصل مالاً وهو يذهب بركته، والغاش وغير هذه الأصناف كلهم يسعون في غير الطريق الصحيح، وخير طريق للوصول إلى أرزاق الله الاشتغال بطاعة الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].

    هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لما مشى في هذا الدرب وبذل هذه الأموال لله لم يكن هذا نقصاً في ماله، لم يكن هذا نقصاً في ثروته، لم يكن هذا نقصاً فيما أنعم الله عز وجل عليه، الآيات التي تليها تقرر بأن الله عز وجل أبدله خيراً من تلك الصافنات الجياد، وعوضه خيراً من ذلك المال الذي بذله لله وعاقب نفسه ببذله والتصدق به على غفلتها عن الله، قال: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36]، الريح اللينة المطيعة الذليلة، تجري بأمره فتحمل له ما شاء إلى حيث شاء، وكما قال في سورة سبأ: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12] في الصباح إذا أصبحت تقطع مسيرة شهر، وإذا أمست تقطع في مدة الرواح مسيرة شهر، فهذا لا شك ولا ريب أنه خير وأبقى من الصافنات الجياد، الصافنات الجياد كم ستقطع في البكور؟ وكم ستقطع في الرواح؟ وكم جهدها أن تحمل؟ لكن عوضه الله عز وجل خيراً من ذلك وأبرك، خيراً من ذلك وأنفع، لما بذل ذلك لله.

    فالاشتغال بطاعة الله، الاشتغال بذكر الله، تعليق القلب بالله، ابتغاء الدنيا من عند الله مفتاح الأرزاق، من فتح هذا الباب فتح الله عز وجل عليه.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وامكر لهم ولا تمكر عليهم، وكن لهم ولا تكن عليهم، اللهم أعنهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز.

    اللهم صل وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756475304