إسلام ويب

التوبةللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ندب الله عز وجل عباده إلى التوبة وحثهم عليها؛ لتخليص نفوسهم من رق الذنوب والآثام، وتحريرها بعبادة الله عز وجل والإقبال عليه، وقد كثرت آيات القرآن الداعية إليها والمرغبة فيها، ولا عجب في ذلك؛ إذ إنها من أحب العبادات إلى الله تعالى الذي كتب على نفسه الرحمة أنه من عمل سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم.

    1.   

    الحث على التوبة

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    أما بعد:

    قال بعضهم: أرقهم قلوباً أقلهم ذنوباً.

    وقال بعضهم: المعاصي سلسلة في عنق العاصي لا يفكه منها إلا الاستغفار والتوبة.

    وقال بعضهم: ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة.

    هذه الليلة نرجو أن تكون ليلة القدر التي أخبر الله عز وجل عنها أنها خير من ألف شهر، ولم يقل: إنها تساوي ألف شهر، ولكن قال: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]، ولا ندري كم مقدار هذه الخيرية، فلا يعلم ذلك إلا الله عز وجل.

    وورد في موطأ الإمام مالك بلاغاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته -يعني: خشي ألا تصل أمته إلى ما وصلت إليه الأمم السابقة لطول أعمارها- فأعطاها الله عز وجل ليلة القدر خيراً من ألف شهر).

    فهذه الليلة المباركة فرصة للتوبة وللقيام وللذكر وللعبادة وللطاعة وللدعاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). فهذه الليلة فرصة لنا جميعاً للتوبة إلى الله عز وجل والرجوع إليه عز وجل والعزم على ترك المعاصي.

    عباد الله! مصيبتنا في التفريط واحدة، وأهل الأحزان أهل.

    إنا ليجمعنا البكاء وكلنا يبكي على شجن من الأشجان

    قال بعض السلف: إذا عزم العبد على ترك الذنوب أتته الأمداد من الله عز وجل من كل جانب.

    هذا إذا نوى العبد أن يترك الذنوب لله عز وجل، وكل واحد منا أدرى بذنوبه وبعيوبه، فينبغي لنا جميعاً أن ننوي في هذه الليلة المباركة التوبة إلى الله عز وجل والاستقامة على طريقه عز وجل.

    فالله تعالى فتح هذا الباب العظيم -باب التوبة- وأمر كل الخلق بالدخول منه، وأمر اليهود والنصارى الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، وقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، فقال بعد أن ذكر حالهم: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74]، وأمر المشركين فقال عز وجل: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، وقال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11].

    وأمر المنافقين بالدخول من هذا الباب فقال عز وجل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:145-146].

    وأمر المسرفين على أنفسهم من أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن غيرهم فقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

    كما أمر الله عز وجل المؤمنين الصادقين بالدخول أيضاً من باب التوبة فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وهذه الآية مدنية، أي: نزلت بعد الهجرة وبعد الإيمان والجهاد والصبر، فأمر الله عز وجل الصحابة الكرام بالتوبة وعلق صلاحهم بها فلا يرجو الفلاح إلا التائبون، فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].

    كما أخبر عز وجل عن توبته على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المهاجرين والأنصار فقال عز وجل: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117].

    1.   

    شروط التوبة

    والتوبة لها شروط ستة:

    الشرط الأول: الإخلاص؛ لأن التوبة عبادة، بل هي من أحب العبادات إلى الله عز وجل، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، فتفتقر التوبة إلى ما تفتقر إليه سائر العبادات من نية الإخلاص، فلا يترك العبد الذنب مخافة ذم الناس أو رجاء مدحهم، بل لا بد أن تكون توبته خالصة لله عز وجل يرجو بها وجه الله عز وجل.

    الشرط الثاني: الإقلاع عن الذنوب، فتستحيل التوبة مع مقارفة الذنوب.

    الشرط الثالث: الندم على فعلها، (الندم توبة)، فإذا لم يندم القلب على القبيح دل ذلك على رضاه به.

    الشرط الرابع: العزم على عدم العودة إلى الذنوب مرة ثانية.

    الشرط الخامس: رد المظالم، لما ورد في الحديث: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات).

    أي: قبل أن يكون التعامل بالحسنات والسيئات في وقت لا يستطيع الإنسان أن يزيد في حسناته حسنة ولا أن ينقص من سيئاته سيئة.

    الشرط السادس: أن تقع التوبة في الوقت الذي تقبل فيه التوبة، والوقت الذي تقبل فيه التوبة قبل أن تطلع الشمس من مغربها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها)، وطلوع الشمس من مغربها علامة كبرى من العلامات الملازمة والقريبة للساعة، فإذا طلعت الشمس من مغربها بادر الناس بالتوبة، ولكن هيهات فعند ذلك يغلق باب التوبة، ولا ينفع نفساً إ يمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.

    ثم تخرج الدابة من الأرض تسم المؤمن أنه مؤمن والكافر أنه كافر، فلا يمكن لمن وسمته بأنه كافر أن يصير مؤمناً؛ لأن باب التوبة الذي ظل مفتوحاً قد أغلق في هذا الوقت.

    وكذلك يغلق باب التوبة أمام العبد عند الحشرجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يغفر للعبد ما لم يغرغر).

    وقال عز وجل: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ[النساء:18].

    ولما أراد فرعون التوبة عندما عاين الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ[يونس:90] لم يقبل منه ذلك، وقيل له: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:91-92].

    ولقد مات كثير من المصرين على المعاصي وهم متلبسون بمعاصيهم، فكان ذلك خزياً لهم في الدنيا مع ما ينتظرهم من خزي الآخرة وعذابها، وكثيراً ما يحدث ذلك لشاربي الخمر.

    أتأمن أيها السكران جهلاً بأن تفجأك في السكر المنية

    فتضحى عبرة للناس طراً وتلقى الله من شر البرية

    وللأسف أكثر الناس يسوفون بالتوبة، ولا يتوبون إلا في الوقت الذي يغلق فيه باب التوبة، فيظل العبد في غيه وفي إعراضه وفي بعده عن الله عز وجل، فإذا عاين الموت يطلب التوبة في الوقت الذي يغلق فيه بابها.

    قال جماعة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز في قول الله عز وجل: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ[سبأ:54] قال: حيل بينهم وبين التوبة حين سألوها.

    وقال بعضهم: ابن آدم! لا يجتمع عليك خصلتان سكرة الموت وحسرة الفوت، أي: لا تجتمع مصيبتان سكرات الموت الشديدة التي تكاد تذهب العقول وحسرة فوت التوبة، فالبدار البدار إلى التوبة! قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملاً يجاوز الأمر فيه مجهود الأطباء واختبارهم، فلا ينفع بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين، فتحق الكلمة عليه أنه من أصحاب الجحيم، فالتوبة التوبة! قبل أن يأتيكم من الموت النوبة، فلا تحصلوا إلا على الخسران والخيبة، الإنابة الإنابة! قبل غلق باب الإجابة، الإفاقة الإفاقة! فقد قرب وقت الفاقة.

    1.   

    علامات رد التوبة وعلامات صحتها

    وهناك علامات لعدم صدق التوبة وعلامات لصحة التوبة.

    فمن علامات عدم صدقها: استمرار الغفلة، والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة، وتذكر حلاوة مواقعته، والاطمئنان وكأنه أعطي منشوراً بالأمان، وألا يستحدث العبد أعمالاً صالحة بعد التوبة، فمثل هذه التوبة تحتاج إلى توبة.

    أما علامات صحة التوبة: فمن ذلك: أن يكون حال العبد بعد التوبة غير حاله قبلها، وأن يستحدث العبد أعمالاً صالحة بعد التوبة، كما قال عز وجل: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان:71]، هذه هي التوبة الصادقة والحقة، وهي التي يعقبها العمل الصالح ويصدقها.

    ومن ذلك: أن يظل العبد على الخوف حتى تنزل عليه الملائكة عند الموت بقول الله عز وجل: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].

    ومن ذلك: أن يتقطع قلبه ويكون حاله كحال من أجرم جريمة عظيمة في حق ملك عظيم ثم أحيط به، فهو لا يدري هل يعاقبه الملك بجريمته أو أنه يعفو عنه.

    قال سفيان بن عيينة في قوله عز وجل: لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [التوبة:110] قال: تقطعها بالتوبة، والقلوب لا بد أن تتقطع إما بالتوبة في الدنيا أو في الآخرة إذا حقت الحقائق وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين.

    ومن علامات الصحة كذلك كسرة تصيب قلب العبد فتطرحه ذليلاً على باب الله عز وجل، ويكون حاله كحال عبد أبق من سيده بعد نعمته عليه وأتى بالجنايات والمخالفات ثم أحيط به وأعيد إلى سيده، وهو يعلم أن منتهى سعادته في رضا سيده عنه، وأنه لا يستغني عن سيده طرفة عين، فلله فما أحلى قوله عند ذلك: أسألك بقوتك وضعفي إلا رحمتني! أسألك بغناك عني وفقري إليك! هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخائف الضرير، يا من ذل لك قلبه! وخشعت لك جوارحه!

    يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره

    لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره

    1.   

    أقسام الناس في التوبة

    الناس في التوبة على أقسام أربعة:

    القسم الأول: من لا يوفق لتوبة طوال عمره، ولا يوفق للحظة صدق واحدة مع الله عز وجل ومع نفسه، فهو لا يفكر لماذا خلق؟ وما هي الوظيفة المنوطة به؟ فهو يحيا حياته كلها لا يعرف ربه عز وجل، ولا يعبده بأمره ونهيه، وإنما يحيا في الدنيا حياة البهائم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، فهو يعيش من أجل أن يأكل ويأكل من أجل أن يعيش، ولا يدري لماذا خلق، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره ونهيه، ولعله ما دخل في حياته كلها بيت الله عز وجل، ولعله لا يدخلها إلا مرة واحدة، ولا يدخلها على قدميه بل محمولاً على خشبته، ليصلي بل ليصلى عليه، ثم لا يعود إلى المسجد مرة ثانية.

    وكما كان في الدنيا لا يحيا الحياة التي يحبها الله عز وجل ويرضاها له، وليس هو جماداً لا يحس فالجزاء من جنس العمل، سيدخل ناراً لا يموت فيها ولا يحيا، فيحيا حياة لا يجد فيها راحة أو لذة، ولا يفقد الإحساس ولا الحياة بالكلية، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ[إبراهيم:17]، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[الزخرف:77].

    وحسب المنايا أن يصرن أمانيا

    وحسب العبد من البلايا والرزايا أن يصير الموت أمنيته ولا يجد الموت، كما قال بعض السلف: احذر الموت وأنت في هذه الدار قبل أن تصل إلى دار تتمنى فيه الموت فلا تجده.

    القسم الثاني: من يعرف ربه عز وجل برهة من عمره وزمان من دهره، ويعبد الله عز وجل فترة من عمره، ثم ينقلب لعلم الله عز وجل فيه، فيعمل بمعصية الله عز وجل ويموت على ذلك، ما أصعب العمى بعد البصيرة! وأصعب منه الضلالة بعد الهدى! والمعصية بعد التقى! كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها! عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:3-4].

    كم من قارب مركبه ساحل النجاة فلما هم أن يرتقي لعب به موج فغرق! كل العباد تحت هذا الخطر، قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا!

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).

    وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: إن الرجل ليعمل زماناً بعمل أهل الجنة وهو من أهل النار والعياذ بالله.

    القسم الثالث: من يعمل برهة من عمره في معصية الله عز وجل ثم يوفق لتوبة نصوح ويموت على ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، وهؤلاء كثير، ورحمة الله عز وجل غلبت غضبه أو سبقت غضبه.

    فالغالب في أحوال الناس العمل بالمعصية ثم يتوبون قبل موتهم من رحمة الله عز وجل بهم، وقليل منهم من يعمل بالطاعة ثم ينقلب فيعمل بالمعصية ويموت على ذلك.

    وهؤلاء على طبقتين: فمنهم من يتوب قبل موته بمدة مديدة تؤهله للوصول إلى الدرجات العلى، ومنهم من يتوب قبل موته بمدة يسيرة فحسبه أن يدخل الجنات وأن ينجو من اللفحات.

    وبقي قسم هو أشرف الأقسام وحال هي أشرف الأحوال وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أن يعمل العبد بطاعة الله عز وجل عمره كله ثم يحس بقرب أجله فيجتهد في الطاعة والعمل الصالح حتى يموت على عمل يصلح للقاء.

    لما نزلت إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3] نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فعلى الحبيب أن يتجهز للقاء حبيبه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد ما يكون اجتهاداً في أمر الآخرة، وكان لا يقوم ولا يقعد إلا قال: سبحان الله وبحمده، يتأول القرآن.

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل سنة عشراً من رمضان، فاعتكف في السنة الأخيرة من عمره عشرين ليلة.

    (أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة

    الزهراء بحديث فبكت، ثم أسر إليها بحديث آخر فضحكت، فسألها أمهات المؤمنين عما أسر به النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    ثم لما لحق بالرفيق الأعلى أخبرت أنه أسر إليها أولاً: (بأن جبريل كان يعارضه القرآن مرة وأنه في هذه السنة عارضه القرآن مرتين، قال: وما أرى ذلك إلا لقرب أجلي)، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يفهم هذه الإشارات من ربه عز وجل، فبكت فاطمة رضي الله عنها، ثم أسر إليها ثانياً (بأنها أول أهله لحوقاً به، فضحكت)، وماتت رضي الله عنها بعد أن لحق أبوها بالرفيق الأعلى بستة أشهر، فكانت أول أهله لحوقاً به، وكان ذلك علماً من أعلام النبوة.

    فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أشد ما يكون اجتهاداً في أمر الآخرة، وخرج للحج في السنة العاشرة من الهجرة، وخرج الناس معه، وكان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مد البصر، وقال: (خذوا عني مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).

    والترجي في كلام الله عز وجل أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم على القطع على عادة الملوك، ففهم الصحابة أن هذه الحجة حجة الوداع، من توديعه الناس بقوله: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، واستشهاده الناس على تبليغه في قوله: (اللهم هل بلغت؟ اللهم اشهد)، وكان يرفع أصبعه الشريفة إلى السماء، ثم ينكسها إلى الناس ويقول: (اللهم اشهد، اللهم اشهد).

    فنحن نشهد بأنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله عز وجل به الغمة، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.

    ثم وهو في طريق العودة إلى المدينة خطب الناس وقال: (إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب) وأخذ يعرض بقرب أجله، وجلس على المنبر قبل الوفاة النبوية بأسبوعين وقال: (إن عبداً خيره الله عز وجل بين زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر

    رضي الله عنه فقال: بل نفديك يا رسول الله! بآبائنا وأمهاتنا، فتعجب الصحابة من بكاء أبي بكر

    )، وكان أبو بكر أعلم الناس بمقاصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفهم هذه الإشارة إلا صديقه الحميم ثاني اثنين إذ هما في الغار، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يثني على أبي بكر ويقول: (إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر

    ، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر

    خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله
    )، فإن الله عز وجل اتخذ نبينا محمداً خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً.

    وودع النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن، وكان معاذ راكباً والنبي صلى الله عليه وسلم يسير بجوار دابته ويقول له: (لعلك تأتي فلا تجدني، لعلك تأتي إلى قبري أو إلى مسجدي، فيبكي معاذ

    جزعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    فإذا كان سيد المحسنين صلى الله عليه وسلم يؤمر بأن يزيد في إحسانه فكيف يكون حال المسيء؟ فينبغي للعبد أن يبادر بالتوبة إذا جاءه النذير، والنذير قيل هو: الشيب، وقيل: هو المرض، وبعض الناس أصيبوا بالسرطان -نسأل الله العافية- فعزموا ألا يموتوا إلا وهم حاملون لكتاب الله، فعكفوا على حفظ القرآن حتى ماتوا فعلاً وقد حملوا كتاب الله عز وجل، فالإنسان قد يحدث له شيء أو أمارات تدل على قرب موته، فينبغي له أن يزيد في إحسانه حتى يموت على عمل يصلح للقاء الله.

    أيها العاصي! ما يقطع من صلاحك الطمع، ما نصبنا اليوم شرك المواعظ إلا لتقع، فإذا خرجت من المجلس وأنت عازم على التوبة فقال لك رفقاؤك في المعصية: هلم إلينا فقل لهم: كلا، ذاك خمر الهوى الذي قد عهدتموه قد استحال خلاً.

    يا من سود كتابه بالسيئات! أما آن لك بالتوبة أن تمحو، يا سكران القلب بالشهوات! أما آن لفؤادك أن يصحو.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755974027