إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت [52-60]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عادة الكفار أن يتعنتوا رسلهم فيطلبون منهم الآيات بقصد التعجيز والتضييق، ولكن الله لا يجيبهم إلى ما يريدون، بل يخبرهم أنهم إنما يستعجلون ما هو آتيهم لا محالة من العذاب، وذلك جزاء كفرهم واضطهادهم للمؤمنين، حتى هاجروا بدينهم وتركوا أرضهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل كفى بالله شهيداً يعلم ما في السموات والأرض...)

    قال الله جل جلاله: : قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [العنكبوت:52].

    هؤلاء عندما كذبوا الرسل، وكذبوا كتب الله التي أنزلت عليهم، وطلبوا المعجزات، ولم يكتفوا بمعجزة القرآن الخالدة التالدة، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله: كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا [العنكبوت:52].

    أي: يكفي أن يكون الله شهيداً بيني وبينكم على قولي وقولكم، وعلى حالي وحالكم، فهو يشهد بأني رسوله الحق، وأن ما جئت به كلامه الحق، وأن القرآن موحى به من عنده.

    ويشهد إنكم لكذابون، ويشهد إنكم لفجرة جاحدون خارجون عن أمر الله ودينه.

    قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [العنكبوت:52].

    أي: هو الذي لا تخفى عليه خافية في السماء والأرض، يعلم السر وأخفى، ولو أخفيت كذباً في الرسالة لعلمه، ولجازاني على ذلك، ولكنكم تعلمون كذبكم وكفركم وجحودكم، فانتظروا عقاب الله، فهو شهيد بيني وبينكم.

    وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [العنكبوت:52].

    أي: أمثالكم الذين آمنوا بالباطل، وآمنوا بالشيطان، وآمنوا بالكفر والعصيان، وكفروا بالله خالقاً، ومرسلاً لرسوله محمد خاتم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليه.

    فهؤلاء الكافرون بالله، المؤمنون بالباطل: هُمُ الْخَاسِرُونَ [العنكبوت:52].

    أي: هم الذين خسروا دنياهم، وخسروا آخرتهم، وذهبوا يجرون خلف الباطل، ويعارضون الحق، ويكفرون به، عن غير علم ولا دليل ولا سلطان من الله، ثم هم بعد ذلك يستعجلونك بالعذاب.

    هؤلاء على كفرهم وجحودهم يقولون: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32].

    هذا قول الكفار الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة، فالكفر ملة واحدة، ولسانه واحد، وجحوده واحد، وملل الكفر واحدة، يقولون ذلك متحدين لرسول الله، فهم لا يؤمنون إلا بالباطل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى ...)

    قال الله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [العنكبوت:53].

    هؤلاء طلبوا العجلة بنزول العذاب، والسين والتاء في الفعل للطلب، فطلبوا الإسراع بالعذاب، والمعنى: ما سيكون يوم القيامة فليكن الآن في الدنيا.

    يقول ربنا: وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ [العنكبوت:53].

    أي: لولا أن الله سبق أن وعد نبيه أنه لن يعذب أمته في الدنيا، وسيمهلهم بالعذاب إلى يوم القيامة، علهم يؤمنون، لجاءهم العذاب.

    ولولا أن الله ضرب لذلك أجلاً مسمى عنده، وهو موت كل حي، لجاءهم العذاب، ولكن كل حي عند موته يدخل قبره، ويسأله ملائكة القبر: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ ومن ساعتها يبدأ العذاب، ويوم القيامة يجمع بين عذاب النفس والروح، عذاب البدن والجسد: وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ [العنكبوت:53].

    فلولا الأجل الذي ضربه الله للأمة المحمدية بأنهم لا يعذبون إلا بعد موتهم، لعجل لهم العذاب، ولجاءهم العذاب، كما جاء الأمم السابقة، فمنهم من أغرق كقوم نوح، ومنهم من أصابته رجفة وصيحة كقوم هود وصالح، ومنهم من جعلت عليهم الأرض عاليها سافلها، كقوم لوط، ومنهم من عذبوا بالخسف وبالرجز من السماء، وبالمسخ قردة وخنازير.

    ولولا أن الله قال لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن العذاب يؤجل على أمته لجاءهم العذاب كما طلبوا وكما استعجلوا.

    وقال تعالى: وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [العنكبوت:53].

    أي: وسيأتيهم عذاب الله فجأة وهم لا يشعرون، فيفجأهم العذاب من فوقهم، ومن تحت أرجلهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)

    ثم أكد الله ذلك وكرره فقال: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت:54].

    هؤلاء الكفرة الصادون عن الله، وعن بيت الله ودين الله، وعن الحق، لم يكفهم كفرهم، بل أبوا إلا الجحود، والتحدي واستعجال العذاب، فلينتظروا فسوف يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت:54].

    أي: ستحيط بهم جهنم من كل جانب، من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وسيذوقون العذاب الذي تمنوه يوماً، واستعجلوه يوماً آخر.

    وهم قد أبوا إلا الكفر، والجحود، والصد عن الله وعن دين الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم...)

    ويصف الله كيف أحاطت بهم جهنم فقال: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:55].

    يوم يغشاهم العذاب، أي: يغمرهم ويغطيهم، ويحيط بهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].

    يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ [العنكبوت:55]، وقرئ: (ونقول).

    يقول ملائكة العذاب، أو يقول مالك حارس النار مع أعوانه: تذوقوا هذه النار التي أنكرتم، وهذا العذاب الذي استعجلتم، هو جزاء ما كنتم تعملون من كفر، ومن جحود وتحد وصد عن الله، ورسالات الله، ودين الأنبياء الحق، ودين محمد خاتم الأديان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة...)

    قال تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56].

    نحن لم نهتم كثيراً بأسباب نزول الآيات؛ لأن سبب النزول قد مضى وقته، وعوقب من نزل من أجله، وتبقى الآية عامة شاملة لمن عاصر النبوءة، ومن جاء بعدها، وكما تقول قواعد المفسرين: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

    أمر من أسلم من أهل مكة بالرحلة، وبالهجرة، وبترك دار الكفر ودار المعاصي، حيث يجدون حرية الدين، وحرية العمل به من غير نكير ولا تحجير ولا معارضة: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ [العنكبوت:56].

    فكان المؤمنون في صبر في الأيام الأولى من النبوءة، قد لقوا عنتاً واضطهاد وظلماً من كفار قريش، مما تنهد له الجبال، ولا يكاد جسد يتحمل ذلك، فقد قتلوا من قتلوا، وأجاعوا من أجاعوا، وهجروا من هجروا لمدة من السنوات.

    كانوا يأكلون من الأطعمة أشهاها وهم لا يجدون من يبيعهم أو يعطيهم، فعاشوا مدة ثلاث سنوات على أوراق الشجر، بما فيهم صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله، عند ذلك أمرهم الله تعالى بترك مكة.

    فكل بلاد يصبح الكفر فيها متغلباً، بحيث لا يباح للمؤمن أن يعبد الله كما يريد، بحيث يعلن ذلك، صلاة وصياماً وزكاة وذكراً لله، وابتعاداً عن الأوثان والأصنام، فلابد من الهجرة منها: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ [العنكبوت:56].

    قوله: (يا عبادي): يا هؤلاء الذين آمنوا بي.. وآمنوا بالرسالة التي أرسلت بها محمداً.. وآمنوا بالقرآن الذي أنزلته عليه.

    ليس هناك ما يجبركم على المقام بديار الكفر، وديار المعاصي، فاتركوها واهجروها واخرجوا منها، وهو أمر إلهي.

    إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ [العنكبوت:56].

    أي: أرض الله واسعة، وهي لخلق الله، يتبوأ منها المؤمن حيث وجد الحرية في عبادته، والتصرف كما يريد، عبادة لله وطاعة له، سواء في شئونه الدينية، أو شئونه الدنيوية.

    فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيث ما وجدت خيراً فأقم) .

    يقول النبي عليه الصلاة السلام: الأرض أرض الله خلقها للبشر كلهم، فكل من على وجه الأرض عبد لله، فأقم حيث وجدت خيراً، ووجدت راحتك لدينك ودنياك، فلا تلزم نفسك أرضاً تجد نفسك فيها ذليلاً مستعبداً مضطهداً، لا تستطيع أن تظهر دينك وعبادة ربك، كما أمرك الله تعالى.

    فالأرض واسعة، ولله المشارق والمغارب، جبالاً وتهامة، براري وبحاراً، غابات ورمالاً، فحيث ما وجدت نفسك تمتلك حريتك في دينك ودنياك فاهجر البلد الذي تذل فيه وتضطهد فيه، والذي تمنع فيه من أن تظهر دينك، وحرية تصرفك في دينك ودنياك.

    قوله: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56].

    أي: لا تعبدوا غيري، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، أي: اعبدوا الله وحده، لا تشركوا به غيره، لا إنساً ولا ملكاً ولا جناً، لا حيواناً ولا جماداً، ولكن اعبدوا الله وحده، خالقكم ورازقكم، ومحييكم ومميتكم، فإذا اضطررتم في أرض لتغير الدين الحق فاهجروها واتركوا قومها، واذهبوا حيث وجدتم من أرض الله الواسعة حرية التصرف، وإعلان الدين كما أمركم الله به.

    فلم يلزم الله أحداً بأرض دون غيرها، وكل من على وجه الأرض هم من أصول مختلفة حتى وإن لم تقلها ألسنتهم أو الأوراق التي يحملونها فسوف تقولها ألوانهم، وتقولها جباههم، وتقولها حركتهم وحواسهم: إن هذا من كذا، وهذا من كذا.. هذا من المشرق، وهذا من المغرب، والأرض أرض الله، والعباد عباد الله، فلم يلزم أحد بالمقام في أرض دون غيرها.. خاصة إذا كانت هذه الأرض تضطهدك في دينك ودنياك، وتمنعك من التصرف بما تراه مصلحة لك، وبما تعلن به الدين الذي أمرك الله به.. صلاة وصياماً وزكاة وما إلى ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ...)

    فعندما أمروا بالهجرة، وبأن يتركوا مكة لغيرها، أخذوا يقولون: كيف نترك أوطاننا، وأرزاقنا، وعيالنا إلى بلاد غريبة عنا، قد نهلك ونموت؟

    فكان جواب الله لهم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57].

    الموت الذي تخافون منه هو ملاقيكم، وسيموت من هاجر ومن لم يهاجر، وليس الموت بالهجرة أو بعدمها، وليس الموت بغنى ولا بفقر، وليس الموت بسلطان أو بغير سلطان، إنما الموت بالآجال: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] فانتظروا الموت حيث كنتم: وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].

    والموت لاقيكم لا محالة، خوطب بذلك الأنبياء قبل غيرهم، وخوطب به خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام فقيل له: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

    فلن يدوم أحد: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [العنكبوت:57].

    كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    إنما الحياة الدائمة والباقية هي الحياة الآخرة، فهي التي لا موت فيها، فمن دخل النار فهو خالد فيها أبدا، ومن دخل الجنة فهو خالد فيها أبداً.

    فأما الدنيا فللموت وجدت، وللفناء كانت، وهي برزخ للآخرة، فمن عمل خيراً فليحمد الله، ومن عمل غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

    كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57].

    ثم بعد الموت سيرجع الكل إلى الله جل جلاله، للعرض عليه، فيحاسب كل على عمله.. إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً...)

    قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [العنكبوت:58].

    فالعاملون هم الذين صبروا، وعلى ربهم يتوكلون، وفي الآية الماضية حكى الله تعالى عن الكافرين أن مأواهم النار خالدين فيها، تغشاهم النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وتحيط بهم من جميع جهاتهم، وتقول لهم ملائكة العذاب: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:55] أي: ذوقوا نتيجة عملكم وكفركم فقد جاءكم الأنبياء، وجاءتكم كتب الله، وجاءكم خلفاء الأنبياء من الدعاة والعلماء يأمرونكم بطاعة الله ورسوله، والعمل لمثل هذا اليوم، فابتعدتم وصددتم عن الله، أما وقد كان ما كان، فانتظروا ما يكون.

    وفي هذه الآية ذكر الله حالة المؤمنين وسنة الله في كتابه أن يجمع دوماً بين الكلام على المؤمنين ثم الكافرين، وبين الرحمة والعذاب؛ ليعيش الإنسان بين الرغبة والرهبة، وبين الخوف والطمع، وبين أن يرهب ويرجو ويتمنى.

    وعبادة الله هكذا بين الخوف والرجاء، فيخاف المؤمن عذاب الله، ويرجو رحمته، يرى صفة الكافرين فيبتعد عنها، وصفة المؤمنين فيسعى إليها.

    فقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا [العنكبوت:58] أي: الذين آمنوا بالله عقيدة وقلباً ولساناً، ثم بعد الإيمان جاء منهم عمل الصالحات.

    فلابد في الإيمان من قول وعمل، القول باللسان مع مطابقة الجنان، والعمل بالطاعات.. صلاة وصياماً وغيرها من الأركان الخمسة، كما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).

    فعليك ترك المنكرات بكل أشكالها، وأنواعها، ظاهرها، وباطنها، وفعل الخيرات ما بلغته طاقتك وقدرتك فالصيام مثلاً إن استطعت صحة وبدنا ومقاماً فصم، وإن منعك مانع كالمرض، أو كنت في سفر، أو حاضت المرأة أو نفست، أو كانت حاملاً متماً تعجز عن متابعة الصيام، فتلك رخص أذن الله فيها بالفطر، على أن تعوض الأيام بعد ذلك عند الحضور من السفر، وعند الصحة من المرض، وعند انقطاع دم الحيض والنفاس، وهكذا كل الأوامر، جعل الله أقصاها كما أمر، وأدناها حسب استطاعتك.

    أمرنا بالصلاة قياماً، وبالوضوء بالماء، فإن عجز المسلم عن الماء فليتيمم بالصعيد الطاهر، فإن عجز عن القيام فليصل جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنب، فكل ذلك صلاة صحيحة، لأن المسلم أمر بأن يقوم بها حسب قدرته وطاقته، ولا يكلف الله نفس إلا وسعها.

    قوله تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا [العنكبوت:58].

    فيه معنى القسم، يقسم الله للمؤمنين العاملين بالصالحات ليسكننهم في الغرف العالية من الجنان.

    فوعد المؤمنين العاملين للصالحات المهتدين بهدي الأنبياء، القائمين بما أمروا به، والتاركين ما نهوا عنه؛ ليسكننهم وليجعلن لهم مساكن وقصوراً في الغرف العليا من الجنة.

    وغرف: جمع غرفة، وهو المكان العالي من المنزل، والطبقة العالية في الدار.

    تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [العنكبوت:58] أي: أن المياه متدفقة بين أيدهم وأرجلهم، يعطون جمال المنظر، ويعطون رطوبة الجو ومع الماء يكون كل خير.. تكون الفواكه والثمرات والخضرة والطير وكل ما إلى ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)

    قال تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [العنكبوت:58].

    ثم بين صفات (العاملين) فقال: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:59].

    أي: صبروا على طاعة الله، وصبروا على الجهاد، ولو ببذل الأنفس والأموال والأولاد، وصبروا على ترك المنكرات بكل أنواعها، وصبروا على العبادة بكل أشكالها، فصلوا والناس نيام في أيام البرد، وصاموا مع الحر وشدة القيظ، وحجوا بيت الله الحرام من أقاصي الدنيا ومشارق الأرض ومغاربها.

    وأدوا الزكاة بحسب القيود والشروط المفترضة، من بلوغ الحول، وتمام النصاب.

    صبروا على أنواع الطاعات كما صبروا على ترك أنواع المنكرات.

    فهذا الذي يصبر هو العامل الذي يسكنه الله ويبوؤه الغرف العالية في الجنان التي تجري الأنهار من تحتها، وهو خالد فيها أبد الأبدين.

    وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:59].

    أي: توكلوا في أعمالهم على الله.

    والتوكل أن تقدم على ما أنت مقدم عليه، وليس معناه أن تدع العمل وتتواكل، أو تتردد فتقول: أفعل أو لا أفعل؟ أصنع أو لا أصنع؟ فإن التردد خلق قبيح في الإنسان، ولكن التوكل على الله: أن تعزم على تنفيذ الشيء، ثم دع أمره إلى الله.

    فلنتوكل على الله لنجد قوة على العمل، وقوة على الترك، فلا توهينا الشهوات، ولا توهينا النزوات بكل أشكالها وأنوعها.

    فهؤلاء العاملون المتوكلون على الله الصابرون في طاعة الله، هم الذين نعم عملهم، ونعم ما يأجرون عليه من الغرف العالية في الجنان التي جعلها الله متبوأ للمؤمنين العاملين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم...)

    قال تعالى: وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:60].

    لا نزال مع الهجرة وترك أرض الكفر والمعاصي، حتى ولو كان الحكام فيها يزعمون الإسلام، ولكن قد يقال: كيف ندع بلدنا وفيه رزقنا، وفيه مسكننا، وفيه عيالنا، إلى بلد ليس لنا فيه رزق ولا زوجة؟

    الجواب: إن كثيراً ممن هاجر هاجر بمفردة، لم تسلم امرأته ولم يسلم أولاده، فذهب وحيداً مهاجراً لا يريد إلا الله والدار الآخرة.

    وصل إلى المدينة وإلى الحبشة ليس معه قوت ساعته.

    وقال الله لهؤلاء المهاجرين مشجعاً لهم ودافعاً لهم إلى الهجرة: وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمُْ [العنكبوت:60].

    كأين: تكثيرية، أي كم من دابة لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ.

    فكل البهائم والطيور على كل أشكالها تنتقل في أرض الله، لا تحمل غداءً ولا مؤنة، فتعيش ويدوم عيشها إلى أن يأتي أجلها، لا تحرص على الرزق، ولا تخاف جوعاً ولا عطشاً.

    وليس من الخلق من يحمل زاده إلا الإنسان، والنملة والفأرة، فالفأرة تجمع ما تتمون به، والنمل يجمع ما يتمون به لأيام الشتاء، وشدة الزمهرير، أما بقية الدواب والحيوانات فإنها لا تحمل رزقها، ولا تحمل مؤنتها، والله يرزقها.

    وكذلك أنتم خرجتم لا مؤنة لكم، ولا مسكن ولا طعام ولا شراب، ولكن الخالق لم يترككم، بل رزقكم وأشبعكم وسقاكم وألبسكم، وهيأ لكم ما تعيشون به مادمتم أحياء.

    وهذا كقوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

    كل ذلك أحصاه اللوح المحفوظ، فأحصى أرزاق الخلق كلهم، جناً وإنساً، طيراً وحيواناً، دواب وحشرات.

    وكذلك يقول الله لهؤلاء المهاجرين: اتركوا كل ما عندكم، واذهبوا بأجسامكم، فالذي رزقكم من قبل سيرزقكم من بعد.

    وهكذا أمر رسول الله بعد أن نزل أمر الله في الآية: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ [العنكبوت:56].

    أي: يا هؤلاء اتركوا أرض الكفر، وأرض المعاصي ووحدوا الله وحده، لا تعبدوا معه غيره، إن خفتم الموت فالموت لاحق بكل غريب، وكل من هو بين أهله، وإن خفتم الرزق فرزق العباد على الله، كما يرزق الطير والحيوان وهو ضعيف عن حمل رزقه ومؤنته، ومع ذلك تعهد الله له بكل شيء: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6].

    فأمر رسول الله الأصحاب، فهاجروا إلى الحبشة مرتين، وإذا بهم يجدون الأرض الرحبة، ويجدون الأهل المرحبين، فعاشوا خير عيشة، وأسلم ملك البلاد، فساندهم وأيدهم وحماهم، وأسكنهم أحسن المساكن، ورزقهم أحسن الأرزاق، ثم بعد ذلك هاجروا للمدينة، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبوا إليها، لا يملكون غداءهم ولا عشاءهم، ولم تكد تمض أيام حتى رزقهم الله الرزق الذي لم يخطر ببالهم، ولم يملكوه يوماً في أرضهم، فـالزبير بن العوام ، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، وكثيرون غيرهم كانوا لا يعدون الذهب والفضة عداً، ولكنهم يكيلونها بالمكيال، كما تكال الحبوب، وعندما مات الزبير أرادوا أن يصالحوا زوجه والتي سبق أن طلقت، ولم تنته عدتها، فقالت: هي لا تزال على عصمته، فورثوها وكالوا لها الذهب والفضة، بالمكاييل، هذا دون الأرض.

    ذهبوا للمدينة، فتاجروا وزرعوا وتنقلوا، فأغناهم الله من فضله، حتى لقد قالوا: لو أنا إذا تاجرنا بالحجارة والرمال لانقلبت ذهباً وفضة، مبالغة في كثرة الغنى الذي أغناهم الله به، وهذا مصداق قوله تعالى: وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60] أي: كما رزقها الله، سيرزقكم.

    وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:60].

    أي: هو السميع لأقوالكم، العليم بأحوالكم، السميع لما قلتم من خوف الموت، وخوف الحاجة والفقر، العليم بصدق بواطنكم، من سيخرج مؤمناً بالله، مصدقاً بوعد الله، ومن سيخرج لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، والله يعامل الناس على نياتهم، وعلى ما في قلوبهم: (إنما الأعمال بالنيات)، فهو سميع للقول عليم بالعمل، لا تخفى عليه خافية، جل شأنه وعز مقامه!

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755976730