إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب شروط الصلاة [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للصلاة شروط مذكورة في الكتاب والسنة، وهي تنقسم إلى: شروط صحة، وشروط وجوب، ومنها: الطهارة من الحدث والخبث والنجس، ودخول الوقت، وينبني على ذلك معرفة وقت كل صلاة ابتداءً وانتهاءً، وأن الأفضل الصلاة في أول الوقت، ولا يجوز تأخيرها إلا لعذر شرعي.

    1.   

    شروط الصلاة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين،

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب شروط الصلاة].

    هذا الباب المراد به بيان العلامات والأمارات التي نصّبها الشارع للحكم بوجوب الصلاة وصحتها من المكلف.

    وتنقسم الشروط عند العلماء رحمهم الله إلى شروط صحةٍ، وشروط وجوب، وأصل الشروط مبحث من مباحث الحكم الوضعي، بمعنى أن الشروط علامات وأماراتٌ من الشارع سبحانه وتعالى نصَّبها لكي تحكم بوجوب العبادة على المكلف، أو تحكم بصحتها، أو عدم صحتها إذا لم تكن مستوفيةً لهذه الشروط.

    إذاً لا بد في العبادة من النظر إلى هذه العلامات، وبواسطتها يستطيع طالب العلم أن يقول للمكلَّف: برئت ذمتك وأجزأتك الصلاة، إذا توفرت هذه الشروط المعتبرة لصحة الصلاة، ويستطيع أن يقول للمكلف: عليك إعادة الصلاة؛ لأن العلامة والأمارة التي نصَّبها الشارع للحكم بصحة صلاتك غير متوفرة.

    فلو أن إنساناً توضأ بعد دخول الوقت، وستر عورته، واستقبل القبلة، وفعل الصلاة بأركانها، فصلاته صحيحةٌ معتبرة.

    لكن لو أنه صلى قبل دخول الوقت صلاة الظهر، أو صلاة العصر، أو صلَّى ولم يستقبل القبلة عالماً بجهتها مخالفاً لناحيتها، أو صلَّى ولم يستر عورته مع القدرة، فحينئذٍ تقول له: صلاتك باطلةٌ، وتلزمك الإعادة؛ لأن الشارع جعل دخول الوقت علامةً على وجوبه، ولا تصح الصلاة قبل دخول الوقت.

    وجعل ستر العورة علامةً على صحة الصلاة واعتبارها، فما دمت لم تستر العورة أثناء صلاتك فصلاتك باطلة.

    فمبحث شروط الصلاة يحتاجه طالب العلم لكي ينظر إلى الأمارات التي نصَّبها الشارع سبحانه وتعالى، لكي يقول: هذه العبادة معتبرة، وبرئت ذمتك أيها المكلف، فلا تُطَالَب بالإعادة، أو يقول: هذه العبادة باطلةٌ ويلزمك إعادة الصلاة؛ لأن شروط الصحة والاعتبار غير متوفرة.

    والشروط: جمع شرط، والشرط في اللغة: العلامة، ومنه سميت الشَّرْطَة.

    وأما في الاصطلاح فهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.

    فالطهارة يلزم من عدمها عدم الصلاة، ودخول الوقت يلزم من عدمه عدم وجوب الصلاة.

    ولا يلزم من وجوده الوجود، فالإنسان قد يتوضأ، ويكون متطهراً، والشرط محققٌ فيه، ولكنه لا يصلي، فيلزم من عدم الشرط عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط.

    فقول العلماء: (باب شروط الصلاة) أي: العلامات والأمارات التي نصَّبها الشارع للحكم بوجوب الصلاة على المكلفين، أو العلامات والأمارات التي نصَّبَها الشارع للحكم بصحة صلاة المكلفين واعتبارها، فإن كانت الشروط شروط صحةٍ حكَمْتَ بالصحة أو بعدمها، وإن كانت الشروط شروطَ وجوبٍ حَكَمْتَ بوجوب العبادة أو عدم وجوبها.

    فشروط الصلاة تنقسم إلى شروط صحةٍ، وشروط وجوب.

    فشروط الوجوب منها الوقت، ولا تجب الصلاة قبل دخول الوقت، ومنها البلوغ، فلا تجب الصلاة على الصبي قبل بلوغه، ومنها العقل، فلا تجب الصلاة على المجنون حتى يفيق.

    وأما شروط الصحة فهي: الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة. فلا تصح صلاة غير المتطهر، ولا تصح صلاة من لم يستر عورته اختياراً، بمعنى أنه قادرٌ على سترها، أما إذا كان غير قادرٍ فسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.

    ولا تصح صلاة من لم يستقبل القبلة اختياراً، أما إذا كان في حال الاضطرار -كما في السفر- ففيه تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

    وقوله: (باب شروط الصلاة) مناسبة هذا الباب أنه بعد أن بين لك حكم الصلاة، وعلى مَن تجب، وتكلَّم على مباحث الأذان والإقامة، ناسَبَ أن يتكلم عن الشروط؛ لأن من شروط الصلاة دخول الوقت، والأذان متعلق بالوقت، فلما ذكر الأذان ووجوبه ولزومه وصفته، يرد السؤال: متى يؤذِّن المؤذن؟ وما هو الوقت المعتبر للصلاة؟ ولما كان مبحث الوقت متعلقاً بمبحث الشروط ناسب أن يذكر الشروط معه، فهذا وجه المناسبة.

    وهناك وجهٌ ثانٍ وهو أن تقول: بعد أن فرغ المصنِّف رحمه الله من بيان حكم الصلاة، والدعوة إليها بالأذان والإقامة ناسب أن يبين العلامات المعتبرة للإلزام بالصلاة، وهي الشروط، فأتبع ذلك شروط الصحة كما قلنا.

    الشرط الأول: دخول الوقت

    قال المصنف رحمه الله: [شروطها قبلها، منها الوقت].

    قوله: (شروطها قبلها) أي: قبل الصلاة، وقوله: (منها الوقت) (مِنْ) للتبعيض، والضمير في (منها) بمعنى: من شروط الصلاة، وهذا للتبعيض؛ لأن هناك شرط البلوغ والعقل لم يذكره المصنف، وترك لظهور العلم به؛ لأنه لا يقرأ قارئ ولا يبحث باحث في أبواب الفقه إلا وهو عالم أن أهلية التكليف تقوم على البلوغ والعقل.

    فلذلك تَرْكُ المعلوم بداهةً مألوفٌ عند العلماء رحمة الله عليهم.

    قوله: (منها الوقت) يقال: وقَّتَ الشيء يؤقته تأقيتاً. إذا حدده، ويكون ذلك بالزمان، ويكون بالمكان، فيقال: (وقَّتَ له ساعة مجيئه) للزمان، و(وقت له مكان لقائه) للمكان.

    فجاء التعبير بالتوقيت في الزمان في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: بالزمان.

    وجاء التأقيت بالمكان، ومنه حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة)، وهو ميقات المكان لنسك الحج.

    والوقت معتبرٌ للصلاة، والأصل في هذا الشرط قول الحق تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] أي: مؤقتاً ومحدداً بزمانٍ معين، وقد بينت السنة إجمال القرآن، وقد جمع الله تبارك وتعالى هذا التأقيت للصلاة في آيةٍ واحدة، وذلك في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، فهذه الآية جمعت مواقيت الصلاة كما ذكر غير واحدٍ من المفسرين، وهذا من بلاغة القرآن وحسن اختصاره، فإن قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي لزوالها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) فشمل الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فيكون (غسق الليل) على أنه نصف الليل هو الأمد الذي هو آخر وقت العشاء الاختياري، ثم لما انفصل الفجر قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا فأغنى باسم الفجر عن ذكر وقته؛ لأن الفجر من الانفجار والوضوح، ونظراً إلى أن اسمه يدل على وقته؛ لأنه عند انفجار الضوء وانتشاره أغنى التعبير باسمه عن التصريح بوقته، فهذه خمسة فروض وخمسة مواقيت، وكلتا الآيتين أصل في باب المواقيت عند العلماء رحمة الله عليهم.

    أما السنة فجاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تصف وقت الصلاة، والأصل في هذا أن الله لما فرض على نبيه عليه الصلاة والسلام الصلوات الخمس اختار الله فريضتها أن تكون مباشرةً منه سبحانه وتعالى فوق السماوات العلا، ولذلك كان من دلائل فضل الصلاة وعظيم شأنها أن الله عز وجل لم يوح وجوبها إلى نبيه بواسطة، وإنما باشره بوجوبها والأمر بها تعظيماً لشأنها ودلالةً على عظيم مكانتها، فلما أوجب الله على نبيه الصلوات الخمس، وانتهى الأمر إلى الخمس، وكان يراجع ربه حتى استقرت إلى الخمس نزل عليه الصلاة والسلام، ولما أصبح صبيحة الإسراء وزالت الشمس لم يُفاجأ إلا بجبريل قد نزل عليه فأمَّه عند الكعبة، ولذلك كانت بداية المواقيت بحديث جبريل بمكة.

    فالأصل في السنة هذا الحديث، وهو أول المواقيت السنية، ولذلك يعتبره العلماء رحمة الله عليهم أصلاً، إلا ما دل الدليل على نسخه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

    فأَمَّ جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يومين، صلَّى به اليوم الأول كل صلاةٍ عند أول وقتها، وصلى به اليوم الثاني كل صلاة في آخر وقتها، ثم قال له: (ما بين هذين وقت)، فحدَّد مواقيت الصلاة وبينها.

    ثم جاءت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وبقوله، فتارةً بالفعل يُبيِّن المواقيت، وتارةً بالقول يدل عليها صلوات الله وسلامه عليه.

    فشرط الوقت لا يُحكم بلزوم الصلاة على المكلف إلا بدخوله، فلا يطالب الرجل ولا المرأة بالصلاة إلا بعد دخول الوقت، ويتفرع على ذلك أنه إذا مات قبل دخول الوقت ولو بلحظة فهو غير آثمٍ ولا ملزمٍ بها، وكذلك لو جُنَّ أو حاضت المرأة قبل دخول الوقت ولو بلحظة فإنها لا تُطَالَب بها.

    فلا يتوجه الخطاب بالصلاة إلا بعد وجود هذه العلامة، فلما كان الوقت له هذه المنزلة وهي أنه لا يتوجه الخطاب من الشرع للمكلف أن يفعل العبادة إلا بعد وجود هذه العلامة. قيل: إنه شرط من هذا الوجه.

    الشرط الثاني: الطهارة من الحدث والنجس

    قال المصنف رحمه الله: [والطهارة من الحدث والنجس].

    قوله: (والطهارة من الحدث) تقدَّم تعريف الطهارة، وقلنا: إنها صفةٌ حكميةٌ توجب لموصوفها استباحة الصلاة، والطواف بالبيت، ونحوه مما تشترط له الطهارة.

    وأما الطهارة من النجس أو الخبث كما يُعبِّر العلماء فيشترط كذلك؛ لأن الطهارة طهارةٌ من الحدث بالوضوء أو الغسل أو التيمم بدلاً عنهما، وطهارةٌ من الخبث بإزالة النجاسة عن البدن والثوب والمكان.

    فأما طهارة الحدث فدليل وجوبها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة:6]، ثم قال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، فأوجب وأمر وألزَمَ المكلف بهذه الطهارة، ثم حكم بعدم صحة الصلاة بالفقد، فقال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين كما في حديث أبي هريرة واللفظ لـمسلم : (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فهذه طهارة الحدث ودليل اشتراطها لصحة الصلاة من الكتاب والسنة، لكن دليل السنة في الاشتراط أقوى من دليل الكتاب؛ لأن دليل الكتاب دلّ على الوجوب، وأما دليل السنة فقد دل على عدم الصحة والاعتبار إلا بعد وجود الطهارة، وهو أبلغ في الدلالة على الشرطية؛ لأن كون الشيء واجباً لا يدل على كونه شرطاً لصحة الشيء كما هو معلوم.

    وأما الطهارة من الخبث، وهي طهارة البدن والثوب والمكان من أجل الصلاة، كونها شرطاً لصحة الصلاة فيدل عليها:

    أولاً: إلزام المكلف بطهارة البدن، أصله قوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلي عنك الدم ثم صلي)، وقوله: (دعي الصلاة أيام قروئك)، وفي الحديث الآخر: (لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا بلغت ذلك فلتغتسل ثم تستذفر بثوب ثم تصلي)، فأمرها بطهارة البدن.

    ثانياً: طهارة الثوب، والأصل فيها قوله تعالى يخاطب نبيه: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:3-5]، فكبر: أي للصلاة، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، وليس المقصود الترتيب، وإنما المقصود مجموع هذه الأمور، والمراد بقوله: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]: أي طهارتها من النجس والقذر، فلا تصح الصلاة إلا بعد وجود طهارة الثوب.

    ثالثاً: طهارة المكان، فلا تصح الصلاة إلا بعد أن يكون مكان المصلِّي طاهراً، والأصل في ذلك حديثان: أحدهما حديث الأعرابي لما بال في المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (أهريقوا على بوله سجلاً من ماء)، فأمر بتطهير المسجد، وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام من دخل المسجد بنعليه إن وجد فيهما أذى بقوله: (ليدلكهما في الأرض)، فجعل دلك الأرض طهارةً لها.

    والدليل الثاني حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس، ثم خلع نعليه، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلَّم عليه الصلاة والسلام قال: (ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما قذراً، أو قال: أذى).

    ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع النعلين بعد العلم بنجاستهما؛ لأنهما ليستا بطاهرتين، فلما خلعهما بعد العلم بالنجاسة دل على أن المصلي لا يقف على موضعٍ نجس، ولذلك اعتُبِر حديث النعلين في خلعه عليه الصلاة والسلام لهما أصلاً في طهارة موضع المصلي الذي يصلي عليه.

    فمجموع هذه النصوص في الكتاب والسنة دلَّ على أنه ينبغي للمصلي أن يطهِّر ثوبه وبدنه ومكانه من أجل صلاته.

    1.   

    أوقات الصلاة

    وقت صلاة الظهر

    قال المصنف رحمه الله: [فوقت الظهر من الزوال إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال]

    الفاء للتفريع، أي: إذا علمت أن الوقت شرطٌ لصحة الصلاة فاعلم أن وقت الظهر ما سيأتي.

    والظهر: هي الصلاة الأولى تسمى بالظهر، وهذا اسمها الغالب، وللعلماء في سبب تسميتها بالظهر خلاف، قال بعضهم: سُمِّيت بالظهر من الظهيرة، لوجود قائم الظهيرة فيها؛ لأن الشمس تقوم فيها، وهي تقع بعد زوال الشمس مباشرة، فنسبت إلى أقرب موصوفٍ لها.

    والظُّهر تسمى الأُوْلَى، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي برزة الأسلمي أنه دخل عليه أبو المنهال سيار بن سلامة رحمه الله، فقال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي ، فقال له أبي: (كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟ قال: كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى..)، فوُصِفت بكونها هجيراً، وبكونها أُوْلى، وبكونها ظهراً، أما كونها هجيراً فلأنها تكون بالهاجرة، وهذا الوقت الذي تقع فيه صلاة الظهر، حيث تكون الشمس فيه شديدة الحرارة، ولذلك أمر بالإبراد عن أول الوقت في شدة الحر، فإذا اشتدت الحرارة هجر الناس الشمس، وصاروا إلى الظل، وهجروا أعمالهم من أجل شدة الحر والمئونة والمشقة، فسمِّيت الهجير من هذا، وسميت الظهر لما ذكرناه، وسميت الأولى لأنها أول صلاة تصلى.

    وهذا أصح أقوال العلماء أن الظهر هي أول الصلوات، والدليل على ذلك عدة أدلة، منها: أنه لما أراد الله أن يبين لنبيه عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة نزل جبريل في وقت الظهر، فكان أول ما أعلمه بوقته هو الظهر، وكذلك الحال في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للصلوات المكتوبة وأوقاتها كلهم كان يبدأ بصلاة الظهر، وذلك مراعاة لأصل الشرع.

    وقال بعض العلماء: الأولى هي الفجر والثانية هي الظهر لأجل أن يقوى مذهبهم بأن العصر هي الصلاة الوسطى، وهذا مذهبٌ مرجوح، ويُجاب عنه من وجهين:

    أولاً مخالفته لظاهر السنة ولهدي الصحابة في قولهم: (كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى...)، فدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمونها الأولى، وأما اعتذارهم بأن العصر لا تكون وسطى إلا إذا اعتبرنا الفجر الأولى فمحل نظر؛ لأنهم قالوا إن الفجر والظهر يجتمعان في كونهما صلاة نهارية، والمغرب والعشاء يجتمعان في كونهما صلاة ليلية، فيقع العصر بينهما، فتكون صلاةً وسطى من هذا الوجه.

    والجواب عن هذا يسير، وهو أن يُقال: إن الوصف بكونها وسطى -أعني العصر- إنما هو لانتصافها بين نهاريةٍ وليلية، لا بين نهاريتين وليليتين، وهم يراعون عدد الصلوات، ويمكن أن تراعى دلالة الحال، فإن صلاة العصر بين نهاريةٍ وهي الظهر، وليليةٍ وهي المغرب، وعلى هذا لا يرد ما ذكروه.

    فلصلاة الظهر وقتان: أول وآخر، فأما أول وقت صلاة الظهر فهو من الزوال إذا زالت الشمس، وأما آخر وقت الظهر فكما ذكر المصنف حين يصير ظل كل شيءٍ مثله، أي على قدر ظل الرجل إذا قام.

    أما بالنسبة لاعتبار الزوال أول وقت الظهر فدليله الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78]، ودلوكها: زوالها.

    أما السنة ففي الأحاديث الصحيحة، منها حديث ابن عمر في صلاة جبريل وإمامته بالنبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء.

    ومنها: حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين (كان يصلي الظهر إذا دحضت الشمس)، أي: زالت.

    ومنها: حديث أبي برزة : (كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس).

    وكذلك أيضاً حديث مسلم في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص .

    فهذه خمسة أحاديث كلها دلت على أن وقت صلاة الظهر يكون بدايته من زوال الشمس، وحُكِيَ الإجماع على أن وقت صلاة الظهر يبتدئ من الزوال، وهذا الإجماع مخالَف بما حُكِيَ عن ابن عباس أنه كان يجيز إيقاع صلاة الظهر قبل الزوال باليسير، وهو قولٌ محكيٌ عن مالك رحمة الله عليه إمام دار الهجرة، وقولٌ مرجوح لمخالفته لظاهر السنة، فحكاية الإجماع يُشكِل عليها ما أُثِر عن ابن عباس وعن مالك رحمة الله عليه.

    وإذا علمنا أن النصوص دلت على أن أول وقت الظهر الزوال، فما هو الزوال؟

    الزوال: مأخوذٌ من زال الشيء إذا تحرَّك، والمراد بالزوال زوال الشمس، والسبب في ذلك أن الشمس إذا طلعت يكون الظل في جهة المغرب، ثم تسير وينقبض ظلها حتى تنتصف في كبد السماء، فتقف عن مسيرها، وبالمناسبة في سير الشمس ينبغي إثباته، والقول بأن الشمس ثابتة باطل مخالفٌ لنص القرآن، ولذلك قال بعض العلماء: لا يجوز أن يعتقد المسلم أن الشمس ثابتة، وذلك لقوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38]، فنص سبحانه على أنها تجري، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـأبي ذر : (يا أبا ذر ! هل تدري أين تذهب هذه؟)، فنسب لها الذهاب والمجيء، وهذا يدل على الحركة بخلاف الثبوت، ولذلك يُعتقد جريانها، وقول بعض الفلاسفة: إنها ثابتة مخالفٌ لهذا النص الذي أنبأك به الخبير العليم سبحانه وتعالى خالق الشمس وخالق الكون وهو أعلم بما خلق.

    فالشمس تطلع من مشرقها فيكون الظل في جهة المغرب، على أقصى ما يكون عند ارتفاع شعاعها، ثم ترتفع قليلاً قليلاً فينقبض الظل من جهة المغرب قليلاً قليلاً حتى تنتصف في كبد السماء، فإذا انتصفت في كبد السماء وقف الظل عن الحركة فلا يزيد ولا ينقص، وهذا الانتصاف قال بعض الخبراء من أهل الفلك: إنه لحظة يسيرة، أي: قد يكون إلى دقائق معدودة جداً، وفي هذا الوقت وهو وقت انتصافها في كبد السماء تسجر جهنم -والعياذ بالله-، ولذلك نُهِي عن الصلاة فيه؛ لأنه لحظة عذاب، وليست بساعة رحمة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا اعتدلت على رأسك فإن تلك الساعة تسجر فيها جهنم).

    وثبت عن عقبة بن عامر أنه قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)، فإذا قال العلماء: (قام قائم الظهيرة)، أو قالوا: (وقف الظل)، فمرادهم هذه الساعة، ولذلك تقف الشمس في كبد السماء فلا تتحرك، فإذا وقفت وقف الظل، وأحياناً يقف الشاخِص بدون ظل، وهذا في الأماكن التي تكون معادلة لمنتصف السماء، ولذلك يقولون: إنه في مكة في اليوم السابع من حزيران تكون الشمس لا ظل لها، بمعنى أنها في منتصف السماء، أو في كبد السماء كما ورد في الخبر، فإذا أخذت في هذه اللحظة التي هي لحظة الإمساك تبدأ بعد ذلك في الحركة إلى جهة المغرب، فإذا ابتدأت حركتها إلى جهة المغرب تحرّك الظل إلى جهة المشرق، على عكس ما كان عليه عند غروبها.

    وهذه اللحظة هي لحظة انتصاف النهار، وتكون في منتصف الوقت ما بين طلوع الشمس وغروبها بإذن الله عز وجل، فإذا انتصفت في كبد السماء وابتدأت بالمسير فحينئذٍ يبدأ وقت الظهر، فقبل مسيرها، وهي لحظة وقوف الظل لا يجوز إيقاع الصلاة -كما قلنا- في قول الجماهير، وانعقد عليه الإجماع، إلا ما جاء عن ابن عباس ومالك رحمه الله تعالى.

    فلذلك قالوا: يبدأ وقت الظهر من الزوال، أي: من حركة الشمس، فالسبب في تسمية هذا الوقت بالزوال أنّ الشمس تتحرك، فكأنها زالت عن مكانها الذي ثبتت فيه في كبد السماء، وهذا الوقت هو أول وقت الظهر.

    ثم كيفية معرفة هذا الوقت تختلف باختلاف الفصول، وباختلاف البلدان، ولكن الطريقة التي يمكن للإنسان أن يضبط بها المواقيت. أن يثبت شاخصاً على مكانٍ مستوٍ، ويعرف طول هذا الشاخص، ثم بعد ذلك ينظر في ظل الشاخص، فتبدأ الشمس طالعة من مشرقها فيراقب الظل في جهة المغرب، فكلما تقاصر الظل، خاصةً عند منتصف النهار يضع العلامة، خاصة إذا كان الشاخص على ورقة أو نحوها، فيضع علامة على الظل، حتى يقف الظل فيعلم أن هذه اللحظة التي وقف فيها الظل هي الساعة التي انتصف فيها النهار، بمعنى أنه بمجرد ما يبتدئ الظل بالزيادة والانحسار إلى جهة المشرق فاعلم أنها ساعة الزوال، وأن ما قبلها ساعة انتصاف النهار.

    و(من) في قوله: (من الزوال) ابتدائية، أي: يبتدئُ بزوال الشمس.

    وقوله: (إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال) الفيء: الرجوع، ومنه قوله تعالى: فَإِنْ فَاءَتْ [الحجرات:9] أي: رجعت، قالوا: سمي بذلك لأن الظل يَفِيء، بمعنى: يرجع، فبعد أن كان في جهة الغرب إذا به إلى جهة المشرق، وبتقاصُر الظل يكون الفيء، فالظل الذي تقف عليه الشمس عند انتصافها في كبد السماء لا يُحسب، وببداية تحركها إلى جهة المغرب، وزيادة قدر الظل في جهة المشرق يبدأ وقت الظهر كما قلنا، فيضع من هذه البداية علامة على الورقة، ثم بعد مسيرها ينظر إلى طول الظل حتى يساوي العود أو الشاخص الموضوع.

    والسبب في ذلك أن الزوال أحياناً يقف على قدر من الظل، بمعنى أنه يكون للشاخص ظل، فلو فُرِض أن ظله يختلف بالصيف والشتاء على حسب قرب الشمس من مسيرها الذي هو في منتصف القطب أو انحرافها في فصل الشتاء، فإذا كان الظل الذي وقفت عليه الشمس يعادل شبراً ونصف لشاخص طوله متر، فحينئذٍ يحسب من هذا الشبر والنصف أو القدم -كما يقولون-، ويُعتبر وصول الظل إلى القدم هو بداية وقت الظهر عند الزيادة، فتضع علامة على هذا القدر.

    وبعد زيادة الظل في جهة المشرق بقدر الشاخص الذي هو المتر، يكون وقت الظهر قد انتهى، وهذا هو معنى: إلى أن يصير فيء كل شيءٍ مثله بعد فيء الزوال.

    فلا بد في غالب الأحوال أن يكون للزوال ظل، ولذلك تجد في بعض التقاويمات أنَّ ظل الزوال قدم. بمعنى أن الشمس تنتصف في كبد السماء على قدم، وبناءً على ذلك فإذا جئت تحسب ظل كل شيءٍ مثله فاحسب من بعد القدم، ولا تحسب من أصل الشاخص؛ لأنك إن حسبت من أصل الشاخص لم يكن ظل كل شيءٍ مثله، فهذا أمر ينبغي التنبُّه له.

    ولذلك لا يستطيع أحد أن يعرف انتهاء وقت الظهر إلا إذا كان عالماً بالقدر الذي وقف عليه ظل الزوال، فإن كان ظل الزوال قدره شبر ونصف فحينئذٍ يستطيع بعد أن يوقف الشاخص الذي وقف عليه على شبرٍ ونصف، فما بعد الشبر والنصف من قدر الشاخص هو نهاية وقت صلاة الظهر، وحينئذٍ يبتدئ في وقت صلاة العصر.

    والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَّهُ جبريل في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيءٍ مثله.

    وكذلك جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : (ما لم يصر ظل كل شيءٍ مثله)، فهذا ينص على أن وقت الظهر ينتهي إذا صار ظل كل شيءٍ مثله.

    خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه الذي يرى أن وقت الظهر ينتهي إذا صار ظل كل شيءٍ مثليه، والصحيح أنه ينتهي إذا صار ظل كل شيءٍ مثله؛ للأحاديث التي ذكرناها.

    قال رحمه الله تعالى: [وتعجيلها أفضل].

    هذا في الأصل، والدليل على أن الظهر الأفضل أن توقعها في أول الوقت قوله عليه الصلاة والسلام لما سأله عبد الله رضي الله عنه، فقال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحبُ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها).

    ومعلوم أن أفضل ما يكون في الصلاة، وأجدر ما يكون في فعل الصلاة أول وقتها، ولذلك جاء في الرواية الثانية: (الصلاة على أول وقتها).

    والدليل الثاني على فضيلة أول الوقت قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليصلي الصلاة ولم تفته، ولَمَا فاته من وقتها خير له من أهله وماله).

    ولذلك قال بعض العلماء: لو أن إنساناً أدرك جماعةً ثانيةً بعد الجماعة الأولى، فبين الجماعة الأولى والجماعة الثانية من الفضل أكثر مما في الدنيا وما عليها وهذا يدل على فضل المبادرة، والسبب في ذلك أن الإنسان إذا بادر إلى فعل الفريضة لا يبادر إلا بأدائها في أول الأوقات، والقيام بحقها في أول الأزمنة، فيكون بهذا موصوفاً بالمسارعة إلى الخير، وتتضمن مبادرته إلى فعل الصلاة في أول الوقت خوفه من الله، ورغبته فيما عند الله؛ لأنه لا يمكن أن يحرص على أول هذا الوقت إلا بوازع من الخير، فقالوا: المبادرة إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل، ومن هذا صلاة الظهر.

    قال رحمه الله تعالى: [إلا في شدة حر].

    لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث أنس : (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم).

    فقوله: (إذا اشتدا الحر) شرط، (فأبردوا) جواب الشرط، والإبراد: التأخير، ثم قال: (فإن) وهذا للتعليل، أي: أمرتكم بهذا الأمر لأن شدة الحر من فيح جهنم.

    قالوا: لأن الحر إذا اشتد كان من فيح جهنم، فهي ساعة عذاب، فلذلك يُناسب أن يتأخر ويتقاصر عنها حتى يصيب ساعة الرحمة، ولذلك ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل الظهر أربعاً، فلما سألته عائشة عنها، قال: (إنها ساعةٌ تفتح فيها أبواب السماء)، وهي سابقةٌ لساعة العذاب، ولذلك قالوا: إنه يُبرِد حتى يصيب الرحمة، ويكون أبعد ما يكون من العذاب.

    وقال بعض العلماء: السبب في الإِبْرَاد رفع المشقة عن الناس؛ لأن الناس إذا صلي بهم في أول الوقت ربما صلوا في الشمس، فكان في ذلك ضرر عليهم، وكذلك خروجهم إلى الصلاة فيه ضرر؛ لأنهم يخرجون في شدة الشمس، فهذا يضر بهم، وربما آذاهم، قالوا: فخُفِّف عن المكلفين من هذا الوجه، فهذان قولان.

    وفائدة هذا الخلاف أنك إذا قلتَ: إنها من أجل شدة الحر المتعلقة بفيح جهنم لذاتها يستوي في ذلك أن يصلي الإنسان في بيته أو يصلي مع جماعة؛ لأنه إذا نظرنا إلى العلة فهي جامعة لمن كان في الظل وفي الأمن والراحة، ولمن كان في الشمس والقر.

    وإن قلتَ: العلة هي التخفيف على الناس تُفَصِّل، فتقول: إذا صلى الإمام بالجماعة خفَّف وأبرد رفقاً بهم، وإذا صلى لوحده، أو صلى الإنسان المعذور، أو المرأة في البيت تريد أن تصلي، فلتصل في أول الوقت، حتى تصيب أول الفضل؛ لأن العلة ليست بموجودة، فتبقى على الأصل من المبادرة إلى أول الوقت، فهذا وجه الخلاف بين تعليل العلماء رحمة الله عليهم.

    وخالف بعض أهل العلم فقالوا: إنه لا يُبرد لصلاة الظهر. وهذا مخالف للسنة، واحتجوا بما ثبت في الحديث: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه حر الرمضاء فلم يشكنا) أي: لم يسمع شكوانا، قالوا: هذا يدل على عدم الإبراد، وأُجِيب عن هذا بأن المراد به شدة الحر الموجودة، فإنهم أرادوا أن يخفف ويبرد أكثر مما هو عليه صلوات الله وسلامه عليه فردهم إلى الأصل، وهذا لا يعارض ما ذكرناه.

    وقوله: (ولو صلى وحده)؛ لأننا قلنا: إن العلة راجعة إلى وجود الحرارة، بغض النظر عن تضرر المكلف أو عدم تضرره.

    فعلى القول بأن العلة هي وجود الحر والقر استوى في ذلك أن يصلي وحده كالمريض أو المرأة تصلي في بيتها معذورة عن الجماعة، فحينئذٍ الأفضل لها أن تبرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأبردوا)، وخاطب بالعموم، ولذلك قالوا: الأصل في العام أن يبقى على عمومه، فيستوي في ذلك المعذور وغير المعذور.

    قال رحمه الله تعالى: [أو مع غيمٍ لمن يصلي جماعةً].

    أي إذا كان الغيم فإنه يبرد بالصلاة رفقاً بالمصلين، قال بعض العلماء: العلة في ذلك أنه إذا أخر الظهر إلى آخر وقتها في الغيم فإنه أدعى للرفق بالناس، فيُبرِد حتى إذا صار في آخر الوقت -كما هو في زمن الشتاء- صلَّى الظهر في آخر وقتها، وبمجرد ما ينتهي منها يدخل وقت العصر، فيؤذن ويقيم، فيرفق بالناس، وهذا الذي يسمى الجمع الصوري، وعليه حمل حديث ابن عباس عند مسلم قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر) قال أبو الزبير فسألت سعيداً : لِمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني، فقال: أراد ألا يحرج أحداً من أمته.

    فإنه مع وجود الغيم مظنة أن يكون هناك مطر وضرر بهم، فلذلك رفق بهم، فقوله: (أراد ألا يحرج أحداً من أمته)، دل على أن هذا الجمع له علة، وهو أنه لو لم يجمع لحصل الحرج، خلافاً لمن يقول إن معنى هذا الحديث الإطلاق. وهذا ضعف في الفهم؛ لأن قوله: (أراد ألا يحرج أحداً من أمته) معناه أنه لو لم يفعل ذلك لحصل الحرج، وهو الجمع الصوري الذي يكون عند الحوائج.

    مثال ذلك أن يُحتاج إلى جمع الناس لخطبة، فيقوم الإمام ينبههم على أمر من دينهم ودنياهم، أو أي أمر يحتاجون إلى الكلام فيه، ويحتاجون إلى تأخير الصلاة والإبراد بها، فيتكلم ويتحدث حتى إذا قارب وقت العصر صلى الظهر، فدخل وقت العصر فصلى بهم العصر.

    وقد فعل هذا الفعل نفسه ابن عباس الذي روى نفس الحديث، فإنه خطب الناس إبَّان إمارته على الكوفة، فجعل يخطب فقام له أعرابي وقال: الصلاة! فسَكَت عنه ابن عباس وأعرض، والسمَر في خطبته، ثم قاطعه ثانيةً وقال: الصلاة! فقال له ابن عباس : أتعلِّمنا بالصلاة لا أم لك؟! ثم ذكر الحديث.

    فالمقصود أن ابن عباس في خطبته تشاغل بها حتى قارب انتهاء وقت الظهر، فصلى الظهر، ثم أذَّن للعصر وأقام ثم صلى، فكان في ذلك تخفيف على الناس، وهذا لا حرج به ولا بأس، والأمر راجعٌ إلى الأئمة، لما ذكرنا من ظاهر دلالة حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

    وقت صلاة العصر

    قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت العصر].

    قوله: (ويليه) أي: يقع بعد وقت الظهر وقت العصر، والولاء بمعنى أنه بعد انتهاء وقت الظهر يدخل وقت العصر.

    وقال بعض العلماء: إن هناك وقتاً مشتركاً بين الظهر والعصر، وهو الأمد الفاصل بين الوقتين، وظاهر السنة ما ذكره ودرج عليه المصنف رحمه الله لظاهر حديث إمامة جبريل، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الوقتين في صحيح مسلم .

    والعصر في لغة العرب يُطلق بمعانٍ، فالعصر الدهر، وحملوا عليه قوله تعالى: وَالْعَصْرِ [العصر:1]، فأقسم الله عز وجل بالزمان كله.

    والعصر: اليوم والليلة، ومنه قول الشاعر: ولن يلبث العصران يومٌ وليلة.

    وكذلك يطلق على الوقت المحدد المعروف الذي يكون في عشي النهار، أي: في آخر النهار.

    قالوا: سُمِّي العصر عصراً لأن الإنسان إذا عصر الشيءَ لم يبق إلا آخره، بمعنى أن النهار ولَّى ولم يبق إلا آخره، وكان بمثابة العصارة الأخيرة في الشيء، فسُمي العصر عصراً من هذا.

    والعصر هو الوقت الثاني كما ذكرناه، وهو أفضل الصلوات؛ لقوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، فإن الله عز وجل خصها بالذكر، وعطف الخاص على العام يقتضي تشريف الخاص وتميُّزه على العام بفضيلة، كما في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر:4]، وقوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98]، فذكر جبريل وميكال من باب التخصيص والتشريف، فالعرب تعطف الخاص على العام للدلالة على شرفه، فلما قال تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] دل على فضل صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى.

    وأما الدليل على كونها صلاةً وسطى فما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً أو قال: حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً)، وهذا في الصحيح، وهو نص على أن الصلاة الوسطى هي العصر، ووصِفت بكونها وسطى؛ لأنها تقع بين صلاة نهارية وهي الظهر، وصلاة ليلية وهي المغرب، ومما يدل على أنها هي المختصة بالفضل اختصاصها بالوعيد في قوله عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة العصرِ فكأنما وتر أهله)، بمعنى -والعياذ بالله- فقد أهله.

    فهذا يدل على عظيم شأنها، وأنها تتميز من بين الصلوات بهذا الفضل العظيم.

    قال بعض العلماء: خُصَّت العصر بهذه المزية لأنها تقع عند التجار في أوقات التجارة، فالناس الغالب أنهم في العصر يتبايعون ويشترون، فتكون ساعة غفلة، ولذلك خُصَّت بهذا الفضل.

    وكذلك الحال بالنسبة لأول النهار، فلما قال تعالى: فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء:25] قال عليه الصلاة والسلام: (صلاة الأوابين حين ترمض الفِصال) قالوا: خصَّ صلاة الضحى بهذا الوقت لأنها ساعة اشتغال الناس بالتجارة، فهذه في النافلة في أول النهار، والعصر فريضةٌ في آخر النهار، وجُعِلت فضيلتها في آخر النهار لأنه وقت الكلال والتعب والسآمة.

    ولذلك قالوا: إنها هي الوسطى، وهي أفضل الصلوات، ووقتها من صيرورة ظل كل شيءٍ مثله على ظاهر حديث جبريل وحديث ابن عمر في الصحيح، إلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثليه، فهذا القول الأول.

    والقول الثاني أن وقت العصر ينتهي إلى اصفرار الشمس، وكلا القولين في وقت الاختيار.

    وأما وقت الاضطرار فيستمر من ظل كل شيءٍ مثليه إلى غروب الشمس، أو من صُفرة الشمس إلى غروب الشمس.

    فأما القول الأول الذي يقول: وقت العصر إلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثليه، فتحسب ظل كل شيءٍ مثله، ثم بعد ذلك تحسب صيرورته إلى الضعف، فإذا بلغ الضعف من بعد ظل الزوال فقد انتهى وقت العصر الاختياري، فلا يحل تأخير الصلاة لقادرٍ على فعلها عن هذا الوقت، وهذا على القول الأول، ثم يبدأ الوقت الاضطراري، والوقت الاضطراري للحائض والنفساء إذا طَهُرت من حيضها ونفاسها، فلو أن امرأةً طهُرت من حيضها أو نفاسها في هذا الوقت الذي هو بعد أن صار ظل كل شيءٍ مثليه فحينئذٍ يُحكم بوجوب صلاة العصر عليها إذا طهرت قبل غروب الشمس بركعة، فإن طهرت قبل غروب الشمس بثلاث ركعات وهي مسافرة، أو بخمس ركعات وهي مقيمة، طُولِبت بصلاة الظهر والعصر لما بينهما من الاشتراك بدلالة الشرع، وسنبين هذا إن شاء الله في موضعه.

    وأما قول من قال: إن وقت العصر إلى أن تصفر الشمس فهو أقوى الأقوال؛ وذلك لأن حديث مسلم في قوله عليه الصلاة والسلام: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس) ثبت بالسنة المدنية؛ لأنه كان بالمدينة.

    وحديث إِمَامَة جبريل -وهو حديث ابن عمر - للنبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة، والقاعدة أن المتأخر ينسخ المتقدم، ولذلك لا تعارُض بين الحديثين، فيُعتبر حديث (وقت العصر ما لم تصفر الشمس) نصاً في أن وقتها ينتهي عند اصفرار الشمس، والشمس إذا قربت من المغيب ذهب ضياؤها واصفرت، ثم بعد ذلك يبدأ عند الاصفرار وقت الاضطرار كما ذكرنا، ولا يجوز التأخير إليه إلا لمعذور.

    وإذا غابت الشمس انقطع وقت الاختيار ووقت الاضطرار.

    قوله: [إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال].

    هذا كما قلنا أحد قولي العلماء، والصحيح القول الثاني أن وقتها ينتهي عند اصفرار الشمس.

    وأما أول وقت العصر فعند الحنفية أوله إذا صار ظل كل شيءٍ مثليه، وقد بيّنا أن الصحيح أنه إذا صار ظل كل شيءٍ مثله، والدليل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ وقت العصر إذا صار ظل كل شيءٍ مثله، فالأحاديث الصحيحة التي من تأمَّلها نظر إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع العصر عند صيرورة ظل كل شيءٍ مثله.

    فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي المنهال حيث حدث يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (.. ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية)، ومعنى ذلك أنه كان يوقعها وقد صار ظل كل شيءٍ مثله، ولا يتأتى أن يُصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن صار ظل كل شيءٍ مثليه، ثم يرجع الرجل إلى رحله والشمس حية، فهذا معروف، وغالباً من يعرف وقت المدينة يرى أن هذا بعيد، والغالب أنه صلَّى عند صيرورة ظل كل شيءٍ مثله، وانتهى وقت صلاته على ظاهر السنة ما لم تصفَر الشمس، واصفرارها -كما قلنا-: انطفاء نورها، بمعنى أنك تستطيع أن تنظر فيها، فإذا بها تصبح صفراء فتقوى على النظر إليها، ولكنها إذا كانت قريبة من الزوال يكون من الصعوبة أن تنظر إليها.

    قوله: [والضرورة إلى غروبها].

    أي: وقت الضرورة، إلى غروبها، فإن قال قائل: ما الدليل على تقسيم الضرورة والاختيار؟

    قلنا: أما دليلنا على الوقت المختار فقوله عليه الصلاة والسلام: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس).

    وأما الدليل على وقت الاضطرار الذي لا يجوز إلا لمعذور، فقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أدرك ركعةً قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، فدل هذا على أن من صلَّى في هذا الوقت، فقد أدرك العصر.

    وفي الحديث الآخر: (وقت العصر ما لم يغب الشفق)، فعلمنا أن هناك وقت اختيار وهناك وقت اضطرار، وأن وقت الاختيار ينتهي عند انطفاء الشمس وصيرورتها إلى الصفرة، ووقت الاضطرار من الصفرة إلى غروب الشمس.

    قوله: [ويسن تعجيلها]

    أي الأفضل والأكمل والأعظم أجر التعجيل بالعصر، لظاهر الحديث الذي ذكرناه في الظهر.

    وقت صلاة المغرب

    قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت المغرب إلى مغيب الحمرة].

    أي: ويلي وقت العصر المغرب، والمغرب هي الصلاة الثالثة، وتكون بعد غروب الشمس؛ لما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أنه لما ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم المكتوبة قال: (والمغرب إذا وجبت)، ومعنى: (وجبت): سقط قرص الشمس وغاب، فإن العرب تقول: وجب الشيء إذا سقط، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36]، أي: سقطت الإبل واستقرت على الأرض.

    فقول جابر : (والمغرب إذا وجبت) أي: كان عليه الصلاة والسلام يصلي المغرب إذا وجبت الشمس، بمعنى غابت وذهب ضياؤها.

    وقوله: [إلى مغيب الحمرة]

    أجمع العلماء على أن وقت المغرب يبتدئ عند غروب الشمس، فهذا أول الوقت، إلا خلافاً لبعض أهل الأهواء الذين لا يُعتد بخلافهم الذين يقولون: إن المغرب يكون عند اشتباك النجوم، وكان قولاً لبعض السلف المتقدمين، ولكنه قولٌ لا يُعتد به؛ لمخالفته للسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرد السؤال: هل المغرب له وقت واحد أو وقتان؟

    قال بعض العلماء: المغرب وقتها بقدر ما تفعل، واستدلوا بحديث متكلَّمٍ على سنده.

    والقول الثاني أن المغرب لها وقتان، بمعنى أنه يبتدئ وقتها بعد غروب الشمس، وينتهي في وقتٍ غيره.

    فالأولون يقولون: المغرب لها وقتٌ واحد وهو قدر ما تؤديها بعد غروب الشمس، فلا يجوز التأخير فيها، وهذا أضيق المذاهب كما هو موجود في مذهب المالكية والشافعية.

    والقول الثاني وهو الصحيح أن للمغرب وقتين: الوقت الأول لبدايتها، والثاني لنهايتها، فأما بدايتها فبعد الغروب، وأما نهاية وقتها فيكون عند مغيب الشفق، فإذا غاب الشفق انتهى وقت المغرب، والشفق شفقان: شفقٌ أحمر وشفقٌ أبيض، فأجمع العلماء على أن الشفق إذا غاب انتهى وقت المغرب، ولكنهم اختلفوا في حد هذا الشفق.

    فقال بعض العلماء: العبرة بالشفق الأحمر، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق)، فنص عليه الصلاة والسلام على أن وقت المغرب ينتهي عند مغيب الشفق، وسكت عليه الصلاة والسلام، فلم يقل شفقاً أحمر ولا شفقاً أبيض، فإذا غابت الشمس يأتي الشفق الأحمر وينتشر من جهة المغرب، فينتحي ناحية الشمس اليمنى وناحيتها اليسرى ويمتد في الأفق، وهذا يختلف باختلاف أزمنة الصيف والشتاء.

    وهذه الحمرة تستمر قرابة ساعة زمانية، وقل أن تزيد على ساعة.

    وبعد هذه الحمرة يأتي بياض في الأفق ليس بليلٍ ولا بنهار، وهذا البياض قدره ثلاث درجات فلكية، وكل درجة لها أربع دقائق، أي: اثنتا عشر دقيقة إلى ربع ساعة، فهذه الاثنتا عشرة دقيقة هي محل الخلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، فإذا قدَّرت بعد غروب الشمس ساعةً كاملة فيغيب فيها الشفق غالباً.

    وبعد هذه الساعة الكاملة يبدأ الخلاف بين العلماء: هل انتهى وقت المغرب أو لم ينته؟

    فمذهب بعض العلماء أنه ينتهي وقت المغرب بمجرد مغيب الشفق الأحمر، وهو أصح أقوال العلماء، والدليل على ذلك أن الشفق إذا أطلق فالمراد به الشفق الأحمر.

    وأيضاً فإنه إذا أُطلق فالعبرة في الاسم بمبتدئه؛ لأنه أقل ما يصدق عليه الوصف، ولذلك يعتبر مبتدؤه احتياطاً لأمر الصلاة، وتبقى قد ربع ساعة كما قلنا لا يجوز تأخير المغرب إليها.

    وبناءً على ذلك إذا غاب الشفق الأحمر يبدأ البياض الذي تدخل به ظلمة الليل، أو ما يسمى في لغة العرب (العتمة)، وسميت بذلك لأن العرب يُعتِمون بالإبل، والسبب في ذلك أنهم كانوا يأتون بالإبل من الرعي، فمن كرمهم وجودهم لا يبادرون الإبل بالحلب خوف الضيف أن يأتي، ويتأخرون إلى قدر العتمة، فترجع إلى ديارهم ومنازلهم وإلى مراحها عند الغروب، فإذا غربت الشمس تركوها، أو تأتي بعد الغروب قليلاً فيتركونها، وإن كان ألذ وأطيب ما يكون عندهم أن يحتلبوها ساعة رجوعها، ولكنهم يؤخرونها خوف الضيف، فيتأخرون إلى (العتمة)، فلذلك يقولون لها العتمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل)، فمعنى (اعتموا بالإبل) أي: أدخلوها إلى العتمة، بمعنى أخَّروا حلبها إلى عتمة الليل، وهي الظلمة التي تكون بعد الشفق الأبيض.

    قوله: [ويسن تعجيلها].

    أي: ويسن تعجيل المغرب، ويكون التعجيل نسبياً، فيترك قدر ما يُصلَّى ركعتين خلافاً للحنفية والمالكية رحمة الله عليهم، فتؤخر قدر صلاة ركعتين ثم يقيم، وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب لمن شاء).

    وفي حديث أنس في الصحيح قال: (فلقد رأيت كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري -أي: يجعلونها سترة- حتى إن الرجل لو دخل ظن أن الصلاة قد أقيمت).

    فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك قدراً بين الأذان والإقامة، خلافاً لمن قال من العلماء: إنه يؤذن ويقيم مباشرة، فهذا خلاف السنة، وليس المراد بالتعجيل هذا.

    فالأفضل في المساجد أن يُترك قدر ما تصلى به السنة، وهي ليست براتبة ولكنها مستحبة لمكان الندب إليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال رحمه الله تعالى: [إلا ليلة جمعٍ لمن قصدها محرماً].

    ليلة جمع المراد بها: مزدلفة، وسميت جمعاً لاجتماع الناس فيها، والمراد بهذا ليلة النحر للحاج، فإن الحاج إذا دَفَع من عرفات لا يصلي المغرب في عرفات، وإن كان دَفْعُه بعد غروب الشمس، فاحتاط المصنف، والدليل على ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولو صلَّى الحاج بعد غروب الشمس بعرفة صحت صلاته ولكنها خلاف السنة، والأفضل أن يؤخر صلاة المغرب ليلة النحر إلى وصوله إلى مزدلفة، ولا يصلي حتى في الطريق، بل قال بعض العلماء: حتى ولو خرج وقت المغرب، فقد اشترك المغرب والعشاء اشتراك جمع، فيؤخرها ولو وصل قرب الفجر؛ لأنه يرى أن وقت الاضطرار يستمر إلى الفجر.

    واحتج الإمام أبو حنيفة على هذا القول -مع أنه يُضيق في التمسك بظاهر السنة- فإن أسامة لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة! قال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) قال الإمام أبو حنيفة : قوله: (الصلاة أمامك) تحديدٌ من النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى: ألاَّ تصلي إلا أمامك، يعني جَمْعَاً، ولذلك قال: لا تُصلَّى إلا في جمع، ولو وصلها بعد نصف الليل، وهذا من شدة تمسكه رحمة الله عليه بالسنة، وفي هذا رد على من يقول: إن الإمام أبا حنيفة يرد السنة ولا يقبلها، ولا يجوز اتهام هذا الإمام الجليل والعلم الفاضل من أئمة السلف رحمة الله عليه، بل هو غيورٌ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وإنما كان يخالف الأحاديث بسبب عدم علمه بها، ولكثرة الوضع بالبلد الذي كان بها -أي: العراق-، فقد كان الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم منتشراً في زمانه، فكان يحتاط في الأحاديث، ولذلك قلَّت عنده السنن.

    فالمقصود أن الحديث يدل على أن السنة للحاج أن يؤخِّر المغرب إلى بلوغه مزدلفة، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    لكن هنا مسألة وهي أن المعروف في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أنك لو ركبت الدابة أو البعير كما فعل عليه الصلاة والسلام، ودَفَعْت من عرفات إلى مزدلفة، فإنك ستقطع قرابة الساعة أو تزيد قليلاً، ومعنى ذلك دخول وقت العشاء، فقالوا: إن جمعه وقع جمع تأخير. فلو أن إنساناً بادر كما هو موجود الآن في السيارات، ودفع أول ما دفع الناس، فوصل في وقت المغرب، فهل يصليها في أول الوقت أو يتأخر؟

    والذي يظهر أنه يصليها وقت بلوغه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّق ذلك بالمكان لا بالزمان.

    وقت صلاة العشاء

    قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت العشاء].

    أي يلي وقت المغرب وقت العشاء، ووقت العشاء بعد مغيب الشفق، واختلف العلماء في آخره.

    قال رحمه الله تعالى: [إلى الفجر الثاني].

    وقت العشاء وقتان: الوقت الأول ينتهي عند منتصف الليل؛ لقوله تعالى: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78]، وهو منتصفه، والمراد الإشارة إلى اختياره.

    وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام تأخير الصلاة إلى نصف الليل، كما في رواية.

    وقال بعض العلماء: ينتهي وقت العشاء عند الثلث.

    والأقوى في دلالة الكتاب والسنة ما ورد من كونه منتهياً عند منتصف الليل، أعني الاختياري، ثم يبقى الاضطراري، فإنه ينتهي بطلوع الفجر الصادق.

    قوله: [وهو البياض المعترض].

    الفجر فجران: الفجر الكاذب، وهو الذي يكون كذنب السرحان، بياضٌ طويلٌ في أعلى الأفق، ولا يعترض، أي: لا ينتشر.

    قال عليه الصلاة والسلام: (الفجر أن يقول هكذا)، وقال: (ولا يهيدنكم الساطع المصَعَّد)، (ولكن الفجر أن يقول هكذا)، بمعنى: لا يروِّعكم، ولا يمنعكم من الأكل والشرب وجود ضياء الساطع المصَعَّد -الفجر الكاذب-، والفجر الكاذب يكون في السدس الأخير من الليل، وسرعان ما يتلاشى هذا الضياء، بمعنى أنه لا يثبت الضياء فيه.

    وأما الفجر الصادق فإنه ينتشر فيه الضياء، ولا يزال الإنسان يدخل في الوضوح والإصباح حتى تطلع الشمس، والمراد بهذا أن وقت الفجر المعتبر يكون بطلوع الفجر الصادق، فإذا طلع الفجر الصادق انتهى وقت العشاء الاضطراري.

    قال رحمه الله تعالى: [وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل إن سَهُل].

    هذا لما ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعِشاء فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله، رقد النساء والصبيان. فخرج ورأسه يقطر يقول: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة)، فدل على فضل تأخير العشاء.

    والسنة التفصيل، فإذا كان المسجد مسجد جماعة فإنه يُسنُّ للإمام أن ينظر إلى حال المأمومين، فإن كان المأمومون مجتمعين وكثيرين، فحينئذٍ يقيم الصلاة ويُبكر، وإن كانوا متأخرين يؤخر في العشاء إصابةً للسنة.

    والدليل على هذا التفصيل ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر أنه قال: (والعشاء أحياناً وأحياناً، فإذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطأوا أخر)، فدل على أن أمر مساجد الجماعة يُنظَر فيه إلى حال الناس.

    وأما بالنسبة للمنفرد والمرأة والرجل المعذور فإن الأفضل له أن يؤخِّر العِشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي)، فدل هذا على فضل تأخير العشاء.

    وقال العلماء: السبب في ذلك أنه لا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصلاة، ولأن الناس بعد العشاء يضطجعون، خاصة في القديم، والغالب فيهم أنهم بعد العشاء يرتاحون، فكون الإنسان لا يبادر إلى راحته ولا إلى نومه مع أنه قد تعب النهار، وينتظر تأخيرها أبلغ في طاعته لله، حتى يأتي عليه الوقت المتأخر للعشاء، وقل أن تجد أحداً يصلي معه، فيصيب فضلاً لا يصيبه غيره، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها)، (لم يصلها أحد ممن كان قبلكم)، فدل هذا على فضل التأخير من هذا الوجه؛ لأن الناس تغفل وتنام لمكان المشقة وعناء النهار، فلذلك فُضِّل تأخيرها من هذا الوجه، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النوم قبلها، لمكان تعب الناس، ولما فيه من غالب عنائهم بتحصيل مصالحهم في النهار.

    وأما كيف يعرف المكلف نصف الليل فإنه يحسب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، ثم يقسم ذلك على اثنين، ثم يضيف النصف الذي خرج من هذه القسمة إلى وقت الغروب، فلو كان غروب الشمس الساعة السادسة، وأذان الفجر الصادق الساعة الخامسة، فمعنى ذلك أن الليل يستمر من الساعة السادسة إلى الخامسة بمقدار إحدى عشرة ساعة، ونصفها خمس ساعات ونصف، فيضيفها إلى الساعة السادسة التي هي وقت الغروب، فتصبح الساعة الحادية عشرة والنصف هي منتصف الليل.

    وبناءً على ذلك لا بد أن يعلم ساعة الغروب وساعة طلوع الفجر الصادق، ثم يفعل ما ذكرنا.

    وقال بعض العلماء: إنه يَقْسِم ما بين طلوع الشمس وغروبها. وهذا مرجوح.

    وقت صلاة الفجر

    قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت الفجر إلى طلوع الشمس].

    أي: يلي وقت العشاء الفجرُ، وسُمي فجراً لانفجارِ الضوء فيه وانتشاره، وهذه الصلاة هي الصلاة الخامسة، وقد أثنى الله عز وجل عليها، ووصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أثقل صلاة على المنافقين؛ لأن الإنسان يكون في نومه، ولا يقوم إلا بوازعٍ من الإيمان وخوفٍ من الله عز وجل، ولذلك أثنى الله على هذه الصلاة وخصها بالذكر وقال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78].

    قال بعض العلماء: قُرْآنَ الْفَجْرِ أي: صلاة الفجر، وهذا قول جمعٍ من المفسرين، وقوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا قالوا: يستمر نزول الله جل وعلا في الثلث الأخير من الليل إلى أن تنتهي صلاة الفجر، ولذلك قالوا: مشهوداً بالخير بهذا الفضل العظيم، فلا تزال ساعة الإجابة مرجوة لقوله عز وجل: (هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟)، فدل على فضل هذه الصلاة من هذا الوجه، وقيل: (كَانَ مَشْهُودًا)؛ لأنه تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار)، فملائكة الليل من صلاة العصر إلى صلاة الفجر، وملائكة النهار من صلاة الفجر إلى صلاة العصر.

    وإذا نظرت فقلَّ أن تجد وقت العصر يفارق وقت الفجر، فتجدهما متقاربين كأنهما النصف، فتجد بين العصر وبين الفجر توافقاً غالباً، ويكون الفرق بينهما أحياناً إلى نصف ساعة، وأحياناً إلى ساعة أو ساعتين، لكن الغالب أن يكون هناك توافق بين العصر وبين الفجر؛ لأنه في بعض الأحيان يُؤخَّر العصر عن وقته.

    فالمقصود أن هذه الصلاة مفضَّلة من هذا الوجه، وقال بعض السلف: إنها هي الصلاة الوسطى، والصحيح أن الوسطى العصر كما ذكرنا، ولكن لهذه الصلاة فضل، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه: (من صلى العشاء في جماعةٍ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعةٍ فكأنما قام الليل كله)، وأن (من صلى هذه الصلاة حيث ينادى لها مع الجماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي).

    ثم قال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)، أي: لا تتعرض لمسلم، فإذا تعرضت لإنسانٍ من أهل الفجر بأذية، فإنه في ذمة الله جل وعلا، ومن آذاه وتعرض لذمَّة الله أوشك أن يكبه الله على وجهه في النار -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك خُصَّت هذه الصلاة بهذه الفضائل.

    وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الفجر يجب أداؤها بعد تبيُّن الفجر الصادق، وأنها إذا وقعت قبل الفجر الصادق، فليست بصحيحةٍ ولا معتبرة، وعلى المكلف قضاؤها.

    وأما بالنسبة لانتهاء وقت الفجر فإنه ينتهي بطلوع الشمس، وقال حبر الأمة وترجمان القرآن: إنه ينتهي وقتها بصلاة الظهر، وهو قولٌ شاذٌ قال به بعض الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة، ويُحكى عن ابن القاسم من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع، والصحيح أنه إذا طلعت الشمس فقد انتهى وقت الفجر، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أدرك ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح)، ومفهومه أن من لم يدرك الركعة قبل طلوع الشمس، فصلاته صلاة قضاءٍ وليست بصلاة أداء.

    ولذلك ذهب جماهير السلف والخلف إلى أنه لا يجوز الفجر بعد طلوع الشمس، وإذا طلعت الشمس فقد انتهى وقتها على ما ذكرناه.

    قال رحمه الله تعالى: [وتعجيلها أفضل] أي: السنة تعجيل الفجر. وللعلماء في هذه المسألة قولان: قال بعض السلف رحمهم الله: السنة أن تبتدئ الفجر في أول وقتها، وهو الذي اصطلح العلماء على تسميته بوقت الغَلَس، وذلك لما ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه كان يصليها بغَلَس.

    فقد قال جابر رضي الله عنه كما في الصحيح: (والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس).

    والغَلَس يكون في أول الفجر الصادق؛ لأنه مع تبيُّن الضوء في أعلى السماء، فإنه لا تزال ظلمة الليل بين الناس، أعني على البسيطة والأرض، فلا تزال هذه الظلمة تنكشف بحسب قوة الضياء، فالسنة في فعل هذه الصلاة أن تقع عند الغلس أو في الغلس.

    وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله -مخالفاً للجمهور- إلى أن السنة والأفضل في الفجر أن يُسْفر بها، وذلك لما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)، والصحيح مذهب الجمهور أنّ الأفضل في صلاة الفجر أن تؤديها في أول وقتها، وذلك لما ثبت من حديث جابر في الصحيحين، ولما ثبت أيضاً في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس).

    ولا يعارض هذا قول أبي برزة: (وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه)، فهذا بالنسبة للقرب، فمعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم يُوقِعها في الغلس، ولكن إذا سلّم من الصلاة عرف الإنسان جليسه، وذلك لمكان القرب وتأثير الضياء، أعني دخول الضياء على البسيطة فأقوى الأقوال أن الأفضل إيقاعها في أول الوقت، وأما دليل الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه: (أسفروا بالفجر).

    فللعلماء في هذا الحديث أوجه، فمنهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)، التبيُّن والتثبت حتى يكون الإنسان موقعاً الصلاة في وقتها؛ لأن الفجر مشكلته أنه يعترض خاصةً في الأزمنة الماضية لم تكن فيها الساعات موجودة، وكان الناس يجدون مشقةً وعناء، خاصةً في الليالي البيض، فإن الليالي البيض يكون -كما هو معلوم- القمر فيها شديد الضياء، ولذلك يلتبس ضياء السماء مع ضياء الفجر، وتجد الناس ربما صلوا الفجر ثلاث مرات، أو أربع، يظنون أن الصبح قد طلع، والواقع أنه لم يطلع، قالوا: فقصَد النبي صلى الله عليه وسلم التبين والتحري.

    وقال بعض العلماء -والنفس تطمئن إليه-: إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالإسفار بالفجر أن تبتدئ بها بغلس وتطيل القراءة فيها، حتى إذا سلَّمت أصبت الإسفار، وهذا في الحقيقة هو الأقوى لأمرين:

    الأمر الأول: أن فيه معنىً يؤكد زيادة الأجر، ووجه ذلك أنك إذا أطلت القراءة، فإنه يوجد موجب للحكم بزيادة الأجر.

    الأمر الثاني: تأكد هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يقرأُ فيها من الستين إلى المائة آية -صلوات الله وسلامه عليه-، مع ما فيه من الترتيل والتحبير في قراءته صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان يُوقِع الصلاة في غَلَس، ويخرج منها حين يتبين الرجل جليسه، فلا شك أن هذا نوعٌ من الإسفار، فقُصِد من الإسفار أن الإنسان يطيل القراءة، بشرط ألا يشق على من وراءه، فهذا هو أعدل الأقوال، فالحديث لا يعارض الأصل، ونضيف إلى ذلك أن المعهود في الشريعة أن مواقيت الصلاة الأفضل فيها الإيقاع في أول الوقت، كما جاء في حديث ابن مسعود: أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله، قال: (الصلاة على وقتها)، وفي رواية ابن حبان وغيره: (على أول وقتها)، ولذلك يقوى القول بأن المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: (أسفروا بالفجر) التعجيل، وليس المراد به تأخر وقت الصبح إلى الإسفار.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756003570