إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب اللعان [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • باب اللعان هو أحد الأبواب التي أولاها الفقهاء اهتمامهم، يتبين ذلك من خلال ذكرهم لمسائل وأحكام اللعان، وهو يختص بالزوجين، وله شروط لابد من توافرها حتى يصح، كما أن له كيفية مخصوصة ذكرتها الشريعة لابد من التقيد بها.

    1.   

    اختصاص حكم اللعان بالزوجين

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [يشترط في صحته أن يكون بين زوجين].

    شرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توافرها للحكم بصحة اللعان، وأصل اللعان أن الزوج يتهم الزوجة بالزنا -والعياذ بالله- أو ينفي الولد أو الحمل عنه، ففي كلتا الحالتين يكون هناك لعان، سواءً اتهمها بالزنا أو نفى الحمل أو نفى الولد، على تفصيل سنبينه إن شاء الله تعالى.

    والأصل الشرعي يقتضي أنه إذا قذف امرأته بالزنا. فإنه يخيّر بين أمرين:

    إما أن يقيم البينة على أنه صادق، وأن زوجته زانية، وحينئذ لا إشكال، فلا يقام عليه حد ولا لعان.

    وإما أن يتعذر عليه إقامة البينة، فالأصل الشرعي حينئذٍ يقتضي أن يُقام عليه حد القذف؛ لأنه لما قذف هلال بن أمية رضي الله عنه امرأته بـشريك بن سحماء رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم لـهلال : (البينة أو حد في ظهرك)، فخيّره بين الأمرين: البينة التي تثبت أنه صادق في اتهام زوجته بالزنا، أو الحد الذي أوجبه الله على كل مفترٍ وقاذف، فجاء اللعان ليخرج الزوج من هذا الحد إذا تعذر عليه إيجاد البينة.

    فيختص اللعان بالزوج لأمور وأسباب خاصة، والأصل أن كل من قذف نطالبه بالبينة على صحة قذفه أو يقام عليه الحد، لكن مسألة اللعان تختص بالزوج والزوجة، ولذلك لو قذف الوالد ولده، أو قذف الأخ أخاه، أو قذف الصديق صديقه، فهذه الأمور لها أحكام خارجة عن اللعان.

    واللعان -كما ذكر العلماء- مستثنى من الأصول، والمستثنى من الأصول هو: الذي خرج بنص عن أصل عام، فالأصل العام هنا وجوب الحد إلا أن يُثبت الزوج بالبينة صحة القذف بالزنا، فلما استثني اللعان وجاء على هذه الصورة الخاصة فينبغي علينا أن ننظر إلى الشروط الشرعية التي يثبت بها اللعان فنقول:

    إنه لا يثبت اللعان إلا إذا توافرت فيه الشروط تامة كاملة، وهذه الشروط هي التي يعبر عنها بالعلامات والأمارات التي ينبغي توافرها واجتماعها للحكم باللعان الشرعي، وهي الشروط التي يذكرها العلماء.

    فاللعان لا يمكن أن يكون لعاناً شرعياً إلا بين الزوجين، فلو أن صديقاً قذف صديقه أو أخاً قذف أخاه، فجاء شخص وقال: يثبت اللعان بين الأخ وأخيه إذا حصل القذف قياساً على الزوج مع زوجته، فنقول: هذا قياس باطل؛ لأن القاعدة الأصولية تقول: ما خرج عن القياس فغيره لا يقاس عليه، وقول القياس، إذا قال العلماء القياس يريدون به الأصل العام، وهذا ينبغي أن ينتبه له طالب العلم فالقياس هو: الشيء الأقيس الذي جرى على النصوص المحفوظة في الباب، فالأصل هنا أن من قذف فعليه أن يقيم البينة أو يقام عليه حد القذف، فخرج اللعان عن الأصل العام وهو القياس، فغيره لا يقاس عليه مع أن صلة الأخ مع أخيه صلة قرابة ولحمة، وربما تكون أعظم من صلة الزوج مع زوجه، لكن الشريعة نظرت إلى أن الزوج يُقدم على إفساد فراشه، واتهامه لزوجه بالزنا إضاعة لمهره، وإضاعة لولده وليس هناك عاقل يتهم زوجته بالزنا كذباً، وينفي ولده منها، فالشريعة أعطت هذه الحالة المستثناة أحكاماً خاصة، ولابد من توافر الشروط الشرعية، وهي:

    الشرط الأول: أن يكون اللعان بين الزوجين، فليس هناك لعان شرعي بين سيد وأمة وبين أخ وأخيه، ونحو ذلك، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ [النور:6] فخص هذا الحكم بين الزوج وزوجته، وهذا هو الشرط الأول.

    وقوله: (ويشترط في صحته) أي: من أجل الحكم بصحته وتنفيذه، والضمير في قوله: (صحته) عائد إلى اللعان، فلا ينفذ لعان إلا إذا كان بين زوجين، سواءً كان قد عقد على المرأة ودخل بها أو لم يدخل بها، سواءً كانت في عصمته أو طلقها طلاقاً رجعياً؛ لأن المطلقة رجعياً في حكم الزوجة، وهذا اختيار طائفة من العلماء أن المطلقة رجعياً يحق لمطلقها أن يلاعنها؛ لأنه سيتضرر بنسبة الولد إليه، وسيتضرر بنسبة ما يكون من حملها إليه.

    1.   

    اللعان باللسان العربي

    قال المصنف رحمه الله: [ومن عرف العربية لم يصح لعانه بغيرها].

    الشرط الثاني: أن يجري اللعان باللسان العربي، وذلك أن اللعان ثبت بنص شرعي أشبه التعبد، ولذلك اشترط: عدداً معيناً، ولفظاً معيناً، وترتيباً معيناً، فلابد أن يقع على هذه الصفة الشرعية الواردة، وهذا أصل عند العلماء، ومن باب الفائدة: دائماً في الفقه ما استثني من الأصل، وجاء على صورة خاصة فينبغي عليك أن تتقيد بهذه الصورة الخاصة، فلا تزد عليها ولا تنقص؛ لأنه استثناء شرعي على صفة مخصوصة، لذلك لابد أن يكون بالصفة الواردة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه بالنص أنه لاعن بهذا اللسان، فالأصل أن يقع اللعان بلغة العرب لمن استطاع أن ينطق بها وعرف معناها.

    اللعان بغير العربية لمن جهلها

    قال المصنف رحمه الله: [وإن جهلها فبلُغته].

    إن جهل الزوج الملاعن أو جهلت الزوجة الملاعنة اللغة العربية؛ فبلغة الزوج وبلغة الزوجة، لكن هنا تفصيل: إذا كان كلا الزوجين لا يعرفان العربية أو أحدهما لا يعرفُ العربية فللقاضي حالتان:

    الحالة الأولى: أن يكون عالماً بلسانهما، بحيث يستطيع أن يفهم كلامهما دون وجود مترجم، فحينئذ لا إشكال، ويجري اللعان باللسان غير العربي، ويجري عليه القاضي الأحكام كما لو سمعه بالعربي.

    الحالة الثانية: إذا كان القاضي لا يعرف هذا اللسان المغاير للسان العرب، فحينئذ يحتاج إلى المترجم، وهل المترجم مخبر أو شاهد؟ إن قلنا: إنه ناقل للخبر فلا يشترط فيه التعدد، ويكون المترجم الواحد كافياً، وإن قُلنا: إنه شاهد فحينئذ لابد من مترجمَينِ، وهذه المسألة ستأتينا إن شاء الله في باب أدب القاضي.

    1.   

    اللعان يسقط حد القذف عن الزوج

    قال المصنف رحمه الله: [فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان].

    الشرط الثالث: أن يقذف الرجل زوجته بالزنا، فلا يجري اللعان إذا لم يقذفها بالزنا، والقاعدة عندهم: أن كل ما يثبت به القذف يثبت به اللعان، وما لا يثبت به القذف لا يثبت به اللعان؛ لأن اللعان في الأصل شُرع لدفع الحد عن الزوج، وهذا يقتضي أن يكون هناك موجب للحد وهو القذف، والدليل على صحة اشتراط وجود القذف قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6]، فاشترط سبحانه وتعالى وجود الرمي بالزنا؛ لأن الرمي في لغة العرب يطلق بمعنى التهمة.

    رماني بأمر كنت منه ووالدي برياً ومن أجل الطوي رماني

    فالرمي هو: القذف والتهمة بالسوء، فالرمي في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6] يشمل جريمة الزنا، ورميه لها بالزنا إما أن يكون صريحاً أو تعريضاً، فالصريح لا إشكال فيه عند العلماء، وسيأتينا إن شاء الله صريح لفظ الزنا كأن يقول لها: يا زانية، أو يقول: أنت زنيتِ بفلان، سواءً ذكر من زنت معه أو وصفها بالزنا، والرمي المحتمل للزنا كأن يقول: يا خبيثة، أو الرمي بالوصف المتضمن للزنا كأن يقول: يا فاسدة، فهذا يحتمل أنه قصد بالخبث جريمة الزنا، ولذلك فسر قوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26] أي: الزانيات للزناة، وقيل: الخبث يطلق بمعنى الفساد الذي يشمل الزنا وغيره، ولذلك قال تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، فإذا قذفها صريحاً فلا إشكال، وإذا قذفها تعريضاً فهذا فيه تفصيل، وسيأتي عند ذكر الألفاظ التي يثبت بها القذف تعريضاً أنه يسأل، القاذف عن نيته وقصده، فإذا فسر اللفظ المحتمل بالزنا فهو قذف، كأن يقول: إنه قصد بقوله: يا خبيثة، إنها زانية، فحينئذ لا إشكال، فهو كما لو قال لها مباشرة: أنت زانية، والعياذ بالله!

    فيشترط -كما ذكر المصنف- أن يكون هناك لفظ دال على التهمة بالزنا، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، منهم من يقول: يثبت القذف بالزنا وحده ولا يشمل ما يلحق بالزنا، فلو رماها بغير الزنا مما يأخذ حكم الزنا فلا يثبت اللعان، مثل أن يرميها بالوطء في الدبر، وبعض العلماء يرى أنه يلحق بحكم الزنا، الوطء بالدبر، فيأخذ حكم الزنا في مذهب طائفة من العلماء، وبناءً على ذلك قالوا: إذا رماها بتهمة في القبل أو الدبر مما يوجب الحد فإنه يحكم باللعان، وقال بعض العلماء: يختص الحكم بالزنا فقط، لكن ظاهر الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ [النور:6] أن الرمي يقع بالقبل ويقع بالدبر، وستأتينا هذه المسألة إن شاء الله في باب الزنا بتفصيل، وتبين الحكم الشرعي في الوطء بالدبر.

    ومفهوم قوله: بالزنا، أنه لو رماها بما لا يوجب الحد كأن يرميها بالسحاق -وهو إتيان المرأة للمرأة-؛ فلا يوجب اللعان.

    وقوله رحمه الله: (فإذا قذف امرأته بالزنا) خرج بذلك قذف الأجنبية، فلو كانت امرأة أجنبية عنه وقال لها: يا زانية، فنقول له: إما البينة وإما حد في ظهرك، فإذا قذف زوجته -سواء زوجته التي دخل بها أو التي لم يدخل بها، والتي طلقها أو التي لم يطلقها- فله إسقاط الحد باللعان، ولا يكون هذا إلا بالشكوى والمطالبة بذلك، أو يكون القذف في مجلس القاضي، وسيأتينا إن شاء الله أن اللعان لا يكون إلا في مجلس القاضي، والدليل على ذلك أن القذف حق خاص، ومن الحدود ما هو حق خاص، ومنها ما هو حق عام، ومنها ما الحق فيه مشترك لله وللمخلوق، فالحق الخاص لا يمكن للقاضي أن يقضي فيه حتى يطالب صاحبه، فمثلاً لو أن شخصاً أخذ مال شخص فعلى القاضي أن يجعل القضاء الشرعي حيادياً، وألا ينحاز إلى إحدى الطائفتين إذا اختصموا، فليس له أن يتدخل ويقول: يا فلان! رد المال إلى فلان، حتى يشتكي صاحب الحق ويقول: إن فلاناً ظلمني في كذا، فلابد أن يثبت أنه ظلمه، وينتظر منه أيضاً المطالبة من صاحب الحق، فهذه الحالة الأولى.

    الحالة الثانية: أن يقذف في مجلس القضاء، مثلاً امرأة آذاها زوجها وقذفها بالزنا في بيتها بينه وبينها، أو قذفها بالزنا أمام أمها أو أمام أبيها فرفعته إلى القاضي، فإذا رفعته إلى القاضي وأقر أنه قذفها بالزنا جرى اللعان؛ إذاً: لابد أن يكون في مجلس القضاء أو بمطالبة الزوجة التي هي صاحبة الحق، فإذا قذفها بالزنا ورفعته إلى القاضي، فحينئذٍ يقال له: إما أن تثبته بالبينة، وإما أن يجري اللعان بينك وبينها.

    وقوله: (فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان) (فله) أي: للزوج، (إسقاط الحد) أي: حد القذف الذي هو ثمانون جلدة، (باللعان) لأن حكم القاذف ثمانون جلدة وترد شهادته، وانظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى في حكمه وتشريعه، فالذي يتسلط على أعراض المسلمين ويقذفهم ويتهمهم بالباطل جعل جزاءه قطع لسانه، كما قال تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، فمنع من قبول شهادته، ووصفه بالفسق، وهو: الخروج عن طاعة الله عز وجل، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يكون على حذر من الوقوع في أعراض المسلمين، وأن يزين لسانه بتقوى الله عز وجل، وأن يحذر كل الحذر من أن يُطلق لهذا اللسان عنانه في الوقيعة في مسلم أو مسلمة.

    فلذلك إذا قذف الرجل امرأته بالزنا فعليه البينة أو حد في ظهره.

    وقوله: (فله) أي: للزوج أن يدفع هذا الحد عنه باللعان؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل للأزواج فرجاً ومخرجاً، ثم انظر إلى حكمة التشريع حيث يبدأ باللعان الزوج أولاً ثم بعد ذلك الزوجة، فجعل الرهبة والتخويف أولاً للمتهم للغير، الواقع في عرض الغير زجراً وتخويفاً له، ولذلك يوقف عند الرابعة ويُذكر بالله عز وجل.

    1.   

    سبب تقديم الزوج قبل الزوجة في اللعان

    قال المصنف رحمه الله: [فيقول قبلها أربع مرات: أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه، ويشير إليها].

    يبدأ الزوج باللعان قبل امرأته، فلو أن المرأة بدأت قبل زوجها لم يصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى بدأ بالزوج وثنى بالزوجة؛ لأن الزوج يثبت والزوجة تنفي، والزوج يبني والزوجة تنقض، والنقض يكون بعد البناء، والهدم بعد الوجود، فأولاً يثبت الزوج ويشهد، وكأن كل يمين منه بمثابة شاهد، ولذلك إذا امتنعت الزوجة عن أيمان اللعان أقيم عليها حد الزنا.

    إذاً: لابد أن يبدأ الزوج قبل الزوجة؛ لأن هذا اللعان ثبت بصفة شرعية، اقتضت تقديم الزوج على الزوجة، فيبدأ الزوج باللعان ويقول: أشهد بالله لقد زنت زوجتي، وهي لا تخلو من حالتين:

    إما أن تكون جالسة في مجلس القضاء، فيقول: زوجتي هذه ويشير إليها.

    وإما أن تكون غائبة عن مجلس القضاء لعذر فيقول: زوجتي فلانة بنت فلان، فيصفها وصفاً يميزها عن غيرها، ويوجب ثبوت التهمة عليها.

    1.   

    التقيد بلفظ أشهد عند اللعان

    ويقول: (أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه)، فلابد أن يأتي بلفظ: أشهد؛ لقوله تعالى: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [النور:6]، فلا يُغير في هذا اللفظ، ولا يزيد ولا ينقص، فلا يغير لفظ أشهد إلى أحلف؛ لأن الحلف يمين يمكن أن يكفر عنها، ولكن قوله: أشهد بالله، أمر عظيم جداً؛ لأنه يشهد الله جل جلاله، وكفى بالله شهيداً، ولذلك نسبة العلم إلى الله في شيء ليس بالأمر الهين، حتى أن بعض العلماء يقول: من قال: يعلم الله أنه حدث كذا وكذا، كاذباً فقد كفر؛ لأنه نسب إلى الله العلم بشيء لم يقع، حيث ينسب إلى الله صفات ليست موجودة، وهذا الذي جعل بعض العلماء يشددون ويمنعون من هذه الكلمة، فإشهاد الله ونسبة العلم إلى الله في أمر ليس من السهولة بمكان.

    فذكر المصنف أنه لابد أن يتقيد بهذا اللفظ فلا يبدله ولا يغيره؛ لأنه أشبه بالتعبد، مثل ألفاظ التشهد، فيقول: أشهد بالله لقد زنت، فيثبت التهمة بالصريح من القول، ولا يقول: لقد أخطأت زوجتي، أو لقد زلّت زوجتي، بل لابد أن يقول: لقد زنت، ويُصرح ويقول: زوجتي؛ لأنه لو قال: قد زنت فلانة، فيحتمل أنه يقصد امرأة ثانية يشبه اسمها اسم زوجته، ويقول: زوجتي هذه؛ لأنه قد تكون عنده أكثر من زوجة، ويريد الإضرار بزوجة على حساب زوجة أخرى فاسدة، فيشهد بزنا زوجته قاصداً التي في ذهنه، فيقول: زوجتي هذه.

    1.   

    تتابع الشهادات عند اللعان

    ويشترط تتابع الشهادات، فإذا أتم الزوج الشهادة الأولى يُتبعها بالشهادة الثانية في مجلس واحد، فلو أنه شهد اليوم في الساعة الواحدة شهادة واحدة، ثم فارق مجلس القضاء ولو خمس دقائق، ثم رجع؛ أعاد الشهادة الأولى، وشهد أربعاً متتالية في مجلس القضاء، وليس خارج مجلس القضاء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم -يثبت هذا الأصل-: (لقد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فائت بها)، فجعل اللعان في مجلس القضاء، ووقعت الشهادات في مجلسه عليه الصلاة والسلام، وهذا المجلس يسمونه مجلس القضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم له أحوال متعددة، وهذا يسميه علماء الأصول رحمهم الله شخصيات النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، والمراد أنه تارة يكون في حكم القاضي، وتارة يكون في حكم المفتي، وتارة يكون في حكم الإخبار والبلاغ بالرسالة، وتارة يكون في حكم الشارع، وفي حكم البشرية العامة، فهي أحوال مختلفة.

    فلما جاء هلال بن أمية وكذلك عويمر وقذفا أمام النبي صلى الله عليه وسلم فهو كان بصفة القضاء لا بصفة الاستفتاء؛ لأنه لو كان بصفة الاستفتاء لكان حكماً آخر، لكن جاءا متظلمين يريدان الحكم الشرعي في قضيتهما، فلو حصلت الشهادات هذه في غير مجلس القضاء لم يبن عليها الأحكام الشرعية، فلابد أن تكون الشهادات في مجلس القاضي، وأن تكون أربع شهادات من الرجل متتابعة لا فاصل بينها مؤثر.

    1.   

    تذكير القاضي للملاعن بالله قبل الشهادة الخامسة

    وقبل الشهادة الخامسة يوقفه القاضي، ويذكره بالله عز وجل ويخوفه، فيقول له: إنها موجبة، اتق الله عز وجل؛ لأنه يشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وانظر سبب اختيار الشرع للعنة؛ لأنه الذي جرى منه القول بتهمة المرأة بالزنا فناسب أن يعاقب باللعن من الله عز وجل.

    والمراد باللعنة في مثل هذا -سواءً كان بالقذف في مجلس القضاء أو خارج مجلس القضاء -لعنة الدنيا والآخرة، فالذي يرمي المحصنة الغافلة المؤمنة، أو الرجل المؤمن المسلم الغافل يلعنه الله في الدنيا والآخرة، وإذا اجتمعت لعنة الدنيا والآخرة فهي عظيمة البلاء على الإنسان؛ لأن لعنة الدنيا قد تغفر، لكن أن يجمع له بين لعنة الدنيا والآخرة فالأمر عظيم، فقبل اللعنة يوقفه القاضي ويخوفه بالله، لكن المرأة لما فعلت لاعنت كأنها هدمت أيمان الزوج، وكأنها فعلت فعلاً مغايراً لفعل الزوج، وذلك بالقول، فجُعل لها الغضب، نسأل الله السلامة والعافية!

    فاللعنة على الرجل، والغضب على المرأة، فيوقفه القاضي قبلها ويقول له: اتق الله، عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، يعني: لو تعترف أنك كاذب وأن الزوجة لم تزن، ويقام عليك حد القذف ثمانون جلدة أهون من أن تقف بين يدي الله عز وجل فيفضحك، ويلعنك في الدنيا والآخرة، فعذاب الدنيا -وهو عذاب القضاء الشرعي في الدنيا- أهون وأخف من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، واختار بعض العلماء أنه يمسك على فيه خشية أن يتسرع، وكل هذا من باب النصيحة له والشفقة عليه حتى لا يتهور.

    فإذا شهد الشهادة الأولى فمن الناس من ينزجر عند ابتداء اللعان إذا كان كاذباً، ومنهم من يرجف قلبه عند الثانية، ومنهم من يرجف عند الثالثة، ومنهم من يرجف قلبه عند الرابعة، فجاءت الشريعة فالإيقاف قبل الخامسة؛ لأنه ربما تردد أثناء الأربع، فإذا جاءت الخامسة فإنه يُعطى المهلة ويذكر وينصح، فلا يجرؤ على الخامسة التي هي الموجبة وهو كاذب إلا من طُبع على قلبه وزاغ قلبه، وانطمست بصيرته، واستخف بعظيم ما عند الله سبحانه وتعالى، فلا تسأل عن حاله إذا شهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا شهد الخامسة وأتمها ففي هذه الحالة كأن كل يمين قامت مقام شاهد، وتوجهت التهمة على المرأة، فلابد أن تأتي بمثل ما أتى به دفعاً للضرر عن نفسها، فربما كانت صادقة وكان ظالماً لها، فتشهد بالله أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فتقول: أشهد بالله لقد كذب عليّ فيما رماني به من الزنا، فنقول: أشهد بالله، فلو قالت: أحلف أو يميني بالله، فلا يقبل منها -كما تقدم-، فلا تغير ولا تبدل ولا تنقص ولا تزيد.

    فإذا شهدت أربع شهادات بالله عز وجل توقف عند الخامسة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوقف المرأة عند الخامسة، وقال: (اتقي الله! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة)، فرجفت وتلكأت وكادت أن تعترف، حتى قال أنس وابن عباس رضي الله عنهما: (فتلكأت حتى ظننا أنها سترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، وحلفت الخامسة فكانت الموجبة.

    فيوقف الرجل وتوقف المرأة ويقال لهما: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، ترهيباً وزجراً، فهذه ثلاث كلمات: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، والموجبة من وجب الشيء إذا ثبت، فقوله: الموجبة، يعني: إذا حلفت باللعنة وكنت كاذباً فإنها ستصيبك لا محالة، ولو كنت أتقى العباد، وإذا حلفت أن غضب الله عليها وهي كاذبة، فلن يرد غضب الله عليها شيء، وسيصيبها غضب الله، ومن أصابه غضب الله فقد هوى وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81]، فإذا أقدمت على الخامسة فإنها تدفع عن نفسها الحد، وهذا ثبت بقوله تعالى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [النور:8] يعني: ويدفع عَنْهَا الْعَذَابَ الذي هو حد الرجم إذا كانت قد وطئت ودخل بها، وإن كان عقد عليها وهي بكر لم يدخل بها، فحدها جلد مائة وتغريب عام.

    وقوله تعالى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [النور:8] يدل على أن الزوج إذا حلف الأيمان ثبت الحد، وأنها مُنزلة منزلة البينة، وهذا اختيار طائفة من الأئمة من جماهير السلف والخلف رحمهم الله، فأيمان المرأة تنقض أيمان الرجل.

    قال رحمه الله: [ومع غيبتها يسميها وينسبها] :

    (ومع غيبتها يسميها وينسبها) على وجه تتميز به عن غيرها.

    1.   

    أمور تبطل اللعان

    قال المصنف رحمه الله: [وفي الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تقول هي أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا، ثم تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ فإن بدأت باللعان قبله أو نقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة، أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه، أو أبدل لفظة (أشهد) بأقسم أو أحلف، أو لفظة (اللعنة) بالإبعاد، أو (الغضب) بالسخط؛ لم يصح].

    بدء الزوجة بالملاعنة قبل الزوج

    قال رحمه الله تعالى: [فإن بدأت باللعان قبله].

    أي: لو بدأت الزوجة قبل الزوج بالملاعنة، وشهدت أربع شهادات بالله أنه كاذب فيما رماها به من الزنا وشهدت الخامسة، لم يصح ذلك لما ذكرناه، ونص القرآن في هذا واضح، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح، وهذا هو الأصل عند العلماء رحمهم الله، قال الله تعالى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [النور:8]، فجعل أيمانها بعد أيمانه، وبناءً على ذلك لا يصح أن تكون أيمانها سابقة لأيمانه.

    إنقاص أحد المتلاعنين لشيء من ألفاظ اللعان الخمسة

    قال المصنف رحمه الله: [أو أنقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة]

    (أو أنقص أحدهما) سواءً الزوج أو الزوجة شيئاً من الألفاظ الخمسة فلا يصح اللعان، وكذلك الإبدال، فإذا قالت: بالله إنه لمن الكاذبين، ولم تقل: أشهد، فأنقصت الشهادة، أو قالت بدل أشهد: يميني أو أحلف، أو قال هو: أحلف بالله أو يميني بالله، فكل ذلك لا يقبل ولا يعتد به.

    غياب الحاكم أو نائبه عن مجلس اللعان

    قال المصنف رحمه الله: [أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه]

    (أو لم يحضرهما) يعني: في اللعان (حاكم) وهو: القاضي أو الوالي العام، فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت له الولاية العامة وكان له القضاء، وكانت له الفتوى، وقد بينا أنه لابد في اللعان أن يجري في مجلس القضاء.

    وقوله: (أو نائبه) أي: نائب القاضي وهو: الشخص الذي ينيبه القاضي مقامه، أو نائب الحاكم وهو القاضي نفسه، فالقاضي ينوب مناب الحاكم، والحاكم يطلق بمعنى القاضي، ويطلق بمعنى ولي الأمر، فيشترط لصحة اللعان وجود ولي أمر أو نائبه أو القاضي أو نائبه.

    إبدال ألفاظ اللعان بغيرها

    قال المصنف رحمه الله: [أو أبدل لفظة (أشهد) بأقسم أو أحلف]

    (أو أبدل لفظة أشهد بأقسم أو أحلف) لأن القسم يُكفر، على القول بأن اليمين الغموس الفاجرة يُكفر عنها، واللعان فيه أيمان، وهذا لا إشكال فيه، ولذلك ترجم أئمة الحديث رحمهم الله في كتبهم باب: اللعان أيمان، وبعضهم يقول: باب: شهادات اللعان أيمان، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث ابن عباس في الصحيح- (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)؛ لأن المرأة تبين كذبها، وقد قال عليه الصلاة والسلام لما حلفت الأيمان: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب؟)، فلم يتب أحد منهما، فقال: (حسابكما على الله)، ونقل خصومة الخصمين من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فكأنه قال: هذا الشيء لا أملك منه شيئاً، فما على النبي صلى الله عليه وسلم إلا إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة والنصيحة، فحينئذ ينتقل الأمر من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فرغبهما عليه الصلاة والسلام في التوبة، ولذلك يقول العلماء: يسن أن يرغبهما القاضي في التوبة.

    1.   

    إثبات الحدود يكون بالبينات لا القرائن

    لما قال النبي عليه الصلاة والسلام هذه المقالة، وامتنع أحدهما أن يتوب؛ قال عليه الصلاة والسلام: (انظروا إليه -يعني الولد الذي ستأتي به- فإن جاءت به أكحل العينين، خدلج الساقين، أسبغ الإليتين؛ فهو للذي رميت به) -يعني: أنها زانية- فجاءت به على الصفة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام -والعياذ بالله- فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمتها به)، وفي الرواية الأخرى قال عليه الصلاة والسلام -لأن القصة وقعت لامرأة هلال وامرأة عويمر: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)، وفي هذا فوائد:

    فقوله عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمتها به) يدل على دقة وسمو منهج القضاء الإسلامي الذي جعل الأحكام الدقيقة راجعة إلى أصول ثابتة لا تتغير، فالذي يدعي شيئاً لابد له من البينة، والقاضي ينبغي أن يكون حيادياً، فدل الحديث على أن القاضي لا يقضي بعلمه؛ لأنه تبين بالدليل الواضح أنها زانية، والوحي نزل على النبي عليه الصلاة والسلام بأنها إن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو للذي اتهمت به، فثبت بالقرينة القوية أنها زانية، خاصة وأنها تلكأت، فيوجد قرائن قوية تدل على أنها زانية، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة) فدل على أن القرينة لا تعد بينة، وأن القرائن لا يُحكم بها في الأصول التي ثبتت فيها البينات الشرعية، وهذا يدل على أن فتح باب القرائن ووسائل الإثبات بالقرائن خلاف السنة، وسيأتينا إن شاء الله في باب القضاء تفصيل هذه المسألة، ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة) قفل هذا الباب، فلابد من البينات والحجج التي تبين صدق المدعي في دعواه.

    وفي هذا دليل على أن القاضي لا يقضي بعلمه، إلا في مسألة أجمع العلماء على أن القاضي يقضي فيها بعلمه، وهي: تزكية الشهود أو عدم تزكيتهم.

    وفي الشهود يحكم القاضي بما يعلم منهم باتفاق العلما

    فلو جيء بشاهد يشهد عندك وأنت قاضٍ، وتعلم أن هذا الشاهد فاسق، تقول: أنا لا أرضاه شاهداً، وهذا إذا علمت منه فسقاً، مثلاً ثبت عليه أنه زنى أو قذف وأقيم عليه الحد، فهنا يثبت فسقه فتقول: لا أرضاه شاهداً، أو تعلم منه جرحاً يوجب رد شهادته، فيحكم القاضي برد شهادته بعلمه وليس ببينة، وهذا بالإجماع، ولأن الله يقول: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، فجعل الرضا راجعاً للقاضي، فله أن يرضى وله أن يرد، لكن لو أن القاضي يعلم أن فلاناً أعطى فلاناً ألف ريال، وتخاصما إلى القاضي، وقال الدائن: إن لي عند فلان ألف ريال، فقيل له: أحضر الشهود، فلا يقول القاضي: لا، دعواك صحيحة، وأعلم أنك صادق فيما تقول؛ لأن القاضي حيادي، وموقفه موقف الحياد، فلا يتحيز لأحد الخصمين، ولو جاءته بينة يعلم أنها كاذبة، مثل بينة مزكاة بشهود لكنهم أخطئوا أو كذبوا، فيقبل منهم الشهادة على الظاهر، ولا يرد شهادتهم، لكن المخرج أنه يثبت الحكم، بهذه البينة، ثم يقول لصاحب الحق: أنا أشهد لك، فارفع مسألتك عند قاضٍ آخر حتى أشهد لك بذلك.

    وعلمه بصدق غير العدل لا يوجب أن يقبل ما تحملا

    وعدل إن أدى على ما عنده خلافه منع أن يرده

    وحقه إنهاء ما في علمه لمن سواه قاضياً بحكمه

    فعلى القاضي أن يقضي في القضاء بكل حياد، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة اللعان قضى بكل حياد، ولم يتحيز لا إلى الزوج ولا إلى الزوجة، وأظهر الحقيقة ورد أمرهما إلى الله عز وجل.

    1.   

    حكم القاضي بعد اكتمال اللعان

    إذاً: السنة أنه يجري اللعان على هذه الصفة التي ذكرها المصنف رحمه الله، ويكون مهمة القاضي أن يسمع من الخصمين، وبعد الشهادة الرابعة تكون مهمته أن يوقف الزوج والزوجة قبل الخامسة لتذكيرهما، ثم بعد اكتمال اللعان يحكم بما يلي:

    أولاً: يرغبهما في التوبة، ويقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب؛ لأنه إما أن يكون الزوج صادقاً أو تكون الزوجة صادقة، ولذلك يقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل من تائب؟ والتوبة هي: الرجوع، ورجوع الملاعن أن يقول: كذبت عليها فيما ادعيت من زناها، وتقول المرأة: هو صادق فيما قال أو فيما رماني به، ثم يقام الحد على من رجع سواءً كان الرجل أو المرأة.

    فإذا انتهى اللعان، ورغبهما في التوبة ولم يتوبا، حكم بالفرقة بين الزوج وزوجته، فيفرق بينهما فراقاً أبدياً، فلا يجتمعان، وهذا من موانع النكاح المؤبدة، وقد تقدمت معنا، فمن الموانع المؤبدة: الفرقة باللعان، فهذه المرأة محرمة على الرجل إلى الأبد، ولذلك قال الزهري : مضت السنة في المتلاعنين أن يُفرق بينهما فلا يجتمعان أبداً، ولما قال عويمر رضي الله عنه بعد اللعان: (مهري، قال عليه الصلاة والسلام: إن كنت صادقاً فلها ما استحللت من فرجها -يعني: ما استمتع بها قبل الزنا-، وإن كنت كاذباً فهو أبعد لك منها)، وهذا من باب أولى، فكيف يتهمها بالزنا ثم يريد المهر؟! فيفسد فراشه، ويعتدي على أهله، ثم يريد بعد ذلك أن يأخذ المهر! فلا يستحق المهر ويفرق بينهما فراقاً أبدياً.

    قال المصنف رحمه الله: [أو لفظة اللعنة بالإبعاد].

    أي: لو أنه أبدل لفظة (اللعنة) بالإبعاد، فقال: أبعده الله إن كان كاذباً، لم يُقبل منه، حتى لو كانت اللفظة قريبة من المعنى الذي يفيده اللعن أو الغضب، فلا بد من اللفظين: اللعن والغضب.

    قال المصنف رحمه الله: [أو الغضب بالسخط؛ لم يصح] :

    أي: لم يصح ذلك، ويجب أن تتقيد المرأة بلفظ الغضب.

    1.   

    الأسئلة

    عدم ثبوت الإقرار في جريمة الزنا باللفظ المحتمل

    السؤال: قول المرأة: لا أفضح قومي سائر اليوم، أليس هذا يعتبر إقراراً بزناها؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فالإقرار شهادة من الإنسان على نفسه، والشهادة لا تثبت بشيء يحتمل، فقولها: لا أفضح قومي سائر اليوم، من حقها أن تقول هذا ولو كانت صادقة؛ فقد تقول المرأة الصادقة: لا أفضح قومي سائر اليوم، تعني: أنني صادقة، وسأحلف الخامسة، فهي كلمة لا تدل على الزنا مباشرة ولا ضمناً؛ لكن تلكؤ المرأة وخوفها وارتباكها، هذه العلامات والأمارات تعتبر قرينة، خاصة وأنها تلكأت وترددت حتى قال أنس رضي الله عنه: (حتى ظننا أنها سترجع)، وقال ابن عباس رضي الله عنه: (تلكأت حتى كادت أن ترجع)، وهذا يدل على إدانة الحال؛ لكن لو قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فقد تكون صادقة، بمعنى: إنني صادقة وإنني امرأة بريئة وعفيفة ولا أرضى أن ينسب إلي الزنا فيجرح ويؤذى قومي، وليس هذا من الإقرار في شيء، وليس بدليل على الإقرار، وإنما هو أمر قالته ويحتمل أن يكون متضمناً للزنا بمعنى أنها لا تريد أن تفضحهم فامتنعت من الإقرار خشية الفضيحة والعصبية، ويحتمل أنها تريد الجزم، ولذلك لو قالها غيرها لكان الحال متردداً، فلا يقتضي ثبوت التهمة، والله تعالى أعلم.

    تكرار الإقرار بالزنا ينزل منزلة الشهود

    السؤال: هل مقصود النبي صلى الله عليه وسلم في إعراضه عن ماعز وهو يعترف بجريرته أن يكرر الذنب الذي أصابه أربع مرات فينزل منزلة الشهود الأربعة؟

    الجواب: تكرار الإقرار بالزنا لمن اعترف به مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، والأشبه والأحوط لظاهر النص أنه يكرر إقراره -وسيأتينا إن شاء الله بسط هذه المسألة وبيان خلاف العلماء فيها فمن حيث الأصل فإن التكرار موجود، والنص واضح في هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ويحك! ارجع واستغفر الله ثم تب إليه) أربع مرات، فهذا أصل يدل على أن كل إقرار ينزل منزلة شاهد.

    لكن الذين لا يشترطون التكرار استدلوا بأدلة، منها: حديث المرأة التي اعترفت، وهي قصة العسيف، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أُنيس- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، قالوا: فلم يذكر تكراراً للإقرار، لكن أُجيب بأن المجمل لا يعارض المفصل، ولذلك قالوا: ما وكل النبي صلى الله عليه وسلم أُنيساً إلا وعند أُنيس علم، ومن هنا أعطاه الوكالة العامة، كأنه يقول يفعل معها في الإقرار ما هو مشترط شرعاً.

    أما إقرار ماعز رضي الله عنه فإنه جاء المرة الأولى -كما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد ثم أتى فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فلما كانت الرابعة وأتمها، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟) -فقوله: (أبك جنون؟) تدل على أنه لا يُقبل إقرار المجنون- فأُخبر عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمجنون، ثم قال له: (أشربت خمراً؟ -وهذا في صحيح مسلم- فقام رجلٌ فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، وانظروا إلى دقة القضاء في الشريعة الإسلامية، من الذي يتبجح بالحقوق، فأين الذين يتبجحون بحقوق الإنسان المتهم، وحقوق الإنسان، هذا السمو هذا العلو في التشريع يدل على أنه لا أحسن من الله حكماً لكن لقوم يوقنون، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشربت خمراً فقام رجل فاستنكهه) يعني شم رائحة فمه، لذلك بعض العلماء أخذ مما سبق أن الرائحة قرينة على شرب الخمر، وسيأتينا ذلك إن شاء الله في باب شرب المسكر، فلم يجد رائحة، ثم فصل معه في الزنا، وسأله عن الزنا، حتى أثبت أنه زنى بها زناً تاماً، وهذه كلها شروط للإقرار بالزنا.

    أما حديث: (واغد -يا أُنيس- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، ففيه نوع إجمال، فأجمل للعلم بتفصيله، فما علم من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام مجملاً فهو مفصل بهديه عليه الصلاة والسلام.

    لكن الذين يقولون: لا يشترط التكرار، عندهم دليل آخر، فيقولون: إنه أقر، ثم رجع، ثم أقر، وأنتم تقولون: لابد أن يكون في مجلس واحد، والشهود لابد أن يكونوا أربعة في مجلس واحد، وهذا استدلال قوي، لكن رد بقول الراوي: (فرجع غير بعيد)، بمعنى: أنه ما زال في المسجد، وتتفرع عليه المسألة التالية: المسجد في حكم المجلس الواحد في القضاء، ولا يعتبر مفارقاً لمجلس القضاء ما دام أنه داخل المسجد.

    فالشاهد أن المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله ولكلا القولين ما يدل عليه، وإن كان تكرار الإقرار فيه دقة أكثر، وفيه رعاية لظاهر السنة والعمل بها.

    واستدلوا أيضاً بأن المرأة التي اعترفت بالزنا قالت: (يا رسول الله! أتريد أن تردني كما رددت ماعزاً ؟!) فهذا يدل على أنه لا يُشترط التكرار، لكن أُجيب بأن التكرار على صورتين، منها: هذه الصورة، أي: أنني مستعدة أن أرجع وأكرر إقراري لك ولو رددتني مائة مرة، فقالت: (أتريد أن تردني كما رددت ماعزاً ؟!) فبينت أنها مستعدة أن تكرر الشهادات، وهذه بمنزلة تكرار الإقرار، فالاستنباطات الشرعية من النصوص فضل من الله عز وجل لأهل العلم، والخلاف بين العلماء ما هو إلا رحمة من الله عز وجل إذا ثبتت به النصوص وجاءت به النصوص الشرعية؛ لأنه يجعل الشريعة شريعة مرنة واسعة بالاجتهادات والأقوال والردود والمناقشات التي تتفجر بها ينابيع الحكمة التي لا يمكن أن تصل إليها بقول واحد، ولذلك تجد هذه الشريعة صلحت في كل زمان ومكان، واستطاعت في أوج عظمة الإسلام أن تحكم من المحيط إلى المحيط، وهذا يدل على مرونة الشريعة الإسلامية؛ فمجيء الشريعة بالنصوص التي تحتمل أكثر من وجه معناه: أنها تقر الخلاف السائغ، لا الخلاف المذموم وهو الذي يقوم على رد النصوص الصحيحة الصريحة، والعبث بالأدلة والأهواء والآراء الفاسدة، أما الاستنباطات الشرعية من النصوص الشرعية والخلاف الشرعي الذي وقع بين الأئمة فهو رحمة؛ لأنه مبني على نصوص شرعية، وما كان من الشريعة فهو رحمة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وعلى كل حال هذه المسألة كما ذكرنا فيها خلاف بين العلماء، وسيأتي إن شاء الله تفصيلها في مسائل الإقرار، والله تعالى أعلم.

    حكم الإشارة في الصلاة

    السؤال: هل الإشارة في الصلاة تبطلها مثل الكلام؟

    الجواب: الإشارة تنزل منزلة العبارة، لكن في الصلاة فيها تفصيل:

    لا تبطل الإشارة في الصلاة على كل حال ما لم تكثر وتتفاحش، والدليل على أن الإشارة في الصلاة لا تبطلها عدة أدلة، وينبغي أن تقيد بالحاجة، فثبت في الحديث الصحيح من حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وعن أبيه وأمه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشية الظهر أو العصر ثم قام بعد الثانية ولم يجلس -أي: للتشهد- فسبحوا له فأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن قوموا.

    وثبت عن المغيرة أنه وقع له ذلك في صلاة المغرب، وأنه أشار إليهم أن قوموا، وقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت).

    كذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أشار بيده حينما دخل وراء أبي بكر رضي الله عنه في الصلاة، فسبح الناس لـأبي بكر رضي الله عنه فالتفت، فأشار إليه أن مكانك، قال بعض العلماء: هذا وقع قبل تكبيرة الإحرام، لكن بعض أهل العلم يقول: هذا وقع بعد تكبيرة الإحرام.

    وفي النافلة فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أشار فيها لرد السلام، فكان إذا دخل عليه الداخل وسلم أشار بكفه عليه الصلاة والسلام، ويشير بكفه إلى الأرض ما يرفع كفه هكذا؛ لأنه قال: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شمس! اسكنوا في الصلاة)، فهذا منهي عنه، وأما الذي يشير بكفه إلى الأرض فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام ذلك.

    وفيما اختلف فيه هل هو فرض أو نافلة كصلاة الكسوف ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها لما كسفت الشمس، وأن أسماء رضي الله عنها جاءت ونظرت فقالت: ما شأن القوم؟ فأشارت إليها عائشة رضي الله عنها إلى السماء -أي: انظري إلى السماء وهذه إشارة- ففهمت أسماء، فنظرت إلى السماء فإذا بالشمس كاسفة. فهذا كله يدل على أن الإشارة لا تؤثر، خاصة إذا كان المصلي محتاجاً إليها، فتشير إلى الرجل أن يقترب منك، وتشير إلى الرجل أن يتقدم، أو أن يتأخر عن الصف، فهذا كله لا بأس به إن شاء الله في الصلاة، لكن ينبغي ألا يتفاحش، والله تعالى أعلم.

    حكم صبغ الشعر بالسواد

    السؤال: ما حكم صبغ الشعر؟ وإذا كان الشعر غير أسود، فهل يجوز صبغه باللون الأسود؟

    الجواب: صبغ الشعر إذا كان لسبب أذن به الشرع كتغيير الشيب فهو مشروع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأتاه والد أبي بكر رضي الله عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام: (أثقلتم على الشيخ، هلا تركتموه حتى نأتيه! فإذا برأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال عليه الصلاة والسلام: غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد).

    ففي هذا الحديث فوائد منها: إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لكبير السن، وهي سنته وهديه، وحفظه لحق الصاحب والخليل والمحب؛ لأن أبا بكر كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم محبة دون الخلة، وأحبه محبة عظيمة، فلم يكن في الخلق أحب إليه منه عليه الصلاة والسلام، وهو صدق في محبته وخلته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرم عليه الصلاة والسلام والده وقال: (أثقلتم على الشيخ)، وهذا يدل على أن الأخيار والصالحين إذا رأى أحد منهم والد صديقه يكرمه ويجله ويحترمه ويقدره ويوقره، وهل الإسلام إلا الأدب ومكارم الأخلاق ومحامدها؟ فهذا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يدخل إلى مكة -في اليوم الذي أعز الله فيه جنده، ونصر عبده -متواضعاً لله عز وجل، ويقول: (أثقلتم على الشيخ)! يعني: لماذا جئتم به إلينا؟ نحن الذين نأتيه، وقال ذلك كما قال بعض أصحاب السير: تطييباً لخاطر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وحفظاً لحق كل من يعين على هذه الدعوة، فكل من يكون معك في هذه الدعوة معيناً تحفظ له الحق في نفسه وأهله وإخوانه وقرابته، وقال: (هلا تركتموه حتى نأتيه)؛ لأنه كبير السن، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم إلا كريماً، وكان كرمه على الوفاء والتمام.

    ولذلك نحن اليوم في غربة، فلا احترام للكبير، ولا توقير للشيبة والمسن، تجد كبير السن يدخل المسجد ويخرج وقد لا يجد من يسلم عليه! وإذا وجد من يسلم عليه قد لا يجد من يوقره! فيسلم عليه كما يسلم على عامة الناس! والأدهى والأمر إذا استخف به، والإنسان لا يسمو إلى الكمالات إلا إذا عاش كما يعيش الغير، لو أن الواحد منا فكر في كبير السن وهو في آخر عمره، فإنه قلّ أن يجد أخاً من إخوانه، وقلّ أن ترى عينه صديقاً من أصدقائه، فكلهم قد أسلموا أرواحهم وصاروا إلى الله جل وعلا، وقد لا يخرج من بيته إلا إلى مسجده أو إلى تشييع حبيب أو عيادة صديق؛ لأنه قد فارقه إخوانه.

    اثنان لو بكت الدماء عليهما عيناك حتى يأذنا بذهاب

    لم يبلغ المعشار من حقيهما فقدُ الشباب وفرقة الأحباب

    أصعب الأشياء وأمرها فراق الأحبة وفراق الأصدقاء والخلان، فقلّ أن يجد من يأنسه، وقل أن يجد من يُدخل السرور عليه، حتى إنه لربما عاد إلى بيته فوجد كل شيء غريباً عليه، حتى زوجته ربما تتغير عليه، ولربما تغير أولاده ضده، ويصبح كأنه بعيد يعيش في عالم غير عالمه، فما هو إلا في الذكريات، كأن لسان حاله يقول:

    ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب

    يقول بعض العلماء: الناس يفهمون هذا البيت: (فأخبره بما فعل المشيب) أي: من الونى والضعف، ولكن أعظم ما فعل المشيب فراق الأحبة والأصحاب، ففقدهم له وقع في القلوب لا يعلمه إلا الله عز وجل.

    ولقد رأينا هذا حتى في العلماء والأجلاء، وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه مع صبره وجلده ما رأيته تأثر وساءت حاله وصحته إلا بعد فراقه لأحبابه الذين يعرفهم بالصدق والمحبة.

    ففراق الأحبة صعب فمن الذي بحنانه وعطفه وإحسانه يسد هذا الفراغ؟

    ولذلك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المكرمة والمأثرة الحميدة فقال: (إن من إكرام الله إجلال ذي الشيبة المسلم)؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا من يؤمن بالله واليوم الآخر، وقال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا)، فكل ذي شيبة مسلم موقر، فهذا هديه عليه الصلاة والسلام وسنته، فكان يكرم الكبير، ويعطف على الصغير، فيسلم عليه ويرحمه.

    قال عليه الصلاة والسلام: (أثقلتم على الشيخ) ثم قال: (غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد)، ففيه دليل على مشروعية صبغ الشيب، وأن السنة أن يغير بغير السواد، مثل: الحناء والكتم، والكتم ضرب من الصبغ بين الأسود والأحمر، وهو معروف وموجود إلى الآن، فهذا السنة في تغيير الشيب.

    أما لو كان شعر المرأة أو شعر الرجل أشقر فأراد أن يجعله أسود فلا يجوز؛ وما الدليل؟

    من ناحية فقهية عندنا شيء يسمى الأصل، وعندنا مستثنى من الأصل، فالأصل عندنا أنه لا يجوز تغيير الخلقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواشرة والمستوشرة -ثم قال-: المتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، فإذا خلق الله الشعر أحمر أو أشقر فليس من حق المخلوق أن يغيره؛ لأن الله خلقه على هذه الصفة، ولماذا ورد اللعن على تغيير الخلقة؟ قالوا: لأنها -أي المرأة- إذا قالت: لا أريده أحمر، كأنها لم ترض بقسمة الله لها، كما لو لم ترض بطول السن مثلاً، فكأنها لم ترض قسمة الله لها، ومن هنا تعرف سبب فورود اللعن، ورد اللعن ليس فقط لتغيير الشيء، وإنما ورد لمسألة عقدية وهي: عدم الرضا بخلقة الله عز وجل، والعبث بهذه الخلقة، ثم قال: (المغيرات لخلق الله)، فإذا كان الشعر على لون فلا يجوز تغييره إلى لون آخر إلا إذا كان شيباً فيغيره بغير السواد، خلافاً لمن قال: بجواز صبغه بالسواد، إلا أنه يستثنى من ذلك وقت الجهاد في سبيل الله، فقد رخص بعض أهل العلم رحمهم الله أن يصبغ الشيب بالسواد إرهاباً للعدو وتخويفاً له، وكثير من المحرمات استثنيت في الجهاد، ولذلك لما أخذ أبو دجانة السيف وتبختر في مشيته قال عليه الصلاة والسلام: (إنها لمشية يبغضها الله -هذا الفعل يبغضه الله- إلا في هذا الموضع)؛ لأن فيها كسراً لأعداء الله عز وجل، وإظهاراً لعزة الإسلام، فوافقت مقصود الشرع، بخلاف إذا تكبر وتجبر وعلا وطغى في غير هذا الموطن، فإنه يخالف مقصود الشرع، ويقع فيما حرمه الله سبحانه وتعالى.

    وبناءً على ذلك فإذا كان الشعر يغير لشيب فلا إشكال، شريطة أن يكون التغيير بغير السواد، وأما إذا كان التغيير لغير الشيب فإنه محرم ولا يجوز فعله، والله تعالى أعلم.

    حكم نتف الشعر الذي بين الحاجبين

    الشيخ: هل يجوز للمرأة أن تنتف ما بين الحاجبين؟

    الجواب: لا يجوز نتف الشعر الذي بين الحاجبين، والنص في هذا واضح، حيث أن النمص هو نتف شعر الوجه، وما بين الحاجبين هو من شعر الوجه فلا يجوز نتفه، ولا يجوز العبث به، ويترك على الخلقة التي خلقها الله عز وجل.

    وجمهور العلماء على أن هذا لا ينمص ولا يُزال، سواءً كان النمص بالنتف أو بالحرق أو بالحلق أو بالقص أو بوضع مواد من الأصباغ تخفيه فكل ذلك لا يجوز، وهو تغيير لما خلقه الله، وعلى المخلوق أن يرضى بخلق الله عز وجل لما فيه من حكمة عظيمة، وتذكير الناس بهذا الاختلاف الذي يدل على وحدانية الله عز وجل؛ لأن اختلاف الخلقة دليل على وجود الخالق الذي يصور كيف يشاء، ويخلق كيف يشاء، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، والله تعالى أعلم.

    الربط الدائم للعبادات بالحكم والأسرار

    السؤال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يُنسأ له في أثره ...) الحديث، ما العلاقة بين زيارة الأقارب والمد في العمر والبركة في الرزق؟

    الجواب: الحديث صحيح وهو: (من أحب منكم أن يُنسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويزاد له في عمره، فليصل رحمه)، ولا إشكال في ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بيان منه عليه الصلاة والسلام للثواب والجزاء الذي أعده الله لمن وصل الرحم، واشتمل على إنساء الأثر، وأصل نسأ في لغة العرب: التأخير، كقوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]؛ لأنهم كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها ومواعيدها، وسمي ربا النسيئة نسيئاً؛ لأنه تأخير لأحد الربويين مما يجب فيه التقابض في مجلس العقد، فالنسأ أصله التأخير، فالمعنى: يزاد له في العمر.

    والأصل أن العمر لا يزيد ولا ينقص، لكن هناك أوجه عند أهل العلم رحمهم الله في كيفية زيادة عمره، فمنهم من قال: إن الله تعالى يبارك في عمر الواصل لرحمه حتى أن السنة تعادل عشرات السنين، ولذلك من الناس من يعيش اليوم كسنة، ومن الناس من يعيش السنة كسنوات؛ لما وضع الله له من البركة والخير، بركة في نفسه، وبركة في أهله، وبركة على الناس، إما أن يكون داعية إلى الله عز وجل يحمل هموم الأمة فينفعهم وينصحهم ويوجههم، فلربما عمل الساعة منه تعادل سنوات؛ لما وضع الله له من البركة والأجر والمثوبة، وربما خطيب في مسجد ينصح الناس ويوجههم ويرشدهم إلى الخير، فيبارك الله في خطبته سنوات من عمره؛ لما يضع لها من القبول والانتشار بين الناس، وينتفع بما فيها من الخير، وكذلك ربما يكون الرجل عنده مال يسخره على هلكته بالحق، فيكسي به العاري، ويطعم به الجائع، ويغيث به الملهوف، وينصر به المظلوم، ويعين به على نوائب الحق؛ فيجعل الله اليوم من أيامه كالسنوات من غيره، لما فيه من الخير والبركة، فيدعو له الناس، ويعظم ترحم الناس عليه، وتكثر صلواتهم ودعواتهم له بالخير والبركة، فيبارك له في عمره وكأنه عاش سنيناً عديدة، وهذا كله راجع للبركة التي يضعها الله عز وجل. ولذلك تجد أنك في بعض الأيام توفق لكثير من الأعمال التي تعملها في خاصتك لنفسك وأهلك وولدك بما لم يخطر لك على بال؛ لما يوضع من البركة، وهذا كله مقرون بطاعة الله عز وجل، فهذا وجه عند بعض العلماء، فمثلاً: عمره ستون سنة لا يزيد ولا ينقص، ولكنه إذا كان واصلاً للرحم جعل الله عز وجل أيام عمره بعد صلته للرحم طويلة مديدة بسبب البركة، فاليوم -بما يكون فيه من الخير والبركة عليه وعلى غيره- كأيام.

    ولذلك تجد بعضهم إذا عاش بين الناس نعم الناس بعيشه بينهم لما فيه من الخير، فتجده -مثلاً- شجاعاً ينصر المظلوم، فيجعل الله عز وجل أيامه أيام خير وبركة، وما كان بين قوم إلا نفعهم الله به، ومنهم من يكون كريماً جواداً حتى أنه يموت وهو حي في الناس بسبب ما يذكرونه له من مآثر ومواقف حميدة، فكم يموت أقوام وهم في الناس أحياء بمآثرهم، فلم تمت مكارمهم ومآثرهم، وهذا زيادة في العمر؛ لأن أحدهم كأنه حي موجود يذكر في المجالس، وكأنه حي بسبب ما كان منه من الخير والبركة.

    وهناك قول ثانٍ أنه يزاد في العمر حقيقة، فصحيفة الملك فيها: أن عمره ستون -مثلاً- إن لم يصل رحمه، فإن وصل الرحم فعمره ثمانون، والملك لا يدري، ولذلك يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، فالذي في اللوح المحفوظ لا يغير ولا يبدل، فقد قدر وكتب وجرى القلم بما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة، ولكن صحيفة الملك هي التي يكون فيها التغيير والتبديل بنص القرآن: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، وأم الكتاب هو الذي فيه حقيقة العمر وأصله، وهل هو واصل أو غير واصل؟ وهذا من أعدل الأوجه، وهو أنسب الأقوال.

    ولا مانع من القول الأول بأنه توضع له البركة، فحينئذ يكون وضع البركة بالنسبة لأصل اللوح المحفوظ أن يكون في عمره، وتكون النقص والزيادة على صحيفة الملك، لكن القول الأول واضح في الدلالة؛ لأنه يتفق مع ظاهر النص في قوله: (ويزاد له في عمره) فهي زيادة البركة فيما يكون له من الخير والنعمة.

    أما السؤال: ما هي العلاقة بين أن يُزاد في العمر وينسأ في الأثر وبين صلة الرحم؟

    أخي الكريم: لا يستطيع العقل القاصر أن يربط بين هذا الثواب الذي يضعه الله عز وجل وبين العمل، وهذا تقدير العزيز العليم، ولا يستطيع الإنسان أن يدركه، ولو أنه ظهر له بعض الحكم فلن يستطيع أن يدرك الحقيقة التي من أجلها جاء الثواب على هذا الشكل وعلى هذا الوجه. ولذلك يوصى طالب العلم ويوصى كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُسلِّم، فالنص إذا جاء بشيء لا تبحث عن العلل، ولا تتعود أن تبحث عن المناسبات والقرائن، وما يسمونه: بعلم اللطائف، فهذه أشياء ليست من أصل العلم، أصل العلم: الرضا والتسليم والقناعة التامة الكاملة؛ لأن الإنسان إذا صار عقلانياً وقف في التعبديات موقف الشك والريبة، وهذا الذي كان علماؤنا ومشايخنا رحمهم الله يشددون فيه، فكانوا إذا جاءتهم هذه المسائل من علوم الغيبيات التي لا يبحث فيها سلموا، والله يحكم ولا معقب لحكمه، فما تستطيع أن تبحث في شيء قد بينه الله عز وجل وبينته نصوص السنة، فلا يسعك أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً إلا قوله سبحانه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْت [النساء:65]، وقوله: (حرجاً) نكرة ، تدل على نفي أي حرج كان؛ لأنه قضاء الله، وهو كلام من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قال: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فسلم رحمك الله!

    وينبغي على العلماء والأئمة والدعاة والخطباء دائماً ألا يحاولوا ربط الناس دائماً بالحكم والأسرار، خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، التي أصبح المتكلم والعالم في نظر الناس هو الذي يأتي باللطائف، ويحسن تعليل الأشياء، والكلام فيها، وهذا ليس هو العلم كله، حتى إن العلماء لما جاءوا في مسألة ليلة القدر مع أن عدد كلمات سورة ليلة القدر ثلاثون الكلمة، وجاءت الكلمة السابعة والعشرون في قوله: سَلامٌ هِيَ [القدر:5]، ومع ذلك تجد أئمة العلم القدماء يقولون: هذا ليس من أصل العلم والفقه؛ لأنه استنباط، وربما جعل الله السورة ثلاثين كلمة امتحاناً أو ابتلاءً للعباد، لكن ما عندنا نص يجزم بأن كون (هي) الكلمة رقم سبعة وعشرون فإذاً ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، وقد يضع الله هذه ابتلاءً واختباراً للعباد، فقد يقول الإنسان على الله بلا علم، فالذي يدخل في العقلانيات قد يقول على الله ما لا يعلم.

    ولذلك كان العلماء يشددون في علم المناسبات من السور والآيات، فالله سبحانه وتعالى يحكم، وتأتي أحكامه على ما يمكن تعليله، وما لا يمكن تعليله، فالقاصر والمخلوق لا يستطيع أن يدرك ما لله عز وجل من الحكم، والله عز وجل أصدق قيلاً، وأكمل حكماً.

    فاللهم! إنا نسألك التسليم والرضا بما قدرت وحكمت، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755983710